مراكش ـ

هَذَا مَا تَرَكوهُ خَلْفَهُمْ،

دُرُوعٌ، وَخُوذاتٌ، وَأسْماءٌ مُتْعَبَةٌ،

وَشَائِعَةٌ عَنْ سَفِينَةٍ غَرِقَتْ فِي حَدِيثٍ عَاِئِليٍّ

دُونَ أَنْ يَنْتَبِهَ أَحَدٌ.

هُنا يَحْتَشِدُ الْقَتْلَى بِلَا عَناوينَ،

وَلا أَرْقَام وَلَا حتَّى مَرَايَـا يَرَوْنَ فِيها أَرْوَاحَهُمْ.

هكذا استهل الشاعر والإعلامي المغربي محمد أحمد بنيس أمسية شعرية بدار الشعر بمدينة مراكش، بمناسبة اليوم الوطني للإعلام (15 نوفمبر/تشرين الثاني)، تخللتها حوارات حول حضور فلسطين في المتخيل الشعري المغربي أدارها الشاعر والناقد المغربي عبد الحق ميفراني، وفرضها سياق "حرب الإبادة" التي ما زالت تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الثاني.

يقول بنيس للجزيرة نت بنبرة حزينة، رافقته أيضا خلال كل حديثه أمام الجمهور "لا يملك الشاعر في اللحظات التي نعيشها غير الكلمات التي تولد من رحم الألم والغضب، ألم موت الأبرياء دون ذنب وغضب من سلوك وحشي لعدو غادر".

الشاعر والإعلامي المغربي محمد أحمد بنيس (الجزيرة) فلسطين شعرا

في تلك الأمسية، حضرت أسماء شعراء مغاربة حملوا هم القضية، وكتبوا "فلسطين شعرا"، ساروا بها نحو ضفاف الإبداع، مخلدين أسماءهم على صفحات ببليوغرافية الشعر العالمي.

يقول الناقد المغربي عبد اللطيف السخيري إنه منذ النكبة إلى هذه اللحظة، لم تفارق فلسطين المتخيل الشعري المغربي، "بل ظل جرحها نازفا في تجارب الشعراء على اختلاف أشكال الكتابة التي اتخذوها مَهْيَعا (طريقا)، وعلى تبايُن خلفياتهم المعرفية والأيديولوجية. تحضُرُ بجغرافيتها الجريحة، وبأسماء مُدنها وحواريها، وبرموزها التاريخية وأسماء أعلامها وشهدائها… فهي غصن الزيتون المقصوف، والحمامة النازفةُ أمام بنادق الاحتلال، والأم الثكلى التي تحضن الأرضَ كي تُقبِّلَ ابنها الشهيد الذي عانقتْهُ أرض الجليلِ…".

الناقد المغربي عبد اللطيف السخيري (الجزيرة)

ويضيف السخيري في حديث للجزيرة نت أن شعراء الحداثة الشعرية بالمغرب كان لهم الحظ الأوفر من استحضار فلسطين في متخيَّلهم الشعري، خاصة أنهم جاؤوا بعد النكسة 1967، واعتنقوا المدَّ القوميّ الذي كانت فيه فلسطين هي القضية الأسمى (نذكر هنا قصيدة "القدس" لأحمد المجاطي مثلاً). والآن، وإن انحسَرَ المد القوميُّ، وحاول أكثر الشعراء الابتعاد عن الأيديولوجية في كتاباتهم، فإن كَمَّ ما كُتبَ ويُكتَبُ حولها، ما يزال في اطراد، حسب قوله.

جنبا إلى جنب

حين نطرح "كيف تسير القصيدة مع السلاح جنبا إلى جنب في مقاومة المحتل؟"، يأتي الجواب من الناقد المغربي السخيري، إذ يستند إلى ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز من أن الفنَّ في جوهره مقاومة.

ويؤكد المتحدث ذاته أن الشعر من الفنون التي رافقت الإنسان منذ فجر تاريخه، وما يزال، وخاصة في لحظات الاضطهاد والاحتلال وسلبِ الحريات، حيث يحضر الشعر إلى جانبِ السلاحِ لتحقيق فعل المقاومة، هذا الفعل الذي يستلزمُ الكلمةَ كما يستلزمُ الرصاصة.

ويعتبر أنه إذا كان عمر الرصاصة محكوما بسرعة وصولِها إلى الهدف، فإن الكلمة/القصيدة تستمرُّ انطلاقتُها دون حدود زمنية، تؤثر وتُخلد، وتواصل تذكير الغاصبِ بعُقمِه الإنسانيّ، وتذكير المُضطَهَدِ بِعُمْقِه الإنسانيّ.. ويختم "الآن، يُواصلُ لوركا، وناظم حكمت غناءهما ومقاومتهما، جنبا إلى جنب مع درويش وسميح القاسم وممدوح عدوان… وغيرهم".

فيما يرى محمد أحمد بنيس أن القصيدة تشكل أفقا للمقاومة والتحرر والوقوف في وجه الظلم، مبرزا أن القضية الفلسطينية قبل أن نكون قضية سياسية، هي قضية أخلاقية، مما يجعلها تمثل للشعراء أفقا لاستحضار القيم الإنسانية النبيلة.

في تلك الأمسية أيضا يستحضر الناقد والشاعر عبد الحق ميفراني أغنية "شدوا بعضهم أهل فلسطين"، مبرزا كيف أصبحت تلك المرأة العجوز، بكلمات بسيطة ومؤثرة، رمز مقاومة، بل وشفاء لجراح النفس والبدن، يحقن فيه ما يحتاجه من صمود.

الناقد والشاعر عبد الحق ميفراني (الجزيرة) "لا تصالح"

يمتد ذلك التذكير بالقصيدة، وتلك الانطلاقة للكلمة من عمق الإنسان إلى مقاومة كل تطبيع ثقافي يريده العدو بوابة لغسل الأدمغة، ومحو آثار جريمته على مدار العصور.

ويقول السخيري إذا كان التطبيع السياسي والاقتصادي قد أصبح واقعا لا يرتفِعُ، فإن الحقلَ الثقافي يبقى هو آخر معاقلِ المقاومة ضد التطبيع. فلا يمكن بأي حالٍ من الأحوالِ أن نجعلَ الشاذَّ وغير الطبيعيّ طبيعيا، نمرُّ عليه بوعي سادِرٍ، وذاكرةٍ قصيرةٍ لا ترى دماءَ الأبرياء نديةً على أيدي القتلة، ولا تسمعُ صرخات الألمِ بين سطورِ كتابتهم.. سبقَ أن أوجزَ أمل دنقل كل هذا في عبارته السائرةِ: "لا تُصالح".. يجب أن تبقى الثقافة حصنا يُذكِّرُ الساسَةَ أن حساباتهم لن تستقيمَ إلا في هَندسةِ الخيانة.

فيما يؤكد الشاعر والإعلامي المغربي عبد الحق بنرحمون للجزيرة نت أن الكلمة في القصيدة تشبه نصل السيف في ميدان المعركة، غير أنها تخاطب النفس البشرية، وتزرع فيها الحماس والشعور بالصمود النفسي أمام ما نراه يوميا في الحرب على غزة من مجازر دمرت كل الأعراف الإنسانية، مقابل ما تسطره المقاومة بمداد من فخر.

الشاعر والإعلامي المغربي عبد الحق بنرحمون (الجزيرة)

ويضيف أن الشعر ضرورة إنسانية نحتاجها في كل اللحظات، ذلك أن كل الناس شعراء بعواطفهم وفطرتهم، يجدون في الكلمة ما يحرك فيهم كل ذلك، ويدفعهم إلى جانب الشعراء المبدعين إلى التشبث أكثر بإنسانيتهم التي يحاول العالم أن ينسيهم فيها.

أما بنيس فيشير إلى أن ما يحدث الآن أمر مروع ومذبحة مفتوحة، وأن أي كلمة تحتاجها القضية، مبرزا أن الإعلامي الشاعر، ينظر إلى الحدث من نافذتين مختلفتين، ذلك أن تغطيته تفرض عليه متابعته عن كثب، فيما يحتاج من أجل كتابة قصيدة الى "مسافة" من أجل التأمل وبلورة الاختيار الفني، لإيجاد ذلك التوازن بين ما هو فني وما هو موضوعي.

يد على الزناد

الجنود العائدون من الحرب هذا الصباح، بلا خوذات

غرسوا ظلالهم في الرمل

بلا أضواء

أو جزمات

أو نياشين

مروا

ولم يلقوا التحية….

قال الصبي وهو يفرك عن عينيه ضباب حلم طويل

ثم عاد إلى حضن أمه

قطف نجمتين

ونام.

هي مطلع قصيدة " خوذة بنصف رأس"، شدت بها الشاعرة والإعلامية المغربية حفيظة الفارسي أنفاس جمهورها، وهي تحكي عن الحرب في تلك الأمسية الشعرية.

الشاعرة والإعلامية المغربية حفيظة الفارسي (الجزيرة)

تقول الفارسي للجزيرة نت إنها قصيدة بلسان جنود حاربوا على جميع الجبهات في المغرب وفي العالم العربي، لكنهم الآن يعيشون الخيبات في واقع متغير وأمام تهلهل القيم، قبل أن تستطرد أن المقاومة في فلسطين هي استثناء في العالم لكل ذلك، فأهل فلسطين لم ينسوا يوما قضيتهم، لا شعبا ولا أجنحة سياسية أو فدائية.

وتبرز أن شعلة الارتباط بالوطن تلازمهم طيلة سعيهم لاستعادة أرضهم، وقد اعتقد البعض أنها خبت نوعا ما وانطفأت، لكنهم فوجئوا أن الفلسطيني مستعد ويده على الزناد وقلبه على الوطن، وهي جذوة تجعل الشعراء يستعيدون الثقة، ودورهم في نشر الوعي بالقضية وبكل القضايا العادلة في العالم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المغربی عبد للجزیرة نت عبد الحق

إقرأ أيضاً:

عوالم خفية.. الجزيرة نت تحاور عالما عربيا فك شفرة ممالك النمل

في زمن تتجه فيه الأضواء إلى العناوين اللامعة والمواضيع المثيرة اختار الدكتور مصطفى شرف الأستاذ الزائر بمتحف ليفربول للتاريخ الطبيعي أن يضع عدسته على عالم صامت صغير لكنه معقد ومبهر، وهو عالم النمل.

لم يكن مجرد اختيار علمي، بل شغف ولد مبكرا في ركن من أركان منزله بإحدى قرى محافظة القليوبية المصرية خلال سنوات الإعدادية، وتحول مع الزمن إلى مهنة ورسالة حياة.

يتحدث شرف عن أنواع النمل التي اكتشفها كما لو كان يسرد أسماء أبنائه، وكل اسم يحمل قصة وموقعا ولحظة دهشة لا تنسى، وعندما صارحته بأنني شعرت بذلك ابتسم وقال ببساطة "هم بالفعل أبنائي".

قبل الغوص في تفاصيل علم النمل واكتشافات الدكتور مصطفى شرف كان هناك سؤال ملحّ رأينا أن نستهل به الحوار بشأن الدوافع التي تجعل إنسان يهب حياته للنمل، هذا الكائن الصغير الذي قد لا يثير في أذهان كثيرين سوى الضيق أو السخرية، خاصة في مجتمع مثل مصر، حيث يغلب التوجه نحو التخصصات التي تضمن مستقبلا مهنيا واضحا، ولا سيما بين طلاب كليات العلوم.

كثير من النمل يتغذى على الأجسام النافقة فينظف البيئة من بقايا الموت (وكالة الأناضول) النمل المصري

حين طرحنا عليه هذا السؤال لم يخف سعادته، وقال إنه في طفولته كان يجلس في ركن هادئ من البيت ويراقب سلوك النمل وماذا يحدث حين تلتقي نملتان في الطريق، وماذا تفعل مستعمرة النمل إذا ماتت واحدة من أفرادها.

إعلان

وأضاف "هذا ما قادني لاحقا لقراءة كتاب لغة الكيمياء عند الكائنات الحية للدكتور أحمد مدحت إسلام، ولمتابعة حلقات النمل في برنامج الدكتور مصطفى محمود (العلم والإيمان)".

لكنه كغيره من الطلاب في بيئة لا ترى النجاح إلا عبر كلية الطب كان يأمل أن يحقق رغبة أسرته في دراسة الطب، لكن القدر اختار له طريقا آخر، واليوم لا يخفي رضاه بذلك قائلا "أنا خلقت لأكون عالم نمل".

قاده هذا الشغف المبكر إلى قسم الحشرات في كلية العلوم بجامعة عين شمس، وهناك اختار أن يتخصص في النمل، وقال "عندما قررت أن أبدأ لم يكن هناك سوى أستاذ واحد في مصر يعمل في هذا المجال، وكان في كلية التربية، ومر على دراسته لنمل مصر أكثر من 20 عاما، فكان علي أن أبدأ فعليا من الصفر".

في الماجستير، اختار موضوعا عن مقارنة أنواع النمل بين الدلتا وسيناء، وفي الدكتوراه قدم عملا جادا لدراسة كل أنواع النمل في مصر، والذي صار بمثابة انطلاقة حقيقية في التخصص، ويضيف "كان إنجازا فارقا، فقد استطعت أن أوثق 147 نوعا من النمل في مصر".

أثناء جمع النمل من جبال عسير في السعودية (مصطفى شرف) في الجزيرة العربية

ورغم ما حققه من إنجازات علمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه فإن شرف يعتبر أن الانطلاقة الحقيقية -كما يصفها- كانت في قلب شبه الجزيرة العربية، حيث عمل محاضرا في جامعة الملك خالد بالسعودية في البداية، قبل أن يتلقى عرضا للعمل في جامعة الملك سعود، ليكوّن هناك شراكة بحثية مع زميله الدكتور عبد الرحمن بن سعد الداود.

يتذكر شرف سنة 2009 حين تلقى هذا العرض الذي لم يتردد لحظة في قبوله، فقد أحس أن هذه الدعوة ستكون بمثابة فتح علمي جديد بدأ بتعاون بسيط ليصبح شراكة بحثية استمرت 15 عاما استطاعا خلالها معا اكتشاف 50 نوعا جديدا من النمل.

ومن بين الأنواع التي اكتشفاها خلال تلك الرحلة نملة "مو صلاح" التي اكتشفت في منطقة صلالة بسلطنة عمان، وسميت على اسم نجم الكرة المصري محمد صلاح، وتنتمي هذه النملة إلى جنس "ميرانوبولوس"، وتتميز بحركتها البطيئة وولعها بالأعشاب الخفيفة حتى إن اسمها العلمي بات "ميرانوبولوس مو صلاح"، ويبتسم وهو يروي تفاصيل حركتها المتأنية وكأنها تسير على سجادة من الضوء.

إعلان

ثم هناك نملة "باراسيسيا رفعت" -التي عثر عليها في جبال عسير جنوب غرب المملكة العربية السعودية-، وسميت تكريما لشيخ قراء القرآن الشيخ محمد رفعت قارئ القرآن المصري، ويتحدث عنها وكأنها قصيدة مورفولوجية، يصف فيها بدقة شكل رأسها وتوزيع شعيراتها ونقوش جسدها الدقيقة.

ويزيدك اندهاشا حين يحدثك عن نملة "نيسوميرميكس زاهري" التي اكتشفت في جبال فيفاء، وقد أطلق عليها هذا الاسم تكريما للشيخ عبد العظيم زاهر قارئ القرآن المصري، وهذه النملة النادرة تتمتع بخصائص تشريحية مدهشة تميزها عن بقية جنسها، من رأسها الدقيق إلى الشعيرات التي تغطي جسدها في تناسق هندسي.

وبعيدا في أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية -تحديدا في جزيرة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي- كان الاكتشاف الآخر، وهو نملة "مونوموريوم الغزالي" التي اختار لها اسم المفكر الكبير محمد الغزالي، ويقول عنها إنها تنتمي إلى جنس معروف بتنوعه وانتشاره، لكن هذا النوع كانت له بصمته الخاصة، من قرون استشعارها إلى تفاصيل العيون والنحت على الجسم.

أما وسط المملكة العربية السعودية فقد شهد ميلاد نملة "تريكوميرميكس المسيري" التي حملت اسم الأستاذ الدكتور محمد المسيري من جامعة الأزهر، ويقول عنها إنها نموذج حي على تأقلم الكائنات مع البيئات القاحلة، بما تمتلكه من أشواك طويلة وبنية دقيقة لقرون الاستشعار.

وفي البيئة الصحراوية نفسها ظهرت نملة "تريكوميرميكس شاكري" التي سميت على اسم الشيخ محمود محمد شاكر، ويصفها الدكتور شرف بفخر شديد، مشيرا إلى خصائصها المورفولوجية التي تكشف عن عبقرية خلق مذهلة، من بنية الرأس إلى نمط توزيع الشعيرات.

كما حظي الشيخ محمد صديق المنشاوي بالتكريم أيضا من خلال نملة "تيمنوثوراكس المنشاوي" المكتشفة في جبال عسير بجنوب غرب المملكة العربية السعودية، وهي نملة تنتمي إلى جنس يتميز بالندرة الشديدة والتفرد في صفاته المورفولوجية أو الشكلية.

نملة "ميرانوبولس مو صلاح" المكتشفة في منطقة صلالة بسلطنة عمان (مصطفى شرف) أكثر الاكتشافات تفاعلا

أما أكثر الاكتشافات التي لاقت تفاعلا عالميا فهي نملة "كريما توغاستر جاسيندا" التي أُطلق عليها هذا الاسم تكريما لرئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة جاسيندا أرديرن تقديرا لتعاطفها الإنساني مع المسلمين بعد الهجوم الإرهابي في بلادها عام 2019.

وبتأثر واضح، يقول إن النملة تنتمي إلى جنس متنوع، لكن هذا النوع الجديد يمتلك بنية فريدة، كما يتميز بجمال لونه وتباينه بين الجسم أسود اللون والبطن ذهبية اللون، مما يجعله مميزا بوضوح وأناقة عن بقية الأنواع، وكأنها تجسيد رمزي لشخصية الزعيمة التي حملت اسمها.

إعلان

ويقول "كل اكتشاف من هذه الاكتشافات له مكانة خاصة عندي، فأن تجد مخلوقا لم يعرف أحد بوجوده على الأرض وأن تختارك الأقدار لتكون أول من يعرّف الناس به فهذا أمر يدعو للفخر والامتنان".

ويضيف "كم من المخلوقات انقرضت قبل أن يعرف أحد بوجودها؟"، ويشير إلى أن هناك نحو 15 ألف نوع معروف من النمل حتى اليوم، وربما مثلها أو أكثر لا يزال في طيات الأرض لم يكتشف بعد.

ويتحدث بفرح عن استقبال بعض المشاهير الذين أُطلقت أسماؤهم على هذه الأنواع، خاصة عندما سئلت جاسيندا أرديرن في مؤتمر صحفي عن شعورها بتسمية نملة باسمها، وأبدت سعادتها البالغة بذلك حيث أشارت إلى أن هذا التكريم استثنائي وغير معتاد.

وعن كيفية اكتشاف نوع جديد من النمل، يوضح أن الأمر يبدأ بشعور داخلي لحظة العثور على نملة تنتمي إلى جنس نادر، ويقول "أفحصها بالميكروسكوب الإلكتروني، وأبحث في تفاصيل دقيقة مثل توزيع الشعيرات وبنية الرأس وشكل قرون الاستشعار، وعندما أجد أنها تختلف عن كل ما رأيته من قبل أدرك أنني أمام كنز علمي".

ولا يخفي فرحته حين يؤكد اكتشاف نوع جديد، بل يعترف وهو يضحك بأنه قد يقفز من مكانه أو يصرخ فرحا، تماما كما يفعل لاعب كرة أحرز هدفا حاسما.

ويختم قائلا "لم تكن هذه الرحلة لتكتمل لولا وجود شريكي في الاكتشاف الدكتور عبد الرحمن بن سعد الداود الذي رافقني خلال هذه السنوات وشاركني الشغف والتفاني، وجعل من هذه المغامرة العلمية قصة تستحق أن أرويها للجزيرة نت".

أثناء جمع النمل في جزيرة سقطرى اليمنية (مصطفى شرف) لماذا ندرس النمل؟

قد يسأل البعض عن قيمة اكتشاف نوع جديد من النمل، ويجيب شرف قائلا "هذا السؤال سمعته مرارا، منهم من يسأله بلطف، ومنهم من يقذف به فظا ساخرا!".

وأضاف بثقة "أول خطوة نحو فهم البيئة من حولنا أو نحو تقليل ضرر مكوناتها أو تعظيم نفعها تبدأ بالمعرفة، أن تعرف ما الذي يعيش معك على هذا الكوكب، هذا هو جوهر عملي، أن أساعد الناس على معرفة ما يوجد تحت أقدامهم من مخلوقات لا يرونها، لكنها تؤثر على حياتهم أكثر مما يتصورون".

إعلان

وتابع "كثير من النمل يتغذى على الأجسام النافقة، فينظف البيئة من بقايا الموت، وكثير منه مفترس يحافظ على التوازن البيئي عبر افتراسه حشرات ضارة، وهناك أنواع تحفر أنفاقا في الأرض تتيح التهوية للتربة، وقد ثبت علميا أن النمل أكثر كفاءة في تهوية التربة من دودة الأرض، بل هناك أنواع تستهلك كميات ضخمة من أوراق الأشجار، حتى إن إحدى الدراسات شبهت استهلاك مستعمرة واحدة باستهلاك بقرة كاملة في اليوم، فتسقط الأوراق وتغذي التربة، لكنها في الوقت ذاته قد تضر بالشجرة، فيكافَح هذا النوع من النمل".

ثم قال بنبرة أكثر جدية "هناك أنواع منزلية مزعجة نكافحها، وأنواع غازية من خارج البيئة تهدد التوازن البيئي لأنها تتغذى على غذاء الحشرات المتوطنة أو تزاحمها، وقد تدمر سلاسل غذائية كاملة، فهل نترك هذه الأنواع تعبث في بيئتنا دون فهم؟".

وأكمل "هل تصدق أن 99% من أنواع النمل تفرز مضادات حيوية من غددها؟ لهذا لا تمرض، ولهذا يتجه الباحثون اليوم إلى استخدام تلك المضادات لعلاج أمراض البشر، بل إن هناك قبائل أفريقية تستخدم "نمل النار" لعلاج الملاريا، و"نمل المحارب" لإغلاق الجروح، وفي كلية العلوم بجامعة الملك سعود أجريت تجربة واعدة لاستخدام إبرة نمل السمسوم -التي تشبه إبرة النحل- في علاج سرطان الثدي لدى حيوانات التجارب".

ثم استدرك قائلا "أتذكر التغطية الإعلامية الضخمة قبل أشهر عندما حاول بلجيكيون تهريب آلاف من أفراد النمل الأفريقي الحصاد من كينيا، فذلك لم يكن مجرد تهريب عادي، بل كان تهديدا لتوازن بيئي حساس، فهذا النوع من النمل يوزع البذور ويعيد رسم خرائط النمو النباتي في الغابات الأفريقية، واختفاؤه ليس تفصيلا بسيطا، بل قد يُحدث اضطرابا بيئيا واسع النطاق، وهذا النوع تحديدا لا يُعرف إلا في كينيا وتنزانيا، هل ترى الآن لماذا نهتم".

إعلان عجائب النمل المدهشة

سألناه "ما أعجب ما رأيت في هذا العالم؟ فما الذي يجعلك تقف مدهوشا وتقول "سبحان من خلق"؟ وهنا عادت الابتسامة إلى وجهه واسعة مطمئنة، وقال بشغف "عجائب النمل لا تعد ولا تحصى، لكنني سأنتقي لك ما أراه الأبرز من وجهة نظري".

بدأ شرف حديثه بالنمل من جنس" كاتاجليفيس" المعروف شعبيا في مصر باسم "حرامي الحلة"، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة يطلقون عليه "نملة الكرسي"، وذلك لتعامد محور البطن مع محور الجسم.

وقال إنه "يمكن للمرء أن يراها كثيرا وهي تحمل نملة أخرى، للوهلة الأولى يظن المراقب أن النملة المحمولة إما ميتة أو فريسة في طريقها للافتراس، لكن ما إن تقترب منهما حتى تجدهما تهرولان معا".

ثم أضاف وهو يبتسم "هذا المشهد هو سلوك لنقل معلومة تتعلق بمكان جديد للتعشيش، فهذا سلوك متطور لا يخطر على بال".

وقال إن "نمل "كاتاجليفيس" يمتلك أيضا نظام ملاحة بالغ الدقة"، مشيرا إلى أنه "لو خرجت نملة منه من مستعمرتها إلى مكان معين فإنها تعود في خط مستقيم مستخدمة ضوء الشمس المستقطب، وهذا النمل لديه نظام ملاحة يتفوق على (جي بي إس) البشر".

ثم انتقل إلى الحديث عن اكتشاف بحثي حديث أظهر كيف أن صغار شغالات النمل لا تبدأ العمل دفعة واحدة، بل تتعلم تدريجيا من الشغالات الكبار، في البداية يقطع النمل الصغير مسافة قصيرة لجمع الغذاء ثم يعود، وفي كل مرة تزيد المسافة قليلا "عملية تعلم تدريجية دقيقة"، كما أضاف.

ويولي شرف نملة جنس "كاتاجليفيس" اهتماما خاصا، ويضيف "ما سأقوله الآن هو اجتهاد مبني على معرفة طويلة بعالم النمل"، موضحا أنه لكنه يظل افتراضا لا يمتلك دليلا علميا، ثم يقول إنه "ربما تكون نملة من جنس "كاتاجليفيس" هي ذاتها النملة التي ذكرت في قصة النبي سليمان".

وشرحا لتلك النقطة، يقول إن افتراضه بني على 5 أسباب "أولا: كل أنواع هذا الجنس وعددها 17 نوعا معروفة في فلسطين، حيث عاش سيدنا سليمان، ثانيا: هذه النملة نهارية، لذا من المرجح أنها كانت نشطة عند مرور جيش سليمان، ثالثا: رؤيتها قوية جدا، وهو ما يمكنها من رصد الجيش، ورابعا: أن أعداد أفراد مستعمرات الجنس تكون بمئات الآلاف والتي تنتشر في الوديان باحثة عن الفرائس وتكون غالبا هي الأوفر بين الكائنات الحية في الوديان، وهذا يتماشى مع قوله تعالى "وادي النمل"، والتعبير القرآني بالغ الدقة والتحديد، وخامسا وهو الأهم: هو أن هذا النوع لديه نظام تخاطب كيميائي معقد".

إعلان

ويضيف "وسيدنا سليمان -عليه السلام- أوتي القدرة على فهم لغات الحيوانات بصريح النص القرآني ﴿عُلّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء﴾، وهذا يتسق مع النص القرآني الذي يصف سماعه لتحذير النملة لبنات جنسها"، ثم قرأ الآية ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُوا۟ مَسَـٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥوَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ النمل (18).

النمل والتغيرات المناخية

وبسؤاله عن جديد الأبحاث، قال إنه في نهاية هذا الشهر (يونيو) ستصدر لنا دراسة جديدة عن تأثير التغيرات المناخية على النمل.

وأعطى لمحة عن الدراسة قائلا "ندرس كيف تؤثر درجات الحرارة والعوامل المناخية المختلفة على التوزيع الجغرافي لأنواع النمل حاليا ومستقبلا، فقد يؤدي تغير المناخ إلى هجرة بعض الأنواع إلى مناطق جديدة أكثر اعتدالا واختفاء أنواع محلية وظهور أنواع غازية، مما يهدد التنوع البيولوجي المحلي".

وأضاف "النمل يتفاعل مع العديد من الكائنات، نباتات، حشرات، وحتى الفطريات، أي تغير في توقيت الفصول أو درجات الحرارة يمكن أن يخل بتلك العلاقات، مما يضعف الأدوار الحيوية التي يقوم بها النمل، مثل تهوية التربة وتدوير المغذيات".

مقالات مشابهة

  • لقاء العُمدة بروف عبد الله علي إبراهيم على الجزيرة كان ممتع ومُفيد
  • عوالم خفية.. الجزيرة نت تحاور عالما عربيا فك شفرة ممالك النمل
  • إبداعات شعر العامية تتألق في منتدى الشعر العربي بمكتبة الإسكندرية
  • أربعة أدباء ومفكرين عرب يحصدون جوائز العويس الثقافية للأدب والدراسات الإنسانية
  • «سد يا ماما سد».. أمينة تشوق جمهورها لأغنيتها الجديدة
  • ضخ مياه الري في القنوات الرئيسية بمشروع الجزيرة
  • أعلنت الاستسلام
  • ولاية الجزيرة .. أسرار وأخبار ليست للنشر !!
  • الجزيرة يُتوج بكأس الإمارات تحت 21 سنة
  • عيد الإعلاميين.. جمال الشاعر يتحدث عن تجربته في برنامج صباح الخير يامصر