الروائي الأردني جلال برجس يكتب عبر “أثير” مقالا بعنوان: إصبعي الأعوج
تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT
أثير – الروائي الأردني جلال برجس
أنا الحفيد الأول للعائلة. تزوج جدي ثلاث نساء؛ فأنجب أحد عشر ولدًا، وأربع بنات، وعى معظمهم في زمن القحط، والمحل، والفقر، لكنهم كبروا، وجدي يدفعهم بإصرار وعناد إلى أن ترحب بهم الحياة. وما أن صار له ذلك؛ حتى راح الخوف يتملك جدتي من أن تتمكن منهم العين الحاسدة. بقيت تحضهم على ألا يمشوا جماعة واحدة؛ تقول ذلك بصوت تختلط فيه نهنهة البكاء، بكركرة مبتورة.
تغضب إن رأت امرأة من نساء أولادها تدلق ماء عند الغروب، وتلقي شيئًا في الظلمة، أو تسمع أحدًا يغني في تلك اللحظات المقدسة، والشمس تستريح من مهمتها اليومية. تزعم أنها ترى كائنات خفية، إن غضبت من أحد ما؛ فإن انتقامها سيكون شديدًا. لم أشعر بجدي يعاني ذلك الخوف؛ في وجهه ملامح رجل قوي، ذو شكيمة، وصبر، وعناد غريب. خليط من روح بدوية لا خشية فيها من الشقاء، ومن روح القرية القاسية. لكن مع الأيام أدركت أنه يحمل في دواخله خشية على عائلته من العين الحاسدة. لم يَخف عليهم من الجوع، وهو يرى جدتي تعصر ثديها في سنين المحل لترضع طفلًا يئن جوعًا. أو وهو يشاهد أبنائه يتسلحون بالخبز والشاي كإفطار قبل أن ينفقوا ساعات النهار في المدرسة بملابس رثة مرقعة، وأحذية ليست لهم؛ إذ يهبط إلى الوادي، يجمع الأحذية المهملة، وينقعها بالماء إلى أن تلين، ثم يعيد صناعتها من جديد، فيرتدونها رغم اختلاف ألوانها، وأشكالها، وحتى مقاساتها. لا يذهبون إلى الحلاق. يزيد من حدة موس الحلاقة مستخدمًا حزامه الجلدي. يجلسون واحدًا واحدًا على حجر ويستسلمون للموسى، الذي يترك في رؤوسهم جروحًا شتى يطهرها بالملح، غير مكترث لبكائهم. كانت على حد استذكار أبي لتلك السنين حفلة تعذيب يخرجون منها برؤوس فيها خرائط لأماكن مجهولة.
أما أبي، فهو رجل قَدَرِيٌ يمضي في الطريق غير آبه بالنتائج. أتذكر أني كنت ألعب في كومة رمل يستخدم للبناء، سقطتُ على يدي اليمنى، وتضرر شاهدها. لم يكترث لما أصابني من ألم؛ رأى أنه وجع مؤقت. بعد سنين انتبه إلى أن إصبعي أعوج، إن أردتُ الإشارة إلى شيء، أشار إلى آخر. ضحك وعيناه الجميلتان تتسعان، ثم قال هامسًا: لا بد أن في ذلك حكمة ما. كبرت ولم أغامر بأي إجراء طبي يصوب هذا الاعوجاج؛ خشيت خسران الكتابة إن فشل التصويب، احتمال يشبه فقدان مصباح في غابة معتمة تعج بالوحوش. ومع الأيام نسيت أمر إصبعي.
ذات ليلة جلست إلى طاولتي، يدي تمسك بالقلم، وتصوبه إلى الورقة. قبل أن أستسلم للكتابة تنبهت إلى إصبعي من جديد؛ فتساءلت: كيف لي أن أشير إلى نفسي بهذا الإصبع الأعوج؟ كنت على أهبة الشروع بكتابة رواية يدفعني إليها شغف كبير. أفضى السؤال إلى آخر: من الذي يكتب، ويشير؟ هل هو جسدي هذا الذي تغلب ملذاتُه ومطامحه روحي السجينة وراء قضبانه؟ أم روحي؟
في الكتابة أشير إليَّ، وإلى العالم، ونحن في خضم عاصفة من التيه. حين كتبت الشعر فإني كنت أدلني عليَّ كجزء لا يكاد يذكر في هذا الكون اللانهائي بمنطق مرعب. وحين كتبت الرواية فإني دللتني عليًّ عبر العالم. أعرف أن الإنسان كائن خائف من الله، والموت، والمجهول، ومن الحقائق الغامضة. وأعرف أن الخوف يحتل مساحة كبيرة من تاريخه الشخصي والعام، لكن الذي يخاف فيه هو جسدُه؛ يخاف الألم، وخسارة المتعة، بينما الروح لا تتنازل عن جرأتها في البحث عن الحقيقة، حقيقتنا، وحقيقة هذه الحياة التي تزداد تعقيدًا بعد أن صار جسد الآدمي سلعة للاختبارات الجينية، والتجميلية، والجنسية. إن أول ما يخشاه الأب عند اندلاع الحرب هو فقدان البيت، ليحتمي به من القذائف، والنيران، وأمراء الحروب، خشية على نفسه، وعلى العائلة. وحين يجد أن البيت غير قادر على حمايته يهرب لاجئًا، وإن لم يؤَمِن له لجوئُه ما يريد، يكتفي ببيته الداخلي.
إن أجسادنا بيوتنا التي تسكنها الأرواح؛ لهذا يتأقلم الإنسان في أوقات الحروب، إنه ليس لاجئًا بالمعنى المطلق، لكنه خائف، يخشى جسده الألم، ويخشى الموت، من هنا يخلق الانصياع الزائد عن حده للجسد كائًنا جبانًا.
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
"إعلام الوزراء" يوضح الحقائق بشأن ما أثير مؤخرًا حول المتحف المصري الكبير
نشر المركز الإعلامي لمجلس الوزراء بيانًا عبر منصاته الرسمية، أوضح من خلاله عددًا من الحقائق بشأن ما أثير مؤخرًا حول المتحف المصري الكبير.
وأكدت وزارة السياحة والأثار، أن المتحف المصري الكبير يواصل استقبال زائريه بانتظام وفقًا لمواعيد العمل الرسمية المعمول بها منذ افتتاحه للجمهور في يوم 4 من نوفمبر الماضي، دون أي تغيير، وأن حركة الزيارة تسير بصورة طبيعية ومنظمة.
ووفقًا للوزارة، أوضح المركز الإعلامي أن المتحف شهد منذ افتتاحه إقبالًا ملحوظًا من الزائرين المصريين والأجانب، بما يعكس الاهتمام الكبير بهذا المشروع الحضاري الفريد، حيث بلغ متوسط عدد الزائرين حتى الآن 15 ألف زائر يوميًا، وهو ما يتناسب مع الطاقة القصوى لاستيعاب الزائرين والكثافة في مختلف أوقات الزيارة.
وأشار البيان إلى أنه قد تقرر اعتبارًا من الأول من ديسمبر الجاري تطبيق نظام الحجز الإلكتروني الحصري لتذاكر دخول وزيارة المتحف، وإيقاف بيع التذاكر من منافذ البيع المباشر داخل المتحف، وذلك حرصًا من الوزارة على تنظيم حركة الزائرين داخل المتحف بما يتوافق مع طاقته الاستيعابية، وضمان انسيابية الدخول والخروج، والحفاظ على راحة وأمان الزائرين، وتحسين جودة التجربة السياحية، والحفاظ على مقتنياته الأثرية.
وأكد المركز الإعلامي أن الحجز يتم من خلال الموقع الإلكتروني الرسمي للمتحف المصري الكبير (https://gem.eg)، وفق مواعيد زمنية محددة، ويجري متابعة منظومة الحجز أولاً بأول من قِبل إدارة المتحف للتأكد من كفاءتها وانتظام العمل بها، مشيرًا إلى أن نظام الحجز الإلكتروني يعمل بكفاءة وسلاسة تامة، دون رصد أية أعطال فنية، ويتم متابعته بشكل مستمر لضمان تقديم أفضل مستوى من الخدمة.
وفيما يتعلق بأسعار تذاكر الدخول للمصريين مقارنة بالأجانب، أوضح البيان أن هذا النظام معمول به منذ سنوات طويلة في جميع المتاحف والمواقع الأثرية المصرية، ويأتي في إطار حرص الدولة لضمان أن تكون أسعار التذاكر للمصريين متناسبة مع مستوى دخل المواطنين، بما يتيح لأكبر شريحة ممكنة من المواطنين زيارة المتاحف والمواقع الأثرية والتعرف على تاريخهم وحضارتهم العريقة.
أما بشأن الملاحظات المتعلقة ببعض الأرضيات الخارجية للمتحف، أكدت الوزارة أن هذه الملاحظات البسيطة، ناتجة عن التجهيزات والديكورات التي تم إقامتها لفعالية افتتاح المتحف، ويجري حاليًا العمل على إصلاحها في ضوء الاتفاق المبرم مع الشركة المنفذة لحفل الافتتاح وفقًا لخطة زمنية محددة وعلى مراحل متتالية، مع الالتزام الكامل بالمعايير الفنية المعتمدة، وبما يضمن عدم التأثير على حركة الزيارة أو تجربة الزائرين، وإعادة جميع العناصر إلى حالتها الأصلية.
وفيما أُثير بشأن تسرب مياه الأمطار إلى بهو المتحف المصري الكبير، وأوضح المركز الإعلامي، أن تصميم بهو المتحف جاء وفق رؤية معمارية تعتمد على وجود فتحات في السقف بشكل هندسي يسمح استدامة دخول الإضاءة والتهوية الطبيعية إلى داخل البهو، وهو أحد العناصر الأساسية في التصميم المعماري للمتحف، ومن ثم، يُعد تسرب كميات محدودة من مياه الأمطار إلى البهو أثناء هطولها أمرًا متوافقًا مع التصميم ومتوقعًا في مثل ذات الوقت من العام.