يميناً ما يوصِّفها الكلام
تاريخ النشر: 21st, December 2023 GMT
كما ينساب الماء زلالاً يروي ويحيي، انسابت قصيدة سمو الشيخ نهيان بن زايد آل نهيان، رئيس مجلس أمناء مؤسسة زايد للأعمال الإنسانية والخيرية، لتجد في اللحظة ذاتها طريقها إلى كل قلب، فيشرق بالمحبة والعرفان، ويفيض بالرضا، ويحمد الله أن جعله من أبناء وطنٍ كرَّم الله أهله بأن جعل العطاء لهم طبعاً أصيلاً، والوفاء منهجاً، والخير غاية يتسابقون إليها.
هل تستطيع كلمة واحدة أن تكون بذاتها قصيدة؟ نعم، تستطيع. إذا فتحت عالماً من الدهشة والشغف لا حدّ لثرائه وقدرته على الإلهام. ولقد كانت كلمة "يميناً".. وحدها، وبذاتها، قصيدة. فاليُمْن هو البركة التي ندعو الله أن يسبغها علينا.. واليمين هي اليد التي اختصها الله بالعطاء، حتى جاء في الحديث الشريف أن الله عز وجلّ "كلتا يديه يمين".
لقد أصبحت قصيدة سمو الشيخ نهيان بن زايد آل نهيان على كل لسان خلال ساعات معدودات، لأنها عبرت عن الوجدان الجمعي لأبناء الدولة. وإذا كان الأدب الحقيقي هو الذي يكشف عن دخائل النفوس البشرية، ويدرك أعماقها، فإن ما لقيته القصيدة من محبة وإعجاب وانتشار يعود إلى أنها قالت ما يود كل إماراتي أن يقوله، ووصفته الوصف الصحيح، دون مبالغة أو ادّعاء. كما أن التعبير بالشعر يحيي التقاليد الأصيلة والموروث الذي نفخر بالانتماء إليه، وهو موروث يُعزز الهوية الوطنية، ويشحذ القدرة على إدراك الجمال وتذوقه، ويؤكد التواصل بين ماضي أبناء الدولة وحاضرهم.
اليمين، في القصيدة لا تقدّم إلا الجميل. اليمين التي تربي الأجيال على الإنسانية والنبل. اليمين التي تُعلم وتنير طريق المعرفة التي أمرنا الله بالارتحال في طلبها. اليمين التي تحمي الحق وتصونه، وترد الظلم وتردعه. اليمين التي تبني وتزرع وتُخلص في العمل مؤمنة بأنه عبادة. اليمين التي تحفظ العادات الأصيلة وتحييها، واليمين التي تمتد بالكرم والمساعدة وتأسو الجراح وتقيل العثرات، واليمين التي تصافح عن محبة إخلاص، واليمين التي تسارع إلى الخير والسلام، وتؤلف القلوب وتوحدها، واليمين التي تجعل الشرف والفضيلة والأخلاق السامية ميزاناً وعنواناً في كل ما تفعل.
اليمين، هي يمين أبناء الوطن جميعاً، أولئك الذين يعرف كل واحد منهم أنه يمثل وطنه وقادته وثقافته الأصيلة وتراثه العريق، ويذكر كل واحد منهم كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، الذي أوصى أبناءه قائلاً: «لا بدّ أن نظهر للعالم، ليس بطول البنيان، بل بمعدن الإنسان الإماراتي». ولقد سمع الأبناء ووعوا، فكانت فعالهم فخراً للوطن وعزاً.
وحين تسارع يمين أبناء الوطن إلى كل ما هو نبيل وخيِّر، فإنها - في الحقيقة - تتطلع إلى إحياء سيرة الرجل الذي يحملونه في سويداء القلوب، ويفخرون بالانتساب إليه، وهو المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، فمن يده كان الخير يتدفق إلى كل مكان على ظهر البسيطة، ويصل إلى مئات الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، ليحيي ويداوي ويُطعم ويسقي ويبني المساكن والمدارس والمستشفيات والجسور والطرق وبيوت العبادة، ويغيث الملهوف ويفرِّج عن المكروب.
إن اللقب الذي نعتز به جميعاً، هو «عيال زايد»، وربما نكون الشعب الوحيد بين شعوب الأرض الذي اتفق كل أفراده على أنهم جميعاً أبناء حقيقيون للرجل الذي شاد دعائم دولتهم وبنى من أجلهم وطناً قدَّم إليهم كل ما يمكن أن يقدمه وطن لأبنائه على المستويين المادي والمعنوي.
وشأن كل الأبناء البررة الذين يحيون سيرة الأب العظيم بالسير على نهجه، فإن يمين كل إماراتي تمتد بالخير هي في الحقيقة يمين زايد. ويمين كل إماراتي حين تمتد بالخير فإنها ترسل رسالة لزايد بأنَّا نحيي ذكراك كل لحظة بإحياء مكارمك وفِعالك. ويمين كل إماراتي حين تمتد بالخير فإنها ترى في فعلها دعاءً صادقاً لزايد بالرحمة والمغفرة.
لقد وصلتنا جميعاً رسالة سمو الشيخ نهيان بن زايد آل نهيان، وهو يقول: «يميناً فعلها خير وسلام... يميناً ما يوصّفها الكلام... يميناً وحَّدت هذا الوطن... يميناً ما يكررها الزمن»، وأطلت علينا جميعاً يمين زايد، تُباركنا من عليين. فتذكرنا هذه اليد الطيبة وهي تحفر الأفلاج وتحمل الصخور، وتذكرناها وهي تخطُّ على رمال الصحراء ما سيصبح في المستقبل مدناً مزدهرة عامرة بالحياة، يحفها الأمن والرخاء، وتذكرنا هذه اليد وهي ترفع علم الاتحاد وتبني دعائمه بالصبر والحكمة والشجاعة والإيثار.
وما يمنح هذه القصيدة قوة، لا تقل عن جمالياتها الفنية، أن كل حرف فيها يُصدُّقه الفعل والممارسة على أرض الواقع، فبصمة الأبطال، والثبات عند المحن، ونشر العمران في كل مكان، والبشاشة، وكرم الضيافة، والوفاء للصديق، وشرف القول والفعل، ومد يد العون لكل محتاج، إنما هي مناقب متجذرة في المجتمع الإماراتي، يحرص عليها، ويتواصى بها، ويتوارثها الأبناء عن الآباء، ويعززونها في نفوس الأجيال الناشئة، ويعتبرون الالتزام بها شرطاً لنيل التقدير والاحترام في المجتمع. ومثل هذه القيم، التي أظهرتها هذه القصيدة البديعة إنما هي أحد عناصر القوة والتلاحم، في بلد يشق طريقه نحو الصدارة العالمية بثبات واطمئنان.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي أحداث السودان سلطان النيادي غزة وإسرائيل مونديال الأندية الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الإمارات نهيان بن زايد آل نهيان بن زاید آل نهیان الیمین التی
إقرأ أيضاً:
الريشة السوداء لمحمد فتح الله.. عن فيليس ويتلي القصيدة التي تمشي
هي رواية عن أفريقيا يكتبها عربي من شمالها، هو الروائي والشاعر الليبي محمد فتح الله، وهي قصة شاعرة أفريقية من زمن العبودية. رواية بكر، قصَد فيها كاتبها تأمل الوجود وظلمه وخسارات المبدع فيه، والكتابة حين تكون لحظة مقاومة يتنازع فيها الشاعر مع السارد أو يأتلفان لإبداع رواية تليق بالشاعرة "فيليس ويتلي".
"فيليس الريشة السوداء" حكاية الشاعرة الأميركية من أصل أفريقي فيليس ويتلي، وإن بدت القصة فيها معروفة وشائعة ولطالما تغري بالتناول، إلا أن فتح الله يعيد ترتيب الحكاية بما يجعلها قصيدة طويلة وتأملية وفلسفية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2وليد سيف يختتم رباعيته الأندلسية برواية “غرناطة آخر الأيام”list 2 of 2الوجع والأمل في قصص "الزِّرُّ والعُرْوَة" لراشد عيسىend of listالبطولة فيها هي خسارات الكائن البشري، والفقد والحزن والذاكرة والشعر أيضًا حينما تكتبه شاعرة سوداء فتملأ الكون بياضًا. والفضاء فيها غامبيا، التي تشع بياضًا وألفة كلما ذُكرت الشاعرة السوداء، وأميركا سوق يُباع فيها من كانوا أحرارًا في بلادهم.
كتبت فيليس في ليل عبوديتها ببوسطن عن "الآلهة والشياطين، عن جورج واشنطن زعيم أميركا، كما عن يسوع، عن أفريقيا التي وُلِدت فيها دون أن تتذكر ملامحها، وعن أميركا من غير أن تفتح لها ذراعيها يومًا".
هي إذن فيليس التي "كانت أَمَة، ثم شاعرة، ثم زوجة، ثم أمّا، ثم فقيرة منسية".
يرتب فتح الله حكايته كقصيدة، لكنه يبدأ من خاتمتها في فصل أول هو "نهاية قصيدة"، اكتملت، بدأت في شهقة ولادة بغابات غامبيا وانتهت بشهقة الموت في بوسطن في غرفة منسية مهجورة.
وبينهما حكاية الفتاة التي أخذت اسمها الجديد من اسم السفينة التي أقلتها من غامبيا "فيليس"، وأخذت لقبها من عائلة أصبحت خادمة لديها "ويتلي".
ولادة فيليس ولادتان: الأولى في غامبيا التي غادرتها في سفينة العبيد في السابعة من عمرها مأسورة ومرغمة، والثانية في بوسطن. في الأولى أمسكتها يد غليظة وقادتها إلى ملاذها عبدة في أميركا، وفي الثانية ولدت في بوسطن حيث أمسكت هي ريشتها السوداء لتخط بها قصائدها.
تطل غامبيا من شقوق ذاكرة فيليس بغاباتها ونهرها الذي يدلها خريره على بيتها كلما تاهت قدماها في غابات قريتها في الغرب الأفريقي.
إعلانترسم عبر استدعاء الذاكرة بيوت الطين وأقواسها، وضوء النهار، "إذ يتسلل إلى أكواخ الطين والقصب كأنه يريد أن يوقظ أحدًا، يلامس وجوه الجدات، ويمسح برؤوس الأطفال النائمين بلا أحلام".
أما أمها فكانت "قصيدة شفوية لا تكتمل، كأغنية لا يسمح لنا بإنشادها كاملة".
شعر يليق بفيليسعبر صفحات الرواية كلها لا يتحرر فيها فتح الله من الشاعر فيه، وتبدو الرواية قصيدة تأملية طويلة، رواية لا تتشعرن إلا بالقدر الذي أراده روائي حاذق يكتب عن شاعرة، ويريد لسرده أن ينطق لغتها أيضًا.
هكذا بدا اسمها، التي لم تعد تذكره، "ربما يشبه تغريدة طائر، أو قبلة أم على جبين طفل رضيع"، أما أبوها "فكان طويلًا كأن قامته جذع شجرة. كنت أراه يسير في الغابة فينصت له الطين، وتتبعه النسور من أعلى كما يتبع الأنبياء أتباعهم".
غامبيا إذن الجنة الأولى التي انتُزعت منها "ويتلي" أو فقدتها مع كل لحظة مأساوية تعصف بها. يبدع الروائي والشاعر الليبي محمد فتح الله، المولود في بنغازي عام 1981، في لوحاته التأملية التي تتفتق عنها مخيلة شاعر.
يكتب في لوحة أولى عن الفقد، إذ هو أحد التجليات النفسية لويتلي، فهو "ليس انكسارًا، بل انكشافًا، انكشاف الإنسان على هشاشته، على حدود فهمه، على جرحه الوجودي القديم".
وكتب عن الحزن، وعن النسيان باعتباره ليس انتصارًا على الحزن بل تعايشًا معه، فهو كمن يعقد هدنة مع ألم لا سبيل إلى هزيمته، فيصادقه ويمنحه غرفة صغيرة في البيت، يشعل له قنديلا ويقول له: "ابق هادئًا لا توقظ ما مات".
تقول السيرة الذاتية لفيليس ويتلي إن الفتاة الهزيلة ضعيفة البنيان، لدى استقرارها في بوسطن عند عائلة ويتلي، إنه بالقدر الذي عاشت فيه حياة الخادمة والعبدة، بقدر ما منَحها ذلك البيت الأميركي فرصة الإطلال على عالم القراءة والكتابة.
فقد تولى ابنا جون ويتلي، رب العائلة وسيد فيليس، تعليمها القراءة والكتابة، وبذلك انغمست فيليس في اكتشاف الإنجيل وعلم الفلك والجغرافيا والتاريخ والأدب البريطاني، وتأثرت على نحو خاص بالشاعرين الإنجليزيين جون ميلتون وألكسندر بوب، إضافة إلى تأثرها بالكلاسيكيات اليونانية.
كتبت فيليس أولى تجاربها الشعرية عام 1767، وهي في سن الـ14 تقريبًا، ونشرتها "صحيفة نيو بورت ميركوري" (Newport Mercury)، إلا أن مرثية "القس جورج وايتفيلد" -التي نشرت عام 1771- تعدّ العمل الشعري الذي بفضله بدأ تداول اسمها على الصعيد الوطني الأميركي، لا سيما أنها لاقت إعجاب قراء الصحيفة.
وجد هذا الرثاء المؤثر جمهورًا في كل من الولايات المتحدة وإنجلترا، ولأن المرثية نُشرت مصحوبة بالتعريف بالمؤلف على أنها امرأة مستعبدة، ففُتِن عدد من القراء بالشاعرة والقصيدة معًا.
ويرصد فتح الله معاناة سوداء تكتب شعرًا، فهو اختصاص الغالب والقاهر والسيد، أما العبد كما في التراث العربي فـ"لا يجيد إلا الحلب والصر".
وفي واحدة من قصائدها وعلاقة الآخر بها تقول:
"إن كانوا يرونني مرآة
فسأعكس لهم صورهم
لكن بالحبر الذي أختاره".
في البيت الجديد يوغل الروائي فتح الله عبر رواية الساردة العليمة فيليس ويتلي، ويظهر بيتًا ممزقًا، يعيش أفراده في حال اغتراب، وينتهي بموت الأب والأم.
إعلانيبني فتح الله روايته كما لو أنه يكتب ديوان شعر؛ يختار فصول روايته كما لو كانت عناوين قصائد: "نهاية قصيدة، جنة أولى، الطريق إلى البحر، الليل الأخير، غامبيا: أغنية الماء الأخيرة، غامبيا أربعة أشياء قبل النسيان، غامبيا حين ودعتني الأشياء، في البحر، موت عادي جدًا، قرب وبعد، مدينة لا ترى السماء، بيت لا يعرف الضحك، مولي امرأة بلا ظل، الطفل الذي لم يرني، سيد البيت وظله، سيدة لا ترفع صوتها، في بيت آل ويتلي، في حضرة الحرف الأول، الطفل الذي يتهجى صمته"، ويختم فصول الرواية بالقصيدة التي ماتت معه.
الكتابة فعل مقاومةعلى سرير موتها تلخص فيليس فلسفتها عن الشعر وجدوى الكتابة التي رفعتها لدى سيدها حينا ما لبثت أن تجاهلها ورماها إلى أقدارها، سوداء يقتلها الجوع والحياة الرديئة.
تقول: "فهمت أن الكتابة لم تكن خلاصًا بل مقاومة، وأن الشعر لم يكن موهبة، بل جسرًا مشى فوقه صوتي ليصل إلى ذاته، وأن الرب الذي كنت أكتب عنه كثيرًا، لم يكن يسكن الكنيسة، بل قلبي حين لا يقوى على شيء إلا الحرف. أنا فيليس بنت غامبيا التي لم أعد إليها، ابنة العبيد الذين لم يُدوَّن لهم نسل".
ماتت ويتلي عن عمر ناهز 31 عاما، وكانت أول امرأة إفريقية تنشر ديوانًا شعريًا في العالم الناطق بالإنجليزية. ماتت، ولكن اسمها بقي كجملة ناقصة، رفض التاريخ أن يتمها فأتمها الشعر.
عن عوالم روايته البكر وينابيع ثقافته، التقت الجزيرة نت الروائي والشاعر محمد فتح الله، وكان هذا الحوار:
ربما أغراني فيها ذلك التناقض العجيب بين وهن الجسد وقوة الكلمة. فيليس ويتلي كانت كأنها قصيدة تمشي على رماد التاريخ، أنثى سمراء تُقتاد من ضفاف أفريقيا مكبّلة، ثم تُكتب في دفاتر البيض كأنها خطأ في دفتر العبودية. كنتُ أرى في حياتها سؤالًا يتجاوز حدود اللون والرقّ: كيف يمكن للإنسان أن يصير شاعرًا وهو لا يزال يُباع ويُشترى؟
لقد أغرتني سيرتها لأنها لم تكن بطلة بمعنى البطولة التقليدية، بل كانت كائنًا يقاوم بصمته، بعقله، بسموه الداخلي، بقدرته على جعل الألم جمالًا. أردتُ أن أكتب عنها لا باعتبارها امرأة من الماضي، بل باعتبارها مرآة للحاضر، مرآة لكل روحٍ ما زالت تبحث عن معنى لحريتها، عن خلاصٍ داخل اللغة ذاتها.
عشت معها عبوديتها لأنني أدرك معنى أن يسلب من المرء إرادته وحريته واسمه، فقد عشت هذا السلب في سجون القذافي في أبو سليم سيئ الصيت تحديدا في طرابلس، وأنا الآن عاكف على عمل يحكي هذه التجربة المريرة التي كانت فاصلة في حياتي وتكويني النفسي والأدبي واللغوي.
اللغة كائن حي ثمة لغة شفيفة تلامس تخوم الشعر وكأننا أمام شاعر يكتب رواية، كيف تفسر هذا التداخل؟أنا لا أؤمن بالحدود بين الأجناس الأدبية، بل أؤمن بأن اللغة نفسها هي الكائن الحيّ الذي يتشكل وفق انفعال الكاتب. حين أكتب، لا أسأل نفسي: هل أنا أكتب رواية أم قصيدة؟ بل أسأل: هل أنا أقول الحقيقة كما ينبغي أن تُقال؟
ربما تسلّل الشعر إلى السرد لأن القصة في جوهرها قصيدة طويلة، لأن الإنسان لا يحكي إلا ليُخفّف من وطأة صمته، ولا يصف إلا ليُعيد ترتيب العالم كما يراه قلبه. اللغة عندي ليست وسيلة نقل، بل وسيلة خلاص. لذلك جاءت الرواية محمّلة بنبرةٍ شعرية، ليس تزيينًا للأسلوب فحسب، ولكن لأن صوت فيليس ويتلي نفسه كان شعرًا منذ البداية، حتى حين كانت تصمت.
الشيء بالشيء يذكر، نعم أنا أنظم الشعر ولي ديوان "ناشئة الشوق" تحت الطبع في دار الوليد بطرابلس ليبيا، بعض قصائده كتبتها في الظلام في السجن وكانت أصدق وأعمق عاطفة لأنها تفتقت من تربة المعاناة ومشقة الكتمان.
تكويني الأدبي تشكّل عند تقاطع الشعر بالفكر، والوجدان بالتاريخ، كل ذلك كان تحت مظلة الصمت والتأمل، التأمل في الناس حولي في كلامهم وشعورهم، في نفسي أنا. كنتُ دائمًا أبحث عن معنى الإنسان في منطقة الظل، حيث لا يضيء المنطق ولا تكفي اللغة. الفلسفة بالنسبة إليّ ليست تنظيرًا، وإنما تجربة روحية.
ولا أغفل نشأتي الأولى في الكتاتيب وحفظي للقرآن ذلك المعجز اللغوي الذي جعلني أتذوق الكلمة وأتأمل الحرف فأندهش للمعنى.
ربما تأثرت بمدارس عديدة دون أن أكون أسيرًا لأيٍّ منها؛ استهوتني الأسئلة التي طرحها الوجوديون حول الحرية والقدر، كما سحرتني النظرة الصوفية إلى العالم، تلك التي ترى في المعاناة طريقًا إلى الصفاء.
في الريشة السوداء حاولت أن أجعل من سيرة فيليس مرآةً للروح البشرية وهي تواجه سؤالها الأبدي: من نكون حين تُسلب منا أسماؤنا؟ كل ما كتبته في الرواية هو محاولة للاقتراب من تلك الإجابة التي لا تُقال بالكلمات، بل تُحَسّ بالنور والظلمة معًا.
الروايات الأولى تحمل إرهاصات البداية ووهمها وشهوتها، هل خامرك هذا الإحساس أثناء الكتابة؟نعم، وربما لهذا السبب بدت الرواية بالنسبة إليّ أشبه باعتراف طويل. كنتُ أكتب وأنا أشعر أنني أضع قلبي للمرة الأولى على الورق، دون أقنعة، دون هندسة مسبقة. الرواية الأولى لا تُكتب بالحدس، بالقلق، بالرغبة في أن تقول كل ما لم يُقل بعد.
شعرتُ أحيانًا بأنني أركض وراء وهْم الكمال، وأحيانًا أخرى بأن الرواية تكتبني أنا. كانت تجربتي مع الريشة السوداء أشبه بولادة مؤلمة، فيها الفوضى والعشق والصدق جميعًا. وربما لو لم تكن الأولى لما تجرّأت على أن أكون بهذه العري الروحي أمام القارئ.
نعم، فيها وهم البداية، لكن أيضًا فيها لذّتها الطفولية، تلك التي لا تُستعاد إلا مرة واحدة.
كتب الكثير عن أفريقيا والاستعمار والعبودية، هل برأيك ما زالت ذيول الاستعمار والإمبريالية والعنصرية موجودة على الصعيد الإبداعي في الغرب؟بلا شك، ما زالت موجودة ولكنها ارتدت أقنعة جديدة. الاستعمار استغنى عن الجيوش التي تعبر البحار، وأصبح سردياتٍ تعبر العقول. الغرب ما زال يكتب عن أفريقيا كما لو كانت أرضًا رمزية لا بشر فيها، يختزلها في الغرابة والحرارة والغابة، ولا يرى فيها عمق الروح.
الإمبريالية الأدبية أخطر من السياسية، لأنها تُعيد إنتاج الهيمنة عبر اللغة، عبر الصورة، عبر تصدير مفهوم "الإنسانية" من منظور واحد، ولكن في المقابل، هناك أصوات جديدة، من أفريقيا ومن الشتات، بدأت تكتب بلغة الوعي، لا بلغة الردّ والتبرير وإثبات الذات. الريشة السوداء بالنسبة إليّ محاولة لكسر هذا التمركز، لكتابة أفريقيا من داخلها، لا من نوافذ الآخرين، أن أقول للعالم: لسنا ضحايا التاريخ فقط، بل صُنّاعه.