أثار لقاء ترامب- بوتين الكثير من محاولات التحليل السياسي والاستخبارى والتوقعات تباينت بين قرب انتهاء الحرب في أوكرانيا بعد نجاح القمة، وبين انقلاب الوضع إلى فرض مزيد من العقوبات على روسيا تماشيًا مع مزاج ترامب المتقلب، وبينما يصر البعض على إنزال قواعد التحليل السياسي التقليدية على تصرفات ترامب أو نتنياهو أو حتى بوتين، إلا أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتحالف ترامب- نتنياهو أظهر لنا قواعد جديدة للتحليل السياسي منها مثلاً: ماذا يريد ترامب من رعاية سلام في الكونغو وراوندا وبدلاً من القول وفقًا للقواعد القديمة أن الرجل يريد تحقيق السلام للحصول على جائزة نوبل ولعب دور رجل السلام في العالم إلا أن الحقيقة قالت إن الرجل جاء ليبتلع الثروات المعدنية الاستراتيجية التي يحتفظ بها كلا البلدين وعندما تدخل في غزة بحجة إنقاذ المدنيين اتضح أنه جاء يبني أبراجًا ويبتلع القطاع كله، وعندما ذهب إلى أذربيجان وأرمينيا فإن توقيع السلام بينهما كان مشروطًا بمنح الشركات الأمريكية حق امتياز لمدة 99 عامًا لإنشاء ممر ترامب الاقتصادي والسيطرة عليه الذي يحرم الصين من تنفيذ مبادرتها الحزام والطريق في هذا المكان الذي يربط بين أسيا وأوروبا.
وأمام كل هذه الحقائق الجديدة لا يمكن تفسير لقاء ترامب بوتين مساء الجمعة الماضي والذي شهد ترحيبًا أمريكيًّا غير مسبوق من الرئيس الأمريكي حيث ظل ترامب يصفق له وهو في حالة نشوة تعكس شكلاً جديدًا وضروريًّا للتفكير لماذا هذا اللقاء وكل تلك الحفاوة؟
وفي هذا الاتجاه يمكن تفسير اللقاء الذي أبدت أوروبا مخاوفها منه بأنه لقاء بين حليفين اتفقا في مراحل سابقة على تحالف أمريكي- روسي يتضمن التسليم السياسي والأمني لروسيا في أوكرانيا مقابل مشاركة أمريكا في الثروات المعدنية الأوكرانية النادرة التي تحتاجها ثورتها التكنولوجية وقد يكون الاتفاق هو تسليم كل الثروات الأوكرانية لترامب مقابل منع دخول حلف الناتو إلى أوكرانيا أو مشاركتها في عضوية الاتحاد الأوروبي وقد تكون آلية تنفيذ ذلك هي إسقاط نظام الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بزعم أنه نظام غير شرعي بعد انتهاء مدته الرئاسية.
ويتوسع المراقبون في محاولة قراءة التحالف الأمريكي- الروسي ليصل إلى تشكيل حلف في مواجهة وإضعاف الصين فهو الهدف الاستراتيجي الذي تسعى إليه واشنطن وتسانده أوروبا أيضًا وفي إطار لعبة الخداع التي يجيدها ترامب فهناك احتمالان:
أولهما: أن هناك اتفاقًا واضحًا على التحالف ضد الصين بين روسيا وأمريكا وأوروبا مع وضع تلك الألعاب الخداعية التي تظهر أوروبا ضد التحالف الأمريكي- الروسي.. الاحتمال الثاني: أن امريكا وأوروبا اتفقتا على لعبة خداع ضد روسيا تتضمن تحييدها في المعركة الاقتصادية والعسكرية والأمنية ضد الصين مقابل إغراقها في أطماع السلام وإخراجها من مأزق أوكرانيا ولكن بخطوات بطيئة جدًّا بحيث لا تنتهي قبل التخلص من قدرات الصين.
وهكذا تبدو لعبة الخداع الكبرى هي الحاكم في التحليل السياسي وليس القواعد العلمية القديمة التي يبدو أنها انتهت، وعلينا أن نفكر دائمًا بصوت عالٍ في كل حدث سياسي ونصرخ: وماذا وراء الخداع؟
المصدر: الأسبوع
إقرأ أيضاً:
صوت السلام الذي ترفعه «شباب عمان»
ليس سهلا أن يتحدث أحد عن السلام في اللحظة التي يكون فيها العالم منشغلا بالحرب وغارقا في الإبادة والتجويع حد الموت، سواء كان هذا العالم مرتكبا لها أو كان داعما لها بطريقة أو بأخرى، فالطفل الذي يموت جوعا لا يهمه إن كان قد مات بسبب من منع عنه الطعام أو من تواطأ معه.
لكن ذلك الصعب لا يمكن التفريط فيه، أو إسكات صوته؛ فمهما كان سواد الليل وحلكته فإن بوارق النور مهما كانت خافتة تبقى مهمة لأنها تحيي ما تبقى من الأمل. والعالم اليوم في أمس الحاجة إلى أي أمل أو بارق نور لينتشله من هذه الظلمة التي ترخي سدلها عليه.
وبوارق الأمل متنوعة، ومساراتها مختلفة. فإذا كانت قمة ترامب وبوتين تحمل رمزية يمكن أن تُبنى عليها بعض الآمال مهما كانت ضئيلة فإن المشاريع الثقافية/ الحضارية التي تنطلق في العالم هنا وهناك تحمل بصيص نور ومصباح أمل يقول للبشرية إنّ في العالم من هم ما زالوا معنيين بالسلام وحريصين على ألا تنقطع خيوط الترابط الإنساني مهما عظمت الكوارث.
ومن بين المشاريع التي تستحق أن نضعها في هذا السياق مشروع سفينة «شباب عمان» التي تطوف موانئ العالم وهي تحمل شعارا ضمنيا مفاده أن البشر يمكن أن يلتقوا على الكثير من القيم إن لم يستطيعوا أن يلتقوا عند منصات السياسة.
وفكرة مشروع سفينة «شباب عمان» تختزل الفكر العماني الذي يصر على أن الكثير من القيم والمبادئ الأخلاقية يمكن أن تجمع بين البشر وتجعلهم يتجاوزون الأحقاد التاريخي منها والآني رغم فداحة الأحداث ورسوخها ولكنّ السلام يمكن أن يجبّ ما قبله، والناس أقرب استئناسا بالسلام عندما يعيشونه منهم إلى السعي وراء الحرب وأحقادها وندوبها.
لا يمكن النظر إلى رحلة «شباب عمان» ومرورها بالموانئ العالمية إلا في هذا السياق، وهو سياق متناغم مع السياسة العمانية كما هو متناغم مع الفكر العميق للمجتمع العماني وهو حصاد تجارب وخبرات طويلة راكمها العمانيون عن معرفة وتجربة بأحوال الدنيا وتقلبات البشر. وما أحوج العالم اليوم إلى مثل هذه المشاريع التي تجمع الناس على مبادئ يتفقون عليها ويميلون إليها أكثر بكثير من تلك التي تفرق بينهم.
والحقيقة أن الشعوب في كل مكان لا تحب الحرب ولا تطربها؛ ولكن الأمر ليس بيدها دائما.. ومن المهم جدا أن تشعر شعوب العالم الغربية بشكل خاص أن الشعوب العربية والإسلامية لا تقل ميلا للسلام والمحبة منها ولكنها كما تنشده لغيرها فإنها تنتظره لها أيضا. وليت المنظمات الدولية والمؤسسات الثقافية والفكرية في العالم تشتغل في مشاريعها وفي أطروحاتها بتكريس هذه المفاهيم حتى يتجاوز العالم هذه الأحقاد وحتى يستطيع صوت السلام ـ مثل ذلك الذي ترفعه «شباب عُمان» ـ أن يسمع العالم أجمع ليعرفوا كم هو مهم للعالم ولمسارات مستقبلهم.