كيف تكون الطهارة لمن بُترَت بَعْضُ أطرافه وركّب أطرافا صناعية؟.. الإفتاء تجيب
تاريخ النشر: 28th, July 2025 GMT
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا مضمونه: كيف تكون الطهارة لمن بُترَت بَعْضُ أطرافه وركّب أطرافا صناعية؟، فهناك شخصٌ ابتُلِي بِفَقْدِ أحدِ أطرافه، ورَكَّب أطرافًا تعويضيةً متصلةً بالجسم، ويسأل عن كيفية الطهارة، وضوءًا واغتسالًا.
وأجابت دار الإفتاء عبر موقعها عن السؤال، قائلة: إن من ابتلي بفقد أحد أطرافه واستعان على ذلك بطرف تعويضي، يلزمه عند الطهارة إيصال الماء إلى ما يجب إيصاله إليه من ذلك العضو، فإذا كان قد فقد محلَّ الفرض في الوضوء فلا يلزمه نزع الطرف الصناعي وغسل ما تحته؛ لزوال المحل الذي يجب إيصال الماء إليه، بينما يلزمه ذلك حالة الاغتسال إن استطاع؛ إذ الاغتسال يتحقق بتعميم جميع البدن بالماء.
وأما إذا لم يفقد كل محل الفرض فيجب عليه نزع الطرف الصناعي في الوضوء والغسل وإيصال الماء إلى ما بقي من عضو إن قدر على ذلك، فإن لم يقدر عليه لتعذره أو تعسره فيلزمه غسل الميسور من ذلك العضو وإمرار الماء على الظاهر من العضو الصناعي مما يعد حائلًا دون البشرة المقصودة بالطهارة كما هو الحال في الجبيرة، فإن تعذر عليه إمرار الماء على الطرف الصناعي مسح عليه، وذلك حيث لم يكن إمرار الماء على الطرف الصناعي أو مسحه بالماء متسببًا في إتلافه بحسب ما يفيد به أهل الاختصاص، فإن تعذر كل ذلك غسلًا أو إمرار الماء أو المسح عليه فلا يلزم المتطهر حينئذ شيء في ذلك الموضع؛ للتعذر.
بيان المراد بالأطراف الصناعية وأنواعها
الأطراف الصناعية: هي أجهزة طبية تعويضية، تصمم على هيئة أحد اليدين أو الرجلين، وهي إما وظيفية تستخدم لاستعادة بعض أو كل الوظائف المفقودة للعضو المفقود، وإما تجميلية تهدف إلى استعادة الهيئة والمظهر الطبيعي للإنسان، وإما تجميلية ووظيفية في آن واحد، وتتنوع هذه الأطراف الصناعية بين الدائمة التي تركب بشكل دائم، والأخرى المؤقتة التي يمكن نزعها وإعادة تركيبها. ينظر: "الأجهزة التعويضية والوسائل المساعدة" للدكتور وائل محمد مسعود (ص: 101، ط. دار الزهراء-الرياض).
كيفية طهارة من ركَّب طرفًا صناعيًّا
الأصل المقرر شرعًا أَنَّ الطهارة مِن الحدث بنوعيه الأصغر والأكبر شرطٌ من شروط صحة الصلاة لا تصح الصلاة بدونها، وإعمالًا لذلك الأصل وتطبيقًا له فإنَّ الحكم في كيفية تطهر من ركب طرفًا صناعيًّا يختلف باختلاف قدر ما فُقِدَ من الطرف الأصلي الذي استعيض عنه بالطرف الصناعي، ونوع الحدث الذي يتطهر المحدث منه، وذلك على التفصيل الآتي:
أولًا: أن يكون محل الطهارة مفقودًا كله، وذلك كفقد اليد إلى ما فوق المرفق، أو الرجل إلى ما فوق الكعبين، وحينئذ فإذا كان التطهر من حدثٍ أصغر وهو كل ما أوجب الوضوء، فلا يجب نزع الطرف الصناعي حال الوضوء؛ لأن العضو المقصود بالغسل في الوضوء قد زال بالكلية، فزال ما تعلق به من أحكام لزوال محلها، ذلك لأن تحقق الحكم لا يكون إلا بموافقة محل وقوعه، فإن زال المحل زال معه ما يلزم عنه من أحكام. وعلى ذلك تواردت نصوص الفقهاء:
قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (1/ 14، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولو قطعت يده أو رجله فلم يبق من المرفق والكعب شيء سقط الغسل، ولو بقي وجب] اهـ.
وقال العلامة ابن شاس المالكي في "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 32، ط. دار الغرب الإسلامي): في بيان فرائض الوضوء [الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين، وقيل: إليهما دونهما، فلو قطع من الساعد غسل الباقي، ولو قطع من المرفق لم يجب عليه شيء؛ لأن القطع أتى على جميع الذراع، والمرافق في الذراع، إلا أن يكون بقي شيء من المرفق في العضد، يعرف ذلك الناس وتعرفه العرب، فيغسل] اهـ.
وقال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 192، ط. دار الفكر): [وفي قول ابن الحاجب فلو قطع المرفق سقط إجمالًا وإذا أخذ على ظاهره فلا إشكال فيه؛ لأنه إذا قطع ما يسمى مرفقًا في نفس الأمر سقط الوجوب لسقوط محله] اهـ.
وقال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في "نهاية المطلب في دراية المذهب" (1/ 75، ط. دار المنهاج): [فإن قُطعت اليد من الكُوع، أو من نصف الساعد، يجب إيصال الماء إلى ما بقي من محل الفرض وإن صادف القطعُ ما فوق المرفق، سقط الفرض من هذه اليد بسقوط محله] اهـ.
وقال الشيخ البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (1/ 101، ط. عالم الكتب): [(فإن لم يبق شيء) من محل الفرض بأن قطعت اليد من فوق المرفق أو الرجل من فوق الكعب (سقط) ذلك الفرض لفوات محله] اهـ.
وأما إذا كان التطهر من حدثٍ أكبر وهو كل ما أوجب الاغتسال بتعميم سائر البدن بالماء، وإزالة كل ما يمنع وصول الماء إلى ظاهر البشرة من البدن، فيلزم المتطهر حينئذٍ أن ينزع الطرف الصناعي -إن قدر على ذلك- إذا كان يمنع وصول الماء إلى جزء من البدن الذي هو محل الفقد.
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (1/ 45، ط. دار المعرفة): [فالحاصل: أن إمرار الماء على جميع البدن فرض لقوله صلى الله عليه وسلم: «تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة»] اهـ.
وقال العلامة ابن أبي زيد القيرواني المالكي في "كفاية الطالب الرباني" (1/ 210، ط. دار الفكر): [(أما الطهر) أي: الغسل وهو تعميم ظاهر الجسد بالماء] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين الرملي في "نهاية المحتاج" (1/ 224، ط. دار الفكر): [وأقله أن ينوي كذا نية مقرونة (وتعميم شعره وبشره) لما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فيكفيني أن أصب على رأسي ثلاثًا، ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي»؛ ولأن الحدث عم جميع البدن فوجب تعميمه بالغسل، ويجب إيصال الماء إلى منابت شعر وإن كثف بخلاف الوضوء لتكرره، ويجب نقض ضفائر لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، وغسل ما ظهر من صماخي الأذنين، وما يبدو من شقوق البدن التي لا غور لها] اهـ.
وقال العلامة الرحيباني في "مطالب أولي النهى" (1/ 180، ط. دار المكتب الإسلامي): [(وصفة) غسل (مجزئ: أن ينوي ويسمي) كما مر، (ويعم بماء جميع بدنه) سوى داخل عين فلا يجب ولا يسن] اهـ.
فالحاصل مما سبق أن من ابتلي بفقد كامل أحد أطرافه واضطر إلى تركيب طرفٍ صناعيٍّ، فإنه لا يلزمه حين الوضوء إيصال الماء إلى أسفل الطرف الصناعي من بشرة الطرف المفقود؛ لأن محل الفرض في الوضوء قد زال فسقط حكمه، بينما يلزمه إيصال الماء إلى أسفل الطرف الصناعي من ظاهر بشرة الطرف المفقود في الاغتسال إن قدر على ذلك؛ لأن غسل جميع بدن الإنسان في الاغتسال فرض إلا لعذر.
ثانيًا: أن يكون محل الطهارة لم يفقد مطلقًا بحيث بقيَ منه بقية يشملها حكم الغسل في الحدث الأصغر أو الأكبر، وحينئذ يلزم المتطهر غسل هذه البقية في الحدث الأصغر وكذلك الحدث الأكبر من باب أولى، ما لم يكن في الأمر بغسله مشقة أو حرج بالغين. وعلى ذلك تواردت نصوص الفقهاء:
قال الشيخ ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (1/ 14): [ولو قطعت يده أو رجله فلم يبق من المرفق والكعب شيء سقط الغسل، ولو بقي وجب] اهـ.
وقال الشيخ الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 191-192، ط. دار الفكر): [(وبقية معصم إن قطع)... والمعنى أنه إذا قطع بعض محل الفرض وجب غسل ما بقي منه بلا خلاف... فإذا قطعت اليد من الكوع وجب غسل المعصم، وإذا قطع بعض المعصم وجب غسل الباقي منه] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 32، ط. دار الكتاب الإسلامي): [فلو قطعت من تحت المرفق، وجب غسل الباقي كما صرح به الأصل] اهـ.
وقال الشيخ البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (1/ 101): [(وإن كان أقطع وجب غسل ما بقي من محل الفرض)... وسواء كان (أصلا) بأن قطعت يده من دون المرفق، أو رجله من دون الكعب] اهـ.
فإن تعذر عليه نزع ذلك الطرف عند كل وضوء أو غسلٍ لمشقة أو عدم إمكان من أجل تحقيق الطهارة، كأن يكون ملتحمًا أو ما أشبه ذلك فإنه يكفي المتطهر حينئذٍ غسل ما يمكنه غسله من ذلك العضو وإمرار الماء على ما باشر الموضع الذي تعذر وصول الماء إليه، فإن تعذر إمرار الماء أيضًا مسح عليه، فإن عجز عن المسح سقط عنه أيضًا، وذلك ما أفادته نصوص الفقهاء في الترخص فيما أشبه ذلك من أحوال، كحال من وضع على جرحه دواء يتضرر بإزالته، أو جبيرة يصعب نزعها، أو من ركب أنفًا صناعية أو رجلًا من خشب، حيث نصوا على أنَّ ما قام مقام البشرة مما يحجب إسالة الماء عليها يتحول الفرض في الغسل إليه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الحائل متصلًا بالبدن اتصالًا بأصل الخِلقة؛ كشعر اللحية الكثَّة، أو بغير أصل الخِلقة مِن نحو ما يتخذه الإنسان لمداراة عيب أو تكميل عضو أو أشباه ذلك، كالأنملة وأجزاء الأطراف الصناعية ونحوها مما يشق نزعه عند كلِّ غسل، وذلك هو الموافق لما تواردت عليه النصوص الشرعية وقررته القواعد المرعية، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «وَإِذَا أَمَرْتُڪُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، وقد تقرر في قواعد الفقه أنَّ "الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي (1 /49، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا مع مراعاة وجوب غسل ما قد يظهر من العضو الأصلي مما يتيسر إيصال الماء إليه؛ لما تقرر أنَّ "الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ"؛ كما في "المستصفى" للإمام الغزالي (ص: 220، ط. دار الكتب العلمية).
قال العلامة بدر الدين العيني الحنفي في "منحة السلوك" (ص: 73، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية): [ومن انكسر ظفره فجعل عليه علكًا أو نحوه: إن ضر نزعه: أمر الماء عليه، ولو كان المسح على العلك يضره: يجوز تركه، وقيل: لا، ومن أرسل علقة على يده أو رجله، فسقطت العلقة، فجعل الحنا في موضعهما، ولا يمكنه لا غسله: مسحه، فإن أضره المسح تركه، فيغسل ما حوله ويترك ذلك الموضع. كذا في "التتمة"] اهـ.
وجاء في "الفتاوى الهندية" في الفقه الحنفي (1/ 5، ط. الأميرية): [وذكر شمس الأئمة الحلواني إذا كان في أعضائه شقاق وقد عجز عن غسله سقط عنه فرض الغسل ويلزم إمرار الماء عليه، فإن عجز من إمرار الماء يكفيه المسح، فإن عجز عن المسح سقط عنه المسح أيضًا فيغسل ما حوله ويترك ذلك الموضع. كذا في "الذخيرة"] اهـ.
وقال الملا خسرو الحنفي في "درر الحكام" (1/ 8، ط. دار إحياء الكتب العربية): [محل الفرض استتر بالحائل وصار بحال لا يواجه الناظر إليه فسقط الفرض عنه وتحول إلى الحائل كبشرة الرأس] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "التلقين" (1/ 19، ط. دار الكتب العلمية): [فإن كان عليه شعر: لزم إمرار الماء عليه، ثم ينظر: فإن كان كثيفًا قد ستر البشرة سترًا لا تتبين معه: انتقل الفرض إليه وسقط فرض إيصال الماء إلى البشرة، وإن كان خفيفًا تَبِين منه البشرة: لزم إمرار الماء عليه وعلى البشرة، وسواء في ذلك أن يكون على خدٍّ أو شَفَة أو حاجب أو عذار أو عنفقة، ويلزم فيما انسدل عن البشرة كلزومه فيما تحت بشرة] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "الإقناع" (1/ 69، ط. دار الفكر): [لو اتخذ له أنملةً أو أنفًا من ذهب أو فضة: وجب عليه غسله مِن حدث أصغر أو أكبر، ومِن نجاسة غير معفو عنها؛ لأنه وجب عليه غسل ما ظهر مِن الأصبع والأنف بالقطع، وقد تعذر للعذر، فصارت الأنملة والأنف كالأصليَّيْن] اهـ.
قال العلامة البجيرمي الشافعي في "حاشيته عليه" (1/ 242، ط. دار الفكر): [قوله: (أنملةً أو أنفًا) وكذا لو اتخذ رِجلًا أو يَدًا من خشب ق ل. قوله: (وجب عليه غسله) أي: إِنِ الْتَحَمَ. قوله: (كالأصليَّيْن) أي: في وجوب غسلهما] اهـ. (ق ل: أي: الشيخ القليوبي).
وقال العلامة ابن رجب الحنبلي في "القواعد" (ص: 5، ط. مكتبة نزار): [وأما المحاذي لمحل الفرض: فيجزئ إمرار الماء على ظاهره إذا كان كثيفًا؛ لأن إيصال الماء إلى الحوائل في الوضوء كافٍ وإن لم تكن متصلةً بالبدن اتصال خِلقة؛ كالخُف والعمامة والجبيرة، فالمتصل خِلقةً أَوْلَى] اهـ.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الأطراف الصناعية الوضوء الغسل الإفتاء إیصال الماء إلى الماء علیه المالکی فی یجب إیصال فی الوضوء الحنفی فی قال الشیخ من المرفق دار الفکر ما بقی من الفرض فی إذا قطع أن یکون إذا کان على ذلک غسل ما إلى ما
إقرأ أيضاً:
ما حكم من ينشر فضائح الناس على السوشيال ميديا.. الإفتاء تجيب
ما حكم من ينشر فضائح الناس على السوشيال ميديا؟ سؤال أجاب عنه الدكتور علي فخر، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية
وقال أمين الفتوى: إن من ينشر فضائح الناس على السوشيال ميديا آثم ومرتكب ذنب كبير جدا وما يفعله حرام، وما منا إلا وله أخطائه وعوراته وذلاته.
ونوه بأنه لا أحد منا سلم من الذلل والخطأ، ولو تصورنا أننا أخذنا ونشرنا ذلات وأخطاء كل شخص على الملأ، فمن المستفيد من هذا؟! لا أحد مستفيد.
ولفت إلى أن كل ما في الموضوع أننا نشوه بعضنا بعضا، وقد يكون للشخص شيء متميز به فى بعض المجالات والناس فى الحقيقة لا تفرق بعد إثارة الفضائح بين كونه مميز أو لا.
وتابع: من الممكن أن نجد شخصا متميز جدا فى مجال معين ولكن له ذلاته فآخر أخذ هذه الذلات ونشرها أيا كان سببه أو مقصده من هذا، فجمهور الناس ينغلق قلبهم عن هذا الشخص كلية حتى أنهم لا يفرقون بين أنه متميز فى كذا أو ممكن نأخذ من جوانبه الإيجابية فى كذا، لا ينغلقون عنه بالكلية.
وأضاف أننا بذلك نكون قد شوه بعضنا بعضا وأغلقنا قلوبنا عن بعضنا البعض ولم نستفد حتى من الجانب الإيجابى من أى شخصية قد شوهناها وهذا فى الحقيقة حرام ويؤدى إلى انهيار المجتمعات.
وجاء في السؤال: هناك شخص كان قد ابْتُلي بتتبع عورات الناس والاطلاع عليها؛ وقد تاب من هذا الذنب، وعزم ألا يعود إليه مرة أخرى؛ فماذا عليه أن يفعل؟
وقالت الإفتاء: تتبع عورات الآخرين والتشوف إلى الاطلاع عليها من الأخلاق السيئة والأمور المحرمة التي تُشيع الفساد في المجتمع؛ فيجب على من يفعلها التوبة والإنابة والتحلل بطلب العفو والمسامحة ممن ظلمهم بتلك الطريقة إذا علموا بما فعله واقترفه، وإلا فليتب فيما بينه وبين ربه، ويستغفر لهم، ولا يحمله ما اطّلَع عليه من عورات هؤلاء الناس على كرههم ولا الحط من قدرهم.
وتابعت: التوبة من المعصية واجبة شرعًا باتفاق الفقهاء؛ لأنها من أهم قواعد الإسلام؛ قال الإمام القرطبي المالكي في "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 238، ط. دار الكتب المصرية) عند تفسيره لقول الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]: [قوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا﴾ أمر. ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة، وأنها فرض متعين.. والمعنى: وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال] اهـ.
والتوبة من الذنوب واجبة، وعلى المذنب أن يبادر بها؛ ليخرج من الدنيا سليمًا معافًى آملًا وراجيًا من الله عز وجل أن يتفضل عليه ويُدخله الجنة وينجيه من النار، وإذا تعلَّق الذنب بحقوق العباد فلا بد من التحلل من المظلمة؛ لأن الله تعالى قد يغفر ما كان من الذنوب متعلقًا بحقه، ولا يغفر ما كان متعلقًا بحقوق العباد، إلا إذا تحلَّل الظالم من المظلوم فسامحه.
فمَن كان من المسلمين يتتبع عورات الناس فعليه بالتوبة من ذلك، وقد تفضل الله تعالى على عباده بقبول توبتهم والعفو عن سيئاتهم، فمتى تاب العاصي من معصيته واستغفر الله لذنبه قَبِل الله توبته وغفر له؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25]، وقال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]، وهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه الشريف؛ فعن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» رواه ابن ماجه في "سننه".
وتتبع عورات الناس من الأمور التي تتعلق بمكانتهم بين الناس، وتؤثر على وضعهم الاجتماعي؛ ولذلك فمَن ترتب على فعله إساءة لهم أو تأثير على مكانتهم فعليه أولًا التوبة بالإنابة إلى الله والعزم على عدم العودة لذلك، وعليه أن يتحلَّى بخلق الرحمة والستر تجاه من اطلع على عوراته وعيوبه، فلا يحمله ما اطلع عليه على بُغضه ولا على الانتقاص من قدره، وإذا علم الشخص باطلاع الآخر عليه وتتبعه لعوراته فلا بد من الاعتذار إليه وطلب المسامحة منه، لتكتمل توبة هذا المذنب.
وذهب العلماء إلى وجوب اعتذار المسلم إلى من جنى عليه بالقول؛ كالغيبة والنميمة ونحوها، ومثله تتبع عوراته إذا بلغه ذلك وتأذى به؛ يقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "مختصر منهاج القاصدين" (ص: 173-174، ط. مكتبة دار البيان-دمشق): [وأما كفارة الغيبة، فاعلم أن المغتاب قد جنى جنايتين: إحداهما: على حق الله تعالى، إذ فعل ما نهاه عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم. والجناية الثانية: على محارم المخلوق؛ فإن كانت الغيبة قد بلغت الرجل جاء إليه واستحله وأظهر له الندم على فعله. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَن كَانَتْ عِنْدَهُ مَظلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِن مَالٍ أَو عِرْضٍ، فَليَأْتِهِ فَلْيَستَحِلَّهَا مِنهُ قَبلَ أَن يُؤخَذ وَليسَ عِندَهُ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، فَإن كَانَت لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذ مِن حَسَنَاتِهِ فَأعْطِيهَا هَذَا، وَإلَّا أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ هَذَا فَأُلقِي عَلَيهِ». وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل جعل مكان استحلاله الاستغفار له؛ لئلا يخبره بما لا يعلمه، فيُوغر صدره، وقد ورد في الحديث: «كَفَّارَةُ مَن اغْتَبتَ أَن تَسْتَغْفِرَ لَهُ». وقال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه وتدعو له بخير، وكذلك إن كان قد مات] اهـ.
وشددت بناءً على ما سبق: فإنَّ تتبع عورات الآخرين من الأخلاق السيئة والأمور المحرمة التي تُشيع الفساد في المجتمع؛ فيجب على مَن يفعلها التوبة والإنابة والتحلّل بطلب العفو والمسامحة ممَّن ظلمهم بتلك الطريقة إذا علموا بما جناه، وإلا فليتب فيما بينه وبين ربه، ويستغفر لهم، ولا يحمله ما اطّلَع عليه على بغض الناس ولا الحطّ من قدرهم.