التكريم الإيطالي الأهم لابن حمديس.. روحانيات تتجاوز السياسة في الثقافة الإيطالية المعاصرة
تاريخ النشر: 10th, July 2025 GMT
في مبادرة وصفتها جريدة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية بـ"التكريم الإيطالي الأهم لابن حمديس"، تم إصدار طابع بريدي مخصص للشاعر المسلم الذي يعد أبرز رموز الشعر العربي في صقلية بين القرنين الـ11 والـ12، ضمن سلسلة "روائع التراث الثقافي الإيطالي".
الطابع، الذي صدر يوم 30 يونيو/حزيران الماضي عن وزارة مستحدثة في حكومة رئيسة الوزراء جورجا ميلوني هي وزارة "الشركات وصنع في إيطاليا"، بالتعاون مع البريد الإيطالي والمعهد الرسمي للطباعة وسك العملة، يحمل بيتين للشاعر العربي يستحضران صورة صقلية مشرقة ونابضة بالحياة:
ترجمة المكتوب على الطابع بالإيطالية: "فإني لبرتقال يرف ظلاله
على نفحة نسيم الريح المبلل"
وأصله العربي: "وانظر إلى النارنج في الطبق الذي
أبدى تداني وجنة من وجنة"
جنبا إلى جنب مع صورة لشجرة البرتقال، وامرأة ثلاثية الأرجل (تعرف باسم تريشيلي) وتعد رمزا لصقلية، مع رسم للبحر في الخلفية.
ويعد الشاعر العربي "أبو محمد عبد الجبار بن أبي بكر الصقلي" المعروف بـ "ابن حمديس" (1055م-1133م) علامة مميزة في التراث الأدبي في صقلية. ومع أنه نظم شعره بالعربية، فإن صوته الشعري ظل يتردد في فضاءات الأدب والثقافة الإيطالية حتى يومنا هذا.
ولد ابن حمديس في سيراكوزا بصقلية خلال فترة الحكم الإسلامي للجزيرة، ونشأ في كنف ثقافة عربية مزدهرة، حيث كانت صقلية حينها مركزا للإشعاع الحضاري والعلمي. وبعد سيطرة النورمان على الجزيرة، هاجر منها إلى شمال أفريقيا والأندلس، لكنه ظل متعلقا بوطنه الأول، فجعل صقلية موضوعا مركزيا في شعره، يصف جمالها الطبيعي وحنينه إليها.
وشهدت الجامعات الإيطالية اهتماما متزايدا بتراث ابن حمديس خلال القرن الـ20 وما بعده. فقد تم تحقيق وترجمة عدد كبير من أشعاره إلى الإيطالية، إلا أن أهمها ما قام به المؤرخ الإيطالي الشهير ميكيلي أماري في القرن الـ19، الذي سعى لإبراز ابن حمديس بوصفه جزءا من التراث الصقلي. بالإضافة إلى دراسات حديثة، أهمها أبحاث ليوناردو شاشا التي ركزت على كون شعر ابن حمديس لا يحمل قيمة أدبية فحسب، بل يشكل وثيقة حية لحالة الانصهار الثقافي في البحر المتوسط.
إعلانوساهمت ترجمات شعر ابن حمديس إلى الإيطالية في إعادة تقديمه إلى الجمهور العام، حيث ترجمت مختارات من شعره بأسلوب يحافظ على النبرة الوجدانية والنفس الصوفي لأشعاره، لا سيما في ترجمة المستشرق "تشيليستينو سكياباريللي" عام 1897، وهي الترجمة التي اعتمدت في الطابع البريدي الصادر حديثا.
غير أن التوظيف السياسي لابن حمديس في السنوات الأخيرة بدا طاغيا في الخطاب الثقافي الإيطالي المعاصر، حيث كانت تنظم قراءات شعرية ومعارض فنية مستوحاة من شعره، يستعرض فيها ابن حمديس في صورة العربي الذي ساهم في بناء حضارة وثقافة الجزيرة، في زمن تتجدد فيه النقاشات حول الهوية والهجرة والتنوع، إذ أصبح استحضار شخصيات مثل ابن حمديس أداة لتعزيز خطاب حزبي سياسي يشجع على الهجرة من خلال التأكيد على الجذور التاريخية للتعايش بين العرب والأوروبيين في حوض البحر الأبيض المتوسط.
تسييس الخطاب الشعري لابن حمديس، وزجه في إطار أيديولوجي قد يتنافر في جوهره مع مضامينه الشعرية، كاد يؤثر على طريقة تلقي الرسائل الجمالية والروحانية التي تحف شعره، حيث أرادته بعض القراءات الثقافية الحديثة أقرب إلى صورة الغريب "المعولم" أو المهاجر معدوم الوطن، وهي الصورة التي يسعى الخطاب الثقافي المعاصر لتكريسها من خلال خطاب أدبي ينفك عن مفهوم الإحساس بـ"الوطني" مقابل تكريس مفهوم "الكوني" باعتباره التمثيل الشعري للحالة النيوليبرالية التي يعيشها العالم، وترجمة لقيم العولمة التي أخذت تمتد إلى مساحات النقد الأدبي المعاصر.
كل هذا، وابن حمديس لم يكن غريبا وافدا على صقلية، بل أحد أبنائها، وكان شعره بعد فراقه لها يفيض بالأسى لفقدان وطنه الأم، وظل يكتب عنها بشوق وحنين، جاعلا من شعره وثيقة وجدانية تؤرخ لحالة النفي والارتباط بالمكان.
وبعيدا عن القراءات السطحية والمسيسة لابن حمديس، نجد قراءات عميقة تركت آثارا فنية لا تمحى في الثقافة الإيطالية، لا سيما لدى واحد من أبرز أعلام إيطاليا في التاريخ المعاصر، "فرانكو باتياتو" (1945-2021) -الفنان والمثقف الصقلي المتعدد الأبعاد- الذي تأثر بشكل ملحوظ بإرث ابن حمديس.
في ألبومه "افتح يا سمسم" (2012) اختار باتياتو إدراج أبيات من شعر ابن حمديس ضمن نص أغنية Aurora، وهي أغنية تتناول موضوع البحث عن الذات ونشدان الخلاص والوصول إلى النور. هذا الإجراء لم يكن مجرد اقتباس عابر، بل جسرا ثقافيا بين الذاكرة الصقلية الإسلامية والروح الإيطالية التي لا تزال بأعماقها تحتضن ذلك التراث العربي.
وأتى اندماج صوت ابن حمديس في أعمال باتياتو ضمن مشروع روحي-فلسفي، حيث كان فرانكو باتياتو مهتما بالتصوف والتأمل، وهو ما ينسجم مع الأبعاد الصوفية في شعر ابن حمديس.
إعلانففي Aurora (الفجر)، لا تستخدم كلمات الشاعر العربي فحسب على نحو سطحي، بل تغذى بمنظور فني وجداني، وهو ما انتهى باعتناق باتياتو الإسلام.
فكان تأثير ابن حمديس جوهريا على فرانكو باتياتو في إعادة اكتشاف روابطه مع نفسه. ويتبين أننا لم نكن أمام مجرد اقتباس شكلي، بل أمام حالة إنسانية عميقة جرى فيها إعادة ربط تراث إنساني وروحي جمع الماضي بالحاضر، ورسم خريطة فنية تنطلق من صقلية القديمة نحو الوعي بالذات الإيطالية المعاصرة.
ابن حمديس، الذي أعادت الثقافة الإيطالية المعاصرة اكتشافه وتكريمه، نجد تأثيره البالغ أيضا في أدب أحد أبرز روائيي إيطاليا المعاصرين، "بيترانجيلو بوتافوكو" (1963).
في افتتاح الكتاب الذي يتناول سيرته الذاتية "الوجع المجنون للعشق" (2013)، يقول بوتافوكو: "كتابي يبدأ بابن حمديس، وينتهي بابن حمديس لأنه من داخله أنشودة". مما يؤكد أن حضور ابن حمديس ليس زخرفا عابرا عند بوتافوكو، بل إطارا شعريا تنتظم حوله الكتابة، وتعكس العمق العاطفي والنغمة الصوفية للعشق التي تكتنف العمل.
ويذكر بوتافوكو أن ابن حمديس شكل بالنسبة له مصدرا تأمليا يتجاوز الحنين إلى صقلية التاريخية، لينسحب على الحالة البشرية العامة كحالة اغتراب وجودية، وهو موضوع يتكرر في أعمال بوتافوكو.
ويرى بوتافوكو في كتابه نوعا أدبيا قريبا من "ديوان" ابن حمديس، مشيرا لاستخدامه صيغة تجمع بين السرد العمودي والتكرار الشعري، مستلهما من تقليد الديوان الأندلسي-الصقلي للشاعر العربي. حيث يؤكد الكاتب على إلقاء شبكات الحكاية الشعبية الصقلية المستخدمة في الكتاب والمعروفة باسم "كونتو" بوساطة ابن حمديس، مشيرا إلى أن هذا الأخير كان مرجعا لتماسك النص وأساسا موسيقيا شعريا تحول معه السرد الصقلي الشعبي إلى نشيد وجداني.
هذا الحفر العميق في الهوية، الذي أتاحه ابن حمديس لبوتافوكو، حمل بوتافوكو على نحو طبيعي إلى اعتناق الإسلام عام 2015، وذلك بعد صدور كتابه "المسلم المقدام"، الذي شكل بحثا في الذاكرة الإسلامية وعلاقتها بالغرب، ضمن مشروع شامل استرجاعي للمثقف الإيطالي البارز، الذي اعتمد اسما عربيا هو "جعفر الصقلي"، تكريما لأمراء صقلية العرب الذين وصف بوتافوكو فترة حكمهم للجزيرة في رواية "الذئب والقمر" (2011) بـ "زمن الأمراء الجميل".
وهي الرواية التي لم يسقط في كلمة الشكر فيها الامتنان لشعراء كبار، شكلت نصوصهم شاهدا شعريا على تداخل حضارات البحر المتوسط، وعلى رأسهم ابن حمديس. وليس ذلك من المنظور الجيوسياسي، بل في السياق الوجودي الأعمق، حيث يستخدم حضور ابن حمديس كنقطة انطلاق لفهم الذات بعمق تاريخي وحضاري.
وهكذا، لم يكن توظيف ابن حمديس لدى بوتافوكو محض مجمل أدبي تراثي، بل مفتاحا لقراءة سياق روحاني ووجداني، حوله إلى صوت مركزي يعبر عن الشوق الإنساني لإعادة الارتباط بالمتسامي والجمال الإلهي. وذلك من خلال دمجه في بنية نصوصه الروائية والفلسفية بأسلوب يرسخ هويته الثقافية، مما جعل تأثير ابن حمديس على بوتافوكو متشابكا ومتعدد الأبعاد: وجوديا، فنيا، سرديا، وذهنيا، ويبرز كيف أن شاعرا مسلما من القرن الـ11 كان ولا يزال مرآة لإيطالي معاصر يتأمل ذاته وجذوره في عالم يتحول.
وهكذا، لم يكن ابن حمديس مجرد شاعر عربي كتب عن المنفى، بل شاهدا على لحظة كانت فيها الروح الإسلامية جزءا لا يتجزأ من نسيج الهوية الصقلية، ومكونا بارزا في تاريخها الفني والجمالي. وأما تأثيره البالغ على اثنين من أهم مثقفي إيطاليا المعاصرين، فيبرز مدى تقاطع التجارب الروحانية والوجدانية بين زمنين، معيدا ابن حمديس إلى دائرة الشعر العالمي، لا كأثر تاريخي، بل كصوت حي يخاطب الإنسان الباحث عن الله وعن الجمال عبر العصور، ويكون ذلك هو أعظم تكريم لابن حمديس الصقلي.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات لم یکن من شعر
إقرأ أيضاً:
بين السياسة والدهاء.. أسرار علي ماهر باشا في إدارة مصر
علي ماهر باشا، ذلك الاسم الذي يرن صداه في صفحات التاريخ المصري، ليس مجرد سياسي عابر أو موظف حكومي، بل رجل عصامي وفذ، جمع بين الحنكة السياسية والدهاء الاستثنائي، حتى صار يعرف بين معاصريه بلقب "رجل الأزمات" و"رجل الساعة".
علي ماهر، ابن أسرة الشراكسة، ووريث إرث أبيه محمد ماهر باشا، الذي كان مثالا للشخصية القوية والمثابرة، تعلم من نشأته الأولى معنى الانضباط والمسؤولية، وكيفية الاعتماد على الذات منذ الصغر.
فقد كان والده، رغم انشغاله الواسع بالمناصب الحكومية والعسكرية، يحرص على تربية أبنائه تربية واعية، يغرس فيهم الأخلاق الفاضلة، ويشجعهم على الاجتهاد الفكري والعملي، بل ويمنحهم فرصة إدارة شؤون المنزل كتمرين على القيادة والمسؤولية.
ومن هذه البيئة المميزة خرج علي ماهر رجلا قادرا على مواجهة التحديات، ورئيسا وزراء مصر لأربع مرات، كان أولها في عام 1936 وآخرها في أعقاب ثورة يوليو 1952، حين كلف بتشكيل أول وزارة مصرية بعد الثورة.
نشأ علي باشا في القاهرة، متلقى تعليمه في المدارس الابتدائية فالتجهيزية، ثم الحربية التي كانت تعتمد النظام الفرنسي، ما أكسبه أساسا متينا من الانضباط والمنهجية.
وكان والده دائما يختبر ذكاءه ودقة ملاحظاته، حتى وصل الأمر إلى برقية بسيطة عن حالة ابنته المريضة، فأجاب علي بكلمات مختصرة لكنها دقيقة، ما أثار إعجاب والده وأكسبه مكافأة رمزية، لكنه أثبت بلا شك أنه فتى ذو وعي ورؤية ناضجة، كل هذه التفاصيل الصغيرة في نشأته شكلت شخصية سياسية محنكة، قادرة على إدارة الأزمات بحكمة وبصيرة ثاقبة.
مسيرته المهنية بدأت من القضاء، حين شغل منصب قاض بمحكمة مصر الأهليه، ثم تدرج في مناصب النيابة العامة، فكانت له تجربة واسعة في مجال العدالة والقانون، قبل أن يتحول إلى الحياة السياسية بشكل كامل، مشاركا في ثورة 1919، ثم شاغلا منصب وكيلا لوزارة المعارف، وأخيرا رئيسا لمجلس الوزراء.
لم تكن طريقه سهلة، فقد واجه محنا وتحديات جسام، منها توقيفه خلال الحرب العالمية الثانية بتهمة موالاته لقوى المحور، لكنه برهن دائما على صلابته وصلابة قناعاته، متمسكا بمبادئه الوطنية.
علي ماهر لم يكن مجرد سياسي متسلق للمناصب، بل كان رجل دولة بمعنى الكلمة، شغل منصب رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فؤاد، وحصل على نيشان فؤاد الأول، وكان حاضرا في كل اللحظات الحرجة التي مرت بها مصر، يدير ملفات دقيقة بحكمة وذكاء.
عرف عنه قدرة غير عادية على معالجة المشكلات الصعبة، فتراه دائما في قلب الأحداث، مهيئا لحلول عملية وسريعة، ومراعيا لتوازن القوى ومصالح الوطن، لقد كان مثالا للقائد الذي يزن الأمور بعين سياسية، ويوازن بين الشجاعة والحكمة، بين الوطنية والدهاء، بين المبدأ والمرونة.
وعندما نتحدث عن علي ماهر باشا، يجب أن نتذكر أنه كان الأخ الشقيق لرئيس الوزراء أحمد ماهر باشا، وأن الأسرة كلها كانت مثالا للتفاني في خدمة الوطن.
فقد عاش علي باشا حياة مليئة بالتحديات، وترك بصمة لا تمحى في تاريخ مصر الحديث، فقد تولى قيادة الحكومة في فترات حرجة، وشهد على الأحداث الكبرى التي شكلت مسار الأمة، من ثورة 1919 إلى ثورة 1952، مرورا بمختلف المحطات السياسية والاجتماعية التي صاغت هوية مصر الحديثة.
وقد رحل عن عالمنا في 25 أغسطس 1960 في جنيف، لكنه ترك إرثا خالدا في القلوب قبل السجلات الرسمية، إرثا من الحكمة، الوطنية، والالتزام العميق بمصلحة مصر.
إن الحديث عن علي ماهر باشا هو الحديث عن روح مصرية صادقة، عن رجل تجسد فيه معنى الخدمة العامة والوفاء للوطن، عن شخصية توازن بين العاطفة والمنطق، بين العقل والوجدان، وتجعل من التاريخ شاهدا حيا على دورها العظيم في صياغة مصر الحديثة.
فكم نحن بحاجة اليوم، ونحن نعيد قراءة التاريخ، إلى مثل هذه الشخصيات التي لا تهاب الصعاب، وتضع الوطن فوق كل اعتبار، التي تعلمنا أن القيادة الحقيقية ليست مجرد منصب أو سلطة، بل رؤية، وضمير، وإصرار على العطاء المستمر، مهما عصفت بنا التحديات.