أعجبني رد بعض منسوبي "تقدم" على منتقديهم، بأن من رأى في "تقدم" منقصة عليه أن يسلك طريقاً خاصاً به، وأن "تقدم" لم تقل أنها مفوضة من الشعب، وأن ما قدمته من رؤية تأسيسية اجتهاد خاص بها، هذا الرد يدخل من باب ممارسة الديمقراطية، وينبئ عن مستقبل مشرق وزاهر لهذه الديمقراطية التي عشقها السودانيون زماناً وبذلوا في سبيلها الأنفس العزيزة، وليس أدل على هذه التضحيات من الدماء المسالة والمهدرة منذ العام الفاتح لاستقلال البلاد، والناظر لفسيفساء الكيانات السودانية يرى من بين الثقوب عظم طموحات هذا الشعب الأبي، الذي لا يرضى بالجلوس حول الماعون الضيّق، فمنذ أن علم الناس أن هنالك شعوب آفرو- عربية ارتضت لأن تتحد مع بعضها، برزت احزابها وتنظيماتها السياسية مع ضربة البداية، وما حدث في المؤتمر التأسيسي لتحالف "تقدم" بأديس أبابا يؤكد على حتمية ظهور تيار ثالث، يتجاوز التيارين المتصارعين منذ تكوين حكومة الانتقال عقب إسقاط الدكتاتور، لقد صمت أنصار التيار الثالث كثيراً وصبروا على أذى التيارين المتصارعين زمناً طويلاً، والآن جاءت السانحة التي لابد من أن يقول فيها الصامتون كلمتهم، دون حياء أو خجل، لا سيما وأن عالم ساس يسوس يحترم الذي يفصح عن برنامجه المخالف لمنهاج الأب الروحي، الأب الذي يظن أن جميع أبناءه راضين عما يفعل، وكما يقول المثل السوداني أن الذي يكسو وجهه الحياء ولا ينظر لوجه ابنة عمه لا يستطيع أن يتزوج منها، والمتابع لتيار الفلول منذ تكوين جبهة الميثاق الإسلامي، يلحظ (قوة العين) التي يتمتع بها هؤلاء الاخوانيون، رغم خطل مشروعهم المكشوف والمفضوح والفاضح، حيث تجدهم يتلون القسم الغليظ ويعاهدون الناس ورب الناس، على أن لا يحيدوا عن درب التداول السلمي للسلطة، ويقسمون على تبني النهج الديمقراطي، وسرعان ما يكفرون بما أقسموا عليه ليعودوا لضلالهم القديم، ومن سخريات الأقدار أن هنالك بعض من بنات وأبناء شعبنا يتبعونهم الحافر خطو الحافر.
الطريق الثالث تفرضه ضرورة المرحلة وأدبيات الثورة المسلحة، المندلعة في منتصف شهر ابريل من العام الماضي، وقد بان لكل متابع حقيقة وصول الثورتين المسلحة والسلمية لحدود فاصلة، لا يمكن بعدها أن تتوافقا على كل كبيرة وصغيرة حول مشروع التغيير، وقد حدد مؤتمر تأسيس "تقدم" خطه السياسي الذي لا يتفق تمام الاتفاق مع خط الثورة المسلحة، هذا رغم وجود بعض الداعمين للثوار المسلحين بين صفوفهم، الذين يحاولون بصعوبة إيجاد أرضية مشتركة بينهم والسلميين، الذين لا يتنازلون عن مبدأ تصفية الثورة المسلحة (حل الجنجويد)، بعد تحقيق السلام وصناعة الدستور الجديد، هذه الحقيقة أصبحت عارية لمن أراد أن يستبين معالم الطريق الثالث، فمجهودات ثوار أبريل باءت بالفشل حينما حضر ثوار ديسمبر، الغاضبين على الإبريليين لماضيهم المعلوم مع النظام البائد حينما كانوا جزءًا منه، دون أدنى مؤشر لبادرة تسامح مع من تاب وأصلح، فالديسمبريون والتقدميون لايعتقدون في مبدأ التوبة، ولا يؤمنون بشرعة "عفا الله عما سلف"، لاكتوائهم بنار هذا التقليد السوداني المهادن، المتخذ من اللون الرمادي نهجاً في معالجة المشكلات الاجتماعية والسياسية، ومفترق الطرق هذا اشتعلت شرارته عندما هتف ذلك الثائر الديسمبري بوجوب حل منظومة ثوار أبريل العسكرية، وقابله من الجانب الآخر ثائر أبريلي جاهزي لم يقدر صدره على احتمال غلواء الذي لا يقيم وزناً لدماء الشباب الغر الميامين، الذين أفنوا زهرة شبابهم في مقارعة باطل الفلول ميدانياً ،عبر معارك باسلة وثّقت لها تقنية معلوماتية العصر وليس تقارير تشرتشل المراسل الحربي، الذي غطى أحداث المعركة الفاصلة التي دارت قبل قرن ونيف بين المستعمر القديم وأجداد ثوار أبريل الحاليين، فالفراق بين الثورتين أصبح أمراً واقعاً مهما حاول المسهلون تخفيف وطأة الحقيقة الصارخة، التي أبرزت أنيابها داخل قاعة التأسيس بين هذين الثائرين، والمثل السوداني ينبهنا لاستحالة تغطية النار بالعويش، والفعل السياسي والثوري اجتهاد بشري خالص، الفائز فيه هو ذلك الذي ليس بمضياع لفرصته.
الثوار المسلحون عليهم البحث عن اسم جديد يواكب المرحلة، مثلما خرجت "تقدم" من جلباب "قحت"، في مقارعتهم للفلول اليائسين المتشبثين بشرعية زائفة لحكومة نازحة إلى ميناء السودان الأول، وليختر الثوار المسلحون ما يناسبهم من الجلابيب – ثوار أبريل – الجيش الوطني الحر – حرس الدولة – الحرس السوداني، وكما هو واضح الآن أن اندلاع الحرب قد صفّر عداد العسكر والساسة والمتمردين السابقين، فلا شرعية إلّا لمن آمن بالمبدأ والفكرة وثبّت موقفاً مشهوداً على الأرض، وفي هذا المضمار نجد الثوار المسلحين قد قطعوا شوطاً طويلاً، حازوا فيه على ثقة أنفسهم قبل أن يحوزوا على فيتو الشعب السوداني، الذي منحهم شيكاً على بياض، لما رآه فيهم من نبل الأخلاق وكريم الخصال والجهوزية لرأب التصدعات التي أصابت جدران الوطن، فعلى الثوار المسلحين أن يختاروا لأنفسهم هذا الطريق الثالث، خاصة وأنهم خطوا خطوة متفردة على هذه الأرض البكر التي مشوا عليها وحدهم، ولم يشاركهم في مشيتهم أحد، هذه الخطوة هي مواجهة منظومة الإخوان المسلمين وهزيمتها عسكرياً، الفيتو الذي صفقت له جموع الشعوب السودانية الحرة، فعليهم التقاط القفاز وإعلان منظومتهم الثورية والعسكرية المستحقة، ولكي يتم هذا، على قيادة الثورة المسلحة اجتثاث الساسة المتسلقين الخاضعين لأجندة "تقدم"، والآخرين الذين ما تزال قلوبهم مع الفلول وسيوفهم مع الثوار، فالمناضلون الذين رووا بدمائهم الطاهرة ربوع الوطن، هم الأولى بتدشين هذا الطريق الثالث، الذي تضافرت حوله الجهود وأصبح ضرورة حتمية، وخصيصة تاريخية أومأت برأسها وقالت لا تهنوا ولا تستكينوا وأنتم الأعلون، نعم، أنتم الأعلى يداً في مقارعة المنظومة القديمة والأكفأ في إحداث التغيير الحقيقي.
إسماعيل عبدالله
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الثورة المسلحة الطریق الثالث
إقرأ أيضاً:
بشأن إغلاق قناة بلقيس … كتب / رياض الأديب
بقلم رياض الأديب
• لم يكن ايقاف بث #قناة_بلقيس حدثا مفاجئا، بل جاء نتيجة قرار مسبق جرت هندسته بعناية، في ظل مراجعة شاملة لمعادلة الجدوى الاقتصادية والتاثير الاعلامي، واتجاه متزايد للتركيز على المنصات الرقمية بوصفها اداة العصر لنشر المعلومة وصناعة الترفيه.
• يبدوا أن القناة واجهت مثل العديد من القنوات العربية عبئا ماليا متضخما كالايجارات والبث الفضائي والاستوديوهات وشبكة المراسلين، وهي نفقات لم تعد تتناسب مع حجم التاثير، خصوصا في ظل قدرة الاعلام الرقمي على تحقيق انتشار اوسع بتكاليف اقل بكثير.
• ما حدث لقناة #بلقيس ليس حالة منفردة؛ فقد سبقتها قنوات يمنية وعربية ودولية، ومن المتوقع ان تتبعها قنوات اخرى، في سياق عالمي يشهد انحسارا متسارعا في حضور التلفزيون التقليدي لصالح الاعلام الرقمي.
• ومع ان القرار امر دبر بليل، الا ان الاسوأ ما فيه هو عدم ابلاغ القائمين على القناة لموظفيهم مسبقا، واعتمادهم على عنصر المفاجاة مع الايحاء بان الامر طارئ وخارج عن ارادتهم، ربما هروبا من الاستحقاقات او الاحراجات المتعلقة بتسوية اوضاع بعض الموظفين، وخاصة اولئك العاملين خارج اليمن.
• اصبح اطلاق قناة تلفزيونية اليوم اسهل واقل تكلفة من اي وقت مضى بفضل التطور التقني في البث وحجز الترددات، بينما يعد تاسيس صحيفة ورقية اكثر تعقيدا وصعوبة من اطلاق قناة، لا سيما مع ارتفاع تكاليف طباعتها وتوزيعها.
• يعج الفضاء العربي بمئات القنوات التي تفتقر الى رؤية اعلامية واضحة او مضمون ذي قيمة، ومع تراجع نسب المشاهدة وتحول الجمهور الى المنصات الرقمية، اصبحت شاشات التلفزة في معظم المنازل مجرد “ديكور” اكثر منها وسيلة للمشاهدة.
• يتجه العالم بقوة نحو الاعلام الرقمي كمنصة رئيسية للاستهلاك المعرفي والترفيهي، وقد عززت قنوات مؤثرة عربية ودولية حضورها في هذا المجال ادراكا لملامح الثورة الصناعية الرابعة القائمة على التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
• يترقب العالم اليوم إطلاق تقنيات الجيل السادس 6G والاتصالات عبر ترددات التيراهيرتز THz، وبالتالي سيزداد التحول الاعلامي تسارعا، وستتعمق الفجوة بين الاعلام التقليدي والاعلام الرقمي الذي سيغدو جزء من الماضي