طعنت الولايات المتحدة فرنسا فعليًا في الظهر في النيجر بعد إبرامها اتفاقًا سريًا مع نيامي، بعد عامين تقريبًا من اليوم الذى تمت فيه خيانتها لفرنسا أيضًا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ خلال اتفاق سري أبرم مع أستراليا والمملكة المتحدة وهو اتفاق أكواس AUKUS، الذى جاء بعد أن فسخت أستراليا عقدها مع فرنسا لتوريد غواصات حربية.

وتوجهت نحو واشنطن ولندن فى إطار هذا الاتفاق لمساعدة كانبرا في تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ.

الخيانة الثانية

وفي الواقع، أعلنت فرنسا أنها لن تسمح للمجلس العسكري النيجري "بطردها من البلاد" وذلك قبل أقل من أربعة أشهر بقليل، في بداية أغسطس ٢٠٢٣، لتعلن أخيرًا في سبتمبر أن جنودها البالغ عددهم ١٥٠٠ جندي المتمركزين في النيجر سيغادرون بحلول نهاية عام ٢٠٢٣.

لكن باريس ظلت حتى الآن متمسكة بالمطالب المتعلقة بشرعية الرئيس المخلوع محمد بازوم، ورفضت المغادرة إلا إذا طلب منها الأخير ذلك.

وأصرت القوة الاستعمارية السابقة آنذاك على أنها ستدعم عملية المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التي تهدف إلى إعادته إلى السلطة، إذا وافقت السياسة الأفريقية على ذلك.

من المؤكد أن هذا التحول الفرنسي يمثل هزيمة استراتيجية وأكثر إذلالًا لفرنسا. وهو يميل إلى تسليط الضوء على الفشل الهائل للسياسة الأفريقية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

ولو كانت فرنسا قد انسحبت في وقت سابق، وبشروطها الخاصة، متذرعة بأي ذريعة بعد الانقلاب العسكري «الوطني» صيف ٢٠٢٣، (طبعا قبل أن تطلب سلطات المجلس العسكري المغادرة)، لكانت فرنسا قادرة على إنقاذ نفسها ولكانت أيضًا قادرة على جعل هذا الانسحاب يبدو إيجابيًا.

وبدلًا من ذلك، اختارت باريس البقاء في النيجر، وذلك ببساطة لأن فرنسا اعتقدت أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا سوف تتحرك.

ومن خلال القيام بذلك، أرسل الفرنسيون إشارة إلى وجود خطة قائمة، تدعو إلى انسحاب المجلس العسكري أو حتى استبداله، ولو جزئيًا بفصيل عسكري موالٍ لفرنسا، لصالح انقلاب آخر. والذي سيكون أكثر ملاءمة له. ولكن لم يتحقق أي من هذا، كما لم يحدث أي تحرك عسكري من جانب المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، مما يشير إلى حدوث خطأ ما.

في هذا السياق، نحاول أن نسلط الضوء على تزامن زيارة الجنرال مايكل لانجلي، قائد الجيش الأمريكي في أفريقيا إلى النيجر، مع رحلة نائبة وزير الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند إلى نيامي في أوائل أغسطس ٢٠٢٣، أي بعد أن طلبت السلطات العسكرية انسحاب القوات الفرنسية.

ونشرح فى هذا التحليل أيضًا كيف وضع هذا التطور فرنسا في موقف دفاعي استراتيجي، مما يوضح أن أمريكا استفادت من النكسات الإقليمية لشريكتها في الناتو.

ومن خلال التكيف بمرونة مع الاتجاهات المتعددة الأقطاب التي اجتاحت منطقة الساحل، تمكنت واشنطن من استبدال الدور الأمني التقليدي لباريس في النيجر. وكان لذلك أثره في دمج قاعدتين أمريكيتين في تحالف الساحل الذي تأسس بعد أيام قليلة فى بوركينا فاسو ومالي.

وكما سنفهم، فقد أحبطت واشنطن العملية العسكرية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التي خططت لها فرنسا والتي كانت ستسمح لباريس بالاحتفاظ بهذه المنشآت العسكرية.

وهكذا، فإن الاتفاق السري الأمريكي النيجيري وحده هو الذي يفسر بشكل متماسك سبب انتظار فرنسا كل هذا الوقت للانسحاب.

واعتقدت باريس أن عليها أن تأمل في أن تأمر واشنطن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بغزو النيجر؛ والتي كانت ستنقذ قاعدتيها العسكريتين ذلك. ومع ذلك، بدا هذا الموقف واضحًا، حيث كانت الولايات المتحدة تخشى النفوذ الروسي وزيادة الهجمات الإرهابية في المنطقة بعد الانقلاب.

من وجهة نظر الولايات المتحدة؛ فإن هذا هو السيناريو المثالي نظرًا للظروف التي وجد صناع القرار أنفسهم فيها بعد الاستحواذ، غير قابل للتنفيذ.

وكان من شأن عملية عسكرية تابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أن تخاطر بإشعال حرب أوسع ومن الممكن أن توفر المزيد من الفرص لتوسيع النفوذ الروسي.

ولذلك توصلت واشنطن إلى أنه من الأفضل استبدال فرنسا في النيجر وبالتالي احتواء النزعة الفرنسية المتعددة الأقطاب. وجاء هذا الموقف بمثابة صدمة لفرنسا.

ومع ذلك، قدرت الولايات المتحدة أن الأضرار الجانبية لن تؤثر على علاقاتها، حيث أظهرت فضيحة AUKUS أن فرنسا ستعود إليها دائمًا، مثلما حدث بالفعل.

بالإضافة إلى ذلك، فإن استبدال فرنسا في "أراضيها الأفريقية" يسمح للولايات المتحدة بإدارة عواقب المغادرة القسرية لـ"شريكتها" في النيجر، مع زيادة اعتماد باريس على واشنطن.

من الناحية العملية، بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الأمر يتعلق أيضًا بملء جزء من الفراغ الذي خلفه الانسحاب الذي اعتبرته فرنسا، رغمًا عنها، حتميًا من منطقة الساحل الأفريقي، بدلًا من التنازل عن كل شيء للوفاق الصيني الروسي.

وفي هذه الحالة فإن التنازلات الوحيدة التي تستطيع الولايات المتحدة تقديمها تتلخص في قبول بعض التوسع في النفوذ الصيني الروسي (نظرًا لعدم قدرتها على منعه بالكامل) وقبول الجوانب القاتمة المفترضة للشراكة مع المجلس العسكري.

و"إذا غادرت الولايات المتحدة النيجر، فإن الإرهابيين والروس سينتصرون"، ومن الأفضل البقاء هناك رغم المجلس العسكري بدلًا من الانسحاب احتجاجًا دفاعًا عن "الديمقراطية"، حسبما يقول أندرياس كلوث الكاتب فى بلومبرج مباشرة لجمهوره الغربي المستهدف وأوصح أن هذا من المفترض أنه أهون الشرين بالنظر إلى البدائل الموضحة فى هذا المقال.

 نعود إلى تغير موقف فرنسا فيما يتعلق بقرارها الانسحاب نهائيا من النيجر. لقد أيدت باريس بقوة في يوليو ٢٠٢٣ بقاء فرنسا هناك من أجل تحدي المجلس العسكري.

ومن المؤكد أن هذه النكسة تجد تفسيرها في ضوء الاتفاق الذي أبرمته السلطات العسكرية المؤقتة مع الولايات المتحدة، وبالتالي إجبار فرنسا عمليا على المغادرة.

ولو كانت فرنسا تتخيل ولو للحظة واحدة أن هذه الخيانة يمكن أن تتحقق، لكان من الممكن أن تختار المغادرة بشروطها في وقت سابق من صيف عام ٢٠٢٣.

وسنفهم أن هذه التصرفات تستحق الاهتمام باعتبارها الخيانة الأمريكية الثانية لفرنسا بعد خيانة AUKUS.

أوليفييه دوزون: مستشار قانونى للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والبنك الدولى. من أهم مؤلفاته: «القرصنة البحرية اليوم»، و«ماذا لو كانت أوراسيا تمثل الحدود الجديدة؟» و«الهند تواجه مصيرها».. يتناول فى مقاله، ما أقدمت عليه واشنطن فى إطار سعيها للإحلال محل فرنسا فى النيجر، وهو ما يعتبره طعنة فى الظهر.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: المجموعة الاقتصادیة لدول غرب أفریقیا الولایات المتحدة المجلس العسکری فی النیجر فرنسا فی

إقرأ أيضاً:

الرنتاوي يكتب . واشنطن و”الإخوان”…حين يكون ردّ الفعل أقبح من الفعل نفسه

#سواليف

#واشنطن و” #الإخوان “…حين يكون ردّ الفعل أقبح من الفعل نفسه
كتب: #عريب_الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية
1 كانون الأول/ديسمبر 2025
وجّه #الرئيس_الأمريكي وزارتي الخارجية والخزانة، لدراسة إمكانية إدراج ثلاث جماعات تنتمي لـ”الإخوان المسلمين” في قوائمها الرسمية للفصائل والمنظمات والشخصيات #الإرهابية، وخصّ بالذكر الجماعات في #الأردن و #مصر و #لبنان، غافلاً، أو بالأحرى، متغافلاً، عن جماعات أخرى، لا تقل وزناً ولا أهمية، تنتمي لهذه الجماعة أو تتأثر بها، في عدد من الدول العربية والإسلامية، وفي أوساط جالياتها في بلدان المهجر والشتات.
القرار مؤلم لهذه الجماعات بلا شك، إذ يضعها، كوادر وموجودات وأنشطة، في دائرة الاستهداف المالي والملاحقة القانونية، في بلدانها (حين تكون غير محظورة – لبنان مثالاً)، بين أنه لا يقدم ولا يؤخر في الدول التي حظرت الجماعة (الأردن)، أو صنفتها مبكراً، تنظيماً إرهابياً (مصر)…لا يجوز بحال الاستخفاف بهذا المنعطف في علاقة واشنطن بالجماعة/ات، كما لا يجوز “التطيّر” والمبالغة في تقدير حجم هذا الأثر.
النص في الأمر الرئاسي-التنفيذي على جماعات بعينها، يعكس تقديراً أمريكياً بأن الجماعة ليست تنظيماً مركزياً عالمياً، بخلاف “البروباغندا” العربية، التي تصور “الإرشاد العالمي” بوصفه غرفة عمليات مشتركة وهيئة أركان، تتبع لها مختلف الجماعات (يقولون الفروع)، بعد مبايعة “افتراضية” على “السمع والطاعة”…منذ سنوات طوال، رفضنا هذه “البروباغندا”، ورأينا إليها بوصفها جزءاً من حملة “شيطنة”، ركيزتها اتهام الجماعة بالخضوع لـ”أجندات خارجية”.
ولدينا العشرات من الأمثلة والوقائع والمحطات، التي تؤكد فرضيتنا، بأن الجماعة لا تتحرك كتنظيم موحد بقيادة مركزية، إذ تعددت وتباينت مواقف الجماعات حيال أحداث كبرى، من نوع غزو الولايات المتحدة للعراق، حيث رأت فيه جماعات عدة، عدواناً يستدعي المقاومة، بالرغم من انخراط “الجماعة العراقية” في “هندسات ما بعد صدام حسين”، برعاية بول بريمير…وفي الوقت الذي كانت فيه، وفود إخوانية تؤم دمشق، للتضامن مع شعبها وقيادتها زمن بشار الأسد، كانت الجماعة السورية، تنخرط في “كفاح مسلح” ضد النظام….وفي الوقت الذي هتفت فيه جماهير الإخوان وقواعدهم في عواصم عدة، لأنصار الله الحوثيين، ظل التجمع اليمني للإصلاح على مواقفه العدائية ضدهم، وبقي منخرطاً تحت رايات التحالف السعودي-الإماراتي في قتالهم على الأرض…دع عنك الخلافات والانقسامات، وتعدد الفتاوى والاجتهادات حيال المشاركة في البرلمانات والحكومات والانتخابات، في عدد من الدول العربية، أو مقاطعتها.
يشي ذلك، من ضمن ما يشي، بحقيقة أن العلاقة بين الجماعات الإخوانية، التي تستند بالطبع، إلى مشتركات فكرية وعقائدية، إنما هي علاقة “تنسيق وتعاضد وتضامن متبادل”، أكثر من كونها “وشائج وروابط تنظيمية ومالية مركزية”، وهي بهذا المعنى، تشبه إطارات عابرة للحدود، انخرطت فيها أحزاب قومية (المؤتمر القومي العربي)، أو أحزاب شيوعية (مؤتمرات الأحزاب الشيوعية العربية المتعاقبة)، أو أحزاب ديمقراطية – اجتماعية تسعي في تطوير أطر إقليمية تنظم حركتها وتعاونها المشترك.
الفارق الجوهري بين روابط الإخوان العابرة للحدود الوطنية، وروابط الآخرين، تقع في مكان آخر، وأحسب أنها تتصل أولاً؛ بالفارق الجوهري بين حجم ونفوذ الجماعات الإخوانية من جهة وبقية الأطياف والتيارات الفكرية والسياسية العربية من جهة ثانية، وثانياً؛ في المقدرات المالية والاجتماعية والاقتصادية المؤسسية المتفاوتة كثيراً، التي يتوفر عليها الإخوان قياساً بالآخرين وثالثاً؛ في فقدان التيارات الأخرى لطليعة مقاتلة تنتمي لمدارسهم الفكرية والسياسية، كما هو حال الجماعات الإخوانية، التي ترى في حماس، طليعتها المقاتلة ضد الكيان الإسرائيلي، وتقوم بدورها أصالة عن نفسها ونيابة عنهم، إلا في حالات استثنائية، تؤكد هذه القاعدة ولا تنفيها، كما في تجربة قوات “فجر” التابعة للجماعة الإسلامية في لبنان التي أرادت أن تشارك بقسطها من الدم في ساحة النصرة والإسناد.
صحيح أن جماعات إخوانية، انخرطت، وبعضها ما زال منخرطاً، في “كفاح مسلح” ضد خصوم الداخل في عدد من البلدان العربية، لكن حماس وحدها، هي من ينخرط في صراع، بل وتقود صراعاً ضد العدو القومي والديني للأمتين العربية والإسلامية (أقله من منظور الخطاب الإسلامي)، وتلكم ميزة لحماس، أكسبتها دوراً قيادياً – أيقونياً، لدى الجماعات، وجعلت من دعمها وإسنادها شرفاً يدّعيه بعض إخوتها من الجماعات الأخرى، فيما بعضها الآخر، يستنكف عن ادعائه.
المرسوم الرئاسي
وبالعودة إلى المرسوم التنفيذي الأمريكي، قلنا إن تنصيصه على إخوان الأردن ومصر ولبنان، ينطلق من هذا الفهم لديناميات العلاقة بين أطراف الجماعة، ويستبطن نفياً لخطاب البروباغندا العربية، أما عند تعداده للأسباب الموجبة لهذا القرار، فيتعين أن نرى جملة منها، من بينها:
أولاً؛ أنه أورد في حيثياته قيام الجماعات الثلاثة، التي ليس صدفة أنها تنتمي إلى مجموعة “دول الطوق”، بتقديم دعم وإسناد، مادي ومعنوي، عسكري وسياسي، تعبوي وتحريضي، لصالح حركة حماس…الجماعة الإسلامية انخرطت في حرب الإسناد التي أطلقها وقادها حزب الله نصرة لغزة، وإخوان الأردن، قادوا تحركاَ شعبياً كثيفاً ومستمراً إسناداً لغزة، وجمعوا الأموال والتبرعات، فيما الجماعة الأم، في مصر، لم تقف ساكنة بدورها عن فعل المناصرة والإسناد والتعبئة والتحريض.
ثانياً؛ أن المرسوم، تجاهل أدواراً مماثلة، قامت بها جماعات إخوانية، أو “مُستلّة” من الإخوان، نصرة لغزة وحماس، لكن المرسوم تجاهلها لاعتبارات سياسية غير خافية على أحد، أهمها أن واشنطن لا تريد أن تطلق النار على قدميها، فتصاب دبلوماسيتها بـ”الكساح”، وثمة حسابات ومصالح أمريكية، مع هذه الجماعات، وأحياناً الحكومات المتعاطفة معها، أو القريبة منها، لا تريد إدارة ترامب أن تخسرها أو أن تقامر بها، وإلا لكانت فرضت عقوبات على حواضن الجماعات الإخوانية العربية والإقليمية المعروفة.
ثالثاً؛ أن واشنطن، وهي تخرج مرسومها الرئاسي للعلن، كانت تدرك أن الجماعة الأردنية، محظورة في الأردن، وقد جرت أوسع عمليات مصادرة مؤسساتها وبنيتها التعليمية وأذرعتها المالية والاجتماعية والتربوية والخدمية، والمسألة لم تبدأ بالقرار القضائي بحلها، والقرار الإجرائي بترجمته، بل سبقت ذلك، منذ أن بسطت الحكومة سيطرتها على جمعية المركز الإسلامي…والجماعة المصرية، محظورة منذ “ثورة يونيو 2013″، ومصنفة “إرهابية”، وقادتها في المنافي والسجون، وأول رئيس مصري مدني منتخب من بين صفوفها، مات في محبسه، فما الذي سيضيفه المرسوم الرئاسي، سوى ملاحقة بين مؤسسات وشخصيات الجماعتين في الخارج، والأهم، إن إدراج الجماعتين الأردنية والمصرية، في قوائم الإرهاب، لن يستحدث أية مشكلة من أي نوع، مع حكومتي البلدين.
رابعاً؛ أن إدراج الجماعة الإسلامية (لبنان) في المرسوم، برغم أنها تاريخياً ليست فاعلاً مؤثراً ونافذاً في المشهد اللبناني، إنما هو “عقاب بأثر رجعي” للجماعة التي تجرأت على الانخراط في الحرب مع إسرائيل، ودفعت في سياق “الإسناد” و”أولي البأس”، أثماناً فادحة من قادتها ومؤسساتها وكوادرها…هنا يبرز العامل الإسرائيلي على أوقح وجه، وهنا يندرج الهجوم على الجماعة بالهجوم على حزب الله وسلاحه، وهنا رسالة ضغط إضافية على الرئاسات اللبنانية للإسرائيل في ترجمة قرار”حصرية السلاح” و”تأميم قرار الحرب والسلم”.
أبعد من الدول الثلاث والجماعات الثلاث
المرسوم الرئاسي المصمم أساساً لتحصين إسرائيل وخدمتها مصالحها وتعزيز أمنها، أُريد به أن يكون إنذاراً وتحذيراً لعدد آخر من الدول والجماعات، في الحلقات الأبعد من “الطوق”، سيما تلك التي انتهجت طريقاً احتوائياً للجماعات الإسلامية، كما استبطن العديد من “جوائز الترضية”، لحكومات وأنظمة لطالما ناصبت الإسلاميين، أشد العداء، وتكشفت عن استعدادات مذهلة للمقامرة بمصائر دول وأوطان وشعوب ومجتمعات، على مذبح هذا العداء كما في التجربة السودانية الراهنة، وأحياناً للتعاون مع الكيان الإسرائيلي، وميليشيات عميلة تابعة له، من أجل الخلاص من حماس والمقاومة، كما في التجربة الفلسطينية الراهنة.
وإذا كانت مشاعر الحفاوة والاحتفاء بالمرسوم الأمريكي، قد فاضت على شاشات فضائيات عربية، “هللت وكبرت” للقرار الأمريكي، وذهبت بعيداً في شرح مراميه وتداعياته، إلا أن الدول المستهدفة برسائل التهديد والوعيد تجهد في “إنكار” أنها المعنية بهذه الرسائل، مع أنها من دون ريب، تجهد أيضاً في الاحتفاظ بمسافة تفصلها عن الإخوان والإسلام السياسي عموماً.
على أن ردة الفعل الأغرب (الأوقح) إنما صدرت عن أوساط فلسطينية، مقربة من السلطة، لقد احتفت هذه الأوساط بالقرار، رهاناً منها، أنه يصب القمح في غير طاحونة حماس، وأنه جاء مصداقاً لمواقفهم المعادية من المقاومة وداعميها، من قوى شعبية، وحكومات على قلة عددها.
نسي هؤلاء أو تناسوا، أن ثمة نصف دزينة على الأقل، من الفصائل الفلسطينية، ما زالت مدرجة على اللائحة ذاتها، التي يراد لها أن تستضيف ثلاث جماعات إخوانية، من بينها فصائل مؤسسة في منظمة التجرير الفلسطينية، كالجبهتين الشعبين والديمقراطية، وجبهة التحرير الفلسطينية، والقيادة العامة، وكتائب شهداء الأقصى التي انبثقت عن حركة فتح، ولطالما عُدّت ذراعاً عسكرياً لها.
نسي هؤلاء أو تناسوا، أن فتح ومنظمة التحرير، وإن كانتا غير مدرجتين على قوائم الإرهاب، إلا أنهما سبق وأن كانتا هدفاً لقوانين مكافحة الإرهاب طيلة سبعينات القرن الفائت وثمانيناته، وأنهما إلى جانب السلطة، ما زالتا مستهدفتان بقانون تايلور فورس (2018) الذي يفرض قيوداً مشددة في قضايا التمويل والدعم المالي المباشر، فلماذا الحفاوة فيما هذه الأطراف، شربت وما تزال تشرب، بهذا القدر أو ذاك، من الكأس نفسه؟
نسي هؤلاء أو تناسوا، أن اللائحة الأمريكية للإرهاب، ومنذ أن جرى تصنيفها واعتمادها من الخارجية في العام 1997، تحولت مع مرور الزمن، إلى “محطة ترانزيت”، تدخلها قوى وفصائل وتخرج منها، وفقاً لتقلبات السياسة الأمريكية واحتياجاتها، وأنها لم تمنع واشنطن، ولا البيت الأبيض زمن بايدن، من تسليم أفغانستان لطالبان على طبق من فضة، وأنها في عهد دونالد ترامب، لم تمانع في تسليم سوريا إلى هيئة تحرير الشام، وأن تفتح أبواب المكتب البيضاوي أمام أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني، وحتى قبل إزالة المنشور الذي يرصد عشرة ملايين دولار ثمناً لرأسه.
نسي هؤلاء أو تناسوا، أن أنصار الله الحوثيين، سجلوا “سابقة” من حيث دخول اللائحة والخروج منها والعودة إليها، وأن ذلك لم يمنع إدارة ترامب، التي أعادت تسميتهم منظمة إرهابية، من إبرام اتفاق معها، لتحييد السفن الأمريكيين العابرة لباب المندب والبحر الأحمر، حتى مع بقاء السفن الإسرائيلية وتلك المتجهة إلى إيلات، عرضة للاستهداف، ما حدا بإسرائيليين للقول، أن واشنطن باعتهم للحوثي عند بروز إرهاصات أول صفقة من نوعها.
أحد المتذاكين، من معسكر الشامتين بالإخوان، واستتباعاً حماس، من المحسوبين على رام الله، كتب مطولة يشرح فيها مغزى إدراج الجماعات الثلاثة على لوائح الإرهاب (قبل إدراجهم بالطبع)، والامتناع عن إدراج حماس على اللائحة ذاته، نسي هذا المتذاكي، أن حماس مدرجة منذ العام 1997 على لوائح الإرهاب الأمريكية، وذهب بالتحليل إلى حد القول، أن استثناء حماس، إنما يستهدف إدامة الانقسام، وتعريض السلطة الوطنية للتهميش والأكلان.
نسي هؤلاء أو تناسوا، إن استقرار حماس في قائمة الإرهاب الأمريكية، لما يقرب من ثلاثة عقود، وقبلها استهدافها بقوانين مكافحة الإرهاب الأمريكية أيضاً، لم يمنع واشنطن من التواصل مع الحركة، وإجراء المحادثات رفيقة المستوى بين إدارة ترامب وقيادة حماس، وأن “مسار الدوحة” الذي أنجز اتفاقاً بين طالبان وواشنطن، ومسار إسطنبول الذي أنجز اتفاقاً بين الشرع وواشنطن، قد يفضيان، إلى شق مسار ثالث، تسير عليه حماس هذه المرة، لتلاقي واشنطن في نقطة ما على الطريق.
والخلاصة، أننا قد نمضي قدر ما نريد في هجاء الفعل الأمريكي القبيح، لكن ردود أفعال البعض الاحتفالية، وأحياناً الغبية، على القرار، جاءت أقبح منه بكثير، فالمرسوم وإن كان يثير بعض المتاعب للجماعة والجماعات المستهدفة، بيد أنه هيهات أن ينجح في استئصال شأفة هذه الحركات والجماعات، إن لم نقل، بأن تأثيرات عكسية للمرسوم، قد تصب القمح صافياً في طاحونتها.

مقالات مشابهة

  • صنعاء: العدو الإسرائيلي يعطل المرحلة الثانية من اتفاق غزة
  • قطر: نعمل على تثبيت هدنة غزة والتقدم نحو المرحلة الثانية من الاتفاق
  • واشنطن تلغي رسومها الجمركية على الأدوية البريطانية.. تفاصيل الاتفاق
  • هل تغادر أميركا العراق؟ للقصة بقية يرصد سيناريوهات الانسحاب المزمع
  • ماكرون يعلق على زيارة زيلينسكي إلى باريس
  • الرنتاوي يكتب . واشنطن و”الإخوان”…حين يكون ردّ الفعل أقبح من الفعل نفسه
  • رئيسا الشاباك والمخابرات المصرية يبحثان ملف غزة والمرحلة الثانية
  • النيجر تطرح مخزونها من اليورانيوم للبيع وتتحدى فرنسا
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: البرهان يستخدم تكتيكاً جديداً
  • في يوم التضامن مع فلسطين.. هتافات تكسر صمت باريس