خليل الشكيلي : يتدرج الذاكر لله عبر ثلاث مراحل وهي التخلي والتحلي والتجلي
تاريخ النشر: 27th, June 2024 GMT
الذكر باللسان دون القلب لا يخلو من أثر يستفيد منه الذاكر -
خلق الله الإنسان لغاية وهي العبادة، وأمره بذكر الخالق ذكرا كثيرا، وقد وجه الرسول الكريم أصحابه بهذه العبادة العظيمة وهي عبادة الذكر فقال: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله» فما هو مفهوم الذكر؟ وما أثره في تعزيز الاتصال بالله وتعزيز الإيمان؟ وما دوره تزكية النفس وتقويم السلوك؟ وهل هناك شروط معينة للذكر، وطرق ووسائل لحضور القلب؟ وكيف يمكن غرس هذه العبادة في نفوس الناشئة؟ كل هذه الموضوعات وغيرها ناقشناها مع الباحث والداعية المهندس خليل بن مسعود الشكيلي.
ما مفهوم الأذكار في الإسلام؟
الأذكار نوع من أنواع العبادات التي يُتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، وتكون على صور وأشكال مختلفة. وكلمة الأذكار جمع مفردها الذكر، ويُقصد به استحضار الإنسان للحق سبحانه وتعالى عما سواه في جميع الأمور من الأفعال والأقوال والأحوال، وهو بذلك ينافي معنى الغفلة عن الله. والأذكار لا تقتصر -كما هو شائع عند البعض- على ما يُقال ويُردد باللسان فحسب، فهي تشتمل على أمور حسية كالصلاة والصيام والصدقة وصلة الأرحام وما إلى ذلك من غيرها من أعمال الدين، وإلى أمور قلبية ومعنوية كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار.
جاء عند العارفين بالله أن مفهوم الأذكار هو نمو استيلاء المذكور على قلب الذاكر فلا يكون شيء في قلبه أكبر من ذكر الله والاتصال به، فذكر الله هو قوت الأرواح. وقد ذكر الله تبارك وتعالى فضل الذكر في كتابه العزيز في غير ما موقع، وفي معرض الحديث عن تلاوة الوحي وإقام الصلاة- رغم ما فيهما من أجور عظيمة- أكّد الله بأن ذكره أكبر فقال {ٱتۡلُ مَاۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ} وهذا يشمل نواحي عديدة؛ منها ما يكون من العبد لذكر الله ومنها ما يكون من ذكر الله للعبد كما جاء في الحديث القدسي (أنا عند ظنِّ عبدي، وأنا معه حين يذكرُني، فإن ذكرني في نفسِه، ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرتُه في ملأ خيرٍ منه). كما جاء أيضا ذكر أهمية الذكر وفضله في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» وقال: «ألا أخبرُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهبِ والفِضةِ، وخيرٌ لكم من أن تلقوْا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم، ويضربوا أعناقَكم، قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: ذِكرُ اللهِ».
كيف يمكن للأذكار أن تساعد في تعزيز الاتصال بالله وتعزيز الإيمان؟
كان العرب قديما في الجاهلية يتفاخرون بآبائهم وأجدادهم ويذكرونهم فيقول الواحد منهم كان أبي وكان جدي، فأراد الله أن يغير ذلك ويربط ذكرهم بذكره سبحانه فيكونوا عصاميين بعدما كانوا عظاميين. يقول الله تبارك وتعالى: {فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَاۤءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرࣰاۗ} ولا ريب أن ذلك يعزز الاتصال بالله وبالتالي يعزز الإيمان به سبحانه، وبذلك يعي الإنسان أن كل مجريات الكون والحياة إنما يدبرها الله سبحانه وتعالى. ونحن نجد في كتاب الله عز وجل أن الله ربط الإيمان بمحبته فقال: {وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَشَدُّ حُبࣰّا لِّلَّهِۗ} وبكثرة الذكر عند الإنسان فإنه تتولد علاقة محبة بينه وبين ربه فيكون محبوبا عند الله، وبسبب هذه العلاقة فإن الحبيب وهو الله لا يُقدّر لمحبوبه الإنسان إلا الخير ولا يبتليه إلا بما يستطيع ثم إنه يسيّر كل أموره.
وعندما يكون القرآن الكريم أعظم الأذكار، فإن الله تبارك وتعالى يجعل عناية ورعاية خاصتين لذاكره ويحيطه بسياج الغيرة عليه فلا يريده أن يتمسك إلا به ثم إنه يحفظه من كل سوء ومكروه فلا تصل قوى الشر إليه {وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَیۡنَكَ وَبَیۡنَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ حِجَابࣰا مَّسۡتُورࣰا}. وبهذه المعاني يكون الإنسان موصلا بالله تبارك وتعالى في كل أوقاته فيصير من أهل الله وخاصته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ للهِ أهلين من النَّاسِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ من هم؟ قال: هم أهلُ القرآنِ، أهلُ اللهِ وخاصَّتُه).وكنتيجة لهذا الاتصال المتواصل بالله تبارك وتعالى، فإن إيمان الإنسان يتقوى أكثر وأكثر وبالتالي يعلم أن الله هو مدبر أموره كلها وأنها كلها من الله وبالله ولله. ففي قصة النبي يوسف عليه السلام ذكر الله المواقف والأحداث التي مر بها يوسف عليه السلام وكيف دبر الله حصولها في الأوقات والأماكن التي ذُكرت في سورة يوسف، ولكن نجد في نهاية السورة أن الله تبارك وتعالى ذكر أن يوسف عليه السلام نسب كل الأمور التي تحققت له بأنها إنما تحققت من الله بالله. فقد قال الله عن يوسف {وَقَالَ یَـٰۤأَبَتِ هَـٰذَا تَأۡوِیلُ رُءۡیَـٰیَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّی حَقࣰّا} فنسب تحقق الرؤيا لله ولم ينسبها للرؤيا نفسها فيقول -مثلا- تحققت الرؤيا. كذلك قوله: {وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِیۤ إِذۡ أَخۡرَجَنِی مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَاۤءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ} فقد كان خروج يوسف عليه السلام من السجن بأمر الملك ولكن عدم غفلته عليه السلام عن الله -أي ذكره له تبارك وتعالى- جعله ينسب ذلك الخروج له، وهكذا أكثر من عشرة أمور في نهاية السورة ذُكرت أنها حصلت ليوسف عليه السلام وقد نسب حصولها لله عز وجل.
ومن أهم تلك الأمور أمر العلم، فعندما نسبه يوسف عليه السلام بأنه من الله وقد آتاه الله إياه، جعله ذلك عارفًا لقدر ومقام الله {ذَ ٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِی رَبِّیۤۚ} {رَبِّ قَدۡ ءَاتَیۡتَنِی مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِی مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ} فتواضع له ثم إن الله رفع مقامه بذلك التواضع فجعله عزيز مصر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). على النقيض من ذلك، فإن قارون عندما نسب العلم إلى نفسه صار متكبرًا {قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤ أَوَلَمۡ یَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةࣰ وَأَكۡثَرُ جَمۡعࣰاۚ وَلَا یُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} فكانت عاقبته أن خسف الله به وبداره الأرض { فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةࣲ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِینَ}.
سلاح الذكر
يقول أبو مسلم البهلاني: «حملوا عصيهم وأحمل سبحتي .. شتان بين سلاحهم وسلاحي» كيف يمكن أن يتحول الذكر إلى سلاح عند المسلم؟
في تكملة بيت الشعر الذي ذكرته عن أبي مسلم، يقول:
ظلموا فما انتصر الحسام لظلمهم
ولَكَم قصمت الجيش بالمسباح
وذِكر السبحة أو المسباح في هذه الأبيات يدل على كثرة الذكر والمداومة عليه. وأيًّا كان الذكر سواءً قوليًا أو فعليًا أو قلبيًا، فإن الله تبارك وتعالى يسخّر خَدَمَته القائمين عليه من الروحانيات، وأسراره وأنواره وفيوضه للذاكر له. الله عز وجل قوة كبيرة وطاقة هائلة، ولو داوم الإنسان مثلًا على ذكر اسم من أسمائه وصفاته حتى يكون موصولًا به، فإنه سيناله نصيب من جنس ذلك الاسم أو الصفة ويمده بمدد رباني -وهو قد لا يعلم بذلك- يخدمه بما يريد ويدافع عنه ضد أي قوى محسوسة أو مخفية في هذا الكون. فمن أراد أن يتسلح ويتقوى بالعلم على سبيل المثال، فإنه يكثر من ذكر اسم الله العليم وذكر آيات العلم من كتاب الله وسيسخّر الله له نيل العلم بتدبير منه سبحانه.
وفي هذا الشأن قد يكون الذكر سرًّا أو جهرًا، ليلًا أو نهارًا، والمداومة عليه يعقبه حفظٌ من أمر الله أي منه وبأمره سبحانه وتعالى {سَوَاۤءࣱ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّیۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ، لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتࣱ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ یَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ سُوۤءࣰا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ}. وقد قيل في الرقائق: إن السعيد من كان مع الله ولكن الأسعد منه هو من كان الله معه، ولئن كان السحرة والمردة يتقوون ويستعينون بالشياطين بحيث إنهم قوة خارقة لا يراها الإنسان لأعمال الشر، فإن الله سبحانه لا يراه الإنسان ولا تراه الشياطين. فإذا تيقن الإنسان بأنه تبارك وتعالى كذلك فإنه سيكون هو له قوة أكبر وأعظم من قوة الشياطين وسيهزمهم به.
وإذا ما عدنا إلى أبي مسلم البهلاني فإننا نجده في قصيدة الوادي المقدس يضرب لنا مثالًا رائعًا لتحول الذكر إلى سلاح يحتمي به الإنسان من أعدائه. فقد شبّه كثرة ذكره لله بأسمائه الحسنى كالذي يطنّب خيمته أي ينصبها في وادٍ فسيح له حِمى وفيه شِعاب خضراء وافرة ترعى فيها أغنامه الكثيرة ولها حارس يحميها من الذئاب والسباع. فهو يشبّه أسماء الله كالشعاب لكثرتها، ويشبّه حاجاته وطلباته من الله كالأغنام تأخذ من مرعى الشِعاب ما تشاء، ويشبّه أعدائه كالذئاب والسباع المفترسة غير آبهٍ بها لشدة قوة الحارس، والحامي منها هو الله تبارك وتعالى. يقول:
طنّبتُ في الوادي المقدّس خيمتي
ورعيت بين شعابه أغنامي
قل للذئاب الكاسرات تفسّحي
عَزَّ الحمى وأعزُّ منه الحامي
فلقد نزلتُ على عظيم قادر
عِزُّ الجلال إليه والإكرام
التخلي والتحلي والتجلي
كيف تؤثر الأذكار في تزكية النفس وتقويم السلوك؟
إن أكبر أثر تفعله الأذكار في النفس هو أن يخلع الله عن صاحبها ثياب صفاته ويُلبسه ثياب الصفات الربانية التي تترجم تعامله مع الناس -بل أكثر من ذلك- وتعامله مع سائر المخلوقات أيضا. يتدرج الذاكر لله تبارك وتعالى عبر ثلاث مراحل حتى يصير رباني الصفات؛ وهي مرحلة التخلي ثم مرحلة التحلي ثم مرحلة التجلي.
ففي مرحلة التخلي يتخلص الذاكر من كل الصفات الذميمة والرعونات النفسية -كالحسد والنميمة والكراهية والبخل والبغض- التي تحجب عنه الأنوار الإلهية. فإذا ما تخلص منها فإنه يدخل في مرحلة التحلي التي يلبس فيها الصفات الحميدة -كالتسامح والتغافل والإيثار والمودة والحب- التي يُسمح له بها بوصول الأنوار الإلهية إلى قلبه. فإذا ما تمكنت منه الصفات الحميدة فإنه سيدخل في مرحلة التجلي التي يحركه فيها حب الله بحيث يكون الله سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.
ولكن الانتقال بين هذه المراحل ليس بالأمر السهل، فهو يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة ورياضة يبدأ فيها الإنسان حاملًا وينتهي محمولًا. حاملًا أي يغالب نفسه الكسولة على أداء الأذكار بأنواعها المختلفة ومحمولًا أي أن نفسه هي التي تألف الأذكار وتحفزه لأدائها. يقول أبو يزيد البسطامي: «ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها إليه وهي تضحك». وبهذا يصل الإنسان إلى مقام عبادة الأنفاس، ونقصد بالأنفاس هنا معنيَين؛ الأول جمع النَفَس وهو الذي يكون فيه للإنسان ذكر لله في كل نفس يتنفسه فلا يفوته شيء من بركات ذلك الذكر، والثاني جمع الأَنْفَس وهو الذي يكون فيه عبادة راقية للذاكرين. فهؤلاء لا تكون توبتهم لله من الذنب فحسب بل يتوبون من كل نفس لم يكن لهم فيه ذكر لله. وكذلك لا يكونون في مستوى من «إذا أصابته ضراء صبر وإذا أصابته سراء شكر» بل أرقى من ذلك فيكون «إذا أصابته ضراء شكر وإذا أصابته سراء آثر».
الذكر الكثير
هل الأذكار مشروطة بالأعداد أم أن بأن يكون لسان المسلم رطبا بذكر الله في كل وقت؟ وما الحكمة من العدد؟
يقول الله تبارك وتعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ ذِكۡرࣰا كَثِیرࣰا}، وفي حديث نبوي أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بأمر أتشبث به أي أتمسك به، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله». وهذا يدل على أن الذكر يكون كثيرا ولكن قد يكون أيضا مطلقا أو مقيدا.
فالذكر المطلق هو الذي يكون بأي صورة وفي أي وقت وأي مكان بدون تحديد. والذكر المقيد هو الذي يُحدد بزمن أو مكان أو حال كأذكار الصباح والمساء والأذكار بعد الصلاة والأذان وأدعية دخول البيت والمسجد والخروج منهما وما إلى ذلك. وجاءت بعض الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي تُحدد فيها بعض الأذكار بعدد معين كقوله عليه الصلاة والسلام «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».
من العلماء من يرى أن الأذكار لا تُحدد بعدد معين بل على الإنسان أن يكون منشغلا بالذكر دائما. ومنهم من يقول عكس ذلك وهم يعتمدون على أنظمة حسابية لتعيين عدد مرات ترديد الأذكار كنظام حساب الجُمَّل الذي يعطي كل حرف أبجدي قيمة عددية، على سبيل المثال لفظ الجلالة ‹الله› قيمته العددية ٦٦ فهو يُذكر ويُكرر ٦٦ مرة، وطريقة ذكره بأن يذكر الاسم ٦ مرات بنفس واحد ثم يكرر ذلك ١١ مرة. وقد تكون الحكمة من ذلك حتى لا تفتر نفس الإنسان عن الذكر وأن يكون له ورد يومي يستقي به من خزائن الله، والله أعلم.
شروط الذكر
هل هناك شروط معينة ينبغي للإنسان الالتزام بها أثناء الذكر؟
يقول الله تبارك وتعالى: {وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِی نَفۡسِكَ تَضَرُّعࣰا وَخِیفَةࣰ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَـٰفِلِینَ}، قوله عز وجل: واذكر ربك يندرج فيه شروط الإخلاص للمذكور -الله- واستحضار القلب له عما سواه واستجماع الهمة والنشاط عند الذكر. ويلحق ذلك أيضا الخلوة والعزلة والتضرع الذي يصاحبه الخشوع المقرون مع خوف والإخبات المقرون مع محبة، وخفض الصوت بالذكر. وفي الإخلاص يراعي الذاكر أنه لا يذكر الله لينال حظًا من حظوظ الدنيا، بل يذكر لينال رضا الله، وقد قيل: «لا تذكره لتُعطى ولكن اذكره ليرضى، فإذا رضي أدهشك بالعطا». وقد يكون الذكر فرديًا كما أنه قد يكون جماعيًا أيضا.
ومن العارفين من زاد على الشروط آدابًا لزيادة الوصول والقرب إلى الله، ومنها؛ الوضوء والتطيب واستقبال القبلة واللباس الحسن النظيف والجلوس كجلسة التشهد في التحيات وتطهير الفم وإغماض العينين وتعطير المكان.
أما بالنسبة لذكر قراءة القرآن الكريم فإن من شروط ذكره أن يكون الذاكر على طهارة بدنية ومعنوية؛ فالجُنُب والحائض مثلًا لا يقرأون القرآن إلا بعد الاغتسال.
وهناك شروط أخرى تتعلق بالذكر لمريدي طريق السلوك تشمل العلم والتقوى والزهد والورع وقد ذكر الشيخ الرئيس جاعد بن خميس الخروصي جملة منها في قصيدة حياة المهج التي شرحها ثم زاد الشرح ابنه ناصر بن أبي نبهان. كما ذكرها أيضا الإمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي في قصيدة المعراج لسالك المنهاج. وذكرها الإمام أبو مسلم البهلاني في قصيدة هو الله فاعرفه.
لا يخلو من أثر يستفيد منه
ما الطرق والوسائل التي تجعل القلب حاضرا أثناء الذكر؟ وهل للذكر باللسان دون القلب أثر؟
نبدأ بالجواب على الشق الثاني من السؤال لندخل به إلى جواب الشق الأول. إن الذكر باللسان دون القلب لا يخلو من أثر يستفيد منه الذاكر وذلك لأنه يستخدم جارحة اللسان في شيء يحبه الله ويقربه إليه. أرأيت لو أنه استخدمه فيما لا يرضي الله كالغيبة والنميمة والسب والكذب، فهل يعود له بفائدة من ذلك؟. وانشغال اللسان بالذكر مع استحضار القلب يكون على طرق ومراتب يمكن أن نستخلصها من مفهوم التبتل والذي معناه الانقطاع القلبي الكلي لله تبارك وتعالى. ينقطع الذاكر بقلبه عن نفسه لله فلا يركز في غناه أو فقره أو صحته أو مرضه، وينقطع بقلبه عن الناس لله فلا يركز فيما ينفعه أو ما يضره منهم، وينقطع بقلبه عن مراده من الله لمراد الله بالله فمثلًا لا يركز على أجر الصدقة في مقابل أنها شيء يريده الله ويحبه. يقول الله تبارك وتعالى: {وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَیۡهِ تَبۡتِیلࣰا} كلمة (تبتيل) هي مصدر من الفعل بَتِّلَ وتدل على التكثير والمبالغة، وكلمة تبتَّلْ هي فعل مصدره تبتُّلًا وتدل على التخفيف والقلة. فالآية فيها جملتان تدلان على التدرج في الذكر والتبتل الذي يكون بدايته بالتصبر والمجاهدة حتى يصل إلى التكثير والمبالغة. ففي مراحل الذكر والتبتل يبدأ الإنسان بلسان ذاكر وقلب غافل لا يستوعب ما يقول، ثم بلسان ذاكر وقلب واع يفهم معاني الذكر، ثم بلسان ذاكر وقلب حاضر يستشعر معاني الذكر ويتفاعل معها، ثم بلسان ذاكر وقلب شاهد وهذه أعلى مراتب الذكر والتبتل بحيث يكون الإنسان غارقا في معاني الذكر وتنطلق من قلبه قبل لسانه.
القدوة الحسنة
ما الأساليب والوسائل التي من خلالها نستطيع غرس مفهوم الذكر عند الناشئة والأطفال؟
الأطفال عادة ما يتعلمون بالتقليد والاقتداء ولذلك يجب أن يكون المربي قدوة حسنة. ولعلنا نذكر هنا جملة من بعض الوسائل المهمة التي تساعد على غرس مفهوم الذكر: الاقتداء بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الأذكار والأدعية المأثورة وتعويد الطفل على الصلاة والسلام عليه وتبيين أهميتها وفوائدها للإنسان. واستغلال المواقف والأحداث اليومية -كمواقف الرحمة مثلا- وربطها بأسماء الله وصفاته حتى يتعود الطفل على تعلق قلبه بالله.
وعند توجيه الطفل لفعل المعروف أو ترك المنكر فلا يُكتفى بكلمة الأمر أو النهي فحسب، وإنما يوضّح له السبب لماذا؟ ويشرح له مراد الله من ذلك. وتعويد الطفل على الالتزام بوِرد أو ذكر معين يأتي به في وقت محدد وعدد محدد خلال اليوم يُراعى فيه التخفيف حتى لا تأنف نفسه من ذلك. ثم يُبدأ معه في الزيادة تدريجيا مع تشجيعه وتكريمه.
وعمل خطة مرنة لقراءة القرآن الكريم وتدبره وحفظه لا تزيد عن ثلاث آيات في اليوم الواحد. وتعليم الطفل على حمد الله على كل حال سواء بمنع أو عطاء، وإفهامه كيف يصرف الله السوء بمنع الحصول على الأشياء أو عدم حدوثها. وإرشاد الطفل أن كل شيء هو ملك لله ولكن جعله في متناول يد الإنسان وسخره له ليستفيد منه. وإذا أراده من الله فإنه يطلبه بالصلاة والدعاء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم یوسف علیه السلام الصلاة والسلام من ذکر الله الطفل على الذی یکون هو الذی ی فی قصیدة قد یکون إن الله أن یکون من الله د الله ر الله من ذلک یکون ا عز وجل التی ت التی ی
إقرأ أيضاً:
لماذا تجب علينا المكابدة؟
كابَدَ يُكابِدُ مُكابَدَة فيكون الإنسانُ مُكابِدا. ويُقال كابَدَ الأمر أي تكبَّدهُ؛ فقاسى شدَّته وتحمَّل مشاقه، وركب هوله ومصاعبه. ويُقال كذلك كَبَدَ ابن آدم الأمر أي قَصَدَهُ. وكبَّد العدو خسائرَ أي أنزلها به وكلَّفه إياها. والكَبِدُ وسط الشيء ومعظمه، وهو العضو في الجانب الأيمن من بطن الإنسان، وإليه يُنسب الأولاد، كناية عن إنهم أعز ما وهبنا؛ فيُقال لهم: أفلاذ أكبادنا. وكبِدُ الأرض ما في بطنها من معادن نفيسة. ويوصف الإنسان بغلظة الكبد كناية عن شراسته، والشيء "يُفتِّت الأكباد" كناية عن تسبُّبه بحزنٍ شديد مُمض. وإذا قَدَر الإنسان على الفلاة؛ يُقال تكبَّدها. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
وقد وردت لفظة الكَبَد واشتقاقتها في القرآن الكريم مرَّة واحدة فحسب (سورة البلد؛ اﻵية رقم 4): "لقد خلقنا الإنسان في كَبَد"، بمعنى المشقَّة والشدَّة والعناء، وقيل بمعنى انتصاب القامة واعتدالها، وقيل القوة والقصد. وما من شيء يمنع جمع المقصد القرآني لهذه المعاني كلها؛ فلا تعارُض بينها في شأن الإنسان وحاله، بل هو تكامُل رباني معجز. فإن المكلَّف الذي ألقي به -حرفيّا- إلى داخل هذا التاريخ، ليحيا في مجال التجربة والخطأ، والذنب والتوبة والطغيان والأوبة؛ أي ليخوض غمار اختياره الإنساني -بمشيئة الله وتقديره- هو سائرٌ انتصبت قامته ابتداء -رغم معاناته- فلا تنكسر قامته، وينتكس في هذا السير القصدي الغائي؛ إلا بأن يوكل إلى نفسه والعياذ بالله. فإنه إن لم يَستَعِن صادقا بمن كلَّفه تكبُّد وجوده؛ لم ينَل معونة على ما كُلِّف وضاع.
والكبد والمكابدة هي -باختصارٍ غير مُخِلٍّ- فلسفة التاريخ الإسلامي، التي أشار إليها القرآن إجمالا في سورة البلد، وفصَّلها خاتما سورة العصر؛ إذ بسط مآل الخُسر التاريخي الحتمي وغايته في قوله جلَّ شأنه: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر". فإنه لم يجعل لهذا الخسر الحتمي الذي نُكابده، والتاريخ المحيق الذي نُعانيه؛ مآلا دنيويّا برانيّا مُعينا تنعقد عليه اليد، وإنما غيَّب المآل داخل التاريخ، وجعل التواصي هو كل ما يطمع فيه ابن آدم داخل هذا التاريخ: التصبُّر والتواصي، والتكاتُف في احتمال الخُسر الدنيوي البراني الحتمي؛ لئلا ينعكس انعاكسا انتكاسيّا على المجال الجواني له، فيرتد الإنسان -معاذ الله- من أحسن تقويمٍ إلى الانكباب على وجهه، باعتبار هذا الانكباب الضال المُضِل نقضا للكَبَد والمكابدة، وعكسا لطريق السير المنتصب القامة على صراط مُستقيم؛ قاصدا رب البرية. وبعبارة أخرى، فإن فلسفة الكَبَد التاريخيَّة هذه تعني أننا خلقنا للمشقَّة والمعاناة، ولاحتمال هذه المعاناة، وأن جوهر الإيمان هو التواصي على هذا الاحتمال بحول الله، والتكاتُف أثناء عبور هذه الدار؛ لنعرُج بهذه الآلام إلى الله، وقد أقمنا الحجة على أنفسنا بالسير في هذا الطريق الشاق بزاد التواصي.
ولهذا، فرَّق الإسلام تفرِقَة قاطعة بين المكب على وجهه لا يُبصر طريقه (سورة الملك؛ الآية رقم 22)، ومن يسير سويّا مُعتدل القامة على صراط الله المستقيم؛ إذ هما الطريقان الوحيدان، اللذان تتجسَّد فيهما هذه الفلسفة التاريخيَّة. ولا يستوي من يُقاسي الشدة ويعاني المشاق الحتميَّة، وهو لا يُبصر غايته، ومن يركب الهول والمصاعب، وهو يرى ربه العلي سبحانه؛ إذ تعلَّق بصره بما تجاوز الزمكان وعلا فوق التاريخ. جلَّ شأنه وتبارك اسمه ولا إله غيره. والعجيب أن هذا المصدر الفذ، يطوي من المعاني ما يوافق حال الإنسان في مسيره الدنيوي، ويطابق أموره كلها داخل هذا التاريخ. فإنك ترى المكب على وجهه -والعياذ بالله- قد غلظ كبده، وظهرت شراسته، وعمي إلا عما جُعل في كبد الأرض، وغفل بانكبابه عن النظر إلى كبد السماء، وما يمثله؛ فتفتَّت كبده لكل حزن يُصيبه، إذ أنه لا يرجو من الله ما يرجوه المؤمن، وإن كانت المصيبة تنزلُ بهما معا.
هذه المكابدة ليست موافقة إجمالا للنواميس الإلهية فحسب، بل هي أولا وقبل كل شيء مُفصَّلةٌ على مقاس إنسانيَّة ابن آدم وخصاله المركبة، ومجعولة له جعلا؛ فإنه الكائن الوحيد المكلَّف المفطور على الاختيار، وعلى مكابدة خياراته، ومكابدة وجوده كله -نتيجة هذه الحريَّة- لهذا؛ كانت المكابدة ناموسا لتحقُّق إنسانية الإنسان أولا، ثم لاكتمال إيمانه، وأخيرا لاتساقه مع فلسفة التاريخ الإنساني الموافقة لتركيبه وإيمانه.
هذا التحقُّق يلزمه -أولا- أن تكون المكابدة مُكابدة للنفس دوما، وقبل كل شيء؛ لفجورها وهواها، وضعفها وسقوطها، وشهواتها وإخلادها. فهذه المكابدة الذاتية أصل الفطرة السليمة، ومبتدأ حفظها وشحذها، فإذا انتكست -والعياذ بالله- شرعت في مكابدة السوى، وتمخَّضت عنها أعراض مرضيَّة تُبرئ النفس الأمارة وتعُدُّ الآخرين هم الجحيم -كما ذهب سارتر وأضرابه مثلا- إذ صار الغير أصل كل سوء وبلية. وهذه النفسيَّة نفسيَّة انكباب لا ترى الوجود على حقيقته، ولا تستوعب معنى التكليف، ولا تُدرك حقيقة الحريَّة؛ مُدلَّلة تحسب أنها مركز الكون، وأنها تستحق كل الخير بذاتها ولذاتها، وبمجرد وجودها. فهي دائمة الشكوى من كل شيءٍ وكل أحد، إذا لم تنل ما يوافق هواها من الدنيا؛ فإنما أفسدها توهُّمها المتأله، وإغفالها ثمن حريتها في الاختيار، وغفلتها عن عبوديتها لخالق مُحيط، وعن أن حريَّتها التي أرادها الخالق ابتلاء ومسؤولية؛ لتُميز الباطل من الحق وتختار طريقها بين العناصر التي رُكِّبَت منها أولا؛ فإما الإخلاد إلى الطين أو السمو إلى آفاق الروح.
وانظر إلى إدراك السلف البصير، إذ يقول الجاحظ في المجلَّد الأول من سفره الماتع: "الحيوان"؛ في الفصل الذي عنونه مصلحة الكون في امتزاج الخير والشر: "اعلم أن المصلحة.. امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع.. ولو كان الشر صِرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة، وتقطَّعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز.. ولم تكُن للنفس آمال ولم تتشعَّبها الأطماع. ومن لم يعرف كيف الطمع؛ لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس؛ جهل الأمن.. ولو استوت الأمور بَطُل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة، ولو كان ذلك لبطلت ثمرة التوكُّل على الله تعالى، واليقين أنه الوزَرُ والحافظ والكالئ والدافع.. وأنه يقبلُ اليسير ويهب الكثير".
أي أن امتزاج الخير والشر ضرورة لتعمل آلة التمييز المفطورة في بني آدم، ويتحقَّق تكليفه، وتتحقَّق إنسانيته الربانية المركَّبة. ولو كان الشر صرفا لا خير معه لهلك الخلق لشدَّة وطأته، ولو كان الخير محضا لا شر معه سقطت المحنة وانتفى التكليف؛ فإما جحيم أرضي من الشر أو فردوس أرضي من الخير، وفي الحالين يصير الإنسان إلى القهر؛ مثله في ذلك مثل الملائكة أو الحيوان! إذ ستنقطع مع جدليَّة الخير والشر أسباب التفكير وتضمُر حكمة المعرفة، وينعدم التمييز؛ إذ استوت الأمور وصار الإنسان مقهورا بالجهل والغريزة كغيره من المخلوقات. وقد قرر أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب أن من لم يعرف الجاهليَّة؛ لم يعرف الإسلام. فمن لم يعرف شرور الجاهليَّة؛ لم يُدرك حجم الخير الذي يطويه الإسلام لاستنقاذ الإنسان من نفسه ومن طينه، بغير الجور على هذا الطين أو إلغائه، وهذا هو مكمن المعجزة في الشريعة المحمدية: معونة على الاختيار وتوفيقٌ وسداد، يخلق التوازُن بين البواعث والغايات، ولا ينكر طينك كما لا يُطلق له العنان، بل يدفعك لتُكابده موفقا مسددا بحول الله؛ تغلبه تارة بمكابدتك ويغلبك أخرى بقعودك. والله يهدي من يشاء.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry