في الثعالب والدجاج.. الأوليغارشية والقوة العالمية في مجلس الأمن.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 9th, December 2023 GMT
ما زالت صورة كولن باول يتحدث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق في 2003 تقبّح وجه الإدارة الأمريكية، وحتى لا يحتكر الإدارة "الجمهورية" المشهد، نرى اليوم صورة بلينكن وبايدن (الديمقراطيان!!) يتحدثان عن رؤوس أربعين طفلا مقطوعة، في فوتوشوب تمت فبركته بإتقان من منظمة "زاكا" وشركائها، لتبقى هذه الصورة تقبح وجه الإدارة الأمريكية بعد عشرين عاما.
من وجهة نظري الشخصية، ومن وجهة نظر التحليل النفسي أيضا، ليست هذه الصور المفبركة هي التي حددت موقف الإدارة الأمريكية من الحرب على غزة، ولا أظن هذا الفيلم يرتقي حتى إلى مستوى دغدغة مشاعر مسؤولين لا مشاعر عندهم أساسا، في بلد اعتبرت إداراته المتعاقبة منذ بداية القرن، أن الحرب جزء أساسي من استراتيجية البقاء على رأس نظام عالمي سقطت أسنانه وشاب شعره وفقد أهم أركان المناعة الذاتية، التي نصبته سيدا للعالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومة حلف وارسو.
وهو يرى في إسرائيل، ولو كان على رأسها نتنياهو وبن غفير، آخر القواعد الاستيطانية الاستعمارية في شرقي المتوسط، وكما قال أكثر من مسؤول صهيوني أمريكي: "عندما تخلينا عن نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا تحّول هذا البلد إلى قيادة مواجهة نفوذنا في القارة الإفريقية كلها"... قالها صهيوني فرنسي أيضا بطريقة أخرى ووقاحة مشابهة: "ما تسمونه نزع الاستعمار أعاد الأقدام السوداء لفرنسا ومعهم ملايين من المهاجرين المغاربة وجعلنا نستجدي السعودية وقطر بل حتى أذربيجان النفط والغاز، فرنسا حتى عام 1960 كانت دولة منتجة للنفط"...
إنه الحنين المفتقد لإدارة التوحش الذي يغذي التيارات الشعبوية على اختلافها، ويضع الناخب الأمريكي بعد أقل من عام من جديد، أمام الاختيار بين الكوليرا والطاعون، أي الغياب الكامل للأفق..
أرسلنا الطبعة العربية لكتاب المفكر والحقوقي الأمريكي جيمس بول إلى المطبعة قبل ثلاثة أيام من المشهد الدرامي لجلسة مجلس الأمن في الثامن من كانون أول / ديسمبر 2023، وتابعت مباشرة نقاشات المجلس الذي التئم لقيام السيد الأمين العام غوتيرس، لأول مرة منذ توليه منصبه، بمواجهة مفتوحة مع السياسة الأمريكية، باستعمال مادة تسمح له بتقدير خطورة المذابح اليومية بحق الفلسطينيين باعتبارها تشكل خطورة على السلم والأمن العالميين.
لم تستطع الثلاثية المعروفة باسم P3 (أي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا) أن تبقى على تماسكها، فرنسا أيدت القرار، بريطانيا امتنعت عن التصويت، أما نائب المندوبة الأمريكية فرفع سلاح الفيتو في وجه شبه إجماع عالمي. بعد هذا القرار، ووصول مئتي طائرة دعم بالمؤن العسكرية وأسطول مقابل شاطئ غزة ومليارات الدولارات العاجلة وخبراء يشاركون غرفة الحرب الإسرائيلية القرار، هل من المجحف أو التجني الحديث عن "الحرب الإسرائيلية ـ الأمريكية على قطاع غزة"؟
كان جيمس يول قد رأى ذلك منذ الحرب اليوغسلافية، ثم في 2003 حين حرر كتابا تُرجم إلى عدة لغات بما فيها العربية: "الحرب والاحتلال في العراق"، ورصده عبر أهم كتاب نقدي لمجلس الأمن في كتاب: "في الثعالب والدجاج: الأوليغارشية والقوة العالمية في مجلس الأمن" الذي صدر في 2017.
تأخرت الترجمة العربية للكتاب بسبب جائحة كورونا وآثارها. ثم ذكّرتنا الحرب في أوكرانيا بأهمية الكتاب التي لا تتناقص، كدراسة للصراع العالمي من أجل الهيمنة والثمن الباهظ الذي يدفعه الناس العاديون.
حددنا تاريخ إصدار هذه الطبعة في 12 أكتوبر 2023. وبعد السابع من أكتوبر، قررنا تأجيل الطباعة من جديد. حيث كثفت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة من جديد، بتفاصيل غنية، الضعف البنيوي لمجلس الأمن وكشفت حجم الافتراءات التي تحمي سمعته عادة. وكما كانت الحال في حرب العراق والعديد من الصراعات الأخرى، كان المجلس مجرد دراما مسرحية تافهة، أمام جريمة إبادة جماعية موصوفة الأركان، سجيناً من قِبَل أقوى أعضائه، عاجزا عن إدانة همجية نظام الأبارتايد الإسرائيلي، أو تأمين الحد الأدنى مما يسميه ميثاق الأمم المتحدة "صون السلام والأمن الدوليين".
خص الكاتب الكبير الطبعة العربية بمقدمة جديدة "ما وراء الثعالب والدجاج" مطولة ومزيدة كتبها خصيصا لقراء العربية.
عند صدور كتاب جيمس أ. بول "في الثعالب والدجاج: الأوليغارشية والقوة العالمية في مجلس الأمن"، طلبتُ منه المشاركة في ندوة نظمها المعهد وحضر إلى جنيف للحديث عنه.
قلت في الندوة يومها، "مجلس الأمن يحمل صفات السلطة التوتاليتارية (الشمولية) بكل تفاصيل تعريف الفيلسوفة حنه أرندت للكلمة". فاعترض سفير دولة دائمة العضوية على ما قلت، فاستشهدت بجملة من الكتاب يقول فيها جيمس بول: "يُنتج المجلس القانون الدولي، ويطبقه، ويحكم على من يتهمه بخرق القانون الدولي. إنه هيئة تشريعية وتنفيذية وقضائية معاً ـ مزيج خطير."، فتدخل بالقول: "وهل تريده أن يتقاسم حل مشكلات مصيرية مع ممثلي دول صغيرة غير قادرة على دفع أجرة مقر بعثتها في نيويورك"! فقلت له: لا تحتاج إجابتك إلى أي تعليق".
جاءت "الحرب على الإرهاب" لتطعن الحركة الحقوقية العالمية خنجرا في الصدر، توقف الحديث عن إصلاح الأمم المتحدة، وألغيت عمليا عشرية المنظمة الدولية "لإعلاء ثقافة اللا عنف والسلام لصالح أطفال العالم (2001-2011)"، وتوقفت الجهود الغنية لتطوير مفهوم "الأمن الإنساني"، وجرت عولمة حالة الطوارئ في "انتصار" للحرب والأمن القومي على الحقوق والعدالة والسلام، انتصار أشد من الهزائم عارا.كنت شخصيا مع جيمس بول في العقد الأخير من القرن الماضي في صلب تحرك مدني دولي لإصلاح الأمم المتحدة. وأذكر أنه في مناسبة الذكرى الخمسين لولادة الأمم المتحدة، كنت يومئذ نائبا لرئيس الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان وكان جيمس بول مديرا لأول مكتب للفدرالية وراء الأطلسي، طلبتُ أن يتضمن بيان الفدرالية حديثا واضحا حول العطب وهيمنة مجلس الأمن وضرورة الإصلاح بداية من إلغاء ما يسمى بحق النقض "الفيتو".
وقف المدير التنفيذي، وهو غير منتخب، وليس له حق التصويت، بشدة ضد اقتراحي، في حين انضم لي غير الفرنسيين في القيادة. فنظر المدير التنفيذي إلى رئيس الفدرالية "الفرنسي" وقال له: سيخلق لنا هذه الموضوع مشكلة كبيرة، لا تسألني بعدها لماذا أوقف الاتحاد الأوربي مساعداته لنا؟ كان الموقف الفرنسي الرسمي ضد أي إصلاح يمس مجلس الأمن. ففرنسا وبريطانيا مجتمعتين لا تمثلان أكثر من 2% من سكان كوكبنا، ولهما 40% من القرار في مجلس الأمن.
نظر إليّ رئيس الفدرالية قائلا: يمكنك أن تكتب ما تشاء حول إصلاح مجلس الأمن والأمم المتحدة لكن باسمك الشخصي. فضحكت وبقيت في الاجتماع صامتا دون أية مشاركة حتى في الفقرات الأخرى للبيان.
جاءت "الحرب على الإرهاب" لتطعن الحركة الحقوقية العالمية خنجرا في الصدر، توقف الحديث عن إصلاح الأمم المتحدة، وألغيت عمليا عشرية المنظمة الدولية "لإعلاء ثقافة اللا عنف والسلام لصالح أطفال العالم (2001-2011)"، وتوقفت الجهود الغنية لتطوير مفهوم "الأمن الإنساني"، وجرت عولمة حالة الطوارئ في "انتصار" للحرب والأمن القومي على الحقوق والعدالة والسلام، انتصار أشد من الهزائم عارا.
كان الحصار على الحركة كبيرا ووسائل الضغط والإكراه ثقيلة، إلا أنه لم يتمكن من "ديناصورات" المقاومة المدنية على الصعيد العالمي، ومن هؤلاء وفي مقدمتهم الأمريكي جيمس أ. بول الذي حرص على إتمام ما بدأ، من تفكيك لسلطات مجلس الأمن التعسفية، ودكتاتوريته المعلنة على رؤوس الأشهاد، أو كما كان يقول الفقيد، سيرجيو ديميلو، الدكتاتورية الوحيدة التي تدافع عنها الديمقراطيات الغربية باعتبارهم لها "دكتاتورية الضرورة".
على منهج "ما قل ودل" وفي قرابة المئة وخمسين صفحة، يستعرض جيمس أكثر من 75 عاما من تاريخ مجلس الأمن. ومن أقدر منه على ذلك، وقد استقر أكثر من عشر سنوات في شقة مقابلة لمقر الأمم المتحدة، باحثا ومناضلا وصوتا لأكثر من 32 منظمة دولية (منها اللجنة العربية لحقوق الإنسان والمعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان)، في أهم المعارك الحقوقية في الثلاثين عاما الأخيرة. ورغم الحصار الإعلامي الغربي، تُرجمت أهم تقاريره وكتبه للغات عديدة. تحدث عن "سوريا بدون قناع"، عن النتائج الكارثية للعقوبات، عن "الحرب والاحتلال في العراق"، وحرصنا على نقل أعماله إلى العربية.
في هذا الكتاب، الصادر عن المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان ومنشورات زمكان، يكشف جيمس بول خفايا الغرفة السوداء لمجلس الأمن، بمعلومات موثقة يصعب الرد عليها من محامي المجلس. يعدد بشكل موثق إخفاقاته الكبيرة وأثرها على السلم والأمن الدوليين. ويبرز في الوقت نفسه، أهمية وجود هيئة دولية تعاونية لبناء العدالة والسلام والأمن على الصعيد العالمي.
لأهمية هذا العمل، وفي وضع دولي جعل من الصعب على الضحايا شراء قوتهم اليومي، فكيف بهم في شراء كتاب، قرر المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان تزويد كل من يطلب نسخة إلكترونية مجانية وقررت منشورات زمكان المسؤولة عن الطباعة الورقية بيع الكتاب بتكاليف الطباعة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب مجلس الأمن كتاب امريكا مجلس الأمن كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فی مجلس الأمن أکثر من
إقرأ أيضاً:
أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد
يعيش العالم أزمات اقتصادية طاحنة: دول ثرية وآخرى يقتلها الجوع والفقر، دول تتحسن مؤشرات أدائها الاقتصادي وباتت تشكل قوة صاعدة على المستوى السياسي الدولي، ودول يهوي بها قادتها إلى مهاوي التبعية والتخلف والتفريط في المقدرات. لذلك، يكتسب الكتاب الذي بين أيدينا اليوم ، "لماذا نزداد فقرا؟ دليل واقعي للاقتصاد وكيفية إصلاحه"، أهمية خاصة حيث ينكأ الجراح، ويجيب على تساؤلات مهمة، ويرسم طريق الحل. ومؤلفه هو عالم الاقتصاد البريطاني كاهال موران المتخصص في علم الاقتصاد السلوكي. والكتاب صدر عن دار هابر كولين للنشر بنيويورك في 2025.
عرض موجز للكتاب
لطالما شكّلت الأزمات الاقتصادية مسار حياة الشعوب. ورغم كارثية الركود، فإنه يصبح هو الوقت مناسب لدراسة الاقتصاد. ولكن الأزمة الاقتصادية التي أصابت العالم بين عامي 2007 و2009، أثبتت أن السنوات الخمس والعشرون اللاحقة كانت فترة مثالية لدراسة الاقتصاد. إذ كان ذلك الركود هو الأكبر منذ سبعين عاماً، وشهد ارتفاعاً حاداً في معدلات البطالة، وتراجعاً في مستويات المعيشة، وإغلاق عدد لا يحصى من الشركات. ووجد كثيرون حول العالم أن حصولهم على الضروريات الأساسية كالغذاء بات مهدداً. لكن حتى تلك الأحداث الصعبة بدت ضئيلة مقارنة بما سيأتي.
نهاية التاريخ؟
منذ التسعينيات، سادت عقلية "نهاية التاريخ". فقد انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الدول الغربية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية. وكان يُعتقد أن هذا هو النموذج لجميع الدول الذي يجب أن يكون وجهتها النهائية. وطوال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدت المملكة المتحدة وغيرها من الدول في وضع جيد بفضل "النهج الثالث": رأسمالية معها شبكة أمان تحمي من قسوة النظام. مما يعني إمكانية الإصلاح التدريجي بدلًا من التخلي عن كل شيء والبدء من جديد. وفي بعض الحالات، مع نمو الاقتصاد، كان خروج الدول من دائرة الفقر مسألة وقت فقط لتنضم إلى الدول الغنية. فارتفاع المد يرفع جميع السفن.
الفقاعة العقارية
كشفت الأزمة 2007-2009 عن مشاكل عميقة في الاقتصاد كانت مخفية مؤقتًا وراء طفرة غير مستدامة. وطوال العقد الأول من الألفية الجديدة، منحت البنوك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قروضًا عقارية لأشخاص غير قادرين على السداد، مما أدى إلى تضخم فقاعة في أسعار المنازل. رغم أن هذا وحده كان كافيًا لإحداث ركود اقتصادي، إلا أن الأمر تفاقم بسبب شبكة الأدوات المالية المعقدة التي أنشأتها البنوك حول العالم استنادًا إلى هذه الرهونات العقارية.
منذ التسعينيات، سادت عقلية "نهاية التاريخ". فقد انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الدول الغربية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية. وكان يُعتقد أن هذا هو النموذج لجميع الدول الذي يجب أن يكون وجهتها النهائية. وطوال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدت المملكة المتحدة وغيرها من الدول في وضع جيد بفضل "النهج الثالث": رأسمالية معها شبكة أمان تحمي من قسوة النظام. مما يعني إمكانية الإصلاح التدريجي بدلًا من التخلي عن كل شيء والبدء من جديد. وفي بعض الحالات، مع نمو الاقتصاد، كان خروج الدول من دائرة الفقر مسألة وقت فقط لتنضم إلى الدول الغنية. فارتفاع المد يرفع جميع السفن.وعندما انفجرت الفقاعة، امتدت آثارها إلى النظام المالي بأكمله، وشعرت المؤسسات المالية الكبرى بانهيارها. ومن الأمثلة على ذلك، إفلاس بنك ليمان براذرز في بداية الأزمة، وهو ما كان كارثيًا لدرجة أن الخيار الوحيد المتاح أمام الحكومات كان ضخ الأموال العامة في البنوك لإنقاذها.
السياسات التقشفية وآثارها في الدول الغربية
في أعقاب الأزمة المالية، انتهجت العديد من الحكومات الغربية سياسات تقشفية لتحقيق التوازن في الميزانية العامة. وكان هذا تشخيصًا خاطئًا وتوجيهًا خاطئًا: فقد أدت الأزمة إلى انهيار الإيرادات الضريبية وارتفاع إعانات البطالة المصاحبة لأي ركود اقتصادي، وهو ما يفسر اختلال الميزانية. ولم تحقق سياسة التقشف في المملكة المتحدة هدفها المعلن المتمثل في تحقيق التوازن في الميزانية على وعد تحقيق فائض بحلول 2015، ولكن مع حلول ذلك العام، كانت الحكومة لا نزال تقترض 4,4% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تسفر التخفيضات فقط عن توقف النمو بين طلاب المدارس، بل أدت أيضًا إلى انهيار سقف مدرسة في مقاطعة كينت. ولا تزال آثار التقشف محسوسة، حيث علقت المملكة المتحدة في "حلقة مفرغة"، إذ يعني ضعف الأداء الاقتصادي انخفاض الموارد المالية المتاحة، مما يعني مزيدًا من التخفيضات في الخدمات العامة.
أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو
شهدت منطقة اليورو أزمة ديون سيادية خاصة بها في نفس الفترة تقريبًا، في دول البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا، التي كانت تعاني جميعها من انخفاض النمو وارتفاع الديون. ونظرًا للاختلالات الاقتصادية في جميع أنحاء القارة، فإن استخدام عملة واحدة لم يمنح هذه الدول مجالًا كبيرًا للمناورة بعد انهيار 2007-2009. كان اليورو بمثابة قيد، يمنع كل دولة من اتباع سياساتها الخاصة. ولذلك، رُئي أن إجراءات تقشفية أشد قسوة من تلك المطبقة في المملكة المتحدة ضرورية. وكانت النتيجة تدهورًا حادًا في الخدمات العامة، وانخفاضًا في مستويات المعيشة، واضطرابات في اليونان. وعندما تم تقويض شبكة الأمان الاجتماعي، ارتفعت ديونهم على الفور بدلًا من أن تنخفض على عكس التوقعات. وكان على أثينا أن تحترق حرفيًا لإثبات أن التقشف كان مأساويًا وغير فعال. وفي النهاية، اعترفت السلطات بأن هذه الإجراءات لم تكن مجدية، مما استدعى مزيدًا من المرونة. على الرغم من أن بعض هذه الدول وأبرزها إسبانيا - قد تحسنت أوضاعها كثيراً في الآونة الأخيرة، إلا أن آثار أزمة منطقة اليورو ستستمر لعقود.
أفول العصر الذهبي للاقتصاديات الغربية
تفاقمت هذه الكوارث بسبب تراجع نسبي شهدته العديد من المدن والبلدات في الغرب منذ "العصر الذهبي" (1945-1973)، حيث اختفت الصناعة خلال ثمانينيات القرن الماضي، وتراجعت اقتصاداتها المحلية. عانت ريكسهام في المملكة المتحدة من اختفاء مناجم الفحم، وعانت ديترويت من انحسار صناعة السيارات الشهيرة فيها، وشهد شمال فرنسا انتقال صناعة الملابس إلى مناطق أخرى. ولم تقتصر هذه المشكلة على العالم الغني فحسب، بل تحولت البرازيل بأكملها من تصدير الآلات الصناعية إلى تصدير سلع أساسية كالحديد والنفط. وشهدت الهند نموها الرئيسي في أشكال العمل غير المستقرة: وظائف قطاع الخدمات منخفضة الأجر. وبينما قابلت هذه الاتجاهات نمو ملحوظ في أماكن أخرى، تجسد بشكل خاص في صعود الصين، إلا أنها تركت أثراً بالغاً في مناطق أخرى مع نضوب الفرص ومعاناة المجتمعات.
تحولات في المشهد السياسي
في 2016، رفعت المجتمعات صوتها. ففي المملكة المتحدة، صوّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي، أكبر تكتل تجاري في العالم؛ وفي الولايات المتحدة، انتخبوا دونالد ترامب، الذي وعد بوضع أمريكا في المقام الأول؛ وبعد عامين، انتخب البرازيليون جاير بولسونارو المعروف بـ"ترامب الاستوائي". وشعرت دول أوروبية أخرى بقلق مماثل، مع انتخاب فيكتور أوربان رئيسًا لجمهورية المجر عام 2010، واستمرار صعود اليمين المتطرف في أوروبا حتى يومنا هذا، بما في ذلك دول تُعتبر نمطيًا تقدمية مثل السويد وهولندا. وفي 2024، اتجهت بريطانيا وفرنسا نحو اليسار؛ لكن اليمين المتطرف لا يزال حاضرًا بقوة فيهما.
يعيش الناس في فقرٍ أكبر بكثير مما ينبغي أن يكونوا عليه. وقد أدت ديناميكيات الاقتصاد العالمي المختلة إلى أوضاعٍ أوضاعٌ كان من الممكن تحسينها جذريًا لو كان اقتصادنا مُصممًا بشكلٍ أفضل. فاقتصادنا العالمي غير المتكافئ والمختل قد جعل حياة الفرد العادي أسوأ دون أي مبرر. ومع ازدياد صعوبة الحياة، تتبدد التوقعات بشأن التقدم، ولذلك يأتي السؤال: لماذا نزداد فقراً؟!
هذه التحولات السياسية، التي شكلت صدمة للنخب، كانت تداعيات سياسية لاقتصادات فاشلة. ورغم أن لكل حالة تعقيداتها الخاصة، إلا أن جميعها تُشير بوضوح إلى تحول عن العولمة لإعطاء الأولوية لمواطني الوطن. وانتهج جو بايدن ودونالد ترامب، ورغم اختلافاتهما الواضحة، سياساتٍ تُعطي الأولوية لأمريكا، ومن أبرزها فرض تعريفات جمركية على البضائع الصينية. ويبدو أن عهد العولمة والتجارة الحرة قد ولّى.
وجه واحد من أوجه عدم المساواة
لم يكن تراجع المراكز الصناعية القديمة سوى وجهٍ واحدٍ من أوجه تفاقم عدم المساواة. فقد ازداد عدد المليارديرات في العالم عشرين ضعفًا بين عامي ١٩٨٧ و٢٠٢٤، وتضاعفت ثرواتهم الإجمالية أربعين ضعفًا، من ٢٩٥ مليار دولار إلى ١٤.٢ تريليون دولار. وسمحت هذه الثروة لقلةٍ مختارةٍ بالسيطرة على الاقتصاد: فقد تمكّن إيلون ماسك، أغنى رجلٍ في العالم آنذاك، من شراء أهم منصة تواصل اجتماعي في العالم، على ما يبدو بدافعٍ من نزوة، وإدارتها وفقًا لمصالحه ومعتقداته.
والحقيقة المُرّة هي أن عدم المساواة والفقر كانا سمتين مُلازمتين للعالم، فبأي مقياس معقول، يعيش معظم سكان العالم في فقر؟!! حفنةٌ من الدول فقط، معظمها في جنوب شرق آسيا، استطاعت أن تُصبح "غنية" خلال العقود القليلة الماضية. العديد من دول أمريكا اللاتينية، رغم أنها شهدت بعض النمو الإجمالي، تبدو عالقةً في مرحلة متوسطة من التنمية الاقتصادية، ولا تزال تضم نسبةً كبيرةً من فقر العالم. ولا تزال دول في أفريقيا تُعاني من سوء التغذية المُنتشر. وكل ذلك يعني فشلًا ذريعًا لاقتصادنا العالمي.
أزمة دائمة
قال المؤرخ الإنجليزي جي. إم. يونغ ذات مرة إنه لفهم شخص ما، عليك أن تنظر إلى ما كان يحدث في العالم. لقد دفعت تجربة الأزمة المالية المبكرة الكاتب إلى دراسة الاقتصاد في الجامعة، وشكل مع طلابه حيث مجموعة أطلقوا عليها اسم "جمعية اقتصاديات ما بعد الأزمة"، والتي تساءلت علنًا عن سبب عدم تدريس أي شيء في جامعتهم عن الأزمة التي شكلت حياة الناس. وأصدر الكاتب مع مجموعته تقريرًا عن حالة التعليم في جامعة مانشستر عام 2014، اتهموا فيه نظامهم التعليمي يركز بشكل مفرط على النظرية الرياضية المجردة، المنفصلة عن الواقع، والعاجزة عن تزويد الطلاب بمهارات التفكير النقدي التي يتوقعونها في الجامعة.
خارج قاعات الدراسة، ألقوا بعض المؤلفين باللوم في الأزمة على المصرفيين والاقتصاديين أنفسهم. كان هذا اللوم رغم أنه مبالغ فيه جزئيًا، إلا أنه مرتبط بلصورة العامة التي يُحب علم الاقتصاد إظهارها بمظهر العارف بكل شيء، أو كما قال كتاب تحرير الاقتصاديات، الصادر عام 2006، إن علم الاقتصاد قادر على كشف "الجانب الخفي لكل شيء"، ومطبق أفكار الاقتصاديين على الجريمة والمدارس والعنصرية. ولم يُشر الكتاب، ولو تلميحًا بسيطًا، إلى ما كان يجري في القطاع المالي قبيل انهياره.
لقد تغير الكثير منذ ذلك الحين، ولا سيما أن مهنة الاقتصاد قد خضعت لمراجعة شاملة لأوجه قصورها. لكن الحقيقة المُحزنة هي أنه لا تزال دراسة الاقتصاد مُجردة للغاية، وضيقة الأفق، وتُغفل العديد من الأزمات التي نواجهها.
الأسوأ لم يأتِ بعد
مع تقلبات المناخ العالمي، أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة أكثر شيوعًا: الفيضانات والأعاصير ودرجات الحرارة القصوى في كلا الاتجاهين. ومع ارتفاع منسوب مياه البحر، ستشهد مدن ساحلية لا حصر لها فيضانات، وقد تختفي العديد من جزر المحيط الهادئ تمامًا. وستواجه البشرية صعوبات جمة في إنتاج الغذاء، وانتشار الأمراض، والهجرة الجماعية، بل وحتى الحروب. وبطبيعة الحال، سيؤدي كل هذا إلى تكاليف اقتصادية باهظة، تعيق النمو وتعطل سبل العيش في جميع أنحاء العالم.
وعندما اجتاح كوفيد-19 العالم في عام 2020، دخل العالم في عمليات إغلاق غير مسبوقة، أدت إلى توقف نصف اقتصاداته. كان ما يقرب من 93% من العاملين في العالم يعيشون في دول فرضت عمليات الإغلاق. ووصل عدد وفيات إلى الملايين. وقُدرت الخسائر في الناتج الاقتصادي بتريليونات الدولارات. وشهدت شمال أفريقيا والشرق الأوسط ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الفقر حتى قبل الجائحة.
وبمجرد أن خرج العالم من الإغلاق، اعتقد البعض أننا قد نتجه نحو انتعاش اقتصادي قوي، على غرار "العشرينيات الصاخبة" التي أعقبت جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918. إلا أن إعادة تشغيل اقتصادنا العالمي المعقد بشكل متكرر خلق مشاكل أكثر مما كان متوقعًا، حيث تعطلت سلاسل التوريد، وظهرت اختناقات في جميع أنحاء العالم. لقد ظلت هذه الاختناقات في كيفية إنتاج سلعنا وشحنها مخفية لسنوات لأن الأمور بدت وكأنها تسير على ما يرام؛ ولكن ظهرت مواطن الخلل بمجرد تعرضها لاختبار حقيقي. وفي سردية بدأت تتكرر، لم يحصل العمال الذين اعتمدنا عليهم للحفاظ على استمرار هذه الأنظمة على حقهم.
بالنظر إلى الماضي، ندرك أن النظرة إلى نهاية التاريخ تتطلب دائمًا نظرة متفائلة. ولكن اليوم، يُذكّر غزو روسيا لأوكرانيا عام ٢٠٢٢ الغرب بأن عالمنا ليس عالم سلام ووئام. وإن احتمالية نشوب حروب متجددة بين القوى العظمى، بما في ذلك التداعيات النووية، تُثير قلقًا بالغًا، وتعزز هذا القلق بتصاعد "الحرب الباردة الجديدة" بين الولايات المتحدة والصين. وتهدد حرب غزة بتصعيد التوترات في الشرق الأوسط وخارجه.
إن الأزمات المتنوعة على اختلافها قد تثير اليأس؛ لكن هناك أيضًا العديد من الجوانب الإيجابية في العالم الذي نعيش فيه: فقد تحقق تقدم ملحوظ في مجالات الفقر والصحة والتعليم على مستوى العالم. والتغيير دائمًا متعدد الأوجه ومعقد، ويقع على عاتقنا دراسة هذا التعقيد بدقة على أمل الحفاظ على الإيجابيات والقضاء على السلبيات. وهذا يتطلب واقعية، بدلًا من التفاؤل أو التشاؤم.إن الحرب تُزعزع مفاهيم الازدهار، فضلًا عن الأضرار المباشرة والجسيمة التي تُسببها الصراعات نفسها. بالنظر إلى اعتماد الاقتصاد العالمي الكبير على الاستقرار في المناطق المحيطة بروسيا والصين، فإن تداعيات هذه الصراعات ستكون واسعة النطاق. فقد عانت أوروبا من العقوبات المفروضة على روسيا، إذ نفدت إمدادات النفط والغاز التي اعتمدنا عليها لفترة طويلة. وارتفعت أسعار الطاقة عدة مرات في بعض الحالات، مما فاقم ما يُسمى بأزمة غلاء المعيشة. وتُعد أوكرانيا أيضًا من كبار منتجي القمح، وقد ارتفعت أسعار الحبوب فيها أيضًا، وكان التأثير الأشد وطأة على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المجاورة.
من السهل النظر إلى كل أزمة على أنها مُنعزلة؛ ولكننا يجب أن نتبنى عقلية حل المشكلات عبر النظر إلى ترابط مفرداتها ومظاهرها وأسبابها. فمثلاً، يُعدّ تغير المناخ وعدم المساواة قضيتين متلازمتين. ومن الظلم التاريخي الفادح أن الدول التي تُعدّ تاريخياً مسؤولة عن أكبر قدر من الانبعاثات هي الأقل تضرراً من تغير المناخ. وفي المقابل، ستعاني الدول الأشد فقراً، التي لم تُصدر ولن تُصدر نسبة كبيرة من غازات الاحتباس الحراري، أكثر من غيرها. حتى داخل الدولة الواحدة، تُصدر الدول الأغنى انبعاثات أكثر بكثير من الدول الأفقر. فاليخوت الفاخرة، والرحلات الجوية الخاصة، والسلع النادرة، والمنازل المتعددة، ومستويات الاستهلاك المرتفعة عموماً، ليست سوى بعض الأمثلة على كيفية مسؤولية الأغنياء عن الانبعاثات أكثر من الفقراء. ولذلك، يجب على أي حل لتغير المناخ أن يُعالج عدم المساواة بالضرورة.
إن الأزمات المتنوعة على اختلافها قد تثير اليأس؛ لكن هناك أيضًا العديد من الجوانب الإيجابية في العالم الذي نعيش فيه: فقد تحقق تقدم ملحوظ في مجالات الفقر والصحة والتعليم على مستوى العالم. والتغيير دائمًا متعدد الأوجه ومعقد، ويقع على عاتقنا دراسة هذا التعقيد بدقة على أمل الحفاظ على الإيجابيات والقضاء على السلبيات. وهذا يتطلب واقعية، بدلًا من التفاؤل أو التشاؤم.
لماذا نزداد فقرًا؟
يعيش الناس في فقرٍ أكبر بكثير مما ينبغي أن يكونوا عليه. وقد أدت ديناميكيات الاقتصاد العالمي المختلة إلى أوضاعٍ أوضاعٌ كان من الممكن تحسينها جذريًا لو كان اقتصادنا مُصممًا بشكلٍ أفضل. فاقتصادنا العالمي غير المتكافئ والمختل قد جعل حياة الفرد العادي أسوأ دون أي مبرر. ومع ازدياد صعوبة الحياة، تتبدد التوقعات بشأن التقدم، ولذلك يأتي السؤال: لماذا نزداد فقراً؟! والجواب يكمن فيما يلي:
1 ـ اقتصاد غير متكافي: توجد تفاوتات هائلة بين الناس تتجلى بطرقٍ عديدةٍ ومؤذية. ولا يحظى العديد من عمالنا الأساسيين بالتقدير اللائق مقارنةً بمن يؤدون وظائف نعلم يقيناً أنها أقل أهمية. إنه اقتصاد يهيمن فيه الأثرياء والشركات العملاقة على بقية أفراد المجتمع. ويواجه الناس عوائق اقتصادية لا حصر لها بسبب عوامل خارجة عن إرادتهم، كالطبقة الاجتماعية والعرق والجنس. ولا يزال معظم سكان العالم يعيشون في فقر. يمكن معالجة جميع مشاكل الاقتصاد غير المتكافئ بكبح جماح الأغنياء وأصحاب النفوذ، ودعم الفقراء والمهمشين، مع وجود مجال للاختلاف المعقول حول كيفية تحقيق ذلك.
2 ـ الخلل الوظيفي: يبدو أن سوق الإسكان لا يخدم مصالح أحد تقريباً، مما يخلق ظروفاً معيشية غير مقبولة لكثير الناس. إضافة إلى أن النظام النقدي غير مفهوم جيداً، وقد أدى هذا النقص في الشفافية إلى خيارات سياسية خاطئة. ولا تمتلك الدول الأنظمة المناسبة لتوقع التضخم الهائل وإدارته. وأخيرًا، فإن نظامنا التجاري العالمي هشٌّ، مُرهَق، وقائم على الاستغلال، مما يجعله عرضةً للانهيار. هذه المشكلات تؤثر علينا جميعًا، ولذا فإن الحلول أكثر تحديدًا من مجرد إعادة توزيع المال والسلطة. إنها حلولٌ واعدةٌ تعود بالنفع على الجميع، أغنياء وفقراء على حدٍ سواء.
3 ـ سياسات التقشف: تُجسد الرعاية الصحية حقيقةً جوهريةً وهي أن الاقتصاد والأهداف الإنسانية ليسا متعارضين. كثيرًا ما يُرادف مصطلح "الاقتصاد" مصطلح "القسوة" و"اتخاذ القرارات الصعبة"، وكأن ما يُفيد الاقتصاد لا يُمكن أن يُفيد الناس. والحقيقة هي أن خفض الإنفاق على الصحة والمدارس يُعدّ بمثابة إلحاق ضرر اقتصادي جسيم، مع تفاقم معاناة المرضى والأطفال بشكل غير ضروري. فقد أشار أحد التقارير إلى أن سوء الصحة يُكلّف سكان المملكة المتحدة حوالي 2200 جنيه إسترليني من دخلهم السنوي بسبب ترك الوظائف، وتقليص ساعات العمل، وتكاليف الرعاية الصحية.
وللمقارنة، يُمثّل هذا المبلغ حوالي 7% من متوسط الدخل في المملكة المتحدة، وهي زيادة ملحوظة في الأجور. حتى لو كان الهدف هو "اقتصاد قوي يُولّد الإيرادات"، فإن انخفاض الدخل والبطالة يعنيان وظائف متدنية الأجر أو البطالة التامة. كما أن التهاون في الإنفاق على الصحة يُمكن أن يُضاعف التكاليف لاحقًا. ولهذا السبب، فإنه في المملكة المتحدة: كل 200 مليون جنيه إسترليني تُخفض من إنفاق هيئة الخدمات الصحية الوطنية تُكلف مليار جنيه إسترليني لاحقًا. ولا تقتصر هذه الحقائق على الدول الغنية كالمملكة المتحدة، إذ يظلّ الاستثمار في تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية هو السبيل الأمثل للمضيّ قدمًا في كافة الدول غنية أو فقيرة.
4 ـ الأفكار الاقتصادية الخاطئة: تكلف هذه الأفكار ثمنًا باهظًا. وبسبب دخول بعض هذه الأفكار علم الاقتصاد، وبدعمٍ من جهاتٍ سياسية، يسود اعتقادٌ واسعٌ بأنّ الأوقات العصيبة حتمية. وميثال ذلك ما حدث في ٢٠٢٣، عندما زعم الخبير الاقتصادي في بنك إنجلترا، هيو بيل، أنّ على البريطانيين "تقبّل أنّهم أفقر حالًا".
سؤال جوهري
السؤال المحوريّ الذي يطرحه الكتاب هو: هل يُمكّن الهيكل الحاليّ للاقتصاد الناس ليس فقط من البقاء، بل من الازدهار؟
هناك من يعتبر هذا السؤال ضربًا من العبث: فبحسب رأيهم، يُعرَّف علم الاقتصاد غالبًا بأنه دراسة "تخصيص الموارد النادرة"، ما يعني ضمنيًا أنه لا يُمكننا فعل الكثير حيال هذه الندرة المتأصلة، على الأقل في المدى القريب. وبالتالي، فإن الاقتصاد نفسه ليس إلا تعميمًا لعدد لا يُحصى من القرارات الفردية المُرتبطة بمواردها، لذا فإن التدخل في هذه القرارات يعني التدخل في الواقع، وهو ما لا يُؤدي أبدًا إلى نتائج إيجابية. على الرغم من أن هذا رأي متطرف، إلا أن التشاؤم بشأن قدرتنا على تحسين الاقتصاد بشكل ملحوظ منتشر على نطاق واسع. قد يتفق الكثيرون بشكل عام مع أهداف الكتاب ويرغبون في رؤية بعض التغييرات، مثل الإصلاحات المنطقية في التعليم والصحة والإسكان. ومع ذلك، فهم أيضًا مترددون في إحداث تغييرات جذرية، خشية أن نُعرِّض للخطر المكاسب المادية التي حققها العالم على مدى القرون القليلة الماضية.
كلا هذين الرأيين ـ سواءً كان يدعو إلى عدم التدخل أو إلى تدخل محدود في الاقتصاد ـ خاطئان بنفس القدر، بل ويقتربان من الخرافة. يكشف بحث معمق في كيفية عمل الاقتصاد عن شبكة معقدة من الممارسات والقوانين والمؤسسات القوية التي تُشكِّله بطرق مُتعمَّدة وقابلة للتغيير. إن اعتبار هذه المؤسسات القائمة أمراً طبيعياً أو حتمياً أمرٌ لا يُمكن تبريره. بإمكاننا فهم كيفية بنائها وتعلم كيفية تغييرها. تُبيّن أمثلةٌ لا حصر لها عبر التاريخ أنواع التحولات الاقتصادية التي يُمكن تحقيقها والتي تُحسّن حياة الناس دون أن تُشكّل خطراً كبيراً على المزايا التي لا جدال فيها لمجتمعنا الحالي. ليس هناك طريقة أفضل لفهم ذلك من النظر إلى كيفية نشأة الاقتصاد نفسه.