تظل الوصمة الاجتماعية عقبة رئيسية أمام تلقي العلاج النفسي، إذ تتجلى في التعليقات الجارحة ونظرات الريبة التي تدفع البعض لتحمل معاناتهم في صمت وخوف من وسمهم بالضعف أو الاضطراب العقلي. ومن خلال تجارب وآراء المختصين، نسلط الضوء على هذا الواقع المعقد، حيث تتقاطع مخاوف المجتمع مع آمال التعافي، ويتلاقى الوعي مع الممارسة الطبية.

جذور الوصمة

تعريف وصمة العار في العلاج النفسي لا يقتصر على النظرة السلبية فقط، بل هو إحساس عميق بالحرج، مما يمنع الفرد من طلب المساعدة.

في المجتمع العماني، اتخذت الوصمة أشكالًا متعددة، منها ربط طلب العلاج النفسي بالضعف والجنون، وبهذه الكلمات القاسية لخّصت الطالبة إخلاص الرواحية نظرة كثير من أفراد المجتمع، كما أوضحت الدكتورة نوال المحيجرية، طبيبة نفسية استشارية، أن هذه الوصمة "ليست مجرد كلمات، بل هي خوف متجذر من الحكم المجتمعي، مما يجعل المرضى يتحملون آلامهم لسنوات قبل طلب المساعدة".

وفي العديد من البيوت، تتحول هذه الوصمة إلى قيود غير مرئية، حيث قالت سامية الزدجالية، معلمة: "بعض الأسر تفضل أن يعاني أبناؤها في صمت على ألا يُقال عليهم مجانين".

ولكن هذا المفهوم خاطئ، فهو لا يعكس حقيقة العلاج النفسي، فالحقيقة تكمن في أن العلاج ليس علامة ضعف ولا جنون، بل هو دليل وعي وقوة. وهو نهج علمي متكامل يركز على مساعدة الأفراد في تجاوز وفهم التحديات النفسية والعاطفية التي قد تواجههم، ويتم تلقي العلاج من خلال جلسات يقودها أهل الاختصاص في المجال النفسي. وهذا العلاج لا يقتصر على معالجة الاضطرابات النفسية الحادة، بل هو أداة فعالة لتعزيز الصحة العقلية، وبناء المهارات الصحية للتكيف، والمساعدة في تحسين جودة الحياة.

بين الأرقام والواقع

سجلت عيادات الأمراض النفسية في مؤسسات وزارة الصحة بسلطنة عُمان في عام 2022 زيادة في أعداد الزيارات حيث بلغت 108 آلاف مريض، بارتفاع 8% عن عام 2021. وأشارت إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن 15 ألف مريض جديد زاروا العيادات النفسية لأول مرة في عام 2022 مقارنة بـ 13 ألف مريض في عام 2021. ولكن هذه الأرقام تخفي واقعًا أكثر تعقيدًا. يرى الأخصائيون النفسيون أن هذه الأرقام لا تعكس الحجم الحقيقي للمشكلة، إذ لا يزال الكثيرون يترددون في طلب المساعدة.

وأوضحت الأخصائية سعدية السعدية أن: "الكثير من هذه الزيارات تأتي متأخرة، حين تتفاقم الحالة لدرجة لا يمكن إخفاؤها". وكشفت عن معضلة أخرى: "نعاني من نقص حاد في الأخصائيين النفسيين".

ثمن الصمت

لقد تجاوزت وصمة العلاج النفسي كونها مجرد حكم اجتماعي، بل أصبحت عقبة تعوق الأفراد من حق الشفاء؛ فالكثيرون، مثل فاطمة العامرية، دفعوا ثمن هذه النظرة المجتمعية، حيث قالت بصراحة تلامس القلب: "العلاج ساعدني في استعادة توازني النفسي"، لكنها لم تخف حقيقة التردد التي سبقت هذه الخطوة، إذ كان الخوف من نظرة المجتمع أقوى من ألمها، وكانت الضحية روح تتألم بصمت، وضياع فرص العلاج.

وهذه المعاناة لا تقف عند حدود الفرد، بل تتجذر وتمتد إلى كيان الأسرة ككل، فتجعلهم يواجهون المعاناة بصمت وخوف. وهذا الصمت لا يساعد الأسر إلا في تفاقم معاناة المريض بدلًا من احتوائه وطلب العلاج له.

هنا تكمن المفارقة، ففي حين يسعى المجتمع لحماية صورته، يفقد أفراده صحتهم، وبينما تحاول الأسر الحفاظ على سمعتها، تضحي بسلامة أبنائها. فكل يوم يمر بدون طلب المساعدة هو حلقة جديدة ترسخ سلسلة المعاناة وتهدر فرصة أخرى للعلاج في سبيل الخوف من أحكام المجتمع.

خطوات على طريق الأمل

ولمواجهة هذه التحديات، تبرز المبادرات التي تحيي في طياتها بذور الأمل لمواجهة هذه الوصمة؛ فبين قاعات الجامعات والفصول الدراسية، تنطلق حملات توعوية يروج لها الشباب مثل حمد الحضرمي، طالب بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية، الذي قال: "حان الوقت لكسر الحاجز والتحدث عن صحتنا النفسية بصراحة وبدون خوف من المجتمع".

وعلى الجانب المؤسسي، ثمة جهود تسعى لتعزيز خدمات الصحة النفسية في بيئات العمل.

وقد وضح محمد العجمي بقوله: "نحتاج إلى عيادات نفسية آمنة تقدم الدعم النفسي بسرية وبدون أحكام مسبقة". وذكرت الدكتورة نوال: أن وسائل الإعلام، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، لها دور في تشكيل صورة الصحة النفسية في المجتمع العماني، وقد أثرت بشكل مزدوج إيجابي وسلبي على وعي الأفراد وسلوكهم. من أبرز هذه الجوانب الإيجابية: نشر الوعي والتثقيف، وكسر العزلة، وتعزيز الدعم".

ولكن رغم وجود خطوات الأمل، لا تزال هناك عقبات قائمة، حيث أوضحت سعدية السعدية أحد هذه التحديات قائلة: "نعاني من نقص حاد في الأخصائيين النفسيين المؤهلين، مما يعوق قدرتنا على تلبية الاحتياجات المتزايدة". وذكرت المحيجرية: "توجد فئات عمرية واجتماعية معينة تواجه صعوبة أكبر في تقبّل العلاج النفسي، وذلك لأسباب تتعلق بالثقافة، والوصمة الاجتماعية، والمعتقدات الشخصية".

إن تجسير هذه الوصمة يتطلب لما هو أكثر من إقامة محاضرات تثقيفية فحسب، بل يحتاج إلى ثورة في طريقة تفكيرنا، فلا فائدة من التحدث عن الصحة النفسية في المنابر العامة، والهمس بخوف وخجل عندما يتعلق الأمر بحالاتنا النفسية. ولا فائدة في معرفة لا تترجم إلى فعل، ولا قيمة لوعي لا يحقق تغييرًا ملموسًا في حياة الناس والمجتمع. فالصحة النفسية لم تعد خيارًا، ولم تعد ترفًا يمكن تأجيله، بل هي الأساس الذي تُبنى عليه كل مظاهر الحياة. فكما لا يمكن لبناية أن تقوم بدون أساس متين، لا يمكن لمجتمع أن ينمو ويزدهر دون صحة نفسية سليمة؛ فهي الحجر الأساسي الذي يبني الإنسان القادر على العطاء، والفرد المنتج، والمواطن الواعي المسؤول.

التغيير يبدأ من قرار شخصي، من لحظة نقرر فيها أن نكسر حاجز الصمت. عندما نعي أن طلب المساعدة المهنية ليس علامة ضعف، بل دليل قوة وشجاعة. عندما ندرك أن العلاج النفسي ليس نهاية الطريق، بل هو بداية لحياة أكثر توازنًا وإشراقًا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العلاج النفسی الصحة النفسیة طلب المساعدة النفسیة فی ا یمکن

إقرأ أيضاً:

بين الرشاقة والاكتئاب.. دراسة تربط الحميات القاسية بتدهور الحالة النفسية

كشفت دراسة أميركية حديثة عن ارتباط مقلق بين الأنظمة الغذائية المقيدة، وخاصة منخفضة السعرات الحرارية، وارتفاع احتمالات الإصابة بأعراض الاكتئاب، خصوصاً بين الرجال والأشخاص الذين يعانون من زيادة الوزن أو السمنة.

الدراسة، التي نُشرت في المجلة العلمية المفتوحة BMJ Nutrition, Prevention & Health، استندت إلى تحليل بيانات أكثر من 28 ألف شخص بالغ شاركوا في الدراسة الوطنية الأميركية للفحص الصحي والتغذوي (NHANES) خلال الفترة من 2007 إلى 2018. وقد استخدم الباحثون استبيان “PHQ-9” لتقييم شدة الأعراض الاكتئابية لدى المشاركين.

وأظهرت النتائج أن نحو 8% من المشاركين أبلغوا عن معاناتهم من أعراض اكتئابية. وُصنّف المشاركون ضمن أربع فئات غذائية رئيسية: أنظمة مقيدة بالسعرات، أنظمة مقيدة بالعناصر، أنظمة طبية، وأشخاص لا يتبعون أي نظام.

وبينما رُبطت الأنظمة منخفضة السعرات بزيادة ملحوظة في الأعراض الإدراكية والعاطفية مثل تدني المزاج واضطراب التركيز، كان التأثير أكبر لدى الرجال، الذين بدت عليهم علامات جسدية ونفسية أكثر وضوحاً.

ورغم أهمية النتائج، أوضح الباحثون أن الدراسة لا تثبت علاقة سببية مباشرة، بل تُظهر ترابطاً قد يتأثر بعدة عوامل، منها تصنيف المشاركين الذاتي لأنظمتهم الغذائية، أو النقص المحتمل في عناصر غذائية أساسية نتيجة اتباع أنظمة غير متوازنة.

كما أشاروا إلى تأثيرات “اليويو دايت” – التذبذب في فقدان واستعادة الوزن – وما يصاحبه من إحباط نفسي وإجهاد بدني، بالإضافة إلى حاجة الرجال لعناصر غذائية معينة، مثل أحماض أوميغا-3 والغلوكوز، للحفاظ على وظائف الدماغ والمزاج.

وتسلّط هذه الدراسة الضوء على ضرورة التوازن في الحمية الغذائية، مع أهمية المتابعة الطبية لتجنّب الآثار السلبية المحتملة على الصحة النفسية.

مقالات مشابهة

  • تعرف على عادتين بسيطتين تحسنان صحتك النفسية
  • المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي لإيقاف جرائم السعودية بحق المدنيين في المناطق الحدودية
  • مركز الملك سلمان للإغاثة ينفذ مشروعًا تطوعيًا للدعم النفسي للفئات الأكثر احتياجًا في عدن
  • بين الرشاقة والاكتئاب.. دراسة تربط الحميات القاسية بتدهور الحالة النفسية
  • وعي سياسي بأهمية المشاركة.. حضور لافت للمصريين باليونان للتصويت في انتخابات الشيوخ
  • أزهري: كل من يشارك في “تيك توك” بالنشر أو الدعم أو التفاعل مشارك في الإثم
  • حسام موافي: التعلل بالحالة النفسية لا يبرر الوقوع في براثن المخدرات
  • 5 جهات حكومية تتحد للتوعية بسبل الوقاية من الغرق في رأس تنورة
  • معاريف: الأمراض النفسية للجنود وباء صامت يقوّض المجتمع الإسرائيلي