رحلة التعرف على جثامين الشهداء بغزة بين الأمل واليقين
تاريخ النشر: 29th, October 2025 GMT
غزة- حطّت الحرب أثقالها، لكن غزة ما زالت تتسلم رسائلها المتأخرة من الموت، فلم تغلق المدينة باب مآتمها بعد، وسرادق العزاء فيها لا يزال يُفتح لشهداء تم التعرف على مصيرهم أخيرا.
في مستشفى ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب القطاع، تدور ملحمة من نوع آخر؛ جثامين عبرت الحدود بعد احتجاز طويل في الجانب الإسرائيلي سُلمت مقابل جثث إسرائيلية يكفل اتفاق وقف إطلاق النار تبادلها.
ثوانٍ لكل صورة تُعرض على شاشة كبيرة في "قاعة العرض" بالمستشفى، التي تم توسيعها مؤخرا لتكفي المتوافدين للبحث في فم الموت عن أبنائهم، تتركز الأنظار نحو الشاشة، يتفرس المعنيون في الصور جيدا ليتحققوا من أن بقايا هذا الوجه أو الجسد تخصهم، في مهمة يصفونها بأنها قاتلة بل وأقسى من الموت نفسه، حيث يغدو التعرف على جثامين ذويهم نعمة يُغبط عليها أصحابها.
وبينما تبدو حدود المشهد أروقة المستشفى، لكن صدى ألمه يضرب بأطنابه قلوب المنغمسين فيه، كأم بهاء وهي امرأة مسنة تتهدل ملامحها من التعب، تحدق في شاشة تتبدل عليها وجوه الشهداء، تبحث بين صور الموت عن وجه ابنها بهاء.
مع كل صورة جديدة تنادي على الرجل خلف جهاز العرض "انتظر قليلا"، ثم تقوم من كرسيها بخطوات متعثرة، تقترب من الشاشة، تتفحص الملامح بقلق يشبه الرجفة، ثم تعود أدراجها هامسة بكسرة تكاد تُسمع "ليس هو، اقلب الصورة".
مرت الساعات طويلة وهي تتأمل الوجوه واحدا تلو الآخر، حتى توقّف الزمن عند صورة بعينها، هناك في زاويتها، رأت حذاء تعرفه جيدا، "ذاك الذي كان ينتعله ابنها يوم خرج ولم يعد"، عرفته منه ومن بنطاله، تقول للجالسين "ابني إنسان مدني بسيط، لا يعرف حمل السلاح، دخل حدود الأراضي المحتلة مندفعا ككثير من الشباب"، تصمتُ قليلا "يبدو أنه عومل كمقاتل مقتحم كي يتلقّى كل هذا التعذيب"، ثم خرجت تجر معها أذيال اليقين بأنه لن يعود.
إعلانخرجت أم بهاء بينما كانت أم حمزة بجوارها لا تزال تتفرس في الوجوه المعروضة باستنكار، تقول لابنها الذي يمسك كفها "لماذا أحضرتني إلى هنا يمّة، هؤلاء شهداء، وأخوك حمزة معتقل، لقد رأيته في الصور المنتشرة على وسائل الإعلام الإسرائيلية"، فيجيب أحمد "اصبري يمّة نتأكد".
أحضر أمه بعدما أبلغه البعض أن صورة أخيه موجودة، وبينما تستنكر وجودها في هذا المكان المحفوف بالموت، لكن الزمن تجمّد عند صورة طلب أحمد بالتوقف عندها، قبل أن تمزّق الصمت بصرخة حادة ارتعدت لها أروقة القاعة، رأت وجه ابنها حمزة، وقد مات الشك بكونه أسيرا حين بدت آثار شنقٍ على عنقه تخبرها أن ولدها أُعدم في المعتقل، في لحظة قاسية سقطت فيها الحقيقة على رأسها بين جدران قاعة امتلأت بوجوه الفقدان، ولم يكن فيها متسع إلا للبكاء.
"هذا وجه حامد"، قالت شقيقته هناء في سرها، ثم التفتت لزوجته وشقيقه، فلم يبديا تعرفهما عليه، صمتت ثم حملت سرّها إلى المنزل، يحاصرها خبر وزارة الصحة بأنهم سيدفنون هذه الجثامين إن لم يجدوا لها هوية بعد يومين.
شك ويقين
لجأت هناء لرابط الاستدلال الإلكتروني الذي أطلقته الوزارة، والذي توثق فيه صور الجثامين الواصلة إليها عبر الصليب الأحمر، وبينما تتصفح الصور بحثا عن وجه أخيها، وصلت لتلك التي شكت بها، كانت دليلا صعبا فقد أودت رصاصة فجّرت عينه اليسرى بجزء من وجهه، وهنا لم يكن إصرارها عبثيا فقد تحقق أهل حامد من هويته بعدما فحصوا العلامات الفارقة في جسده، كما أنه لباسه نفسه الذي خرج به ولم يعد.
وتقول للجزيرة نت "لقد كان شكي في محله، أخي حامد كان مُرقّما بـ(إتش 19)، فتحنا عزاء بعد عامين من مقتله، كنا قد رأيناه جثة هامدة مسجاة على الأرض يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكن رغم ذلك كان لدينا أمل بأن يكون مصابا أو على قيد الحياة".
تحدثت الجزيرة نت مع المختص في الأدلة الجنائية وعضو اللجنة المركزية لإدارة تسلم الجثامين سامح حمد، الذي أفاد بأنهم استلموا حتى 22 من الشهر الجاري 195 جثمانا، تم التعرف على 70 منها، في حين جرى دفن 54 جثمانا مجهول الهوية في مقبرة الشهداء وسط قطاع غزة، في دفعة أولى ثم 41 في دفعة ثانية، على أن تُدفن دفعات أخرى لاحقا ممن لم يتم التعرف على هويتهم.
وكشف عن أن عملية التعرف على الجثامين تمر عبر مراحل، إذ يبدأ الفحص الأولي للطبيب الشرعي وتحديد العلامات الفارقة والمقتنيات الشخصية للجثة، ثم توثيقها بالصور، على أن تُعرض على العائلات سواء في صالة العرض الوجاهي أو عبر رابط الاستدلال الإلكتروني.
وعقب تأكد ذوي المفقود من أن أحد الصور خاصة بفقيدهم، يتم الانتقال إلى مرحلة التدقيق والمطابقة بين ما تذكره العائلة من علامات مميزة في جسد ابنها وما تم توثيقه، ثم المطابقة الظاهرية مع وجود الطبيب الشرعي والموثق للتأكد العيني قبل إتمام إجراءات عملية الدفن. وأوضح أن نسبة الخطأ بعد المرور بهذه المراحل للتعرف على الجثامين شبه معدومة.
وتُحفظ الجثامين -وفق حمد- في ظروف استثنائية، إذ توضع داخل ثلاجات متنقلة كانت مخصصة سابقا لحفظ المثلجات، بهدف تمديد فترة التعرف عليها من قبل العائلات قبل أن تُنقل دفعات جديدة.
إعلانوأضاف أن الجثامين تصل في حالة تجمد تام بدرجات حرارة تصل إلى 180 درجة تحت الصفر، وقد تُترك أحيانا تحت الشمس لأكثر من 24 ساعة حتى يبدأ الجليد بالذوبان، لتتمكن الفرق المختصة من مباشرة الإجراءات المعتادة للفحص والتوثيق.
وأشار أيضا إلى أن عددا كبيرا من الجثامين تظهر عليها آثار تعذيب، أبرزها تقييد الأيدي، وعصب الأعين، وكدمات وضربات على الجسد، وآثار دهس بعجلات مركبات، بالإضافة إلى عمليات بتر لبعض الأصابع التي يرجح أنها أُجريت لأخذ عينات "دي إن إيه" (DNA).
وفيما يتعلق بالشائعات الدائرة حول سرقة الأعضاء، نفى حمد بشكل قاطع وجود حالات ثبت فيها سرقة أعضاء بشكل قطعي، لكن حالة وصفها بأنها "مريبة للشك" من بين 195 جثمانا وصل الجانب الفلسطيني، كانت لرجل من بيت لاهيا في الخمسينيات من العمر، على جسده غرز جراحية ممتدة من أسفل الذقن حتى أسفل البطن، مخيطة بأكثر من 70 غرزة، وكانت الأعضاء الداخلية مقطعة ومحشوة بالقطن، يذكر أن الترجيحات تشير إلى كونه معتقلا تم تشريح جثته لتوثيق سبب الوفاة.
هكذا، وبين جدران المستشفيات وثلاجات الموتى، لا تزال غزة تفتح دفاتر الغياب صفحة تلو أخرى، كمن يراجع سجلّا لا ينتهي من الفقدان. لم يعد الموت حدثا استثنائيا في هذه المدينة، بل طقسا يوميا. وبين كل نعشٍ يوارى، تبقى للأمهات عيون معلّقة بالأمل وقلب يواصل الخفقان.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات التعرف على
إقرأ أيضاً:
الحية: نواصل البحث بجدية عن جثامين الأسرى الإسرائيليين بغزة
قال رئيس حركة حماس في غزة خليل الحية، إن الحركة تواصل بشكل جاد البحث عن جثامين الأسرى الإسرائيليين في القطاع الذي "غير الاحتلال طبيعته" نتيجة حرب الإبادة على مدار العامين الماضيين.
وفي مقابلة مع قناة "الجزيرة" القطرية، بثتها مساء الأحد، أشار الحية، إلى أن "هناك إشكاليات في البحث عن جثامين أسرى الاحتلال لأنه غيّر طبيعة أرض غزة، حتى أن بعض من دفن هذه الجثامين استشهد ولم يعد (أحد) يعرف أماكنها".
وسلمت حماس، منذ سريان صفقة تبادل الأسرى واتفاق وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، جثامين 16 أسيرا من بين 28 معظمهم إسرائيليون.
وأكدت حماس، في أكثر من مناسبة أنها تسعى "لإغلاق الملف" وتحتاج وقتا ومعدات متطورة وآليات ثقيلة لإخراج بقية الجثامين.
وفي هذا الصدد، أوضح الحية، أن "المقاومة وكتائب القسام جادون في البحث ليلا ونهارا، وهناك غرفة عمليات موجودة في القاهرة تضم الوسطاء وفريقا من الاحتلال، بينما نحن في جهة مقابلة نتابع أولا بأول".
وتابع: "كان هناك اتفاق على إدخال معدات من الجانب المصري لتسهيل عمليات البحث وتحديد المواقع، وقد تم ذلك، وقبل يومين جرى تحديد أماكن جديدة للبحث عن الجثامين، وأتوقع أن يتم الدخول إليها غدا، بعضها داخل المنطقة الحمراء المتواجد فيها الاحتلال، بإشراف الصليب الأحمر".
وشدد الحية، على أن "هناك جدية وقرار من المقاومة ألا نبقي أي جثمان دون تسليم، وسنبحث عنها بكل مسؤولية، وعلى الاحتلال ألا يتذرع بهذه الذريعة الواهية لاستكمال إيلام شعبنا الفلسطيني".
وقبل أيام، قال نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، بمؤتمر صحفي بإسرائيل، إن ملف الأسرى القتلى بغزة "معقد ولن يتم (حله) بين عشية وضحاها، فبعضهم مدفون تحت آلاف الكيلوغرامات من الركام، وآخرون لا يُعرف مكانهم، علينا التحلي بالصبر. سيستغرق الأمر بعض الوقت".
وبشأن عودة تل أبيب للحرب، قال الحية: "لا أعتقد أن الاحتلال لديه الدافعية للعودة إلى الحرب، فخلال سنتين لم يحقق شيئا، وغزة قدمت أكثر من 10 بالمئة من سكانها بين شهيد وجريح وأسير ومفقود، وهي إحصائية صعبة جدا".
وأضاف: "لدى حماس إرادة كبيرة لمنع عودة الحرب".
وأوضح الحية، أن "المجتمع الدولي، الشعبي والرسمي، لن يسمح للاحتلال بعودة الحرب، لكنه قد يقوم بمنغصات لإعاقة الإعمار ودخول المساعدات وفتح المعابر، متذرعا بحجج واهية".
وفي السياق السياسي، أشار الحية، إلى أن القضايا الوطنية لا تملكها حماس وحدها، بل هي مسؤولية جماعية.
وأكد أن الحركة أجرت لقاءات عديدة مع الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركة "فتح"، وجرى التوافق على الخطوط العامة لإدارة المرحلة المقبلة.
وبشأن لجنة إدارة غزة، قال الحية: "وافقنا على مجموعة الأسماء التي عرضها علينا الإخوة المصريون، وقلنا لهم: نعطيكم الحرية في اختيار من ترونه من أبناء شعبنا من الكفاءات لإدارة قطاع غزة، ونحن جاهزون لتسليم مقاليد الإدارة بشكل كامل، وقد اتفقنا على ذلك".
وأضاف: "قدمنا للأشقاء المصريين قبل نحو أربعة أشهر قائمة تضم أكثر من 40 اسما من الشخصيات الوطنية العامة التي ليس لها انتماء سياسي، وقلنا لهم اختاروا منها من تشاؤون، وستكون هناك قوة مدنية شرطية تتبع للجنة الإدارية في قطاع غزة".
ولفت الحية، إلى أن اللجنة ستدير قطاع غزة بالكامل في كل القضايا.
وتابع: "نحن سنسلم كل مقاليد الإدارة في غزة، حيث ستتولى اللجنة إدارة جميع الملفات، ولها الصلاحيات الكاملة".
وأكمل: "هناك جهاز إداري متكامل يدير قطاع غزة، وستكون اللجنة القادمة العنوان لإدارة القطاع".
الحية، أشار إلى توافق الفصائل الفلسطينية على وجود قوات أممية للفصل ومراقبة وقف إطلاق النار، موضحا أن مهمتها "تأمين الحدود ومراقبة وقف إطلاق النار حتى لا تخترق من أي جهة".
وفي هذا الملف، قال إن حماس، ترحب بجهات عربية وإسلامية ضمن هذه القوات الأممية.
وبيّن الحية، أن "المهمة المركزية لها هي حفظ وقف إطلاق النار ومراقبته، وحفظ الحدود، وليس لها عمل في داخل قطاع غزة".
وأضاف أن الفصائل الفلسطينية توافقت على إنشاء هيئة دولية تُعنى بإعادة الإعمار، تتولى "جلب الأموال والإشراف المباشر على تنفيذ مشاريع الإعمار".
وأشار إلى أن الحركة تطالب "بالاستعجال في البدء بالإعمار وتدفق المساعدات الإنسانية".
وبشأن لقائه مع المبعوثين الأمريكيين، قال الحية، إنه أبلغ ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، أن الفلسطينيين دعاة استقرار يسعون للعيش بسلام في دولة فلسطينية، مؤكدا أن مشكلتهم الوحيدة مع من احتل أرضهم وطردهم منها.
وأضاف: "تفاجؤوا بأنهم التقوا بمجموعة من أساتذة الجامعات والمهندسين والأطباء، وأننا لسنا كما يقال عنا أو كما يتهمنا البعض بأشياء لا نقبلها، وقلنا لهم باختصار ما الذي نريده".
وتابع: "هم نقلوا لنا تأكيدات الرئيس الأمريكي ترامب بأن الحرب انتهت، وأنه معني بهذا الأمر، وأن غزة يجب أن تستقر ويعيش أهلها فيها، وأن يبدأ الإعمار".
ولفت الحية إلى أن "الرئيس ترامب، هو القادر في هذه المرحلة على وقف الحرب، ونطالبه أن يلجم الاحتلال الإسرائيلي".
وبشأن قضية سلاح الحركة، قال: "نحن شعب تحت الاحتلال، ومن حقنا بالقانون الدولي أن نواجه الاحتلال، وسلاحنا الذي نحمله نحن وكل الفصائل مرتبط بوجود الاحتلال والعدوان، فإذا انتهى هذا الاحتلال وأقيمت لنا دولة فلسطينية فهذا السلاح وحاملوه سيتحولون إلى الدولة".
وتوصلت إسرائيل وحركة حماس، في 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى يستند إلى خطة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفي اليوم التالي دخلت المرحلة الأولى من الاتفاق حيز التنفيذ.
وتضمنت هذه المرحلة إعلان انتهاء الحرب، وانسحاب قوات الجيش الإسرائيلي إلى ما سُمي "الخط الأصفر"، وإعادة الأسرى الإسرائيليين الأحياء والقتلى، وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين.
فيما يُفترض، وفق خطة ترامب، أن تتضمن المرحلة الثانية من الاتفاق، التي لم يتم الاتفاق عليها بعد، نشر قوة دولية لحفظ السلام في القطاع، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، ونزع سلاح حماس، وإنشاء جهاز إدارة مؤقت تابع للهيئة الانتقالية الدولية الجديدة في غزة يسمى "مجلس السلام" برئاسة ترامب.