سلطان بن حمود الحرملي -
تُعدّ من عجائب الدنيا «الثامنة»، إذا ما سلّمنا أمرنا بأنها كانت سابقًا «سبع» عجائب، فهذه الزيادة ليست صرحًا تراثيًّا أو معلمًا سياحيًّا، وإنما سلوكًا إجراميًّا يختص به الإنسان، وهو أن يبحث الجناة بأنفسهم عن «الحقائق المخفية»!
قد تستغرب من ذلك، لكن في بعض القضايا الجنائية نجد أن الجناة يشاركون رجال التحقيق في البحث عن «الجاني»، مستفيدين من فرصة أنهم يقعون خارج نطاق الأشخاص المشتبه بارتكابهم للجُرم، فيجدون في عملية البحث عن «الجناة» فرصة للتمويه والتخفي، بل يحاولون تقديم المساعدة في القبض على شخص غير مرتكب للجريمة، بمعنى أدق كما قيل منذ زمن: «يقتل القتيل ويمشي في جنازته»!
وهذا ينطبق تمامًا على الأشخاص الذين يوشون بك عند الغير، يظهرون لك بأنهم متضامنون معك، مستغربون من الحيرة التي أنت فيها عندما تفتش عن الذين كانوا سببًا في إشعال فتيل النزاع!
في العُرف القانوني، الجاني ليس مقصودًا به كل من يقوم بعملية إجرامية معينة مثل «القتل»، بل يمكن أن يكون في صور أخرى مثل: الجاني في قضية السرقة أو النصب أو الاحتيال أو التعدي على الآخرين، إذًا الجناة أنواع متعددة.
ندرك أن بعض الجناة لديهم من البراعة ما يمكنهم من طمس الأدلة وتشويه الواقع، وارتداء ثوب البراءة «كبراءة الذئب من دم يوسف»، في الحياة أسرار كثيرة، وتفاصيل تحتاج إلى وقت طويل للكشف عنها، وبعض المواقف يمكن أن تصيبك بصدمة عصبية عندما يُزاح الستار عن شخص لا تتوقع منه ما صنعت يداه.
المحققون يعجزون في بعض المرات عن الوصول إلى الجاني الحقيقي في الجريمة المعروضة عليهم، وبعض الأحيان كل الشكوك تذهب نحو شخصية محددة، لكن المدهش أن هذا المتهم الذي تحوم حوله الشكوك ليس هو الجاني!
بعض الوقائع المحزنة تتجلى في صدور بعض الأحكام على بعض المتهمين، يدخلون فعليًا قفص الاتهام ويتم إدانتهم ويقبعون في السجون لفترات زمنية، ثم تظهر براءتهم من الجرم المنسوب إليهم بعد وقت طويل، وهذا ما حدث فعليًا في بلدان الغرب، على سبيل المثال لا الحصر: «براءة بعد سنوات من السجن ظلمًا».
الجريمة لا تتوقف في العالم -هذا أمر متفق عليه- وأساليب الجرائم متعددة جدًّا، فهناك سطو مسلح على بنك تجاري، أو هجوم على قطار يضم مسافرين، أو تفجير متعمد لدور العبادة، الأمثلة كثيرة على الجريمة التقليدية التي نعرفها جميعًا.
أما اليوم، فنحن نواجه جرائم يصعب تتبعها بسهولة، مثل «الجرائم الإلكترونية» ومنها الابتزاز، أو سرقة الأموال عبر الروابط المزيفة، أو الاتصال بالضحايا من الخارج بأرقام محلية، وغيرها الكثير من القضايا المطروحة.
إذًا، الجريمة تطورت من شكلها التقليدي إلى الشكل الحديث، وبات على الدول التصدّي لمثل هذه الهجمات السيبرانية.
المحزن في الأمر أن الشخص «الضحية» لا يعرف بأنه يعوم في عالم افتراضي مليء بالمخاطر، إلا عندما يفقد «مدخراته».
لهذا، سعت الدول إلى إنشاء وحدات متخصصة تستقبل مثل هذه الجرائم، وتحاول مساعدة الناس في إيجاد الحلول لمشكلاتهم، ولكن ليس في كل مرة يمكن أن تعود المياه إلى مجاريها، بمعنى أن بعض المحاولات تفشل في استرداد الحقوق إلى أصحابها؛ لأن من يقوم بهذه العمليات هم عصابات دولية منظمة، لديها من الإمكانيات، والأجهزة المتطورة، والأشخاص المدربين على هذه النوعية من الاختراقات وارتكاب الجرائم الإلكترونية.
لذا، تنصح الوحدات المتخصصة بالجرائم الإلكترونية الجمهور بعدم التجاوب مع الدخلاء، أو الانجراف في أودية الثراء السهل، والطمع في الحصول على الأموال دون جهد أو عمل، أو الاكتفاء بالإعلانات المنمقة والخصومات الذهبية التي تقدمها الصفحات الإلكترونية في المنصات ومواقع التواصل الاجتماعي.
إذا أردنا العودة ثانية إلى الجريمة بجانبها التقليدي، فإن جهات التحقيق لديها من الإمكانيات ما يساعدها على كشف الألغاز وحلّ العقد. فكل جريمة تستغرق وقتًا زمنيًّا في فك خيوطها المتشابكة من أجل الوصول إلى الشخص المطلوب بدقة.
بعض القضايا يتم إغلاقها نهائيًّا وتُسجّل ضد مجهول لعدم الوصول إلى الجاني. هذا ليس معناه تقصيرًا من المحققين أو المتخصصين في عالم الجريمة، وإنما الظروف والخطط المدروسة التي يستخدمها الجناة في تنفيذ مخططاتهم المشبوهة تنجح في محو آثارهم التي كانت في المكان وقت وقوع الجريمة.
دائمًا يُقال: «لا توجد جريمة كاملة»، ونحن نؤكد أن الجاني، وإن حاول أحيانًا التخلص من بقايا جريمته، فهناك خيط ما يتركه وراءه، ليس غباء، ولكن غفلة منه أو سوء تقدير. فكم من جناة تم التوصل إليهم من خلال خيط دقيق تركوه في مسرح الجريمة بدون وعي، بل ظنًّا منهم أنهم خارج نطاق المساءلة القانونية.
أحيانًا، تكون الجريمة يُشترك في تنفيذها والتخطيط لها عدة أشخاص، وعندما يقع أحدهم يدل على البقية المشتركين. لكن عندما يكون الجاني شخصًا واحدًا، وكل الدلائل والقرائن لا تُدينه أو تدل عليه بأنه الفاعل، وربما يكون أكثر الموجودين تأثرًا بما حدث، وكل علامات الحزن والألم والمشاهد التراجيدية متوفرة فيه، لكن المفاجأة تكون بالإعلان أنه الجاني!
هذا بالطبع ليس سيناريو لفيلم قديم، لكنه فعليًّا يحدث، لذا دائرة الاشتباه أحيانًا تتسع وتضم أشخاصًا يمكن أن نراهم غير مذنبين أو بعيدين عن الشبهات، لكن المفاجآت هي من تُخبرنا بأن الجاني يحاول دائمًا دفع الشبهة عن نفسه وإلقاءها على الغير.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الحقيقة المزعجة في «انتصار» نتنياهو
ترجمة: أحمد شافعي
لا يزال اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس محاطًا بأسئلة عالقة عما لو أنه سوف يصمد، وكيف ـ بل هل ـ ستنتقل الأطراف إلى المواضيع الشائكة للغاية الواردة في الخطة الأمريكية التي أدت إلى هذا الاتفاق. ومع ذلك، من الواضح أن هذا الفتح الكبير يشير إلى بداية النهاية.
أي أن هذا الأمر واضح للأغلبية في ما عدا حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التي تقلل نطاق الاتفاقية إذ تروجها باعتبارها انتصارًا دبلوماسيًا ومعنويًا وأمنيًا: فإسرائيل تحتفظ بقوات في أغلب غزة حتى بعد تحرير الرهائن دونما جدول زمني صارم لانسحاب مستقبلي.
وقد صوتت الحكومة بإقرار المرحلة الأولى من الاتفاقية ـ أي تبادل الرهائن والأسرى، والتراجع العسكري في غزة، وزيادة الدعم الإنساني للقطاع، ووقف إطلاق النار. ولم تتناول القضايا الأصعب: أي الانسحاب الكامل إلى المحيط الأمني، وحكم غزة و«المسار المجدي إلى حق تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة» وذلك ما طالبت به الاتفاقية في مراحل تالية.
ولقد كان صحفيون مقربون من نتنياهو صرحاء في قولهم إنه «ما من مرحلة ثانية، وهذا واضح للجميع، أليس كذلك؟» كما كتب أميث سيجال في موقع تواصل اجتماعي، مضيفًا قوله «إن ما لدينا الآن هو اتفاقية للرهائن، ووقف لإطلاق النار مع استمرار المحادثات بنية حسنة». غير أن الافتراض الساري في إسرائيل الآن في ما يبدو هو أنه وإن لم يستأنف القتال كامل النطاق، فإن الجيش الإسرائيلي سيستمر في الضرب حيثما يجد خطرًا.
غير أن ثمة حقيقة مزعجة وهي أن هذا «النصر» في واقع الأمر هزيمة ـ هزيمة ضرورية مباركة ـ للرؤية المشيحانية التي تتبناها الحكومة. والحق أن الاتفاقية تتناقض مباشرة مع ما روجته الحكومة للإسرائيليين على مدى سنتين: أي الوعد بالانتصار التام وتدمير حماس.
لقد دأب نتنياهو مرارا على رفض وقف إطلاق النار، ووصف أي توقف بأنه استسلام لحماس وللإرهاب، مطالبا بالنصر التام. وتعهد وزراء في حكومته بالقضاء على جيش حماس وإنهاء حكمها إلى الأبد.
ورسمت الحكومة صورة مغرية لتحول غزة، من خلال إجلاء جماعي يعيد توطين الفلسطينيين، وأنشأت وزارة الدفاع إدارة للهجرة «الطوعية»، وتردد في سبتمبر أن نتنياهو التقى بمسؤولين في وزارة الدفاع وأعضاء في مجلس وزرائه وناقشوا خططا للشروع في إخراج أهل غزة.
وأشاد مسؤولون بمؤسسة غزة الإنسانية، وهي منظمة إغاثة تابعة لإسرائيل، حلت محل جهودة إغاثة أخرى تقوم بها الأمم المتحدة. وقيل إن مستوطنات إسرائيلية سوف تقام من جديد وإن غزة سوف تتحول إلى «منجم عقاري ضخم»، وإنه سوف يتم ضم أراضي الضفة الغربية، ولن يكون للسلطة الفلسطينية دور في حكم غزة في ما بعد الحرب.
وحطم الواقع كل هذه الوعود تقريبا.
فحماس بقيت. وفي ظل مقترح خطة الرئيس ترامب الكاملة، التي وافق عليها رئيس الوزراء نتنياهو، سوف تنزع الجماعة سلاحها لكنها لن تختفي، بل سيحصل قادتها على العفو أو النفي. وسوف يظل للمنظمة بعض السيطرة وإن تنازلت نظريا عن السلطة. والواقع أنه في غضون ساعات من انسحاب الجيش الإسرائيلي بدأت حماس في نشر أفراد الأمن في مدينة غزة وأصدرت تعليمات للشعب بطاعتهم. وبناء على اتفاقيات سابقة لوقف إطلاق النار، سوف تسارع المنظمة بإظهار مزيد من دلائل الحكم بتوفير الخدمات المحلية، وإدارة المستشفيات، والعمل على توزيع المساعدات.
والحقيقة المرة هي أن حماس جزء من النظام السياسي الفلسطيني. ما كان ينبغي مطلقا أن تكون ذات السيادة الفعلية على الأرض وذات علاقات دولية وسيطرة على المعابر الدولية، لكن تلك كانت سياسة إسرائيل طوال العقود الأربعة الماضية وهي التي أحالت حماس إلى منظمة وحشية وأتاحت للإخوان المسلمين ـ وهي الجماعة الأم التي تفرعت منها حماس ـ أن تعمل في ظل غياب نسبي للرقابة داخل غزة في مطلع السبعينيات بوصفها معارضا لمنظمة التحرير الفلسطينية بما يسر بعد ذلك تحويل مليارات الدولارات من قطر إلى حكومة حماس.
وقد يكون احتواء حماس، وتخفيف أثرها السلبي، وحتى نزع سلاحها مطامح معقولة، قد تتحقق من خلال جهود بعيدة المدى، لكن حماس لم تذهب بعيدا، خلافا لتعهدات الحكومة الإسرائيلية، ولا شعب غزة، برغم ضغط اليمين المتطرف من أجل الاستيلاء على الأرض لإسرائيل. فخطة الرئيس ترامب توضح أنها «سوف تشجع الشعب على البقاء وتعرض عليهم فرصا لبناء غزة أفضل». وتم استبعاد مؤسسة غزة الإنسانية من هيكل التنسيق الإنساني الراهن والذي نرى اعتبارا من الآن ـ ويا للمفاجأة تلو المفاجأة ـ أنه رجع إلى حد كبير إلى الأمم المتحدة. وماذا عن فكرة المستوطنات الإسرائيلية في غزة؟ نبذتها الخطة. وضم الضفة الغربية؟ أزيح إلى الرف بعد أن قال الرئيس ترامب في الخامس والعشرين من سبتمبر إنه لن يسمح به.
أما رؤية الحكومة المحدودة للاتفاقية ـ سواء أكانت محسوبة أم ضالة ـ فتتعارض مع رؤية الرئيس ترامب. وهي تتجاهل التزامه بما يتجاوز وقف القتال. فقد قال في برنامج هانيتي على شبكة فوكس نيوز يوم الأربعاء إن «هذا الأمر أكبر من غزة. هو سلام في الشرق الأوسط، وهو أمر لا يصدق».
على الحكومة أيضا أن تراعي تصميم البلاد الأخرى المعنية. فالدول العربية ـ في سعيها إلى تعزيز قيادتها في المنطقة ودعم إدارة ترامب ـ باتت حسبما تردد منفتحة على دفع حماس إلى نزع السلاح، مهما بدت النتائج غير مرضية لإسرائيل. ودول الخليج ومصر وتركيا تدعم تشكيل قوة استقرار متعددة الجنسيات، وتتعهد بتمويل إعادة الإعمار، وتتعهد بدفع السلطة الفلسطينية إلى إجراء إصلاحات حقيقية لكي تتمكن من حكم غزة من جديد.
ما الذي دفع نتنياهو إلى اتخاذ قرار يخالف نزوعه بطبعه إلى التسويف، وما الذي دفعه إلى الموافقة تقريبا على كل ما قال إنه يعارضه؟ الدافع ببساطة هو الرئيس ترامب. لقد كانت محاولة إسرائيل الفاشلة لاغتيال أعضاء من قيادة حماس في الدوحة بقطر بداية لسلسلة من الأحداث التي دفعت الرئيس الأمريكي ونظراءه في قطر ومصر وتركيا إلى الضغط على إسرائيل من جهة، وعلى حماس من جهة أخرى، من أجل التوقيع على اتفاق إطاري، وإرجاء المفاوضات على التفاصيل لوقت لاحق. لم يكن قول «لا» أو «نعم ولكن» ومحاولة كسب الوقت خيارا واردًا.
مفهوم السبب الذي دعا حكومة نتنياهو إلى الاحتفاء بالاتفاق مع الإلماح في الوقت نفسه إلى أن وقف إطلاق النار قد يكون مؤقتا وإنجازا استراتيجيا. لأن الاعتراف بغير ذلك يعني الاعتراف بحقيقة لا تطاق.
وهي أن أطول حرب كبرى خاضتها إسرائيل في التاريخ، واحتجاز الرهائن لأكثر من عامين في ظروف لا تحتمل، وموت الكثيرين في الأسر، وسقوط نحو ألفي قتيل إسرائيلي، وأكثر من سبعة وستين ألف قتيل فلسطيني وفقا لوزارة الصحة التي تديرها حماس، وتدمير غزة، وعزلة إسرائيل الدولية - كل ذلك لم يفضِ إلى الرؤية الموعودة، بل إلى تسوية تفاوضية تحيي نفس الأفكار التي قضى نتنياهو حياته المهنية كلها وهو يعارضها. لقد كانت هذه الهزيمة انتصارا للإسرائيليين والفلسطينيين وغيرهم في المنطقة ممن يسعون إلى بديل لإراقة الدماء.
شيرا إيفرون، رئيسة قسم السياسة الإسرائيلية في مؤسسة راند.
الترجمة من ذي نيويورك تايمز