المسافة السياسية بين واشنطون والخرطوم
تاريخ النشر: 26th, July 2025 GMT
الذي يقرأ تاريخ المسافات السياسية بين واشنطن و عواصم الدول الأخرى في العالم يستطيع أن يتنبأ بالسياسة الأمريكية خارج حدودها، و أمريكا تمددت قواتها خارج حدودها في ” الحرب الاسبانية الأمريكية” حيث احتلت أمريكا الفلبين عام 1898م بموجب معاهدة باريس بين البلدين، و خرجت من الفبين بعد تصاعد المعارضة المسلحة ضدها في 1946م.
السؤال هل إمريكا لها مصالح ذاتية في السودان تجعلها تتخذ موقفا لإعلان حرب بقواتها في السودان.؟
أمريكا قررت التحالف مع السودان في عقد ستينات القرن الماضي باعتبار دولة محورية في المنطقة الإستراتيجية الرابطة بين منطقة الشرق الأوسط و أفريقيا، و أيضا إحدى الدول التي تطل على البحر الأحمر الذي تمر به أكثر من 70% من التجارة العالمية.. و تجعله ذراعها في هذه المنطقة لمحاربة التمدد الشيوعي، و رفض السودانيون ذلك، و رفضوا المعونة الأمريكية.. و رجعت أمريكا للسودان من خلال شركة شيفرون عام 1975م و خرجت من السودان في 1984م متعللة أن الحرب التي اندلعت 1983 تؤثر على أعمالها.. رجعت بقوة في عهد الرئيس بيل كلينتون عام 1997م حيث أعلنت مادلين أولبرايت في كمبالا إزالة نظام الإنقاذ بالحرب و فشل مسعاها ذلك.. ثم رجعت أمريكا للسودان بعد ثورة ديسمبر 2018م و رفعت تمثيلها الدوبلوماسي بدرجة سفير ” جون غودوفري” لكي تشارك في هندسة السياسة في السودان من خلال ما سمي باللجنة الرباعية ” أمريكا و بريطانيا و السعودية و الأمارات” و أمريكا هي صاحبة فكرة ” الإتفاق الإطاري” الذي قدمته مساعدة وزير الخارجية الأمريكي ” مولي في” و هي أيضا التي جاءت ب “فكرة ورشة نقابة المحاميين” لكي تساعد في زيادة قاعدة المشاركة في ” الإتفاق الإطاري” و بموجبها تم استيعاب المؤتمر الشعبي جناح علي الحاج و أنصار السنة.. و أمريكا هي صاحبة فكرة ” تقدم” عندما طلبت من الأربعة ” نور الدين ساتي و الباقر العفيف و عبد الرحمن الأمين و بكري الجاك” و جميعهم كانوا مقيمين في أمريكا و مقربين من وزارة الخارجية أن يدعوا إلي تحالف القوى المدنية لتوسيع قاعدة المشاركة.. كانت أمريكا تريد أن تغير قيادة ” قحت المركزي” اعتقادا منها أنها أصبحت قيادات دون قواع شعبية تدعمها، و بالتالي تأتي بقيادات يكون لها قوة في الشارع السودان لذلك دفعت بحمدوك لرئاسة التحالف و عدد من المستقلين و تراجعت القيادات السياسية…
طلبت أمريكا من ” قحت المركزي” أن تعقد مؤتمرها في القاهرة بهدف أن تصدر بيان تنادي فيه بتوسيع قاعدة المشاركة، و إذا كان هناك شرط يكون قاصرا فقط دون مشاركة “المؤنمر الوطني” و بالتالي تفتح الباب أمام الكتل الإسلامية الأخرى. و بالفعل تم عقد المؤتمر و صدر البيان و لم يجد إستجابة.. ثم تولت ” تقدم” إدارة الملف، و لكنها اخطأت إستراتيجيا عندما ذهبت إلي أديس أبابا و وقعت على ” إعلان إديس ابابا” مع الميليشيا الأمر الذي جعلها تقع تحت هجوم شرس للمناوئين لها.. و بعدها حصل اجتماع القاهرة ثم باريس و جنيف، و جميعها لم تساعد على إحداث تغيير في الساحة داعم لتقدم، رغم الإستعانة برموز إسلامية و يسارية و غيرها لإنجاح هذه الاجتماعات، و لكن لم تنجح.. و فشلت بريطانيا و الأمارات في تحريك القضية في ” مجلس الأمن” بهدف التدخل عبر قوات دولية تحت البند السابع، أو حماية للإغاثة، و فشلت المحاولات جميعها في منظمات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.. خاصة الداعية لحماية الإغاثة بقوات دولية وفشلت بفيتو روسي..
تغيرت الإدارة الأمريكية التي قامت بتلك المجهودات، بهدف أن تحدث تغييرا في قيادة الدولة للقوى التي تعتقد أنها سوف تنفذ لها مصالحها، سياسيا و شعبيا، و حتى جدة نفسها أصبحت من مخلفات الفشل، إدارة ترامب لم تأتي بمبعوث أمريكي يدير معركتها في السودان، أنما طلبت حضور وزراء خارجية بعض الدول التي تعتقد لهم تأثيرا في مجريات الحرب، للتشاور حول تحقيق السلام في السودان، و لكي يكون داعما للرئيس ترامب أن ينال جائزة نوبل للسلام.. و أيضا أن يجدوا مخارجا لدولة الأمارات الداعم الأساس للميليشيا من الحملة الشعبية السودانية ضدها.. و أمريكا ليست بعيدة من حرب السودان مادام هي تشكل حماية للأمارات، و تمدها بالسلاح الأمريكي الذي وجد في مخازن الميليشيا.. أمريكا لن تتدخل بصورة مباشرة في الحرب، و لكنها تبحث عن سبل مرضية على أن تصبح البلاد دون ميليشيا.. لا توجد مصالح لأمريكا مباشرة في السودان، و لكنها وسيط لإرضاء الأمارات..
أن التيارات السودانية منقسمة إلي ثلاثة أقسام… الأولى تؤيد الجيش و تصر على استمرار الحرب حتى الانتصار على الميليشيا ثم بعد ذلك يبدأ الحوار السياسي السوداني بين القوى السياسي دون أية شروط مسبقة.. الثانية يريدون تدخلا أجنبيا لأنهم يعتقدوا أن الخارج سوف يشكل لهم رافعة للسلطة، و من ثم حمايتهم داخل السودان.. الثالثة هي أقرب للمجموعة الثانية و لكنها تحاول أن تتجمل ببعض الشعارات، و هي أقرب للإنتهازية من المواقف المبدئية.. أن اجتماع واشنطن لن يفرض شيئا على الشعب و لن يمارس عليه ضغطا.. هي فقط تغيير موقع جغرافي لما حدث في جدة، و إرضاء أمريكا لبعض حلفائها..
زين العابدين صالح عبد الرحمن
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی السودان
إقرأ أيضاً:
الرباعية الدولية لوقف الحرب في السودان.. أجندة قديمة في ثوب جديد
تستعد الرباعية الدولية في ثوبها الجديد لعقد اجتماع دعت له الإدارة الأمريكية عبر مبعوثها إلى أفريقيا مسعد بولس، عنوانه وقف الحرب في السودان، لبحث رؤية جديدة شاركت في صياغتها دوائر متخصصة في الشأن السوداني، دون مشاركة الحكومة السودانية والمتمردين والقوى السياسية المدنية الموالية للدعم السريع، مما يثير الشكوك حول نوايا الرباعية في فرض حلول خارجية تتجاوز إرادة السودانيين وتفتح الباب واسعا أمام التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية التي تجاوزت المعقول ما قبل الحرب؛ وانتهت بطرد المبعوث الأممي فولكر بيرتس بسبب تجاوزه التفويض الممنوح له في رئاسة بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال، والتي كانت واحدة من أسباب حرب الخامس عشر من نيسان/ أبريل، بجانب مبادرة الرباعية القديمة في السودان.
وبالعودة إلى ما قبل الحرب، فإن ذات الرباعية الدولية المؤلفة من سفراء الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والمملكة العربية السعودية والامارات كانت قد تجاوزت مبادرة الآلية الثلاثية للحوار في السودان بإشراف الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيغاد. دعمت الرباعية وثيقة نقابة المحامين كدستور بديل للوثيقة الدستورية الحاكمة للمرحلة الانتقالية الموقعة في آب/ أغسطس 2019، بل إن الوثيقة الجديدة الملغومة التي كُرست لإقصاء القوى السياسية الوطنية أصبحت خارطة طريق لمرحلة انتقالية جديدة، فوقعت عليها الأطراف المختارة بعناية في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 2022 رغما عن الملاحظات المهمة التي أبدتها قوى سياسية وشخصيات وطنية، على محتوى الوثيقة، فأحيلت القضايا الخلافية فيها وأبرزها الإصلاح الأمني والعسكري إلى الورش التفصيلية، التي لم تستكمل حتى انطلاقة شرارة الحرب.
ولم تحظ الحرب في السودان بالاهتمام الدولي اللازم، حيث ظلت الأزمة بعيدا عن اهتمامات المجتمع الدولي مقارنة بالأزمات المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط وتصدرها للمشهد حتى الآن
بعد إجراءات الرئيس البرهان في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2021، سعى المبعوث الأممي فولكر بيرتس للتوصل إلى تفاهمات بين شركاء الحكم العسكر والمدنيين، إلا أن تحركاته قوبلت بعدم ارتياح في أوساط السودانيين، نتيجة لانطباعات سالبة خلفتها تصرفاته وتدخله السافر في شؤون السودانيين وتجاوزه الأعراف الدبلوماسية. ونتيجة لتلك الضغوط، إضافة لتشكيك المكون العسكري في حياد رئيس البعثة الأممية وتحركات داخلية وخارجية، انضم إليه لاحقا ممثلون من الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (الإيغاد)، مكونين ما عرف لاحقا بالآلية الثلاثية لدعم الانتقال في السودان، وتيسير الحوار السوداني- السوداني، إلا أن قوى سياسية معنية بالحوار رفضت المشاركة في هذا الجلسات التمهيدية ووضعت شروطا قاسية؛ أهمها رفض الحوار المباشر مع العسكريين، وتحديد المشاركين في الحوار وعدم "إغراق العملية السياسية" بمجموعات لم تشارك في الثورة ضد نظام البشير.
في هذه الظروف علّقت الآلية الثلاثية الحوار، وبدأ سفراء الرباعية والمبعوث الأمريكي في ملأ الفراغ بالسعي للجمع بين العسكريين والمدنيين، واعتماد دستور المحامين والدفع به على عجل للتوقيع عليه بواسطة ذات شركاء المرحلة الانتقالية قبل فض الشراكة، إلا أن الوثيقة الجديدة كانت تحتوي على نصوص مفخخة تمهد لتمكين الدعم السريع ليكون نواة للجيش السوداني الجديد؛ بدعوى إصلاحه وإعادة هيكلته ودمج الفصائل المسلحة فيه تحت قيادة جديدة غير خاضعة لسيطرة عناصر النظام القديم، بينما أغفلت نصوص الوثيقة مدة الدمج وتركت تفسيراتها لوقت لاحق، إلا أن الورشة المناط بها تحديد أمد الدمج طالبت ببقاء الدعم السريع مستقلا لمدة عشر سنوات، بينما تمسك الجيش بإكمال الدمج في عامين فقط، وهو الخلاف الذي عصف بمبادرة الرباعية، وتسبب في الحرب الدائرة حاليا وآثارها كأكبر أزمة إنسانية في تاريخ السودان الحديث.
وبعد نشوب الحرب، تلاشت الرباعية بانسحاب الإمارات والمملكة المتحدة، بينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية عن مبادرة منبر جدة، الذي أفلح في التوصل إلى تفاهمات حول القضايا الإنسانية؛ أخل بها الدعم السريع قبل أن يجف المداد الذي كتبت به.
ولم يشهد منبر جدة في جولاته اللاحقة أي تقدم يذكر، بسبب تعنت الدعم السريع وسعيه لفرض شروط تعجيزية تناسب سيطرته وانتشاره في ولاية الخرطوم والمناطق الحيوية، كما لم يقدم المجتمع الدولي والإقليمي سوي مبادرات مشبوهة للاتحاد الأفريقي والإيغاد، تنشط كلما تقدم الجيش السوداني في مسارح القتال، بل جمّد السودان عضويته في منظمة الإيغاد لتقديرات تتعلق بعدم الحياد وتبني أجندة مشروع إقليمي يسعى لإعادة المشهد السوداني لما قبل الحرب.
ولم تحظ الحرب في السودان بالاهتمام الدولي اللازم، حيث ظلت الأزمة بعيدا عن اهتمامات المجتمع الدولي مقارنة بالأزمات المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط وتصدرها للمشهد حتى الآن.
انتهت مبادرة الرباعية بنشوب الحرب، وانفضت الآلية الثلاثية بسيناريوهات مختلفة، فالمبعوث الأممي أنهت الحكومة السودانية مهمته، وتوترت العلاقة بين السودان ومفوضية الاتحاد الأفريقي بسبب مساواتها بين الحكومة الشرعية والمتمردين، بينما جمد السودان عضويته في إيغاد بعد قمة جيبوتي التي دعا لها السودان لحل الأزمة السودانية فزادتها تعقيدا.
ومع دخول الحرب عامها الثالث، أطلت الرباعية الدولية بثوبها الجديد بعد انضمام مصر بجانب الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وانضمت إليها لاحقا قطر وبريطانيا لتقرر في شأن السودان في غياب أصحاب المصلحة الحقيقيين. وتبدو الأهداف المعلنة للقمة الدبلوماسية مختلفة بحسب أجندة المشاركين في القمة، فأمريكا تريد قطع الطريق أمام أي تحالفات روسية صينية أو نفوذ لإيران على سواحل البحر الأحمر في السودان، بينما تخشي مصر من اتساع دائرة الصراع وتهديد أمنها الداخلي بعد المعارك الأخيرة في المثلث الحدودي السوداني المصري الليبي، وتسعى الإمارات إلى استكمال مشروعها الرامي الي القضاء على الأنظمة الإسلامية في المنطقة وعدم السماح لنظام البشير بالعودة عبر بوابة الجيش، أما السعودية فما زالت مخاوفها متعلقة بأمن البحر الأحمر بجانب تمسكها بمنبر جدة. وكان مقررا للاجتماع الدولي أن يلتئم في العشرين من أيلول/ يوليو الحالي، إلا أن توسيع نطاق المشاركة بإضافة قطر وبريطانيا أدى إلى تأجيله إلى نهاية الشهر الجاري.
يبدو أن أعضاء الرباعية يريدون القفز فوق تضحيات الشعب السوداني الجسيمة بفرض من تسبب في كل هذه الجرائم والانتهاكات العظيمة ليعود فوق دماء وأشلاء السودانيين، بالتزامن مع تحركات الدعم السريع وجناحه السياسي لتشكيل حكومة موازية في دارفور
وعند النظر في هذه المعطيات وتصريحات مسعد بولس بأن لا حل عسكريا في السودان، تتبادر إلى الذهن عدة أسئلة: لماذا المبادرة الرباعية في الوقت الحالي؟ هل تسعى القمة الدبلوماسية لإنقاذ الدعم السريع الذي فقد قوته الصلبة وتقلص نفوذه عسكريا وسياسيا وتبددت أحلامه من حكم السودان إلى دارفور فقط؟ أم أنها تنوي إعادة المشهد إلى ما قبل حرب الخامس عشر من نيسان/ أبريل بتواجد الدعم السريع في المشهد إرضاء لداعميه الإقليميين؟
يبدو أن أعضاء الرباعية يريدون القفز فوق تضحيات الشعب السوداني الجسيمة بفرض من تسبب في كل هذه الجرائم والانتهاكات العظيمة ليعود فوق دماء وأشلاء السودانيين، بالتزامن مع تحركات الدعم السريع وجناحه السياسي لتشكيل حكومة موازية في دارفور، وهي الخطة (ب) للرباعية ربما تكون جزء من سيناريو يطبخ بعناية لتقسيم السودان، وليس بعيدا عن الأذهان ما قامت به دول "الترويكا" في سبيل انفصال جنوب السودان.
والمتابع للتحركات الأمريكية يؤكد أنها تسعى لفرض سلام سريع وبأي ثمن، حتى لو كان شرعنة المليشيات وتجاوز ما قامت به في حق السودانيين.
وتشمل معالم الخطة الأمريكية وقفا فوريا لإطلاق النار (دون دمج أو نزع سلاح المتمردين)، والجمع بين البرهان وحميدتي في لقاء مباشر للتوقيع على الحل السياسي الذي لن يكونا جزءا منه في المستقبل، واقتراح مرحلة انتقالية جديدة بتوازنات مفروضة من الخارج، ودمج الدعم السريع تدريجيا في الجيش السوداني، مع وعود بالمساهمة في إيقاف تدهور الاقتصاد السوداني وإعمار البنية التحتية.
وتبقى العبرة بالنتائج، فمن فشل في تطبيق مخرجات اتفاق جدة والمنامة لن يفلح في فرض شروط تجاوزها الزمن، وإن خارطة طريق الإدارة الأمريكية الجديدة بأن "لا حلول عسكرية"، ليست ضمن أجندة الجيش السوداني لأن المتقدم في ميدان المعركة هو من يفرض شروطه على طاولة التفاوض.