حرب اللغات الأهلية لفتح الخرطوم
تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT
(في سياق الحرب القائمة في يومنا لحيازة الخرطوم أعيد نشر جزء من بحث عنوانه “صفوة البجا: من قيد الاستضعاف إلى القوة” درست فيه حيل أمثال المرحوم أبو هدية، الناشط العظيم لنهضة البجا عن طريق تعليم صبيانهم، ليخرجوا من الضعف للقوة بمكر استثنائي. وقدمت الورقة في الإنجليزية لورشة انعقدت بسنكات في نحو 1990 تناصرت عليها جامعة الخرطوم وجامعة بيرقن النرويجية في مشروع جمع بينهما لدراسة آثار الجفاف والتصحر على مجتمع البجا.
تدور حرب لغوية غير معلنة بين العديد من المجموعات العرقية السودانية لامتلاك الخرطوم، المدينة العاصمة، كوطن أصلي لها دون بقية الجماعات. وتدعي كل من هذه المجموعات أن اسم ” الخرطوم ” مشتق من لغتها. وتحاول بذلك إثبات أنها الساكن الأصلي لمركز السلطة الوحيد بالبلاد.
لقد اعتبر الناس في الشمال النيلي وغيرهم طويلاً كلمة ” الخرطوم” كلمة عربية تعني خرطوم الفيل. ويقال في هذا السياق أن العاصمة القومية سميت ” الخرطوم ” لأنها مكان التقاء النيلين الأبيض والأزرق وموضع التقائهما يشبه خرطوم الفيل.
ولكن هذا الادعاء العربي يواجه بالاعتراض من جانب الدينكا والنوبة الشمالية. فيقول بعض مثقفي الدينكا إن اسم “خرطوم” هو صيغة محرفة للكلمة الدينكاوية ” كيرتوم – Kiertoum ” والتي تعني أيضاٌ ملتقى النهرين. وبالإضافة إلى ذلك فإن الدينكا يتتبعون أسماء بعض ضواحي الخرطوم مثل “بري ” حتى يصلوا بها إلى أصول دينكاوية. أما النوبة فيصف أحد كتابهم ادعاء الدينكا لاسم ” الخرطوم” بأنه ” مفهوم خاطئ ولا يعدو أن يكون خيالاً”. ويرجح أن “خرطوم ” جاءت في الأصل من اللغة النوبية. وتأتي وجاهة هذا الافتراض، فيما يقول محمد إبراهيم أبو سليم، من كون الخرطوم تقع في قلب مملكة النوبة العليا التاريخية، التي كانت عاصمتها سوبا (إحدى ضواحي الخرطوم اليوم). ولم يقدم أبو سليم أي أصل لغوي نوبي محدد للاسم، لكن حسن شكري يرى أنه – أي الاسم – كان في الأصل ” أقارتوم – Agartum ” وتعني مقر أو مقام أتوم (Atum) إله الخلق عند قدماء المصريين. ويرى شكري أيضاٌ أن اسم توتي – الجزيرة المحاذية للخرطوم – هو تحريف للكلمة المصرية القديمة ” توتد Thutid ” وتعني حاجب معبد توت – Thut، إله الحكمة.
يخالف البجا كافة الحدوس والاجتهادات آنفة الذكر حول أصل كلمة “خرطوم”. فرأى أدروب أوهاج أن الكلمة بجاوية. ويقول إن بعض المجموعات السودانية قد تنجح في رد كلمة “خرطوم” إلى لغاتها المخصوصة. ولكن تبعة البرهان أكبر. وهو يحتم عليها أن تجد أصلاً في لغاتها المختلفة لا لكلمة “خرطوم” وحدها، بل لطائفة كبيرة من اسماء الأماكن الأخرى التي تكتنف العاصمة. ولا يكتفي أدروب في دعم نظريته برد الخرطوم إلى أصل بجاوي، بل يورد جدولاٌ بالأصول البجاوية لأسماء العديد من ضواحي المدينة.
وحسب رؤيته فإن “خرطوم ” تحريف لكلمة ” هارتوما – Hartouma ” البجاوية والتي تعني ” اجتماع “. ومن الجلي أن كلمة ” اجتماع ” قريبة الصلة بـ” ملتقى” الأنهار وهو الأصل في فكرة اسم ” خرطوم ” في كافة اللغات التي تعرضنا لها. ولكي يتفادى أدروب تأسيس نظريته على مفردة واحدة فقط فهو مشغول ببحث يتتبع فيه الأسماء ذات الصلة بالخرطوم في اللغة البجاوية. ويوضح الجدول التالي ما توصل إليه:
ضاحية الخرطوم الأصل البجاوي المعنى
كرري كاري + ري
كاري = إنسياب، جريان
ري = مجرى مجرى الماء
شمبات شم + بات
شم = قليلاٌ
بات = مائل قليلاٌ إلى جانب (شجرة) مائلة قليلاٌ إلى جانب
توتي توي + تِ + يي حيوان كاسر سواء كان تمساحاٌ أو فرس النهر
بري اللاماب اماب = نوع من الشجر
بر = مكان المكان الذي ينمو فيه شجر الاماب
باقير با + أقير المكان الذي يمنع الماء من الارتداد إلى الوراء
في سياق حرمان البجا من دست السلطة يمكن اعتبار نظرية أدروب عن أصل اسم الخرطوم، بغض النظر عن مدى صحتها، محاولة رمزية لاحتلال سدة السلطان السوداني باللغة. وبرد البجا اسم الخرطوم وما يتصل بها من أماكن إلى لغتهم فإنهم يقيمون الحجة على بعد غورهم في تاريخ البلد. فإذا كان اسم مركز السلطة في البلاد مشتقاٌ من لغتهم فإنهم قمينون، بالتالي، بنصيب عادل من تلك السلطة.
عبد الله علي إبراهيم
عبد الله علي ابراهيم
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
د.محمد عسكر يكتب: ماذا يعني تسريب 16 مليار كلمة مرور حول العالم؟
في زمن أصبحت فيه حياتنا اليومية مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالإنترنت والتطبيقات الذكية، لم يعد تأمين المعلومات الشخصية ترفاً أو خياراً ثانوياً، بل أصبح ضرورة قصوى. ومع تزايد إستخدام التكنولوجيا، تتزايد أيضاً محاولات المخترقين لسرقة معلومات وبيانات المستخدمين، وعلى رأس ذلك كلمات المرور، التي تعد المفتاح الأول لكل تفاصيل حياتنا الرقمية.
خلال السنوات القليلة الماضية، بات من المألوف أن تطالعنا الأخبار بين الحين والآخر عن "تسريبات ضخمة لكلمات المرور" تشمل ملايين بل مليارات الحسابات حول العالم. وفي يونيو من هذا العام 2025، شهد العالم تسريباً وصف بأنه "الأكبر في التاريخ"، حيث تم الكشف عن أكثر من16 مليار سجل يحتوي على كلمات مرور وبريد إلكتروني وبيانات دخول خاصة بمستخدمين من مختلف دول العالم.
لكن السؤال الذي يتردد دائماً: كيف يحدث مثل هذا التسريب؟ وما الذي يجعل بياناتنا الشخصية تقع في يد قراصنة الإنترنت؟
في الواقع، تبدأ القصة غالباً ببرمجيات خبيثة تعرف باسم "Infostealers"، وهي برامج يتم زرعها في أجهزة المستخدمين دون علمهم من خلال روابط مزيفة أو مواقع مجهولة أو حتى عبر تطبيقات خادعة يتم تحميلها على الهواتف وأجهزة الكمبيوتر.
بمجرد تثبيت هذه البرمجيات، تبدأ في جمع كل ما تستطيع الوصول إليه من بيانات: كلمات مرور محفوظة في المتصفحات، بيانات الدخول للتطبيقات المختلفة، وحتى معلومات البطاقات البنكية والمحافظ الرقمية.
هذه البيانات المسروقة لا يتم إستخدامها بشكل عشوائي، بل يتم تجميعها بعناية في قواعد بيانات ضخمة يتم بيعها في أسواق الإنترنت المظلم، أو تُسرَّب أحياناً بشكل مجاني في منصات متخصصة يستخدمها قراصنة آخرون لتنفيذ هجمات لاحقاً.
الأسوأ من ذلك أن الكثير من الأشخاص يقعون ضحية لمثل هذه الهجمات لأنهم يستخدمون كلمات المرور نفسها في أكثر من حساب، وهو خطأ شائع يجعل إختراق بريد إلكتروني بسيط كفيلاً بالسيطرة على حسابات مصرفية أو حسابات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي.
تسريب كلمات المرور لا يعني فقط فقدان السيطرة على الحسابات الشخصية فحسب، بل قد يتسبب في سرقة الهوية بالكامل، أو الوصول إلى المعلومات الحساسة والتى يمكن إستخدامها في عمليات الإبتزاز الإلكتروني. والأخطر من ذلك هو أن بعض هذه التسريبات لا يتم إكتشافها إلا بعد مرور أشهر وربما سنوات من وقوعها، مما يمنح المخترقين وقتاً طويلاً لإستغلال المعلومات المسروقة دون أن يشعر الضحية.
رغم هذا الواقع المقلق، إلا أن الحماية ليست مستحيلة. هناك خطوات بسيطة لكنها فعّالة جداً يمكن لأي شخص إتباعها لتقليل المخاطر بشكل كبير. أول هذه الخطوات هو التوقف عن إستخدام نفس كلمة المرور لأكثر من حساب، والبدء في استخدام كلمات مرور قوية ومعقدة يصعب تخمينها. كذلك، لا بد من تفعيل خاصية المصادقة الثنائية (2FA) في جميع الحسابات المهمة، بحيث لا يكون الوصول للحساب ممكناً بكلمة المرور وحدها، بل يتطلب أيضاً رمزاً يصل إلى هاتف المستخدم أو عبر تطبيق خاص.
ومن الأدوات المفيدة أيضاً إستخدام برامج إدارة كلمات المرور، وهي تطبيقات تحفظ جميع كلمات المرور الخاصة بك بشكل مشفر، وتساعدك في إنشاء كلمات مرور قوية وفريدة لكل حساب بسهولة. ولمزيد من الحماية، يمكن لأي مستخدم أن يقوم بفحص بريده الإلكتروني من خلال مواقع مثل "Have I Been Pwned" لمعرفة ما إذا كانت بياناته قد ظهرت في أي تسريبات سابقة أم لا.
وفي ظل هذة التحولات التقنية السريعة، بدأت بعض الشركات الكبرى مثل Google وApple في طرح حلول جديدة تعتمد على ما يُعرف بـ"مفاتيح المرور" أو الـ Passkeys، وهي طريقة تتيح للمستخدم تسجيل الدخول بإستخدام بصمة الإصبع أو الوجه بدلاً من إدخال كلمة مرور تقليدية، مما يجعل الأمر أكثر أماناً وأقل عرضة للإختراق.
ربما لا نستطيع أن نوقف تسريبات كلمات المرور من الحدوث بشكل كامل، خاصة في ظل التنافس المحموم بين القراصنة وشركات الحماية، لكن يمكننا أن نجعل أنفسنا أهدافاً أصعب بكثير عبر خطوات بسيطة وواعية. في النهاية، الإنترنت ليس مكاناً آمناً بالكامل، لكنه قد يصبح أكثر أمناً حين نُحسن إستخدامه ونفهم مخاطره جيداً.
الحفاظ على كلمات المرور هو اليوم حماية للهوية، حماية للمستقبل، وحماية للخصوصية التي أصبحت رأس مال الفرد في هذا العصر الرقمي.