فلسطين في المتخيل الشعري.. حين تحارب القصيدة في صف المقاومة
تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT
مراكش ـ
هَذَا مَا تَرَكوهُ خَلْفَهُمْ،
دُرُوعٌ، وَخُوذاتٌ، وَأسْماءٌ مُتْعَبَةٌ،
وَشَائِعَةٌ عَنْ سَفِينَةٍ غَرِقَتْ فِي حَدِيثٍ عَاِئِليٍّ
دُونَ أَنْ يَنْتَبِهَ أَحَدٌ.
هُنا يَحْتَشِدُ الْقَتْلَى بِلَا عَناوينَ،
وَلا أَرْقَام وَلَا حتَّى مَرَايَـا يَرَوْنَ فِيها أَرْوَاحَهُمْ.
هكذا استهل الشاعر والإعلامي المغربي محمد أحمد بنيس أمسية شعرية بدار الشعر بمدينة مراكش، بمناسبة اليوم الوطني للإعلام (15 نوفمبر/تشرين الثاني)، تخللتها حوارات حول حضور فلسطين في المتخيل الشعري المغربي أدارها الشاعر والناقد المغربي عبد الحق ميفراني، وفرضها سياق "حرب الإبادة" التي ما زالت تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الثاني.
يقول بنيس للجزيرة نت بنبرة حزينة، رافقته أيضا خلال كل حديثه أمام الجمهور "لا يملك الشاعر في اللحظات التي نعيشها غير الكلمات التي تولد من رحم الألم والغضب، ألم موت الأبرياء دون ذنب وغضب من سلوك وحشي لعدو غادر".
في تلك الأمسية، حضرت أسماء شعراء مغاربة حملوا هم القضية، وكتبوا "فلسطين شعرا"، ساروا بها نحو ضفاف الإبداع، مخلدين أسماءهم على صفحات ببليوغرافية الشعر العالمي.
يقول الناقد المغربي عبد اللطيف السخيري إنه منذ النكبة إلى هذه اللحظة، لم تفارق فلسطين المتخيل الشعري المغربي، "بل ظل جرحها نازفا في تجارب الشعراء على اختلاف أشكال الكتابة التي اتخذوها مَهْيَعا (طريقا)، وعلى تبايُن خلفياتهم المعرفية والأيديولوجية. تحضُرُ بجغرافيتها الجريحة، وبأسماء مُدنها وحواريها، وبرموزها التاريخية وأسماء أعلامها وشهدائها… فهي غصن الزيتون المقصوف، والحمامة النازفةُ أمام بنادق الاحتلال، والأم الثكلى التي تحضن الأرضَ كي تُقبِّلَ ابنها الشهيد الذي عانقتْهُ أرض الجليلِ…".
ويضيف السخيري في حديث للجزيرة نت أن شعراء الحداثة الشعرية بالمغرب كان لهم الحظ الأوفر من استحضار فلسطين في متخيَّلهم الشعري، خاصة أنهم جاؤوا بعد النكسة 1967، واعتنقوا المدَّ القوميّ الذي كانت فيه فلسطين هي القضية الأسمى (نذكر هنا قصيدة "القدس" لأحمد المجاطي مثلاً). والآن، وإن انحسَرَ المد القوميُّ، وحاول أكثر الشعراء الابتعاد عن الأيديولوجية في كتاباتهم، فإن كَمَّ ما كُتبَ ويُكتَبُ حولها، ما يزال في اطراد، حسب قوله.
جنبا إلى جنبحين نطرح "كيف تسير القصيدة مع السلاح جنبا إلى جنب في مقاومة المحتل؟"، يأتي الجواب من الناقد المغربي السخيري، إذ يستند إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز من أن الفنَّ في جوهره مقاومة.
ويؤكد المتحدث ذاته أن الشعر من الفنون التي رافقت الإنسان منذ فجر تاريخه، وما يزال، وخاصة في لحظات الاضطهاد والاحتلال وسلبِ الحريات، حيث يحضر الشعر إلى جانبِ السلاحِ لتحقيق فعل المقاومة، هذا الفعل الذي يستلزمُ الكلمةَ كما يستلزمُ الرصاصة.
ويعتبر أنه إذا كان عمر الرصاصة محكوما بسرعة وصولِها إلى الهدف، فإن الكلمة/القصيدة تستمرُّ انطلاقتُها دون حدود زمنية، تؤثر وتُخلد، وتواصل تذكير الغاصبِ بعُقمِه الإنسانيّ، وتذكير المُضطَهَدِ بِعُمْقِه الإنسانيّ.. ويختم "الآن، يُواصلُ لوركا، وناظم حكمت غناءهما ومقاومتهما، جنبا إلى جنب مع درويش وسميح القاسم وممدوح عدوان… وغيرهم".
فيما يرى محمد أحمد بنيس أن القصيدة تشكل أفقا للمقاومة والتحرر والوقوف في وجه الظلم، مبرزا أن القضية الفلسطينية قبل أن نكون قضية سياسية، هي قضية أخلاقية، مما يجعلها تمثل للشعراء أفقا لاستحضار القيم الإنسانية النبيلة.
في تلك الأمسية أيضا يستحضر الناقد والشاعر عبد الحق ميفراني أغنية "شدوا بعضهم أهل فلسطين"، مبرزا كيف أصبحت تلك المرأة العجوز، بكلمات بسيطة ومؤثرة، رمز مقاومة، بل وشفاء لجراح النفس والبدن، يحقن فيه ما يحتاجه من صمود.
يمتد ذلك التذكير بالقصيدة، وتلك الانطلاقة للكلمة من عمق الإنسان إلى مقاومة كل تطبيع ثقافي يريده العدو بوابة لغسل الأدمغة، ومحو آثار جريمته على مدار العصور.
ويقول السخيري إذا كان التطبيع السياسي والاقتصادي قد أصبح واقعا لا يرتفِعُ، فإن الحقلَ الثقافي يبقى هو آخر معاقلِ المقاومة ضد التطبيع. فلا يمكن بأي حالٍ من الأحوالِ أن نجعلَ الشاذَّ وغير الطبيعيّ طبيعيا، نمرُّ عليه بوعي سادِرٍ، وذاكرةٍ قصيرةٍ لا ترى دماءَ الأبرياء نديةً على أيدي القتلة، ولا تسمعُ صرخات الألمِ بين سطورِ كتابتهم.. سبقَ أن أوجزَ أمل دنقل كل هذا في عبارته السائرةِ: "لا تُصالح".. يجب أن تبقى الثقافة حصنا يُذكِّرُ الساسَةَ أن حساباتهم لن تستقيمَ إلا في هَندسةِ الخيانة.
فيما يؤكد الشاعر والإعلامي المغربي عبد الحق بنرحمون للجزيرة نت أن الكلمة في القصيدة تشبه نصل السيف في ميدان المعركة، غير أنها تخاطب النفس البشرية، وتزرع فيها الحماس والشعور بالصمود النفسي أمام ما نراه يوميا في الحرب على غزة من مجازر دمرت كل الأعراف الإنسانية، مقابل ما تسطره المقاومة بمداد من فخر.
ويضيف أن الشعر ضرورة إنسانية نحتاجها في كل اللحظات، ذلك أن كل الناس شعراء بعواطفهم وفطرتهم، يجدون في الكلمة ما يحرك فيهم كل ذلك، ويدفعهم إلى جانب الشعراء المبدعين إلى التشبث أكثر بإنسانيتهم التي يحاول العالم أن ينسيهم فيها.
أما بنيس فيشير إلى أن ما يحدث الآن أمر مروع ومذبحة مفتوحة، وأن أي كلمة تحتاجها القضية، مبرزا أن الإعلامي الشاعر، ينظر إلى الحدث من نافذتين مختلفتين، ذلك أن تغطيته تفرض عليه متابعته عن كثب، فيما يحتاج من أجل كتابة قصيدة الى "مسافة" من أجل التأمل وبلورة الاختيار الفني، لإيجاد ذلك التوازن بين ما هو فني وما هو موضوعي.
يد على الزناد
الجنود العائدون من الحرب هذا الصباح، بلا خوذات
غرسوا ظلالهم في الرمل
بلا أضواء
أو جزمات
أو نياشين
مروا
ولم يلقوا التحية….
قال الصبي وهو يفرك عن عينيه ضباب حلم طويل
ثم عاد إلى حضن أمه
قطف نجمتين
ونام.
هي مطلع قصيدة " خوذة بنصف رأس"، شدت بها الشاعرة والإعلامية المغربية حفيظة الفارسي أنفاس جمهورها، وهي تحكي عن الحرب في تلك الأمسية الشعرية.
تقول الفارسي للجزيرة نت إنها قصيدة بلسان جنود حاربوا على جميع الجبهات في المغرب وفي العالم العربي، لكنهم الآن يعيشون الخيبات في واقع متغير وأمام تهلهل القيم، قبل أن تستطرد أن المقاومة في فلسطين هي استثناء في العالم لكل ذلك، فأهل فلسطين لم ينسوا يوما قضيتهم، لا شعبا ولا أجنحة سياسية أو فدائية.
وتبرز أن شعلة الارتباط بالوطن تلازمهم طيلة سعيهم لاستعادة أرضهم، وقد اعتقد البعض أنها خبت نوعا ما وانطفأت، لكنهم فوجئوا أن الفلسطيني مستعد ويده على الزناد وقلبه على الوطن، وهي جذوة تجعل الشعراء يستعيدون الثقة، ودورهم في نشر الوعي بالقضية وبكل القضايا العادلة في العالم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المغربی عبد للجزیرة نت عبد الحق
إقرأ أيضاً:
من كلكتا إلى نوبل.. طاغور شاعر الطبيعة والحزن وفيلسوف الحياة
تبرعت الهند للعالم في القديم والحديث بمجموعة من العلماء العظام الذين أسهموا بأفكارهم وإبداعاتهم في تحقيق نهضة علمية وثقافية كبيرة في المجتمع الإنساني.
ويأتي في مقدمة هؤلاء العباقرة في القرن الـ20 الشاعر والفيلسوف والمسرحي البنغالي رابندرانات طاغور، الذي ينتمي إلى أسرة بنغالية نبيلة اشتهر أفرادها بالعلم والسلطان، فجدّه دواركانات طاغور كان من كبار شخصيات الهند، ووالده المهارشي (الحكيم) ديبندرانات طاغور عرف كمفكر ديني.
ولد طاغور (Rabindranath Tagore) في مدينة كلكتا من الجزء البنغالي في السابع من مايو/أيار 1861، لأسرة بنغالية مثقفة، حيث تثقف في بيته على الطريقة التقليدية. أرسله أبوه إلى العاصمة البريطانية لندن وهو في الـ16 من عمره ليدرس القانون، لكنه عكف على دراسة الأدب والشعر والنماذج الأدبية العالمية باللغة الإنجليزية، خاصة شعر شكسبير وملتون وشيلي، وراح ينهل من الثقافة الغربية، فامتلك قدرة على الحكم والتصور.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2يوسف القدرة: في الشعر لغة “فرط صوتية” ضد عار العالمlist 2 of 2فلسفة الهجاء.. كيف جسّد العرب الشتم في الشعر والأدب؟end of listعاش طاغور شاعرا ومفكرا وفيلسوفا وروائيا وقاصا ومسرحيا ورساما وموسيقيا وممثلا سينمائيا، ونوّر جميع هذه المجالات بمساهماته السامية. وقد أعادت أعماله تشكيل الذائقة الأدبية والموسيقية البنغالية في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، إذ أصدر ديوانه الأول "قربان الأغاني" باللغة السنسكريتية، لغة قومه، وترجمه بنفسه إلى الإنجليزية. وقد استُقبل هذا الديوان استقبالا عظيما في أوروبا، وأعجب به الشاعر عزرا باوند (1885-1972) أيما إعجاب، بينما تجاهله الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل (1872-1970).
وتقول موسوعة "إينشنت بانيتانوال" (Ancient Bnitanwal Encyclopedia) إن طاغور حوّل آلامه وحزنه على موت أمه وهو لا يزال صبيا، وموت زوجته وهي لا تزال في ريعان شبابها، إلى قصائد شعر لم يعرف الأدب الشرقي مثيلا لها، حتى إن الشاعر الفرنسي أندريه بريتون قال عنه: "لا يوجد شاعر في العالم استطاع أن يجسد الحزن في شعره كما فعل طاغور".
إعلانترجمت أعماله الشعرية والأدبية إلى عدة لغات، منها الفرنسية والإنجليزية والفارسية، كما ترجمت بعض قصائده إلى العربية. قدم طاغور من خلال إبداعاته أفكارا متعددة الأبعاد، لها أهمية حتى في عصرنا الحالي أيضا.
كان طاغور محبا للطبيعة التي امتزجت في أشعاره، وهو القائل:
"إنَّ سكون الريح ينذر بالعاصفة، وإنَّ السحب المتجهة في الغرب لا تبشر بخير، والماء ساكن ينتظر الريح، ولكن يا صاحب المعبر، أفتريد أن تطلب أجرك؟! أجل، يا أخي، إني ما زلت أملك شيئا؛ لأن حظي لم يسلبني كل شيء"
وعن ميزة شعر طاغور، يقول البروفيسور الهندي بشير الجمالي، الأستاذ السابق بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي، الهند: "إن طاغور غالبا ما يستخدم كلمات محلية، مما يضيف بعدا جديدا لشعره، ويخلق في شعره جوا هنديا باستعمال أسماء الطيور والأشجار والزهور الهندية، وهكذا يصبح شعره هنديا بشكل أساسي".
كلما اقتربنا من فضاءات طاغور الشعرية، سيبدو لنا العالم وكأنه ولد للتو بحقوله الفائضة بخضرتها، وبشموسه ودلالاتها الذاهبة باتجاه النقاء الأول، النقاء الفطري الذي تأسس على مبدأ إحيائي عظيم مرتبط بما يسمى بـ"الجسد الكوني".
يقول بدر السويطي، الكاتب والشاعر العربي المقيم في ألمانيا ومدير دار الدراويش للنشر والترجمة في بلغاريا: "يغدو الكون أكثر جمالا ورونقا بوصايا طاغور الحكيم، الذي رسخ القيم الإنسانية والروحانية والإيمانية، ووظفها في المعاني السامية للمحبة والجمال والسلام، لتكون نبراسا للأجيال القادمة".
ومن جهته، يرى البروفيسور الهندي عبد الغفور الهدوي كوناتودي، الأستاذ في قسم اللغة العربية بكلية الجامعة الحكومية التابعة لجامعة كيرالا بالهند، أن "طاغور كان أمميا متحمسا لوحدة العالم، فحارب من خلال إبداعاته الأدبية والفنية ضد التمييز بين الأفراد على أساس الطبقات أو الألوان أو العقائد أو اللغات".
وتجدر الإشارة إلى أن طاغور شاعر من فصيلة نادرة من الشعراء الذين لم تتقيد إبداعاتهم الراقية بجنس أو لون أو جغرافيا.
وفي هذا الصدد، يقول البروفيسور مجيب الرحمن، أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي، إن "طاغور سعى -من خلال التأمل العميق في الله والكون والطبيعة، والرجوع إلى النصوص الفيدية القديمة، ودراسة المعاناة البشرية- إلى تحقيق الإخاء الإنساني العالمي".
ويوافق السويطي على ذلك بقوله: "يوقد طاغور الشاعر والإنسان قناديل الأمل في العتمة، ويطيل صلاته في محراب العشق من أجل تحقيق الأحلام والعدل في هذا العالم".
يقول صاحب ديوان "طيور تائهة":
"في الصفحة الأولى من التاريخ، كانت سلطة العملاق غير محدودة كإنسان، وبربريّ، وأبله وكانت أصابعه خشنة، ويده سخيفة، وبالقضيب في يده نشر الدمار التام فوق اليابسة وفوق البحر، وبالنار والبخار أدار أحلامه المنحرفة الضالة في أعماق السماء، وحقق لنفسه السيادة العظمى على عالم الجماد، أَمَّا نحو الحقيقة الحية، فقد أعمته الغيرة"
وفي ما يتعلق بالأبعاد الجوهرية لفكر طاغور التي تجعل منه قامة أدبية وفكرية عالمية عملاقة تلهم المبدعين والمفكرين والمثقفين في كل عصر، يمكن العودة إلى كتابه المعنون "سادهانا"، الذي يعني "الكمال"، حيث لقيت أشعاره انتشارا واسعا في أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20.
وقد قدم لديوانه "جيتنجالي" (قربان الأغاني) الشاعر الإنجليزي وليام بتلر ييتس (1865-1939)، وبهذا الديوان أصبح طاغور أول شخص في آسيا يحصل على جائزة نوبل للآداب عام 1913. وعن حصوله على نوبل كتب طاغور إلى أحد أصدقائه الإنجليز قائلا: "إن حالتي تشبه حالة كلب قام البعض بربط ذيله بعلبة فارغة من الصفيح، فإذا به يحدث ضجيجا هائلا كلما جرى، وأينما ذهب".
إعلانلقد رأى طاغور في الجائزة شيئا منفصلا تماما عن نفسه وعن قيمته الذاتية، ورأى أنه فوق الجائزة. وقد تبرع بقيمتها المالية للمدرسة التي أنشأها باسم "مرفأ السلام" عام 1918 في إقليم شانتي نيكتان بغرب البنغال.
ويشير الدكتور بشير أحمد الجمالي إلى أن "قصائد جيتنجالي لا تزال تسحر وتؤثر في قلوب ملايين من الأفراد الهنود، مقتبسا قصائده من الحكايات الأسطورية والرموز الدينية والصور المحلية والحياة اليومية".
في المقابل، يؤكد أحد مؤيدي طاغور، سوديب نارايان جوش، أن "قصائد جيتنجالي ليست أفضل إبداعات طاغور الشعرية، لأن جيتنجالي يحتوي فقط على 83 من قصائده الأصلية، وهناك 20 قصيدة أخرى مأخوذة من كتبه الأخرى". ويوضح أن طاغور "قد جرد شعره من كل ثراء وزخرفة، فلذلك لم تستطع قصائده المكتوبة بالنثر البسيط أن تحقق العظمة الشعرية كما حققت قصائده البنغالية الأصلية".
وكان طاغور قد أكد شاعريته الكبيرة واعتراف الغرب مبكرا بهذه الموهبة الفذة، ومن قصيدته "الإنسان الطائر":
"ومثل الأمواج المأخوذة بإيقاع رقصتها المجنحة، تلهو تلك الطيور في ظلّ الأمن الذي يسري في السموات، لقد حملت من عصر إلى عصر رسالة الحياة للسماء وللغابة وللجبال"
كانت عائلة طاغور تنتمي في الأصل إلى ديانة براهما، غير أنه كان في عائلته من ينتمون إلى السيخ. لكن طاغور كان له رأي آخر في الديانات التي تقدس التماثيل أو البقر أو غيرها، فقد كان يقول:
"عندما أذهب إلى الغابة وأرى عظمة الأشجار والجبال والطيور والمخلوقات كلها، أعرف أن هناك إلها واحدا لا يُرى ولكن يجب أن يعبد، فالذي خلق كل هذه الأشياء العظيمة هو بالتأكيد أعظم منها، لذا فهذا الإله يستحق العبادة"
ويلفت الأكاديمي الهندي بشير الجمالي إلى أن "شعر طاغور مليء بأفكار الحب الإلهي، وهو يفكر كالفكر الإسلامي بأن العالم المادي الذي نراه بأعيننا ليس حقيقيا، وأن هناك عالما واقعيا بعد الموت لا يمكن فهمه من خلال الحواس بل بالفهم الروحاني".
ويتابع: "عند العودة إلى المصادر القديمة التي أرشدته وعاونته في كتابة جيتانجالي، كان من بينها ما كتبه الشاعر الصوفي كبير داس (1440-1518)، الذي أثر تأثيرا عظيما في إعداد كتاب غرانت صاحب، الكتاب المقدس لدين السيخية".
ويجيب بشير الجمالي -في حديث للجزيرة نت- عن مدى تأثر طاغور بالفكر الصوفي فيقول: "نرى في كتابة طاغور -لا سيما في قصائده جيتانجالي- نزعته الصوفية بلا أدنى شك".
ومن جهته، يبين الهدوي -في حديثه للجزيرة نت- أن "أفكار طاغور ومبادئه الفلسفية كانت متأصلة في الفيدا والأوبانيشاد (الكتب المقدسة لدى الهندوسيين) من ناحية، ومتميزة بدعوتها إلى العلم الحديث، والحفاظ على البيئة، وتحقيق الإبداعات من ناحية أخرى".
وبدوره، يقول الدكتور مجيب الرحمن -للجزيرة نت- إن "الحب للإنسان والله والوحدة البشرية تشكل جوهر فلسفة طاغور"، ويضيف: "نراه يردد بحماس الآية في الأوبانيشاد: الذي هو واحد، والذي يقضي الحاجات الأساسية لكل الشعوب وفي كل الأزمنة".
ومن جانبه، يؤكد بدر السويطي -في حديثه للجزيرة نت- أن "وميض الشعر في روح طاغور المتوغل في اليقين والنور يتجلى في كل كلمة وحرف، وهو يحول الألم إلى لذة وفرح، يحمل شعلة الشعر ويمضي نحو الله بقلب مطمئن يلامس الجمال في الطبيعة والجسد والفكر والعدالة والقيم العليا".
يلاحظ دارسو طاغور ونقاده أنه لم يكن يخاف من الموت، بل لقد أحب الموت، ولم يجده نقيضا للحياة، بل حياة ثانية. ولا شيء أدل على هذا من تأبينه لنفسه قبل أن يفارق دنيانا في السابع من أغسطس/آب 1941.
توفي طاغور وهو في الـ80 من عمره، وفي البيت الذي ولد فيه، بعد أن ترك للعالم ثروة أدبية وشعرية وموسيقية كبيرة جدا. وتجاوز عدد قصائده ألف قصيدة وألفي أغنية، ومضى يبدع قصصا وروايات ومسرحيات باللغة البنغالية التي تعد من أروع كلاسيكيات الأدب الهندي والعالمي.
إعلانكما أبدع صنفا من الموسيقى يسمى "رابيندرا سانغيت". غير أن الموت، بحسب فلسفته، ليس سوى حياة جديدة:
"كنت أظن أن رحلتي أوشكت على الختام، إيه أيها الموت، يا منتهى حياتي الأسمى، تعال واهمس في أذني. يوما بعد يوم سهرت في انتظارك، من أجلك تذوقت هناءة الحياة وعانيت عذابها. إنَّ الكفن المنسدل فوقي هو كفن التراب والموت، وإنني لأكرهه، ولكنني أشده وأجذبه في شغفٍ ووجد"
وبدوره، يعلق الشاعر بدر السويطي قائلا: "بنور شعره وكلماته، ظل طاغور يضيء الجانب المظلم من هذا الكون، بهيبة الشاعر الخالد الذي لا يندثر ذكره بالموت والنسيان".