من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"
طُرق الباب، فتحت الخادمة، فإذا بالسيدة "عنايات" قد جاءتنا بدعوة لحضور عقد قران ابنتها الخميس المُقِبل؛ استقبلتها أنا وأمى بكل حفاوة وترحاب وتهان يمكن أن تُقال حينها، أصرت على عدم الولوج لانشغالها بدعوة الأحباب وتجهيزات العرس. لم تتوانَ للحظة عن الدعاء لى بأن يرزقنى الله بابن الحلال، كررتها عشرات المرات فى أقل من دقيقتين، وهى لا تدرى بأنها تمزقنى بسكين غير حاد! لم أواجه سيل الدعوات إلا ببسمة تزاحمها، غُصّة بالقلب تحمل آلامًا كآلام اللاجئين؛ حين يتذكرون أوطانهم!.
لبّينا الدعوة، وخرجت فى زينتى ووقارى المعهود، لكن نظرات الحاضرين كانت تحاصرنى كحصار أُسُود بغابةٍ لفريستهم! امتزجت الوجوه والملامح بالأضواء والزينات، وتعانقت البسمات والمجاملات غير الصادقة ها هنا، لكن شرودًا تامًا تملّكنى، أحكم قبضته عليّ، طوّقت الأحزان عينىّ وهما تنقشان دروبًا من الألم، وعثرات تليها عثرات، تُثقل خطوات الفرح إلى قلبى، وتساؤلات يتلوها القلب النابض بالأحزان وأنا أرى بنات الجيران، والأقارب والصديقات، كلُ يُزفّ إلى بيت عُرسه، فأتساءل: أو لا يأتى هذا اليوم بعد؟! أينقصنى شيء مما فيهن؟! لقد انفرط نصف العقد الثالث، يا إلهى، يا ويلى، ممن لا يرحمون من أدلجت أقدامهن العقد الرابع ولم يرتبطن بعد! ما الحيلة إذن؟!
لم أكن متعجرفة، أنظر بأناقة لطابور الانتظار .
تبًا للأفكار والمعتقدات التى سكنت عقول الناس! حتى أمى لم يؤرّق وجدانها غير تأخر نصيبى من الزواج حتى الآن!
...وسط هذا الزحام والغناء وضجيج الأصوات، توافدت إلينا عائلة عمّ مرسى الذى كان يقطن بجوارنا منذ زمن بعيد؛ فى حى بولاق، ومن الواضح أن الله قد آتاهم سعة من الرزق مثلنا، فرحنا جدًا بلقائهم بعد كل هذا الزمن، وصارت أمى تحاكى زوجة عمى مرسى، عن العِشرة والعيش والملح، وكيف كان الرجل يذكرنا دومًا بالخير قبل وفاته. كنت مستمعة لهذا الحديث، لكنى لا أشارك فيه فليس لدى ما أقوله من ناحية، ومن ناحية أخرى كنت أهرب جاهدة من نظرات ابنها مجدى العائد من أمريكا، وخجلى من زوجته التى بدأت تلحظ بغيرة النساء، ففطرة النساء واحدة.
وقد بدا عليها جليًا؛ أنها مستاءة من زوجها الذى يحاصرنى بالنظرات قبل الأسئلة؛ وشغفه الذى يزيد من خجلى كل لحظة!
استأذنت والدتى بأن نذهب لنسلّم على بعض الأصدقاء، وقبل أن ننصرف، أخرج لى مجدى كارتًا بأرقام شركاته العقارية، ثم مضينا فى تؤدة أتأمل ما يحدث!.
فاض الحفل بمدعويه حتى وجدت صديقتى "مروة"، وكانت مفاجأة فلم أرها منذ سنين، لكن وجهها أصبح شاحبًا وبدا عليها عمر يفوق عمرها بعشرات السنين. يا إلهى! ما الذى جعلك هكذا يا مروة؟! أجابتنى بأنها لاقت الويل، من عمليات متكررة كى تنجب وبعد كل هذا العناء طلّقها زوجها وتزوج بأخرى!
حقاً وراء كل ابتسامة عناء، لا يعلمه إلا صاحب الملكوت! تبادلت النظرات مع أمى وفى النظرات عبارات وعبارات. ضمّدت جرح صديقتى بقدر المستطاع، بشيء من الصبر، ونظرة أمل فى فضل الله، حتى عادت لها بسمتها ترتسم وجهها الملائكىّ وهى تردد :"قلة الزواج أفضل من الإهانة التى نلاقيها يا حبيبتى" وجدت نظرة الغضب فى عين أمى من كلام صديقتى، فبادرت قائلة لها : كل شىء نصيب يا عزيزتى.
رأينا المدعوين كل يحمل أطباق الطعام، مما لذّ وطاب قادمين من البوفيه، فاستشعرت الجوع فأنا لم أتناول الطعام طيلة هذا اليوم.ثم استأذنت أمى أن نذهب للبوفيه. سرنا إليه ثلاثتنا، حملت طبقى أمرّ به على كل شيف؛ فيضع ما أختاره حتى وجدتني أمام شيف، رفع يده بالطعام لكن يداه تسمّرتا! وعجزت كل حواسه عن الحركة،إلا عيناه ودقات قلبه،التى أسمع نبضها المتدفق ينهمر، وجْدًا نحوى ، سقط الطبق من يدى لكن نظراتنا لم تتساقط، أبصرته بقلبى قبل عينى، تلاقت أمواج نهرين من حب قديم؛ حجبهما تلّ من فوارق الطبقات المزعومة، ومظاهر خادعة جهزّت طريق الوصل لقلبين حلما يومًا بالعيش فى عالم لا يحكم قبضته المال! آهٍ وألف آهٍ ،لقد عاد الزمان بنا سنوات، وأنا أتذكر خروجه من بيتنا بعد التخرج، يحمل خيبة الرجاء ،بقلب منهزم مقهور ،ووجه كساه السواد رغم وسامته، التى أراها حتى اليوم !. لم يتفوّه إلا بجملة واحدة " مازلت على عهدنا !" ..مزّقتنى عبارته، نظرت لوجه صديقتى الشاحب ووجه أمى، التى تحاول جاهدة أن تخفى نظرات خجلها المبعثرة، بين أضواء وعتمات المكان وفى كل اتجاه ! أخرج ليّ كارتًا بأرقامه، تناولته يدى وهى تهرب منى خلف قلبى المضطرب بين أمس وغد!.
عدت جالسة وكأن معدتى امتلأت لكن القلب فارغ يتملكه شعور لا يعرف كنهه و مصيره غير الله !
لم تمر دقائق حتى جاءت والدتى بصديقتها " ماجدة" بكل عائلتها؛ للتعرف علىّ وكأنها تمسح بالأنس ما علا القلب من ركام ألم الذكرى ووجع اللقاء ؛ استقبلتهم بابتسامة ملونة ، أرد التحايا والسلام بلسان فارقه العقل بعيداً.
ظلت السيدة ماجدة تحاورنى وتمازحنى وتحدق فىّ بشدة و لتفاصيل جسدى.
وكأنها تستكشف قارة جديدة، حتى انتابنى الخجل والشك من منظارها الثاقب !
لاحظت ضجرى، فأعلنت حسن نواياها بسرعة قائلة: إنها تبحث عن عروسة بنت حلال وجميلة مثلى، لولدها البكر الذى انفصل عن زوجته منذ أكثر من عام!.
وصارت تقدم لعمله المرموق ودخله العالى؛ الذى يكفل الهناء لأى أسرة ثم أخذت تفند فى أسباب طلاقه لها، و أن طليقته كانت تفعل كذا وكذا بعد ان أنجب منها ولدين جميلين ؛ على حين أن ابنها كان نعم الزوج البار الذى تتمناه أى امرأة !
استشعرت أنس أمى بهذا الحديث وهى تستجوبها وتسبر أغوارها؛ بينما لاحظوا جميعًا غرغرة الدموع فى عينى وضيق الدنيا بوجهى فها أنا قد أصبحت اليوم سلعة تباع وتشترى بأبخس الأثمان ما أصعبه شعور تمر به أى أنثى مثلى عبر بها قطار العمر ثلاثة عقود كاملة والكل ما بين مشفق عليها وما بين متسائل عن حكايتها !، همّت السيدة ماجدة بإخراج كارت بأرقامهم وأرقام محلاتهم الشهيرة وسط البلد ؛ تناولته بابتسامة أهديتها الليلة كثيرا من الناس هنا؛ استأذنا بالرحيل واصطحبتنى أمى فى ذراعها، بعدما أدركت الحالة النفسية السيئة التى ألمّت بى هذه الليلة! وفى الطريق إلى السيارة أخرجت لها الكروت الثلاثة، سقط كارتان منهما أرضا دهستهما قدماى! بادرت أمى إليهما وهى تنفض عنهما التراب، لكنى انصرفت فى طريقى بما تبقى منهم تضمه يدى إلى صدرى .
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ها هنا يوجد
إقرأ أيضاً:
العفافيش.. ثلاثة عقود من الخيانة وبيع الوطن
أحمد قحيم
في ذاكرة اليمن السياسي، يظل اسم الهالك علي عبدالله صالح وجناحه العفاشي في المؤتمر الشعبي العام رمزًا صارخًا للفساد والعمالة والخياشنة، ونموذجًا حيًا لمن باع الوطن وخيراته للمستعمرين والقوى الأجنبية، وجعل اليمن حقلًا للنهب والاستغلال، مقابل التمسك بكرسي السلطة، متجاهلًا حقوق شعبه وسيادته الوطنية.
ثلاثة وثلاثون عامًا من الحكم لم تثمر سوى التبعية المطلقة، نهب الثروات، وانحدار الاقتصاد، وفتح بوابات التطبيع مع العدو الصهيوني، وصولًا إلى المشاركة في تحالف العدوان على اليمن عام 2015.
منذ عام 1978، أحكم عفاش قبضته على البلاد عبر شبكة ولاءات قبلية ومصالح ضيقة، وحوّل المؤتمر الشعبي العام إلى واجهة سياسية لحكم الفرد، بينما كانت خيرات اليمن تُستنزف بلا رحمة: النفط والغاز يُباعان بصفقات سرية، الموانئ تُؤجر لشركات أجنبية بأثمان بخسة، الديون تتضاعف، والاقتصاد الوطني ينهار، فيما كانت العائلة الحاكمة تنعم بالثراء الفاحش على حساب معاناة الشعب.
لم تقتصر خيانة العفافشة على الاقتصاد، فقد حولوا الأجهزة الأمنية إلى أدوات قمع ضد الشعب، وفتحوا الأبواب أمام الوصاية الأمريكية والسعودية تحت شعار “التعاون الأمني”، بينما كان القرار السيادي يُتخذ في أروقة السفارة الأمريكية وقصور آل سعود.. وحتى قضية فلسطين، التي رفعوا شعارات التضامن معها، لم تمنعهم من نسج خيوط التطبيع في الخفاء من خلال لقاءات سرية مع مسؤولين إسرائيليين في عمّان عام 1995، وصفقات غاز عبر وسطاء مرتبطين بشركات إسرائيلية، واتصالات غير مباشرة مع رجال أعمال صهاينة للاستثمار في موانئ البحر الأحمر.
أما الأمن والسيادة فحدث ولا حرج، فقد كان لعفاش فيها صولات وجولات، الاتفاقيات الأمنية مع واشنطن سمحت للطائرات الأمريكية بدون طيار بانتهاك الأجواء اليمنية واغتيال مواطنين يمنيين، واتفاقية جدة عام 2000 تنازل فيها عن أراضٍ يمنية لصالح السعودية، أما إعطائه الضوء الأخضر للغارات الجوية السعودية في صعدة عام 2009 فلم يكن إلا حلقة أخرى في سلسلة الخيانة الطويلة. .
والإمارات هي الأخرى لم تكن بعيدة عن غنائم العفافشة، فقد أُعطيت إدارة ميناء عدن في 2008، محطمين بذلك الاقتصاد الوطني، ومعطّلين أي مسار لتحسين مستوى حياة المواطن اليمني.
مع ثورة فبراير 2011، انهارت واجهة النظام، لكن المبادرة الخليجية أعادت الحياة لعفاش والعفافشة ومنحتهم حصانة، لتبدأ مرحلة جديدة من التخطيط لاستعادة السلطة بأي ثمن، حتى لو كان التحالف مع أعداء اليمن المباشرين.. وفي 2015، حين فشلوا داخليًا في إسقاط ثورة 21 سبتمبر، انضموا علنًا لتحالف العدوان السعودي الإماراتي الأمريكي، مقدمين المعلومات الاستخباراتية ومهيئين الممرات للقصف والحصار وتجويع الشعب اليمني.
في المقابل، برز الجناح الوطني داخل المؤتمر الشعبي العام، ثابتًا في الموقف، رافضًا الارتهان، ومتحالفًا مع الجيش وكل القوى الوطنية.. مشاركًا في إدارة الدولة وتعزيز الجبهة الداخلية، ورافعًا شعار الدفاع عن صنعاء والقدس كقضية واحدة، ضد المشروع الأمريكي الصهيوني.
هنا نجد أنفسنا أمام هذا السؤال الكبير: أين ضاعت ثروات اليمن؟! فـ33 سنة من الإهمال والفساد جعلت اليمن رغم ثرواته الطبيعية والمعادن والنفط والغاز والثروة السمكية والفواكه من أفقر بلدان العالم العربي، يعيش أكثر من 30 مليون نسمة حالة بؤس وفقر، فيما قصور وفلل عائلة عفاش منتشرة في كل مكان، من صنعاء إلى عدن، بل وحتى في الإمارات وصولا إلى أوروبا.
أم أن المواطن اليمني سيصدق أن منح الطرق والكهرباء والمدارس والمستشفيات كانت “إنجازًا”؟! فهي مجرد شَحْت واسترزاق، أما مؤسسات الدولة الحقيقية، فكانت أدوات لتثبيت حكم الفرد ونهب الموارد، لا لخدمة الشعب.
اليوم، ومع كل المحاولات المستمرة لتحسين صورة العفافشة، يبقى الشعب اليمني واعيًا وحذرًا، يدرك أن جناح عفاش لم يكن يومًا إلا خنجراً في خاصرة الوطن، وأن أي تزيين أو تحسين لصورته لن يمحو التاريخ الملطخ بالعمالة والفساد.
وفي المقابل، يثبت المؤتمر الوطني المقاوم أن الانتماء الحزبي يجب أن يخضع للمصلحة العليا للوطن، وأن اليمن الحر لن يعود إلى زمن الارتهان، فثورة 21 سبتمبر قلبت الموازين وربطت مصير اليمن بمصير فلسطين، لتصبح مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني أولوية وطنية، فيما يبقى جناح عفاش شاهدًا حيًا على أن الخيانة لا تصنع إلا الخراب، وأنها مهما تزيّنت، ستظل خيانة.