الجزيرة:
2025-06-27@01:39:27 GMT

العجز العربي.. مآلات مرعبة

تاريخ النشر: 15th, January 2024 GMT

العجز العربي.. مآلات مرعبة

وهكذا أنحت إسرائيل على مصر باللائمة في تجويع غزّة وحرمان أهلها من أبسط حقوق الإنسان في الحياة، حين قال محاميها، أمام محكمة العدل الدولية، إن مصر هي التي أغلقت أبواب معبر رفح الخاضع لسيادتها، ومنعت دخول المساعدات لغزة. وهي، أي إسرائيل، حين تفعل ذلك فإنما تجلد كل من غرقوا في أوحال الصلح معها منذ البداية.

على أن مثل هذا الموقف ليس مفاجئًا ولا غريبًا، بل سوابقه في التاريخ كثيرة على مستوى الأفراد والجماعات والدول. فالسيد من هؤلاء دائمًا يجلد ويلوم تابعه في كل تقصير، ويحمله إثمَ ما ارتكب من جرائم، لأنه في الأصل ينتزع منه إنسانيته قبل أن يدخله أروقة قصره، ويعتبره بعد ذلك مجردَ مِشجَب يعلّق عليه كل فشل وكل خطيئة.

هكذا تتعامل معنا إسرائيل نحن العربَ، فهي تستمد اعتبارها السيادي فوقنا من السيد الأكبر الذي تَأْوي إليه في البيت الأبيض، وفي مبنى الكونغرس والذي نخشاه أكثر من خشيتنا خالقَنا عزّ وجل. أما نحن العربَ، فإن مكاننا هناك، في نظر إسرائيل وحماتها، هو ملحق يقيم فيه الخدم والتابعون لِيُجْلَدوا حين يُقَصِّرون، بل أزعم أن كل كيان من كياناتنا في نظرهم هو مجرد مِسمار دُقَّ في الواجهة ليعلق عليه كل صاحب حاجة من أرباب القصر متاعَه!

ما الغاية التي يريد الغرب وإسرائيل بلوغها من حملات التطبيع؟ خير من أجاب عن هذا السؤال هو الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، في كتابه العظيم "ثغور المرابطة"، حين قال إنهم يريدون ممن يستجيب للتطبيع أن ينسلخ من أخلاقه وذاته وهويته، فيصبح تابعًا يحركه سيده متى وكيف شاء

أعلم أن هذا جلد للذات لكنه، يا ويلتاهُ، مسْتَحَقٌ ومؤلم! فمن يقبل الدَّنية بدل النِّدية أول مرة، يهون بعدها ويُهان. ذات يوم زار مناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل، الذي تقاسم جائزة نوبل للسلام مع أنور السادات، زار القاهرة ووقف خطيبًا عند الأهرام، وقال "أجدادنا اليهود هم الذين شيدوا هذه الأهرامات!"

يا لها من كذبة كبرى وتزوير فاضح ومفضوح للتاريخ، اكتفى السادات بأن يقابلها فحسب بضحكة بملء شدقيه، كما كان يفعل، ذاك أن الأهرام بناها المصريون، وهي موجودة في مصر قبل وصول اليهود إليها بقرون وقرون.

هكذا تتعامل إسرائيل مع من يمد إليها من العرب اليد، صلحًا أو رغمًا، ولسان حالها يقول "أنتم لا شيء، عاجزون عن البناء وعن الإنجاز وكل ما عندكم هو منا ولنا، أنتم لا شيء"! وهي وحماتها في الغرب يسعون بكل السبل كي تصبح إسرائيل جزءًا طبيعيًا من المنطقة، يحبها العرب وتدعي حبهم، ثم تلفظه عند أي لحظة مفارقة في الزمان والمكان، كما فعل محاميها في لاهاي. إنه حب من جانب الواحد الخانع المهان للسيد صاحب السوط والصولجان.

إذن، فما الغاية التي يريد الغرب وإسرائيل بلوغها من حملات التطبيع؟ خير من أجاب عن هذا السؤال هو الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، في كتابه العظيم "ثغور المرابطة"، حين قال إنهم يريدون ممن يستجيب للتطبيع أن ينسلخ من أخلاقه وذاته وهويته، فيصبح تابعًا يحركه سيده متى وكيف شاء.

وإن قال أحدهم اليوم إن إسرائيل تخشى على مستقبلها، فتريد أن تطبع مع العرب، فهو يبتاع الوهم بل يبيع به نفسه. فمنذ متى جعل العرب إسرائيل تخشاهم، قبل ملحمة "طوفان الأقصى" بطبيعة الحال؟ فهي اليوم تخشى فعل من هم على شاكلة مجاهدي القسام وسرايا القدس، وهي مطمئنة إلى أن أصحاب النياشين الذين هزمتهم في الميدان مرات عديدة لن يحركوا ساكنًا. وهل تحرك الفريسة رقبتها وهي بين فكّي مفترسها؟

والعجب أنه لم يصدر عن مصر الرسمية موقف يرد على محامي إسرائيل، ولو كان مجرد كلام، كما تعودنا أن نسمع لسنين طويلة. فلو أنها فعلت، أي مصر، لاستعادت بعض هيبة أمام العالم، ولجعلت إسرائيل تفكر طويلًا إن أرادت أن تجتاح محور فيلادلفيا لتضييق الخناق على المقاومة في غزة.

على أن الأنكى والأكثر إيلامًا، أن النظام العربي كله اتفق على أن يترك جنوب أفريقيا ترفع الدعوى أمام محكمة العدل الدولية من دون مشاركة أي دولة عربية، وربما كان خيرًا ما فعلوه، فهم كانوا، على الدوام، أهل فشل لا أهل نجاح.

هذه هي مشكلتنا الكبرى مع النظام العربي: العجز في كل شيء وفي كل وقت. ومع طول سُبات هذا النظام وتمسكه الأبدي بالسلطة امتد العجز إلى الشعوب فطال ليل سُباتها، وإن صحت، أو حاولت أن تصحوَ أعادتها سياط القمع إلى كوابيس الاستبداد، فتخاف وتستكين وتُغيَّب عن الساحة، وتصبح الأوطان نهبًا لكل طامع.

هذا النظام العاجز لا يرى الدنيا كما هي من حوله، ولا يتعلم من التاريخ. وكما قال وينستون تشيرتشل رئيس وزراء بريطانيا السابق، وهو للمناسبة أحد أعتى أصحاب الفكر العنصري تجاه القضية الفلسطينية، "إن أردت أن تستشرف المستقبل فتمعن في التاريخ بعناية".

لو أن نظامنا العربي يعود للوراء سنوات قليلة فحسب، ليراجع تاريخه الحاضر لوجد أن ما يجري في البحر الأحمر من تبعات الحرب الإسرائيلية الغربية على غزة، ينذر بما هو أكبر وأعظم من ضرب اليمن الذي يحكمه "أنصار الله" الحوثيون. فلو رد هؤلاء على الغارات الأميركية البريطانية، كما توعدوا، وتصاعد الموقف وأقفل باب المندب والبحر الأحمر أمام الملاحة الدولية، وهو ما يعتبره الغرب تهديدًا للاقتصاد العالمي، قد تتخذ أميركا، وشريكتها التابعة بريطانيا، من ذلك ذريعة للقيام بعمل عسكري يتجاوز حدود الغارات الجوية المنطلقة من على متن حاملات الطائرات، وما تطلقه من صواريخ موجهة.

فما الذي قد يمنع الأميركيين من النزول على شواطئ اليمن الجنوبي، كما فعل الإنجليز عام 1839، وهم يومها إمبراطورية لا تغيب الشمس عن أراضيها، وظلوا هناك 128 عامًا. فقد كان البحر الأحمر بحرًا عربيًا خالصًا بضفتيه إلى أن جاء الاستعمار الغربي المتحفز للقضاء على الخلافة العثمانية، يقضم أملاكها شرقًا وغربًا، فاحتلّ عدن وأصبح يمسك بمفاتيح باب المندب، إلى أن خرج الإنجليز في نوفمبر 1967، أي بعد خمسة أشهر من حرب حزيران من العام نفسه، واحتلال فلسطين كاملة، ومعها سيناء والجولان.

لا شيء يحول دون وقوع ذلك الاحتمال الرهيب، لا سمح الله. الأنظمة العربية عاجزة بل بعضها متواطئ، واليمن نفسه منقسم على نفسه تطحنه الحرب، وقال بعض من أهله المطالبين باستقلال الجنوب، إنهم مستعدون للتطبيع مع إسرائيل.

والغرب قد لا يستطيع أن تظل سفنه منتشرة طيلة الوقت في البحر الأحمر، وقد يرى أن من الأفضل له الوجودَ على البر سواء بقواته هو أو بقوات موالية له ونظام على شاكلة الأنظمة التي نرى. وإن حدث ذلك فيكون الطوق قد أحكم على رقابنا، فليس لنا على مضيق هرمز سيطرة فاعلة، ومضيق جبل طارق مفاتيحه لدى بريطانيا المستعمرة. وحين يتخيل المرء مثل هذا السيناريو، كما يقولون، تسري في بدن العربي قشعريرة.

هل احتلال أرض عربية أمر مستبعد؟ قبل سنوات قليلة فقط طالب الشعب السوري بالحرية فقُتِلَ وشُرِّد، واحتلت أرضَه دولٌ عديدة حتى يومنا هذا. والعراق قبله احتُلَّ وما زال، فحتى الدانمارك وربما ليختنشاين لها طائرات ترابط في العراق، الذي لا يستطيع أن يخرِج الأميركيين من أرضه، وما ذلك بغريب، فالذين يحكمونه اليوم جاؤوا في البدء على ظهر دبابة أميركية. هذا هو بعض تاريخنا القريب، وليس ثمة حاجة للتوغل بعيدًا في فصوله لتكوين قناعات واضحة.

كما ليس ثمة حاجة لذكر ما يحل بغزة اليوم وبالضفة الغربية، فالواضح أن النظام العربي أسقط فلسطين من حساباته القومية، والمؤلم أن الشعوب أسقطت من حساباتها كل اعتبار من اعتبارات النخوة الإنسانية وعزة والنفس والكرامة، في ضوء تفرجها اليوم على أشلاء أطفال غزة وهي صامتة مثل صمت المقابر.

تدرك إسرائيل هذا العجز العربي، وهي التي كانت حين أقامها الغرب على أرض فلسطين عام 1948 نتيجة لذلك العجز، كما هي اليوم أحد أسبابه. فهل تحبط مصر الرسمية، إذن، خطط إسرائيل المعلنة لاحتلال محور فيلادلفيا، ونشر قوات احتلال على طول حدود قطاع غزة مع مصر الوطن؟ لا يمكن للمرء أن يرجح ذلك في ضوء موقف مصر الرسمي الصامت مما قاله محامي إسرائيل أمام المحكمة الدولية.

وليس هناك أيضًا من المواقف السابقة لها، منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، ما يرجح أنها قد تخاطر وتنتهج سياسات أكثر حزمًا وجرأة، سوى ما قاله الرئيس الراحل محمد مرسي، رحمه الله، من أن مصر لن تترك غزة وحدها، وربما كان هذا أحد أسباب الانقلاب عليه، وسجنه حتى الوفاة.

على أن السؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه هو كيف ننفض عن أنفسنا هوان العجز؟ اسألوا مجاهدي غزة فعندهم الخبر اليقين.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: على أن

إقرأ أيضاً:

الحلم بالنمر العربي

سألني أحد مقدّمي البرامج الحوارية ذات مساء:

«هل ترى النمر العربي في أحلامك؟»

توقفت لحظة. خطر لي أن أجيب، لكنني أدركت سريعا أن إجابتي الأولى ستحتاج ثلاث ساعات على الأقل، لشرح التعقيد البيئي والبيولوجي المرتبط بهذا الكائن، الذي انقرض منذ نحو ربع قرن، هذا إذا افترضنا أن لدى الجمهور الحد الأدنى من المعرفة العلمية لفهم ما سأقول. ثم صرفت النظر عن إجابتي الثانية، التي كانت أكثر صدقا وأقل تهذيبا: أن سؤاله سطحي، وأن هذه المقابلة برمتها أهدرت وقتا كان الأولى أن أقضيه في المختبر.

ما قلته، في النهاية، كان:

«ليس أكثر مما تحلم به أنت».

تفاعل الجمهور معها بضحك خفيف، لا أعرف سببه على وجه التحديد. ربما أعجبتهم سرعة الرد، أو ربما استهوتهم غرابته. سجلت تلك اللحظة في ذاكرتي، كما أفعل مع غيرها من الحالات التي ترصد الاستجابة البشرية. فأنا أتعامل مع هذه التفاعلات كما يتعامل الباحث مع البيانات الخام: ألاحظ، وأقارن، وأتعلّم. لطالما أثارني هذا النوع من الاستجابات المفاجئة، كيف يمكن لجملة عفوية أن توقظ في الآخرين انفعالا غير محسوب؟ تلك الانفعالات، التلقائية منها والمبهمة، باتت مفاتيحي لفهم الناس، وبوصلتي في تفاعلي معهم.

سؤال آخر أسمعه كثيرا هو: «هل كانت طفولتك صعبة». هذا السؤال يربكني لأنه ليس سؤالا في الواقع، وبالتالي لا يمكنك الإجابة عليه. إنه تصريح، والإجابة الوحيدة الممكنة، إذا كان من الضروري أن أجيب، هي: «نعم». بالطبع كانت كذلك.

لماذا نقول الحقيقة؟ لكنني تعلمت أن المقابلات تدور حول قول الحقيقة، ومهمتي هي الرد بأكاذيب وأوهام أحلى من الحقيقة لأنَّ هذا، كما تعلمت، هو ما يريدون سماعه.

عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، أخذني والدَيّ بالتبني جانبا للحديث عن الأمر الجلل «الحقيقة». كانت معظم طفولتي الصعبة قد مرت بالفعل، رغم أنني لم أكن قد تعلمت بعد استراتيجيات التكيُّف التي أعتمد عليها الآن. كنت وحيدا إلى حدٍ كبير، أجد راحتي في التفاعل عبر الإنترنت بدلا من التفاعل مع الأفراد. كنت متفوقا في دراستي، لكنني عاجزٌ عن فهم كيفية خلق علاقات اجتماعية ناجحة. لم أنجذب يوما لأماكن الصخب ولم أستطع التواجد بين الحشود أو الغرباء كثيرا. كان عالمي مريحا بوجود قلة من الأشخاص الآخرين فقط. لم أكن مختلفا كثيرا، في الواقع، عن مئات الأطفال الآخرين في جميع أنحاء العالم.

كنت أظن أنني أعرف ما سيكون مضمون «الحديث المنتظر». لم يخبروني أبدا بنحوٍ صريح أو مباشر، لكنني استنتجت ذلك بنفسي. كنت أعرف أنني لست طفلهم البيولوجي.

قضيت ساعات طويلة أمام المرآة، أدرس ملامحي. وجهٌ متناظرٌ بصورة مُريبة؛ لا شائبةَ فيه، لا ندبة، لا هالات سوداء أسفل العينين، لا أثر لمراهقة متعجّلة. بشرتي بلونٍ عسليّ ناعم، عظام الوجنتين بارزتان بخفّة، كأنما نُحِتتا بشفرةٍ ليزرية. أنفي مستقيم، دقيق، لا يكاد يُرى من الجانبين. عينيّ واسعتان، بلونٍ رماديّ يميل إلى الأزرق. شعري أسود فاحم، لا يتجعّد، ولا يتساقط، ولا يحتاج إلى ترتيب. جبهتي عريضة، تفصلها عن الحاجبين مسافة محسوبة بدقة. حتى أصابعي، حين أضعها على وجهي، تبدو طويلة أكثر من المعتاد، كأنها مصمَّمة لاستخدام الأدوات لا للمصافحة والعناق.

كنتُ فتى ذا مظهر لافت، وعقلٍ متّقد، لكنّي كلّما أطلتُ النظر، بانت الملامح، وأصبح الفارق بيني وبين الآخرين يستوفي الشروط المنطقية لوضعي في سياق مختلف.

في الحقيقة، لم يكن هناك ثمة شبه بيني وبين والديّ بالتبني.

«أعرف»، قلت لهم ببساطة، «أنا لست ابنكما».

رانَ صمتٌ رزين، بدا أنهما غير متأكدين من كيفية المضي قدما. كان من الواضح أن هذا الموضوع لم يكن الحديث المنتظر. وربما لم يكن ينبغي لي أن أبدأ، لكنني لطالما وجدت صعوبة في كبح ما أعلمه، كأن الاحتفاظ بالحقيقة يناقض تكويني.

أجرينا الحديث في النهاية. أتساءل كم من الأطفال المنعزلين الآخرين على وجه البسيطة ينتظرون هذا الكشف بعينه: أنك شيء مميز؛ ثمة سبب يجعلك مختلفا عنهم.

كان الحديث عن التبني، وبطريقة ما، أخبراني عن حقيقة والداي. أمي كانت خلية جذعية، وأبي برنامج تعديل جيني لشظية عظيمة ترجع لإنسان النياندرتال.

ذات مساء، كنت في غرفتي أُبرمج شيفرة وراثية لدجاج بري آسيوي. أعمل على إدخال جينات تُشفِّر لتكوين أسنان في فم الدجاجة، وأحاول بحذر أن أستخرج ديناصورا صغيرا من ذاكرتها الجينية. غارقا في نسخ ملايين القواعد النيتروجينية AUG CGG UUA...، أحوّلها إلى أحماض أمينية، ثم إلى بروتينات جديدة، أُعيد سرد التطوُّر، كأنني أكتب سفر التكوين من جديد. وفجأة، لمحت انعكاس وجهي في الشاشة السوداء. للحظة، شعرت أنني أنظر إلى شخصٍ آخر، ينتظر مني أن أراه أخيرا كما هو. لم أتحرّك. أطلت النظر. ثم وضعت أصابعي على سطح الشاشة، ببطء، كما لو أنني أختبر إن كان سيختفي إذا لامسته. كنت في السابعة عشرة. وفي تلك الليلة، كتبت في مفكرتي جملة واحدة:

« قد لا يحمل الجين عاطفة، لكنه الوحيد الذي ينقل الحقيقة بلا تحريف».

ومنذ ذلك المساء، بدأ السؤال يتشكّل داخلي: من أنا؟ وما الحدّ الذي يمكن أن يبلغه العلم حين ينشئ وعيا؟

ظلّت هذه الأسئلة كامنة. لم أملك الشجاعة لمواجهتها دفعة واحدة. كنت أشبه بمن يسير على حافة الحقيقة، خائفا أن يقع فيها. وفي المقابل، بالغت في إتقان كل شيء. تفوقت دراسيا، حتى أصبحت مرجعا لزملائي. كنت متزنا، أنيقا، هادئا، لا أخطئ. وكأنني أحاول، بيأس خفي، أن أبرّر وجودي.

لكن القفزة الحاسمة لم تحدث فجأة. كانت تراكما طويلا من التناقضات والتساؤلات.

في سنّ التاسعة عشرة، حين بدأت التدريب في مختبر بيولوجي كبير، وجدت نفسي، للمرة الأولى، أمام تسلسل جينومي يشبه بصمتي. كنت أعمل على مشروع لا علاقة له بي شخصيا، لكنني، دون أن أدري، بدأت أقارن. وذات مرة، وجدت علامة دقيقة للحمض النووي تتكرر في مواضع متباعدة. علامة لا تتبع النمط المعتاد، لكنها مألوفة لي على نحوٍ غريب. وفي تلك الليلة، حلمت بأنني أُقرأ، الأبجدية الجينية لثلاثة مليارات حرف.

عند الثانية والعشرين، حين قُبلت في برنامج الدكتوراه، شعرت أنني أقترب من نقطة اللاعودة. كان صمتُ السنين يثقل صدري، كما لو أن كل تأجيل بات خيانة للنسخة القادمة منّي. أدركت أن الاستمرار في الصمت يجعلني محض نتيجة عابرة، لا كيانا واعيا. كنت أعلم أن البوح سيفتح أبوابا لا تُغلق، ومع ذلك، لم أعد أحتمل نظرات الناس ولا همساتهم. تعلّمت أنني، بفلسفة هذا العصر، صرت الجحيم بالنسبة للآخرين.

لذا، قررت أن أعلن حقيقتي. ربما تتذكرون العاصفة الإعلامية التي أعقبت ذلك. لم يعرف أحد كيف يتعامل معي أو مع وضعي المعقّد. الجينيّون الذين صنعوني تجاوزوا حدود الأخلاق. ومع ذلك، أراد منتقدوهم دراستي عن كثب، مثل عيّنة مخبرية فريدة.

كانت هناك معارك قانونية محتدمة، وكنت طرفا فيها، مصرّا على الدفاع عن حقي. قلت للقاضي:

«إذا كنتُ مجرد أبجدية جينية بلا صفة إنسانية، فإن أولئك الذين صنعوني لم يرتكبوا جريمة، وإنما قاموا بابتكار كائن جديد فحسب. أما إذا كانوا قد خرقوا القواعد الأخلاقية، فذلك لا يمكن أن يكون إلا لأنني إنسان حقيقي، أمتلك الوعي والكرامة، وأستحق جميع الحقوق التي تضمنها الإنسانية».

لقد رسّخوا مكانتهم المهنية من خلال تقديمي كنموذج ناجح، وضَمِنوا مستقبلي بطريقة أو بأخرى. وأنا واثق أن وعيهم بما يفعلونه لم يكن ناقصا. وقد غُفر لهم لاحقا؛ لأن العالم لا يُفرّط بالعبقرية حين تظهر، حتى لو جاءت عبر طريقٍ غير مألوف.

أما أنا...

فلم يكن اختياري لعلم الجينات انعكاسا لجذوري، وإنما استجابة طبيعية لما أمتلكه من قدرات إدراكية. قدرتي على تمييز الأنماط داخل البيانات المعقّدة، والانغماس في التفاصيل بتركيز عميق، هي التي وجّهتني إلى هذا الحقل. نمذجة نتائج تسلسل الجينات تتطلب مهارات ذهنية قد تكون شبيهة بتلك التي استخدمها الإنسان الماهر قبل آلاف السنين حين صنع أدواته الحجرية بدقة وصبر.

ومع مرور الوقت، أدركت أنني لست وحدي. قابلت كثيرين يشبهونني في سماتهم العقلية، وإن اختلفت أصولنا. لكن تلك الفروق تفقد معناها شيئا فشيئا، وتتلاشى في فضاء العمل والإبداع. سيكون لي أقارب، وإخوة، أقرب إليّ من روابط الدم. وذلك المشروع يمضي قدما؛ لأنني لم أكن محض أنبوب اختبار. أنا وأمثالي نحمل خصائص عقلية ثمينة يمكن للعالم أن يستفيد منها.

ومع ذلك، لستُ جزءا من ذلك الفريق. أمامي جينومات أخرى أنتظر تحليلها، وأسرار لم تُفك مغاليقها بعد.

ولي أيضا حكايات من التاريخ تستحق أن تُروى من جديد، أن أعيد تأملها، وأتتبع خيوط حقيقتها.

وما زال الناس يسألونني: كيف تشعر وأنت تعيش هنا؟ كيف هو شعور أن تُعاد للحياة، وتُنتزع من الزمن الذي تنتمي إليه؟

أجيبهم ببساطة: هذا هو زمني. أنا ابن القرن الحادي والعشرين. إن لم أُخلق، أنا الإنسان العاقل النياندرتالي الجديد، للعيش في المدن أو التفوق في علم الوراثة، فأنتم أيضا، الإنسان العاقل الحديث، لم تُخلقوا لذلك. علينا جميعا أن نتكيف مع العالم كما هو، بصرف النظر عن أصولنا أو تطوّرنا. وأخيرا، لماذا عليَّ أن أحلم بالنمر العربي، بينما يمكنني، هذه الأيام، أن أخرج من مختبري، وأراه بعيني يتجول في محمية جبال الحجر؟

سعد صبّار السامرائي أكاديمي وقاص عراقي

مقالات مشابهة

  • “سلطة وادي الأردن” تستأجر آباراً خاصة لتعزيز الإمداد المائي وتخفض العجز”
  • وزير الخزانة الأمريكي: أتوقع إقرار قانون الضرائب بحلول 4 يوليو
  • الإعلام الحكومي بغزة يكشف عن حصيلة مرعبة لضحايا مصائد الموت “الإسرائيلية_ الأمريكية”
  • "القسام" تنشر فيديو كمين خان يونس الذي هزّ إسرائيل
  • روته يشيد بـ"دادي" ترامب الذي أوقف حرب إسرائيل وإيران
  • فيضانات مرعبة تغمر أكبر مركز تسوق في الصين.. فيديو
  • لحظات مرعبة لسائق معلق في الهواء بعد انزلاق شاحنته.. فيديو
  • فرقعة وإخلاء عقارات.. تفاصيل مرعبة في حريق مخزن الدهانات بالبراجيل |صور
  • الحلم بالنمر العربي
  • حصيلة مرعبة للأضرار داخل الكيان: أكثر من 39 ألف طلب تعويض جراء الضربات الإيرانية