مؤتمر القاهرة وفرص السلام في السودان
تاريخ النشر: 5th, June 2024 GMT
تبدو مآلات الحرب السودانية اليوم أكثر خطورةً من أي وقت مضى، في ضوء المعطيات المخيفة التي كشفت عنها تلك المآلات؛ من شبح للمجاعات وانهيار الدولة المركزية وما يترتب عن ذلك الانهيار في منطقة جيوسياسية يجاور فيها السودان خمس دول شهدت حروبًا أهليةً طاحنة، إلى جانب المخاطر الأخرى التي يمكن أن تترتب عن انهيار الدولة في السودان، من مظاهر الجريمة المنظمة، والهجرة السرية، والإرهاب، فضلًا عن وصول أوضاع الاقتتال الجارية الآن إلى الحرب الأهلية الشاملة.
تلك المآلات ستعني بالضرورة أن مصالح كبرى لدول عالمية وإقليمية ستتضرر وهي مصالح لا يمكن غض الطرف عنها في ظل التشابك الحيوي الذي كشفت عنه طبيعة التجارة الدولية اليوم، إلى جانب التوازنات الجيوسياسية التي ستضطر تلك الدول إلى البحث عن حل للأزمة السودانية، بالرغم من انشغال العالم اليوم بحربين؛ الحرب الروسية-الأوكرانية، وحرب إسرائيل في غزة.
وتبدو كل من مصر والولايات المتحدة الأمريكية هما الدولتان المعنيتان أكثر بخطورة مآلات الحرب السودانية على مصالحهما الأمنية والجيوستراتيجية.
فمن ناحية تدرك الولايات المتحدة، أن هناك أكثر من سبب يدفعها إلى البحث عن حلول للأزمة السودانية، فالحرب في السودان اليوم لا تشبه أي حرب أهلية في إفريقيا. فالصومال الذي انهارت فيه الدولة منذ عام 1990 لم يكن سوى طرف على هامش القرن الإفريقي، وليس لموقعه الجيوستراتيجي تلك الخطورة التي يمثلها الموقع الجيوسياسي للسودان، فضلًا عن أن هناك دواعيَ أخرى تجعل من الولايات المتحدة معنيةً بوقف الحرب في السودان على نحو خاص، ذلك أن الولايات المتحدة قد أدركت تمامًا أن رغبة الشعب السوداني في الديمقراطية والدولة المدنية رغبة صادقة، ولاحظت أمريكا تلك الرغبة عبر وفرة من المعطيات التي عكسها المشهد السياسي في السودان منذ عام 2019 سواءً عبر إسقاط الجنرال عمر البشير في أبريل عام 2019 أو في مقاومة عملية فض اعتصام القيادة العامة في يونيو من العام ذاته، أو في رفض انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي واجهه الشعب السوداني بمظاهرات انطلقت منذ اليوم الأول للانقلاب وظلت مستمرةً لأكثر من عام لم يستطع فيه الانقلابيون تكوين حكومة، ولا تسيير دولاب العمل العام بسبب تلك المظاهرات التي دفع الشعب السوداني فيها أكثر من 120 شهيدًا وشهيدة من خيرة أبناء الشعب السوداني، حتى اضطر الانقلابيون للتوقيع على الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر 2022 مع القوى السياسية، لكن سرعان ما انكشفت رغبة الجيش وحلفائه من عناصر النظام القديم في تفجير الوضع السياسي باندلاع حرب 15 أبريل 2023 التي لا تزال مجرياتها راهنة.
ومن جهة أخرى، تدرك مصر مآلات خطر الحرب في السودان على مصالحها القومية وعلى رأسها الأمن المائي الذي يعني أن وضعًا آمنًا في السودان هو ضرورة استراتيجية لأمن مصر القومي، ولقد ظهرت هذه الحاجة على نحوٍ ملحٍ مع بروز تلك المخاطر المذكورة لمفاعيل الحرب في السودان، لذلك تبدو مصر اليوم أكثر من أي وقت مضى استعدادًا للبحث عن سلام في السودان والبحث جديًا عما يضمن حماية مصالحها الأمنية الجيوستراتيجية هناك.
ولعل الدعوة إلى مؤتمر لحوار سوداني-سوداني في القاهرة يوم 30 يونيو تعتبر أبرز العلامات التي تعكس حرص مصر في ضوء معلومات سربتها الولايات المتحدة للأولى محذرةً لها من أن وضع الحرب في السودان بحلول شهر يوليو قد يصل إلى نقطة اللاعودة وعلى نحو يعكس خطورةً شديدةً على أمن مصر ودول المنطقة.
ولقد ترافق مع تلك الجهود من أجل البحث عن السلام في السودان حدث كبير هو قيام المؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) بقيادة الدكتور عبدالله حمدوك، في أديس ابابا بين يومي 27 و30 مايو الماضي وهو مؤتمر حشد كثيرًا من القوى الحزبية والنقابية ولجان المقاومة والإدارة الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، وعكس التمثيل فيه طيفًا واسعًا للمجتمع السياسي السوداني، ونرجو أن يكون لنجاحه اللافت دور كبير في تعزيز الحل السياسي بالوصول إلى اتفاق ينهي الحرب في السودان ويعزز قيام حكومة مدنية، لا سيما وأن تنسيقية (تقدم) قد أعلنت موافقتها المبدئية على المشاركة في مؤتمر الحوار السوداني-السوداني بالقاهرة في 30 يونيو الجاري.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الحرب فی السودان الشعب السودانی أکثر من
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: الرباعية الدولية .. صراع المصالح يبدد فرص الحل..!
في لحظة كانت الأنظار تتجه فيها إلى اجتماع الرباعية الدولية المقرر انعقاده في واشنطن، باعتباره فرصة لإحداث اختراق في مسار الحرب السودانية، جاء الإعلان المفاجئ عن إلغائه ليكشف عن تعقيدات الملف السوداني وهشاشة المبادرة الدولية ذاتها.
فهذا الاجتماع الذي كان يُفترض أن يُتوَّج مسارًا تنسيقيًا دوليًا نحو السلام، تحوّل إلى ساحة لتضارب الأجندات داخل الرباعية التي تضم: الولايات المتحدة، والسعودية، والإمارات، ومصر. وقد بدأ واضحًا أن غياب الرؤية المشتركة طغى على أي إمكانية لتفاهم حقيقي.
ما تسرّب من كواليس دبلوماسية بحسب الشرق الأوسط أشار إلى أن الخلافات لم تكن حول الهدف المعلن، بل حول الوسائل والآليات، وعلى رأسها مسألة توسيع المشاركة لتشمل أطرافًا مثل بريطانيا، وقطر، والاتحاد الأوروبي. وهي خطوة دعمتها واشنطن، بينما رفضتها أطراف أخرى خشية فقدان السيطرة على القرار الجماعي.
هذا الانقسام لم يكن شكليًا، بل عبّر عن تباين جوهري في أولويات كل طرف: فبينما تنظر الولايات المتحدة إلى السودان من منظور جيوسياسي مرتبط بصراعات النفوذ مع الصين وروسيا، تركّز القوى الإقليمية على استقرار حدودها ومصالحها المباشرة. أما السودان نفسه، كدولة وشعب، فيغيب عن معادلة الحل وصناعة القرار.
إقصاء الجيش السوداني والحكومة الرسمية عن الاجتماع، رغم أن القضايا المطروحة تشمل الترتيبات الأمنية والمساعدات الإنسانية، أثار شكوكًا واسعة حول جدية المبادرة. فكيف يُناقش وقف إطلاق النار دون حضور من يمتلك سلطة فرضه على الأرض؟ هذا الغياب اعتُبر مؤشرًا إضافيًا على أن ما يُطبخ خلف الأبواب المغلقة لا يعكس تطلعات السودانيين، بل يُعيد إنتاج خارطة النفوذ الإقليمي بواجهة سياسية.
وقد ازداد المشهد تعقيدًا بعد إعلان مليشيا الدعم السريع وتحالف “تأسيس” مؤخرًا عن تشكيل حكومة موازية في مدينة نيالا بجنوب دارفور، حملت اسم “حكومة السلام والوحدة”، برئاسة محمد حمدان دقلو “حميدتي” ، مع تعيين عبد العزيز الحلو نائبًا، ومحمد حسن التعايشي رئيسًا للوزراء.
هذه الخطوة، التي ترافقت مع إعادة تفعيل الهياكل التنفيذية والإدارية في مناطق سيطرة المليشيا، تجسّد فعليًا الأطماع الإقليمية ، وتحول الصراع من نزاع على السلطة إلى تنازع على الجغرافيا والشرعية. وقد قوبل هذا التطور برفض واسع من الحكومة السودانية والنخب والأحزاب الوطنية والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتباره محاولة لتقسيم البلاد.
هذا الإعلان يُقوّض أي مسار تفاوضي يُدار من الخارج دون مشاركة حقيقية للفاعلين على الأرض، ويؤكد أن التراخي الدولي والتنازع داخل الرباعية لا يفتحان بابًا للسلام، بل يُمهّدان لمناخ تقسيم غير معلن. كما يُعيد طرح الأسئلة حول مشروعية أي مبادرة لا تستند إلى تفويض شعبي أو غطاء سياسي من مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.
فشل اجتماع واشنطن لا يمكن اعتباره مجرد تعثّر دبلوماسي، بل هو دليل إضافي على غياب إرادة دولية موحدة، وافتقار المبادرة لتمثيل عادل وغطاء قانوني. فالسلام في السودان لا يُبنى على تفاهمات فوقية أو تسويات نفوذ، بل على مسار سياسي شامل ينطلق من الداخل ويستند إلى شرعية وطنية، لا وصاية فيها لأحد على أحد.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل دروس التجارب الإقليمية القريبة. ففي ليبيا واليمن، لعبت أطراف إقليمية ودولية أدوارًا مزدوجة: فاعلة في النزاع ووسيطًا في آنٍ معًا، ما أفرغ مسارات السلام من مضمونها الحقيقي.
تلك الوساطات، بدلاً من أن تستجيب لصوت الضحايا، تحوّلت إلى أدوات لتمرير صفقات النفوذ. وكانت النتيجة حروبًا متجددة واتفاقات هشة. وإذا فشلت تلك القوى في بناء السلام هناك، فما الذي يجعلها مؤهلة لقيادة مسار ناجح في السودان، وهي لا تزال تتعامل معه بعقلية النفوذ لا المسؤولية؟
ربط مستقبل السودان بمصالح الخارج هو وصفة مكرّرة لإعادة إنتاج الفشل، ما لم يكسر السودانيون هذا النمط عبر مراجعة جذرية وشجاعة لخلافاتهم، وصولاً إلى مشروع وطني خالص، ينمو من داخل المجتمع السوداني، بدعم مؤسسات الدولة والجيش والأحزاب السياسية.
وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن ما يجري في السودان اليوم ليس مجرد صراع على السلطة أو موارد الدولة، بل هو صراع على تعريف الدولة ذاتها. والرباعية الدولية، بصيغتها الحالية، لا تملك مقومات الحل بقدر ما تعكس تاريخًا مخزيا ساهم في إدخال السودان إلى نفق الحرب، وسط توازنات متقلبة ومصالح متقاطعة.
الحقيقة التي يجب الاعتراف بها هي أن أي سلام لا ينبع من إرادة السودانيين، سيُولد ميتًا. أما المشروع الوطني الجامع، فلن يأتي بقرار دولي أو إعلان سياسي من نيالا أو واشنطن، بل بإرادة داخلية تفرض حضورها وتجبر العالم على الإصغاء.
دمتم بخير وعافية
.إبراهيم شقلاوي
الخميس 31 يوليو 2025م
[email protected]