«المؤثرات الحضارية» .. أدوات للتقارب
تاريخ النشر: 29th, April 2024 GMT
تؤدي المؤثرات الحضارية دورا محوريا في الانتقال من حالة الفقر الإنساني والمادي، إلى حالة التخصيب في كل جوانب الحياة المختلفة، يحدث هذا ليس فقط في محيطها الجغرافي الذي يتميز بها دون غيره، وتحقنه بالكثير من المباهج الإنسانية، وتعمل على تسويقه إلى العالم الآخر، بل يتوغل إلى كل الجغرافيات الممتدة، يحدث هذا بفعل هذا الإنسان؛ الذي كُلّف بإعمار الأرض، وليس بخرابها، ويحدث هذا لإرواء الأنفس العطشى إلى البعد الإنساني؛ أكثر من البعد البيولوجي لإرواء غريزة الجوع والعطش.
تحفل التجربة الإنسانية بعدد من المؤثرات الحضارية، وهي؛ بلا شك متجددة ومتطورة؛ وفقا لكل عصر على حدة، وإن ارتكزت على بعض الأسس؛ نذكر منها في هذه المناقشة ما يلي؛ أولا: الموقع الجغرافي «الجيوسياسي»؛ بما يتضمنه من معززات طبيعية كالجبال، والبحار والأنهار، ومن أراض زراعية، ومناخ متنوع، وأثر ذلك كله في المحافظة على الحضارة القائمة وإعطائها الكثير من معززات البقاء، والنمو، والتوسع، والتميز، وأثر ذلك كله على الاستقطاب البشري المتنوع والمتعدد الأغراض والأهداف.
ثانيا: يأتي مؤثر الصلات مع العالم الآخر؛ العنوان الكبير على قدرة أبناء حضارة ما على تجفيف منابع الاختلاف والتباين بين الشعوب، وعقد صفقات رابحة من التعاون والتواد، والتكامل بين أمم الأرض، وهذا من شأنه أن يرتفع بسهم أبناء الحضارة إلى مصاف الحضارات المماثلة في العالم الحي، وفي سبيل استعراض هذه المؤثرات تأتي رابعا: القيم الإنسانية كمعزز محوري في تأصيل المعنى الحضاري لأي حضارة قائمة على سطح الأرض، فليس القوة الطاردة للمثل هي ما ينظر إليها في تعزيز بقاء الحضارات، وإنما عبر قيمها الحاضنة للود الإنساني، والمتكاملة للجهد الإنساني، وشيوع مستويات الأمن الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، ولذلك تفشل اليوم، بل وتسقط سقطا ذريعا وسريعا من قائمة المعنى الحقيقي للحضارة أي شعب لا يرى في القيم الإنسانية القيمة المعنوية لبقاء الحضارة التي يتمثلها، ولا يستحق أصلا أن يشار إليه لا من قريب ولا من بعيد بأن فرد هذه المجموعة أو تلك على أنه متحضر، أو أنه ينتمي إلى حضارة ما.
كذلك يأتي خامسا: الدين ولأننا مسلمون فالإسلام الحقيقي هو لب الحضارة وقلبها النابض بالحياة والسمو، عبر تعاليمه الإنسانية الراقية والوجودية في الوقت نفسه، ولن يصلح حال هذه الأمة من مشرقها إلى مغربها إلا بوجود الإسلام الحقيقي، وليس الإسلام المشوه الذي عليه كثير من المسلمين اليوم، ولذلك نعيش اليوم مستويات التكالب على الأمة العربية/ الإسلامية؛ من كل حدب وصوب لتحجيم دوره، وأحقيته؛ المفترضة؛ على واقع الناس جميعهم، وليس المؤمنين به فقط، ومن هنا تتقزم المشروعات الإنسانية في الحياة الحاضرة؛ لابتعاد المسلمين أنفسهم عن حقيقة إسلامهم، وتكالب القوى العظمى؛ وبكل قوتها؛ وحرصها على أن لا تقوم للإسلام قائمة، ليقينهم أن الإسلام، الذي يدعو إلى الحياة الكريمة للأمم كلها، وإلى شيوع الأمن والرخاء، والسلام، والعدالة في كل تموضعات واشتغالات الإنسان اليومية، سيسحب البساط من بين أيديهم، ويركلهم إلى حيث مزبلة التأريخ، ولذلك نشهد مع كل افتعال الأزمات أن أعداء الأمة أول ما يصرحون به هو أن أزمتهم القائمة هي أزمة دينية، وأنهم ينطلقون من مبدأ ديني قبل كل شيء، ولذلك يستبسلون لتحقيق غاياتهم الكريهة، ونواياهم العفنة، وأنفسهم المعفرة بأتربة المعصية والفجور، ولذلك فهم: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة؛ وأولئك هم المعتدون) الآية (10)؛ من سورة التوبة.
وخاتمة هذه المؤثرات؛ وفق هذه المناقشة هنا؛ سادسا: اللغة؛ هذا البعد المعرفي، والإنساني، والثقافي، والاجتماع لمفرزات الحضارة، فهي رسول الهداية إلى الآخر، ومع الآخر، وبالآخر، فلا تقام من دونها علاقة، ولا يمكن من دونها حوار، ولا يتحقق من دونها اتصال؛ ولا يمكن من دونها الوصول إلى أراض مشتركة من التفاهم والتعاون، والتآزر، والتكامل، والتوافق، وتجفيف منابع الخلاف والتنازع؛ فاللغة هي العنوان الكبير لهذه المؤثرات مع الأهمية القصوى لبقية ما تم ذكره أعلاه، ولذلك فأول ما يحرص عليه الاستعمار البغيض هو فرض لغته الاستعمارية، ولو بقوة السلاح؛ حتى يتمكن من فرض نفوذه، وسلطته، وتسلطه، ومتى كانت اللغة حاجز بينه وبين ما يسعى ويشتهي، فإن مشروعه الاستعماري ذاهب إلى الفشل الذريع، والحياة مليئة بمثل هذه المواقف التي لم يعمر فيها الاستعمار بسبب عقدة اللغة، بخلاف التجارب التي نجح فيها، وفرض فيها لغته، وحقق الكثير مما يريد؛ وربما أكثر مما يتوقع.
يمكن القول هنا؛ وفق ما تمت مناقشته: إن ما تعيشه الأمم الأوروبية والأمريكية بفعل أنظمتها السياسية لا يمكن أن يطلق عليه بيئة حضارية، وإنما هي نوع من الفوضى، والعنترية، فالحضارة هي: «حالة متقدمة للمجتمع الإنساني تجاوز فيها هذا المجتمع الفوضى، ووضع أسسا تنظيميا لحياة الناس، مما نشر نمطا حياة أكثر راحة وفتح مجالات تفكير وعمل أكثر أمامهم كمجالات التعليم والفنون وغيرها»- بحسب؛ https://www.google.com فالصورة الخصبة لمفهوم الحضارة؛ يفترض أن لا يحصر على محدد جغرافي عندما يتم الحديث عن حضارة إنسانية شاملة، كما هو الادعاء القائم اليوم على شمولية الحضارة الغربية؛ فمسمى الحضارة لا ينطبق وفق التقييم أعلاه على الصورة الغربية ولا الأمريكية إطلاقا، فهم أقرب إلى قطاع الطرق منهم إلى صناع الحضارة، ويشهد على ذلك سلوكهم الفض منذ بدء انتشارهم على امتداد الكرة الأرضية، حيث قاست الشعوب من ويلاتهم، وعنجهيتهم، ونرجسيتهم، وكأنهم ولدوا من أرحام غير إنسانية، فهم إلى البهيمية الصلفة التي لا تهدأ إلا بإرواء غريزتها؛ أقرب منهم إلى الإنسانية، ولذلك مثلت أفلامهم التي يطلق عليها أفلام «الكاوبوي/ فتى البقر» أصدق تمثيل حيث تمثل أحداثها الخروج عن القانون، ولا يزالون كذلك وبعقليتهم تلك، بل هم أشد فتكا عما كانوا بفعل أدوات الحرب والقتل والتدمير المتطورة، فتطورت عندهم الأداة، ولم يتطور عندنا الفكر، وظلوا كما كانوا يعانون من جفاف إنساني مقلق؛ كحالة مزمنة؛ لا يمكن علاجها، أو التخمين بتاريخ صلاحية انتهائها، وهذه الصورة تذهب إلى أن صناع الحضارة لا يمكن أن يؤدوا أدوارا متناقضة (بناء/ هدم) في آن واحد، فهذا الأمر أقرب إلى العته والجنون منه إلى التعقل والتبصر، ولذلك هم يعيشون ازدواجية المعايير بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
يمكن القول ختاما؛ إن أنماط الحياة: الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والعلمية، والسياسية، تتعزز، ويلمس أثرها الآخر؛ سواء أكان هذا الآخر قريبا في محيطه الجغرافي، أو بعيد يمكن الوصول إليه، كلما شاع النضج الفكري عند الإنسان، إنعاشا لمفرزات حضارته القائمة، وهذا النضج مرهون بقدرة الإنسان على إيجاد نوع من التوازن بين متطلبات الجسد والروح، فإذا طغى جانب من هذين الجانبين على الآخر، أوجد خللا ظاهرا في مفهوم الحضارة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه المؤثرات من دونها لا یمکن
إقرأ أيضاً:
في مهرجان فرق الأقاليم.. عرض "سترة" لقومية سوهاج معالجة درامية لقضايا الأغتراب الإنساني وسط تعقيدات الواقع
قدمت فرقة سوهاج القومية، عرض "سترة" في ثالث أيام المهرجان الختامي لفرق الأقاليم المسرحية، في دورته السابعة والأربعين، على مسر السامر بالعجوزة والذي يقام برعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، وتنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة، برئاسة اللواء خالد اللبان، حتى 5 يوليو المقبل.
أحداث عرض "سترة"العرض عن نص "سترة من المخملين"، ورواية "صورة دوريان جراي" لأوسكار وايلد، دراماتورج وإخراج مصطفى إبراهيم.
ويناقش عددا من القضايا الإنسانية والاجتماعية، والتحديات اليومية التي يواجهها المواطن العادي في ظل البيروقراطية وتعقيدات الجهاز الإداري، من خلال معالجة درامية ساخرة.
قال المخرج مصطفى إبراهيم: إن اختيار النص جاء لكونه من الأعمال المسرحية التي لم تقدم كثيرا، وتدور أحداثه حول شخصية "إيفان"، أستاذ جامعي فقير عاش يحلم بالنجاح.
وذات يوم يلتقي صدفة بساحر يدعوه لدخول عالم السيرك، ويمنحه سترة فاخرة مقابل أن يشتري منه روحه ووقته، ويلاحظ إيفان أن السترة يغطيها وبر كثيف، وعندنا يحاول التخلص منه، يجد نفسه تائها داخل مجموعة من الإجراءات الروتينية، فيقرر التخلص من حياته.
وأوضح الفنان محمود جابر أنه يجسد شخصية البطل، وأضاف أن تلك الشخصية تمر بكثير من التحولات داخل العرض، بدءا من دخوله إلى عالم السيرك، ثم وجوده بين الموظفين، إلى أن يصل إلى مرحلة من الهذيان، محاولا الانتحار بسبب الروتين الذي واجهه.
من ناحيته، أشار الفنان أدهم جابر أنه قام بدور رجل الساعة أو الساحر، الذي يتحكم فى شخصيات العرض (الموظفين)، ويحاول استقطاب "إيفان" وإدخاله إلى السيرك.
وفيما يتعلق بتصميم الديكور، أوضحت المصممة فاطمة أبو الحمد، أن ديكور العرض جاء معبرا عن حياة السيرك لإضفاء نوع من البهجة على الأحداث، كما تم استخدام صور صممت بتقنية الذكاء الاصطناعي لتصوير الحياة البيروقراطية التي يعيشها الموظف.
أما عن الأشعار، أشار الشاعر محمود أبو زيد، أنها كتبت باللغة العربية الفصحى لتناسب طبيعة النص، كما أن الأغنية المقدمة جاءت معبرة عن الحالة النفسية التي يمر بها البطل خلال مشهد الانتحار.
صناع عرض “سترة”"سترة" تمثيل محمود جابر، أدهم جابر، بهاء الدين جلال، عاطف أحمد الناظر، يوسف منصور، يوسف إسلام، أحمد محمد، أسامة إبراهيم، معتز رفاعي، ملك أحمد، مي البدري، هبة رمضان، رضوی محمود، صافيناز محمد، عمرو صابر، أحمد حسن.
بالإشتراك مع محمد جاد الكريم، كريم الخشاب، زياد أحمد، محمد جمال، كريم ممدوح، شهاب ياسر، نصر الدين علي، يارا البدري، نورهان محمود، يارا إسلام، دياب كمال، إسلام عبد اللطيف، زياد أحمد، يوسف منصور، عبد الرحمن صلاح، محمد أمين، أسامة إبراهيم، وفاطمة شعلان.
أشعار محمد أبو زيد، ألحان أندرو صبحي، ديكور وملابس وإكسسوارات فاطمة أبو الحمد، إضاءة محمود علاء، ماكياج أبو بكر مظهر، ومخرج منفذ بهاء الدين جلال.
شهد العرض لجنة التحكيم المكونة من الناقد المسرحي د. محمد سمير الخطيب، الموسيقار د. طارق مهران، د. سيد خاطر، مهندس الديكور حازم شبل والمخرج أحمد البنهاوي، ومقرر لجنة التحكيم ومدير المهرجان الكاتب سامح عثمان.
وبحضور سمر الوزير، مدير عام الإدارة العامة للمسرح، وأحمد فتحي، مدير فرع ثقافة سوهاج.
المهرجان الختامي لفرق الأقاليم المسرحية الـ47 يقام بإشراف الكاتب محمد ناصف نائب رئيس الهيئة، والإدارة المركزية للشئون الفنية، برئاسة الفنان أحمد الشافعي، ويشارك به 26 عرضا مسرحيا من إنتاج الإدارة العامة للمسرح، تقدم مجانا للجمهور، ويصدر عنه نشرة يومية، برئاسة تحرير الشاعر والناقد يسري حسان.
وتتواصل فعاليات المهرجان اليوم السبت مع عرضين مسرحيين، الأول بعنوان "سينما 30" لفرقة البحيرة القومية، تأليف محمود جمال الحديني، وإخراج محمد الحداد، ويعرض على مسرح قصر ثقافة روض الفرج في السابعة مساء، بينما يستقبل مسرح السامر في التاسعة مساء عرض "الإسكافي ملكا" لفرقة المنيا القومية، تأليف يسرى الجندي، وإخراج عادل بركات.