ينقل لنا الراغب الأصفهاني في كتابه الضخم محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء في المجلد الأول منه «كل صناعة تحتاج إلى ذكاء، إلا الكتابة فإنها تحتاج إلى ذكاءين؛ جمع المعاني بالقلب، والحروف بالقلم». تنطبق هذه العبارة على الكتب الصادرة عن مسكيلياني التونسية، فكتبها المترجمة والعربية الأصل على السواء قمة في الذوق الأدبي والبيان العذب السلس، كأنما هي نهر جار ينساب برفق.
كتابنا اليوم هو جزء من سلسلة لعالم اللغة والأديب الإسباني سانتياغو بوستيغيو، يحمل الجزء الأول من هذه السلسلة -وهو موضوع مقالتنا اليوم- عنوان «حياة الكتب السرية» أما السلسلة ذاتها فهي «تاريخ الأدب المنسي»، وقد صدرت من هذه السلسلة الماتعة ثلاثة أجزاء كلها بترجمة الأديب والناقد السينمائي المغربي عبداللطيف البازي. وقبل أن نشرع في الالتذاذ بالحديث عن هذا الكتاب المدهش، يتوجب أن نشيد بالبراعة الفائقة للمترجم الممتاز، فمن يقرأ هذا الكتاب سيشعر بأنه يقرأه بلغته الأصلية مباشرة.
حسنا، يتحدث هذا الكتاب العذب عن خبايا وخفايا الكتب وأنسابها ومؤلفيها كما في فصل «المؤلف السري»، فهو يأخذ القارئ في رحلة أسطورية يتعرف عبرها القارئ على الأسباب التي أُلِّفت فيها كتب بعينها، كما يتحدث عن المؤلفين المجهولين كما في الفصل السادس «ألكسندر دوما وظِلُّ أوجست ماكيه الطويل»، والمؤلفين المزيفين كذلك كما هو الحال في الفصل «هل كتب شكسبير أعمال شكسبير؟»، بل ويدلنا على الأسباب التي أدت إلى كتابة بعض روائع الأدب العالمي كما في الفصل الذي خصصه المؤلف للحديث عن ثلة من أعمدة الأدب الأوروبي الحديث وهم اللورد بايرون والزوجان بيرسي بيش شيلي وزوجته الروائية الشهيرة ماري شيلي، وكيف أسهمت رحلة الزوجين وفرارهما من الحكومة الإنجليزية إلى جبال الألب السويسرية في كتابة ماري شيلي لروايتها الشهيرة «فرانكشتاين». وبما أن الحديث عن هنا عن الكتب والمؤلفين، فإن الكتب محتاجة للمكتبات!، لذلك لم يغفل المؤلفُ الحديثَ عن الترتيب الألفبائي المُتَّبع في تصنيف الكتب وفرزها في المكتبات ومن أنشأ هذا الترتيب والسبب الداعي إليه. كما نتعرف من خلال الكتاب على المدينة الأوروبية التي أنجبت العديد من المؤلفين والعباقرة المبدعين وطابعها الخاص، بما يذكّر القارئ العربي بالمقولة العربية الشهيرة «القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ».
ولأن الإبداع البشري مرتبط بالألم، فإنه يخبرنا عن المؤلف الذي نجا من الموت وماتت الفرقة الحربية التي كانت معه، وكيف كتب هذا المؤلف العديد من روائع «الرواية السوداء» التي تنبع من الألم الإنساني اللاذع والصادق في آن. كما يخبرنا المؤلف عن الخدمة الجليلة التي قدمها للأدب صديق أحد أشهر أدباء القرن العشرين لصديقه بأن لا يستمع لوصية صديقه التي أمره فيها بأن يُحرق كل ما كتبه، ويقرر أن يطَّلع على كتابات صديقه، فيتفاجأ بأنه يقرأ شيئا باهرا يستحق النشر، وهو ما حصل بالفعل خلافا لوصية الصديق الأديب. كما يتعرف القارئ في الفصل ذاته على ما فعله جهاز الاستخبارات النازية وعلاقته بالأدب في تلك الفترة المظلمة من تاريخ البشرية. هل ذكرنا الاستخبارات النازية؟ أوه! ؛ يجب أن نذكر المخابرات السوفييتية أيضا وعلاقتها بـ«المخطوط القاتل»، الذي قتلت بسببه المرأة المسؤولة عن رقمنته، ونجا مؤلفه لأنه كان أشهر من أن يمكن اغتياله. مؤلف هذا المخطوط -الذي نُشِرَ فيما بعد- تحدث عن ما كان يحصل في الاتحاد السوفييتي إبان قيادة ستالين، وعن معسكرات الاعتقال والمنفى السيبيري الوحشي. «في الطبعة الأولى، قدَّمَ المؤلف اعتذارا، ليس إلى المخابرات ولا إلى الحكومة السوفييتية، بل إلى رفاقه الذين ماتوا في سيبيريا: (أرجو أن تسامحوني، فأنا لم أُشاهد كل شيء، ولم أتذكر كل شيء، ولا قلتُ كل شيء)- ليستدرك بوستيغيو مكملا حديثه عن المؤلف- أؤكد لكم أن المؤلف رغم تواضعه، قد رأى الكثير وتذكر الكثير وقال الكثير». لينتهي القارئ من هذا الفصل وفي حلقه غُصَّة، وفي الحقيقة فإن المؤلفين في تلك الحقبة كان لهم من الوزن ما يجعل المساس بهم صعبا، أما اليوم ومع التطور الهائل في التقنيات، إلا أن الميزان الأخلاقي أصابه العطب فلم يعد والحال هذه لبشري أية أهمية أو حرمة، وما يحدث في غزة يؤكد هذه الانتكاسة التي أصابت العالم.
يشعر المرء وهو يقرأ لبوستيغيو بأنه يقرأ للجاحظ الإسباني، فسخريته السوداء تجعلك في حيرة إن كنت ستبكي أم تضحك من المعلومة أو العبارة التي تقرأها في سياق حديثه، وعباراته اللطيفة التي تشبه الشعر لعذوبتها، والإحالات اللغوية والتلاعب بها؛ فضلا عن الموسوعية الهائلة التي يتحدث بها عن الكتب والمؤلفين والطبعات. كما لا أغفل عن انتقاده اللاذع للاستعمار ؛ لكأنما فيه نفحة من العروبة القديمة، فلربما كان آباؤه من عرب الأندلس القدماء!. ولكنها روح الإنسان الحر التي تدفعه للدفاع عن المظلومين بغض النظر عن لونهم وعِرقهم وجنسهم. فعبارات من جنس «محاولا الإسهام في إعادة القوانين الأمريكية إلى الرشاد» إنما هي في سياق الحديث عن حقوق المؤلف في أمريكا!، فتتخطى العبارة النص الأدبي لتنتقد السياسة الأمريكية بشكل لاذع. أو عبارته في موضع آخر «أجل، إننا نكرّمه اليوم. ولكننا في سنة 1597، وضعناه في السجن. هكذا نحن». وهي معضلة عالمية تكاد تتكرر مع الكثير من العظماء عبر العصور، فهم مجهولون مطمورون في حياتهم؛ ومحتفى بهم بعد مماتهم.
وبعد هذا الفصل، يأتي الدور على فصل له علاقة بالمؤلف شخصيا، يقول فيه: «ولم أتخيل قط أن ما فكرت فيه طفلة بريطانية عمرها ثماني سنوات في تلك الغرفة الصغيرة بمنزلها، سيؤثر يوما ما في حياتي. ولكن ذلك ما حدث». بهذه العبارة يعيدنا المؤلف إلى ما يعيشه كل القراء في أنحاء العالم، فهنالك نوع خاص من الكتب التي تلامس الروح الدفينة لقارئيها، وأخرى تؤثر في قارئيها وتحدد مسار حياتهم العملي. وما بين هذا وذاك ؛ تولد كتب عظيمة تظل منسية تحتضر في الظلام حتى ينفض عنها قارئ فضولي الغبار، ويعيد إليها الحياة.
علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الفصل
إقرأ أيضاً:
قرار لاتحاد الكتّاب العرب بشأن مقربين من الأسد
أصدر "اتحاد الكتاب العرب" في سوريا قراراً بفصل أعضاء محسوبين على النظام السوري البائد بسبب ما وصفه "خروجهم على شرعة حقوق الإنسان التي قررتها الأمم المتحدة والنظام الداخلي للاتحاد حيث أنكر هؤلاء الأعضاء جرائم النظام البائد"، بحسب قرار الفصل.
اقرأ ايضاًيأتي ذلك في أول قرار برئاسته الجديدة، حيث قرر فصل أعضاء "محسوبين" على الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، من بينهم عمّه رفعت الأسد.
ومن أبرز المفصولين، رفعت الأسد، وهو قائد ومؤسس "سرايا الدفاع"، في ثمانينات القرن الماضي فترة حكم شقيقه حافظ الأسد، الذي خلّف مجزرة حماة التي دمرت المدينة وأبادت عوائل بأكملها.
وشمل القرار أيضاً بثينة شعبان، المستشارة السياسية والإعلامية لبشار الأسد، وبشار الجعفري السفير السابق في الأم المتحدة وروسيا، والثلاثة غير مقيمين في سوريا في الوقت الحالي.
وطال الفصل شخصيات كانت تظهر على الإعلام السوري السابق معلقة على الأحداث متهمة المتظاهرين بالخيانة وتسلُّم أموال من الخراج للتظاهر، من هؤلاء علي الشعيبي، المعروف لدى السوريين بـ"أبو فلاشة" حي أخرج من جيبه "فلاشة كمبيوتر"، زعم أن فيها "مقطع فيديو يفضح زوجة أحد الخونة (لم يسمه) مع عنصر من المخابرات الأميركية".
كما شمل قرار الفصل، خالد الحلبوني، أمين فرع حزب البعث بجامعة دمشق سابقاً، وهو متهم بقضايا فساد، والتسبب بالوشاية وبمقتل عدد من الطلبة بالتعاون مع الجهات الأمنية، وطالب إبراهيم المعلق الإعلامي، الذي حرض في تصريحات متلفزة ضد المتظاهرين وقال إن "قتلهم فرض وواجب".
ومن الأعضاء المفصولين أيضاً، د. خليل جواد (زوج بثينة شعبان وهو عراقي الأصل)، بالإضافة إلى خالد عبود، ورجاء شاهين، وحسن أحمد حسن، وسعد مخلوف، وحسن م يوسف.
اقرأ ايضاًبموازاة ذلك، قال د. أحمد جاسم الحسين الرئيس الجديد لاتحاد الكتاب العرب، إن هذا القرار هو الأول وسيليه عدد من القرارات الأخرى التي تهدف لإعادة الاتحاد إلى دوره الثقافي بما ينسجم مع حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة.
واستعاد سوريون ناشطون تجاوزات عديدة للمفصولين، بينها نفي جريمة ضرب مناطق بأكملها بالسلاح الكيماوي الذي قتل عدداً من السوريين في بلدة خان شيخون شمال سوريا وفي الغوطة الشرقية لدمشق، وتبريرهم لعشرات المجازر الأخرى. كما قام بعضهم بالدعوة لقتل السوريين المدنيين بحجة أنهم الحاضنة الاجتماعية للمعارضة.
المصدر: وكالات
© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)
محرر أخبار، كاتب وصانع محتوى عربي ومنتج فيديوهات ومواد إعلامية، انضممت للعمل في موقع أخبار "بوابة الشرق الأوسط" بعد خبرة 7 أعوام في فنونالكتابة الصحفية نشرت مقالاتي في العديد من المواقع الأردنية والعربية والقنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي.
الأحدثترنداشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن
اشترك الآن