يزداد الموقف الصهيو- أميركي من حرب الإبادة المستعرة في قطاع غزة تعقيدًا يومًا بعد يوم، وقد شرحت في مقالي الأسبوع الماضي أسباب هذا التعقيد، وأن هذا الحلف يسير في طريق مسدود، والخيارات أمامه باتت محدودة، الأمر الذي يعزّز التوافق التام بين الحليفين: الأميركي والصهيوني، رغم ما يظهر على السطح أحيانًا من تباين شكلي سرعان ما يزول، ليؤكد أن اليد العليا في هذه الحرب ليست للإدارة الأميركية، وإنما لحكومة الكيان الصهيوني واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، المتحكّم في القرارات التنفيذية والتشريعية الخاصة بهذه الحرب وأهدافها الظاهرة والباطنة.
التوافق التام بين طرفي التحالف الصهيو- أميركي، يؤكد أن اليد العليا في حرب الإبادة الجماعية في غزة ليست للإدارة الأميركية، وإنما لحكومة الكيان الصهيوني واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة
الاحتمال المثاليالمعطيات الحالية للمشهد تقول: إن الغموض لا يزال يلفّ إدارة رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو تجاه غزة ومرحلة ما بعد "حماس"، وجيش الكيان الصهيوني يتكبد خسائر مؤلمة في مدينتَي غزة ورفح، والعمليات اللوجيستية على الشريط الحدودي ومحور "نتساريم" متواصلة، والرصيف العائم بدأ في العمل، وداخل الكيان المحتل تتنامى شعبية اليمين المتطرف الذي يطالب بالاستمرار في الحرب حتى القضاء على حماس والمقاومة، وذلك فيما يستمر التخاذل العربي والإسلامي، وكان آخر تجلياته في القمة العربية في البحرين الأسبوع الماضي.
في ضوء كل ما سبق، فإنّ الاحتمالات المتوقعة لسير الحرب في المرحلة القادمة تبقى محدودة، وفي حال عدم حدوث تطوّرات مفاجئة محليًا وإقليميًا ودوليًا، فإن أبرز الاحتمالات تتلخّص فيما يأتي:
الأوّل: الانتصار الكامل:وهي الإستراتيجية التي يتبناها نتنياهو وحكومته منذ اليوم الأول لرد الفعل على هجوم "طوفان الأقصى" دون أن يفصح عن تفاصيلها حتى الآن، باستثناء التأكيد المتكرر على أنه لن يوقف الحرب حتى يتم القضاء على حركة حماس والمقاومة المسلحة، ويستعيد الأسرى والمختطفين.
وضمن هذا الاحتمال، قد يقوم جيش الكيان الصهيوني بمعاودة اجتياح كافة محافظات قطاع غزة، معتمدًا على ما يأتي:
تكتيكات عسكرية جديدة تهدف إلى تدمير البنية التحتية للمقاومة، عن طريق هجمات طاحنة تفوق كل ما سبقها، باستخدام القذائف التي تسلّمها الكيان الصهيوني من الولايات المتحدة مؤخرًا، وتتّسم بشدة الانفجار ودقة التوجيه، ولا يستبعد استخدام قذائف اليورانيوم المنضّب كما فعلت الولايات المتحدة لإسقاط نظام صدام حسين. التركيز على المناطق السكنية التي تتواصل فيها المواجهات، وتنطلق منها الصواريخ والقذائف، فتدمر ما تبقى من المباني، وتعيد ضرب المدمر منها مما يشهد تحركات لأفراد المقاومة. مواصلة العمل على الترحيل القسري للمدنيين إلى مناطق إيواء جديدة بعيدًا عن مناطق العمليات، لتجنب الاحتجاجات الرسمية والشعبية التي يثيرها سقوط المزيد منهم عالميًا. رفض العودة إلى التفاوض غير المباشر مع حماس. تشديد إجراءات منع إمدادات الماء والغذاء والدواء والوقود والذخيرة من الوصول لكتائب المقاومة المسلحة.وتتوفر حاليًا لهذا الاحتمال كافة الظروف السياسية والعسكرية داخل الكيان الصهيوني، ويهدف من ورائه إلى تحقيق الأهداف التالية:
الانتصار الكامل على حماس وكتائب المقاومة، عبر تدمير قدراتها العسكرية، وإنهاء نفوذها السياسي والاجتماعي في قطاع غزة. تدمير أكبر عدد من الأنفاق على مَن فيها، وقطع التواصل فيما بين مجموعات المقاومة التي نجت من القصف. إجبار المقاومة على الاستسلام والانسحاب من قطاع غزة، أو مواجهة مصيرها تحت الركام.أما هدف استعادة الأسرى والمختطفين فليس له مكان في هذا الاحتمال، لأنه لا يمثل أهمية عليا لنتنياهو وحكومته مقارنة، بهدف القضاء على حماس، وما سيترتّب عليه من أعمال ومشروعات لم يكشف النقاب عنها بعدُ.
ويعتبر هذا الاحتمال هو المثالي بالنسبة للتحالف الصهيو-أميركي، الذي ينتظر بفارغ الصبر هزيمة قاضية على حركة حماس وكتائب المقاومة، على غرار هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية وإخراجها من لبنان عام 1982م، وهزيمة تنظيم "داعش" و"القاعدة" في العراق وأفغانستان، ويبدو أن الولايات المتحدة قد أعدت العدّة داخليًا وخارجيًا لتسهيل القيام بذلك.
يعتبر احتمال التصعيد الشامل ضد حماس والمقاومة هو المثالي بالنسبة للتحالف الصهيو-أميركي، الذي ينتظر بفارغ الصبر القضاء عليها، وإعلان الانتصار
الثاني: الانتصار الجزئي
وفيه يشن جيش الكيان هجمات محدودة ضمن قواعد اشتباك جديدة، للرد على مصادر الهجمات التي تقوم بها المقاومة، على غرار ما يحدث في الجبهة الشمالية في مواجهة حزب الله.
ويهدف الكيان الصهيوني في هذا الاحتمال إلى:
استكمال وترسيخ الجغرافيا الجديدة لقطاع غزة، وتشمل متغيرين أساسيين؛ الأول: توسيع الشريط الحدودي الشمالي والشرقي مع الكيان الصهيوني بعمق كيلومتر داخل الأراضي الزراعية الفلسطينية، بذريعة توفير المزيد من الحماية للمستوطنات الحدودية، والثاني: فصل شمال القطاع عن جنوبه، عن طريق محور "نتساريم" الواصل من شرق غزة إلى شاطئ البحر في غربها، بالقرب من الرصيف الأميركي العائم الذي بدأ باستقبال السفن الإغاثية حديثًا. وهكذا يفصل غزة وجباليا وبيت حانون تمامًا عن محافظات القسم الجنوبي من القطاع. ملاحقة جيوب المقاومة في الجزء الشمالي؛ بهدف القضاء التام عليها هناك. مواصلة الضغط على من تبقى من سكان شمال غزة، لدفعهم إلى الانتقال لمراكز الإيواء الجديدة؛ تمهيدًا لنقلهم الطوعي عن طريق الرصيف العائم إلى دول العالم المختلفة على مدى السنوات التالية التي ستكون غزة فيها غير صالحة للحياة.وهذا الاحتمال يرتبط أكثر من سابقه بالغموض الذي يحيط به نتنياهو نفسه حول مرحلة ما بعد القضاء على حماس والمقاومة، وما إذا كانت خطة نتنياهو تهدف إلى ضمّ الجزء الشمالي من قطاع غزة بعد تفريغه بصورة شبه كاملة؛ تمهيدًا لضمّ القسم الجنوبي في مرحلة قادمة.
ومع ذلك؛ لن يكون هذا الاحتمال هو الخيار الأفضل لنتنياهو، لما سيترتّب عليه من نتائج، وفي مقدّمتها:
أن غياب النصر الكامل والشامل سيحرم نتنياهو وجو بايدن من تعزيز مواقعهما السياسية للمرحلة القادمة. الفشل في استعادة الأسرى والمختطفين، الذين لم يتمكن جيش الكيان بكل جبروته وإمكاناته من اكتشاف أماكن تواجدهم حتى الآن. أنه يتيح المجال لكتائب المقاومة لإعادة بناء نفسها، وإحكام سيطرتها على الجزء الجنوبي، لتواصل منه استهداف التحالف الصهيو-أميركي في الجزء الشمالي. الثالث: التصعيد المحدود لتحسين شروط التفاوضوفيه تتواصل الهجمات ضد كتائب المقاومة في رفح وسائر القطاع؛ بهدف الضغط عليها لتقديم تنازلات في مفاوضات التوصل إلى هدنة مؤقتة، للإفراج عن الأسرى والمختطفين، وإدخال المساعدات الإنسانية التي يحتاجها سكان قطاع غزة، تحت ضغط المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية والشارع والانتخابات الأميركية والإسرائيلية القادمة. وهذا الاحتمال لا حظّ له، للأسباب التالية:
سيعزز فشل التحالف الصهيو-أميركي في القضاء على حماس وكتائب المقاومة، وسيبدو مهزومًا أمامها. سيخرج حماس وكتائب المقاومة منتصرة، وسيعزز مكانتها داخليًا وخارجيًا على كل المستويات، كما سيمكّنها من التقاط أنفاسها، وإعادة ترتيب صفوفها، واستكمال نواقصها، ومعالجة جرحاها؛ استعدادًا لجولات القتال القادمة. يحتمل أن يؤدّي ذلك إلى انهيار الائتلاف الحكومي للكيان الصهيوني وخروج نتنياهو من السلطة.ويبقى الاحتمال الأول هو الاحتمال الأقوى من وجهة نظر التحالف الصهيو-أميركي، بين هذه الاحتمالات الثلاثة. فماذا أعدّت حماس والمقاومة لمواجهة هذا الاحتمال؟
نبحث ذلك في مقال قادم إن شاء الله.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الأسرى والمختطفین الولایات المتحدة الکیان الصهیونی القضاء على حماس حماس والمقاومة هذا الاحتمال قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
حول السلاح في لبنان.. والكلام عن نزعه
إن افتراض وجود سلاح كاسر للتوازن هو منافٍ لما ذكره الكيان الصهيوني ومن يتلاقون معه في لبنان بعيد انتهاء معركة "أولي البأس". بعض أولاء كتبوا حينها عن تشييع حزب الله وليس فقط نصر الله، متجاوزين حتى مقولات العدو وتقييمه كتعبير عن حقد واغر على مكون المقاومة في لبنان والموقف الأخلاقي والإنساني من القضية الفلسطينية، وما انفكوا يرددون أن المقاومة انتهت وأن الزمن الأمريكي بدأ. فما عدا مما بدا حتى عادوا ليفتحوا الملف طالما أن المقاومة قُضي عليها؟! إن ما نسمعه من استدراج عروض من قبل هؤلاء لضرب المقاومة؛ يشير إلى أننا أمام قوى وزعماء لا يصح ائتمانهم لا على دولة ولا على مؤسسات ولا حتى على شراكة على مستقبل وطن وشعب وأسرة لبنانية، لأنهم بفعلتهم هذه يهددون الصيغة اللبنانية.
أما إذا كان الواقع يفيد بأن المقاومة لا تزال حية ولديها عناصر قوة عديدة ومع فرض وجود سلاح يهدد إسرائيل بالفعل، فهذه ورقة قوة للبنان ولفلسطين ولا يجب التفريط بها قبل إنجاز رؤية أمن وطني شامل تضع خطة واقعية لحماية لبنان. وأي كلام آخر يعني خدمة إسرائيل، وهو ما يجب التصدي له، لأن قضايا الأمن لا تخضع للمساومة مع العدو ولا تنعقد مبانيها بالإذعان للخارج واسترضائه، ولأن المقاومة لا تعيق احتكار الدولة لسيادتها في الداخل. ورغم الخضة التي تلقتها في معركة أولي البأس لكنها حافظت على مستوى غير مسبوق من الثبات الميداني. ليس هذا فحسب، بل إن المقاومة لا تنافس أو تزاحم الدولة على قرار الحرب والسلم، بل تراها عوّضت غياب القرار في الدولة إزاء أبرز تحد (الاحتلال الإسرائيلي والعدوان الدائم على لبنان).
إن قرار الحرب والسلم ليس شعارا بل قرار دولة مستقلة وسلطات متحررة من إرغامات الخارج وتهديداته، لمصلحة شعبها والإنسان فعلا لا ادعاء. وليس نقاش قرار الحرب والسلام كلاما للتورية دون تحديد معنى ومضمون مصالح لبنان بعقلانية، أو السير بما تفترضه أمريكا للبنان من دور وتتصوره له من أمن.
ولما كان جزء كبير من قوى وأحزاب لبنان لم يخرج بعد من عقلانية وواقعية معينة معقولة، فالمنطق والمصلحة يقولان إنه لن يكون هناك سبيل في مواجهة التحديات لا سيما الوجودية إلا بالحوار والتوافق بما يحقق حماية لبنان، وتأكيد حرية قراره واستقلاله ويحفظ دوره، ومن يريد أن يتخلى عن مسار الحوار في قضية محورية وكيانية بهذا الحجم فهو عمليا يُسهم أو يرتضي التغيير في أمور أساسية أخرى تمس البنية اللبنانية، وكما هو معلوم فإن الصيغة اللبنانية حساسة للغاية.
وعليه، ما الذي يمكن أن تكون عليه الخيارات، لا سيما للأمريكي المستعجل لإنجاز والإسرائيلي الذي يبدو أن معاركه وحروبه تسير بلا أفق سياسي واستراتيجي واضح؟
- أولا: الخيار الإسرائيلي بتوسيع الاحتلال البري للبنان. هذا يعني أن العدو سيكون من الناحية القانونية والدستورية في مواجهة الجيش اللبناني المعني بالدفاع عن أرضه في وجه عدو لبنان، ووفق ما وافقت عليه السلطة بعيد الحرب من بنود. لكن هذا العمل فيما لو حصل سيزيد من مبررات نظرية المقاومة ومسوغاتها وحقانية منطقها ومشروعيته، وسيعطيها دفعا كبيرا ويخلق لها فرصا في تطوير المواجهة البرية واستنزاف العدو، وسيكون ذلك بمثابة غرق إسرائيلي في الوحل اللبناني دون رؤية لنهاية الطريق.
كما أن ذلك لن يجلب الاستقرار للمنطقة بل سيجعلها مرشحة لاهتزازات وخضات كبيرة، لا سيما أنها حتى اللحظة لا تزال تعيش اضطرابا شديدا ولم تستقر توازناتها على وجهة واضحة. كما أن ترامب صار أكثر حذرا فيها بعد الخطوة الأمريكية-الإسرائيلية الناقصة وغير المحسوبة بما يكفي في الجولة الأخيرة مع إيران، حيث تعززت مكانة وموقع الأخيرة في الإقليم ودوليا، على عكس ما افترضت أمريكا.
ولا يجب أن ينسى أي محلل أن ثقافة المقاومة تقوم على الكرامة والحق والأخلاق والدين، بحيث لا ترضخ أو تستسلم بالتهديد بالقتل أو الحرمان، ليس هذا فحسب، بل إن للمقاومة حلفاء في المنطقة لن يتوانوا في نهاية الطريق عن مساعدتها بأشكال مختلفة، وهذا ما سيرشح المنطقة للانفجار مجددا وهو ما يهرب منه ترامب لأن تداعياته ستكون كارثية، ناهيك عن أن كيان العدو لا زال يعارك في غزة منذ سنتين دون أفق ولا نتيجة واضحة، وغزة أَولى له ولمصالحه والحسابات حكومته من لبنان وكذلك الضفة.
ليس هذا فحسب، بل إن وقف الحرب على غزة فيما لو مضى به ترامب سيؤدي استراتيجيا إلى فشل كل أهداف العدو الصهيوني التي وضعها منذ طوفان الأقصى وافترض أنه أمام فرصة عمْر لتحقيقها، وسيظهر عجزه رغم كل آلة القتل والإبادة. وفي حال حصول وقف الحرب على غزة فإن هذا سيؤكد أن الصمود والمقاومة هما الحل الوحيد للحفاظ على الحقوق، ولا خيار آخر للشعوب في مواجهة العدو الصهيوني العنصري والإبادي إلا المواجهة، وكل خيار آخر هو عبارة عن اغتيال الهوية والوجود الفعال لصالح قوى التسلط الدولية والغرب وأمريكا وإسرائيل.
وليس غريبا أن المقاومة أُخذت عبر ما حدث في أولي الباس، وأن خطوة إسرائيلية من هذا النوع ربما تعيد فرصة للمقاومة وقد تفاجئ العدو الصهيوني بقتال شديد ومكلف، ولا يجب أن نغفل أن خطوة إسرائيلية كهذه لن تحظى بإجماع دولي في بيئة دولية منقسمة ولا بإجماع عربي ولا إسلامي، أي أنها لا تمتلك أي عنصر من عناصر النجاح، بل قد تكون فرصة لجبهة المقاومة لتعزز الاصطفاف الدولي من جديد بين من يدافع عن القانون الدولي؛ ومن يضرب به عرض الحائط تاركا أسس النظام الدولي للتأويل والاستنساب والفوضى بل والتداعي التام.
بناء على كل ما تقدم يمكن استبعاد هذه الفرضية، أي محاولة الصهاينة القيام بعمل بري بتوسيع احتلالهم للبنان بدل الخروج منه نهائيا (أزمة الصهاينة أنه لو حصل تراجعهم في أي ساحة دون شروطهم، إن في غزة أو لبنان، فسيعني انتصار جبهة المقاومة وفشلا استراتيجيا لإسرائيل وسرعان ما تظهر تداعياته الداخلية عندهم، لذلك نتنياهو مضطر لأن يبقي كل الجبهات متوترة أو مشتعلة إلى حين أن ينضج تنازل مهم من خصمه. وهذا يبدو حلما وخيالا ليس أكثر؛ لأن قوى المقاومة لن تستسلم مهما كانت التضحيات).
- قد يتحدث البعض عن خطوة عسكرية من قبيل ضربة سريعة دون عمل بري واسع، وهذا دونه سؤال: ما الجديد الذي سيتحقق للكيان الصهيوني إلا إذا كان المقصود قتل المدنيين في لبنان؟ وهذا لا يبدو خيارا يحقق هدفا واقعيا بقدر ما يضعف موقف الاحتلال، وقد يقابَل حينها بردود فعل من كل الشعوب الحرة ومن المقاومة وحلفاء المقاومة، وسيضع الكيان مجددا على صفيح ساخن وتوتر إضافي دون هدف واضح ومحدد، ناهيك عن أن ما يقوم به اليوم قد يكون أفضل لحسابات الربح والخسارة الكلي مقارنة بما لو قام بجولة جوية كبيرة.
- يبقى هناك خيار قد يختلف عن ما سبق لجهة الغطاء القانوني؛ كأن تقوم السلطة اللبنانية كما في السبعينات بالطلب الرسمي من النظام السوري بضغط أمريكي أو عبر جهات وأنظمة عربية للتدخل لنزع سلاح المقاومة بالقوة، وهي فكرة راودت بعض الأنظمة في الخليج ذات يوم. هذا ممكن من الناحية القانونية، لكن تبعاته أنه سيطيح باتفاق الطائف أولا، وسيفتح المواجهة بين حلفاء المقاومة وبين الأنظمة العربية المتواطئة، لا سيما أن أي خطوة يمكن أن تبادر إليها السلطة في لبنان بهذا الاتجاه ستعني أنها جاءت بمساندة من بعض الأنظمة العربية ما سيجعل هذه الأنظمة جزءا من الصراع. (يتحدث الإعلام أن الحكومة المؤقتة في سوريا يمكن أن يطلب منها ذلك في سياق تثبيتها أمريكيا، لكن أظن أن الأمر فيه مبالغة، فلا زال الوضع هشا في سوريا، ولا تزال قوى إسلامية كبيرة في سوريا داعمة لفلسطين وتؤمن بالمقاومة ،ويصعب أن تجاري الحكم هناك إذا ما طلب منه ذلك، ولا أعتقد أن المزاج الشعبي والإسلامي في سوريا يرتضي التطبيع). كما أن هذا الخيار مستبعد لأنه لا الرئيس جوزيف عون ولا الجيش الوطني يمكن أن يفكر به.
- أما عن إمكانية استصدار قرارات دولية تحت الفصل السابع لمواجهة تيار المقاومة في لبنان، فهذا مستحيل في ظل الواقع الدولي، وبعد أن أوقع الغرب روسيا في كمين ناجح في سوريا، وبعد أن أصبحت موازين القوة في المنطقة متأرجحة، وحدود القوة الأمريكية معروفة أكثر من ذي قبل لخصومها وأعدائها.
- الخيار المرجح، أن يتقدّم الأمريكي بمبادرة شاملة لـ"السلام" كما يدعي، ويفترض أنها ستنجح ويعمل عليها بقوة، وترامب لا زال يتطلع لنيل جائزة نوبل للسلام فالفكرة تدغدغ نرجسيته. لكن نعود ونقول: "الله عُرف بالعقل والمنطق وبالشعور السليم"، وكذلك كل الحقائق والوقائع الكبرى تعرف بالدليل والاستقراء. إن السلام المزعوم فشل في ظروف أفضل للغرب وفي ظل أحادية أمريكا مطلع التسعينات، وفي ظل عروض "أسخى" أعطيت للعرب حينها ولو على الورق، وفي ظل ظروف هي أصعب على قوى المقاومة، فحينها كانت لا تزال غضة فضلا عن أن تكون جبهة! فإذا كانت صفقة السلام في التسعينات فشلت عن بلوغ مقاصدها بالسلام المزعوم، فكيف سينجح ترامب اليوم، وكل شيء في عالمنا تبدل حتى أمريكا نفسها صارت أمريكا أخرى؟
لذلك نفترض أن الطريق الوحيد الممكن هو الحوار بين اللبنانيين، وفقط الحوار، وعلى الأجندة والتوقيت اللبناني، فقط التوقيت الوطني وليس على أي توقيت آخر. ومهما بلغت الضغوط وبأي اتجاه ذهبت يبقى لأكثر من نصف الشعب اللبناني رأيه ومنطقه وقناعاته في تعريف الكرامة والعزة والاستقلال والسيادة وموقع لبنان من القضية الفلسطينية، وسيواجه مهما كانت الأثمان، ففي المواجهة إمكانية بقاء واستمرار، بينما في الاستسلام لشروط الغرب المتوحش والمخادع لن يكون إلا الموت بعينه، والحياة تحت هيمنة الظالمين ليست إلا موتا.. والسلام.