منير شفيق يروي قصة النضال الفلسطيني من عرفات إلى السنوار
تاريخ النشر: 5th, July 2024 GMT
منير شفيق مناضل ومفكر وكاتب فلسطيني عايش مختلف مراحل القضية الفلسطينية من النكبة إلى اليوم، ومن مختلف المواقع التي مر بها كان شاهدا على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأحد أهم الفاعلين في الساحة بالمقاومة والنضال السياسي حينا وبالقلم والرأي أحيانا أخرى.
في بودكاست البلاد على منصة أثير، تحدث المفكر التسعيني -صاحب سيرة من جمر إلى جمر- خلال حلقة هي الأطول في تاريخ البودكاست العربي عن مختلف فترات حياته المثيرة كاشفا عن بعض أسرار أكثر من 70 عاما من النضال الفلسطيني.
البداية كانت من حي القطمون غربي القدس حيث نشأ منير شفيق وعاش جزءا من طفولته ومن حيث هُجّر مع عائلته عام 1948، فلم يُخف الحنين إلى ذكريات الطفولة والألم مما لحقه وعائلته جراء التهجير إلى الأردن في مرحلة أولى، ثم إلى القدس الشرقية لاحقا.
وعاد شفيق إلى تفاصيل تلك الفترة في فلسطين وخصائص الحياة فيها قبل قيام دولة الكيان الصهيوني سنة 1948.
وتوقف ضيف بودكاست البلاد عند ما عايشه من جرائم العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين العزل على غرار تفجير فندق سميراميس في يناير/كانون الثاني 1948، مفندا حجة "لو أننا قبلنا بقرار التقسيم لكان أفضل لنا" التي أشاعها بعض الفلسطينيين والعرب حينها.
وذكّر المفكر الفلسطيني بأن قرار التقسيم منح لإسرائيل 54% من الأراضي الفلسطينية مقابل 46% للفلسطينيين.
وأشار شفيق إلى التفاوت من حيث نوعية الأسلحة والعتاد بين الجيوش العربية وجيش الهاغاناه الصهيوني، مرجحا أن يكون عدد جنود الدول العربية السبع التي دخلت للدفاع عن فلسطين وقتها في حدود 23 ألف جندي، بينما ضم جيش الهاغاناه نحو 67 ألف جندي مدعومين بـ100 ألف جندي بريطاني.
وخلص ضيف بودكاست البلاد إلى أن "فلسطين مُنحت لإسرائيل على طبق من ذهب من قبل البريطانيين بعد اقتلاع الفلسطينيين منها".
من جهة أخرى، تطرق المفكر الفلسطيني التسعيني إلى الإشاعة الرائجة بخصوص بيع الفلسطينيين أراضيهم، مؤكدا تمسك الفلسطينيين ببيوتهم إلى أن "اقتُلعوا منها بقوة السلاح عن طريق العصابات الصهيونية".
ولم تخل حلقة البلاد من قصص المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي في تلك الفترة.
وعاد ضيف منصة أثير إلى قصة القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني حينما لم ينجح في إقناع قادة اللجنة العسكرية لفلسطين -التابعة لجامعة الدول العربية- بجمع السلاح للفلسطينيين، مرجحا أن هذه الحادثة دفعت الحسيني للقيام بعملية القسطل غير المتكافئة بعد إحساسه بالقهر والعجز، وواصفا ما أقدم عليه بالعملية الاستشهادية.
ومن كواليس السياسة العربية التي كان شاهدا عليها خلال مرحلة شبابه الأولى، ذكر منير شفيق حضوره في مؤتمرين مهمين إبان النكبة، حيث انتظم أحدهما في أريحا الفلسطينية والثاني في عمّان الأردنية، والذي تم بمقتضاه ضم الضفة الغربية للإدارة الأردنية، مشيرا إلى أنه كان على غرار والده مع قرار الضم.
ومن المحطات المهمة التي أسهمت في التكوين السياسي لضيف بودكاست البلاد التحاقه بالمدرسة الرشيدية بالقدس، التي عادت إليها عائلة شفيق بعد عرقلة استقرار والده في الأردن من قبل البريطانيين.
وقد كانت مدرسة الرشيدية أهم فضاءات النقاش والفعل السياسيين بالنسبة إلى الجيل الأول بعد النكبة، حسب قوله.
من الحزب الشيوعي الأردني إلى حركة فتحواستذكر منير شفيق بداياته مع النضال السياسي سنة 1952 ومساهمة والده المحامي اليساري في تشكل وعيه الفكري، ثم في انتسابه إلى الحزب الشيوعي الأردني.
وفي السياق ذاته، شدد شفيق على أن الشعب الفلسطيني -بمختلف مكوناته السياسية والشعبية- كان مقاوما للاحتلال الصهيوني بما توفر له من إمكانيات نضالية، مبينا خلفيات بعض النقاط الخلافية في مواقف الأحزاب حينها، على غرار موقف الحزب الشيوعي الموافق على قرار التقسيم.
ومن المراحل المهمة في حياته ذكر منير شفيق مرحلة سجنه في الأردن لمدة أعوام في الفترة بين 1957 و1965، وما تعرض له من تنكيل مع رفاقه من المساجين الشيوعيين.
وذكر ضيف بودكاست البلاد بعض الأحداث والخلافات داخل السجن التي أثرت في رؤيته السياسية وكانت سببا في خلع جبة الفكر الشيوعي ثم الخروج من الحزب بعيد مغادرة السجن.
في عام 1968 غادر شفيق الأردن مسافرا إلى بيروت، حيث تسكن شقيقته وزوجها ناجي علوش المناضل في حركة فتح، الذي كان له دور في طلب الشيوعي السابق الالتحاق بالحركة بعد اقتناعه بفكرها ومنطلقاتها، حسب تعبيره.
وأشار إلى التحفظ الذي حدث في البداية على اسمه من قبل قيادة فتح بسبب انتمائه السابق، إلى أن تم التواصل معه بعد سنة للتفرغ في الحركة.
وردا على سؤال عن مدى تأثير نكسة عام 1967 وأحداث (سبتمبر) أيلول الأسود عام 1970 على الشارع العربي، وصف شفيق النكسة بالزلزال الذي هز الوضع العربي والكارثة الكبيرة التي أثرت في مستقبل المقاومة العربية لإسرائيل، لكنه لا يتفق مع جزء من النخب اليسارية التي حمّلت الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر المسؤولية، و"هوّلت من وقع الهزيمة وفشل الجيش المصري" بالعودة إلى سياقات المرحلة وموازين القوى العسكرية بين إسرائيل ومصر حينها، وفقه.
من جهة أخرى، أطنب شفيق في الحديث عن عبد الناصر معتبرا إياه من "كبار المصلحين ومحررا عربيا مهمًا، نظرا لتمسكه بمبادئ مقاومة إسرائيل رغم التفاوت في موازين القوى".
وكشف المفكر الفلسطيني عن سبب اختيار عنوان "جمر إلى جمر" لمذكراته، قائلا إن حياته مليئة بالنكسات والتحديات بسبب انتمائه إلى حركة التحرر المتشبثة بالمقاومة المسلحة ورفض التنازل لأميركا المعادية لحركات مقاومة الاحتلال خيارين أساسيين لتحرير فلسطين، بحسبه.
أما بخصوص أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970، فأوضح شفيق خلفيات مواقف مختلف الفصائل الفلسطينية وارتباطها بسياسات بعض الدول العربية، وأشار إلى أن موقف الزعيم ياسر عرفات الأقرب إلى التهدئة كان منسجما مع خيارات مصر -بزعامة عبد الناصر- في حين وجدت مواقف سوريا والعراق -التي كانت تحرض على الصدام- صداها في مواقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
الخلاف مع قيادة حركة فتحوقال منير شفيق أنه منذ عام 1972 بدأ يشك في حقيقة موقف حركة فتح من أحداث أيلول الأسود، مرجحا أن الموقف المعلن لم يكن الموقف الحقيقي، وأن ياسر عرفات كان راغبا في اندلاع مواجهة مع الأردن خدمة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي سترفع بعد الأحداث شعار الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين.
وأوضح ضيف بودكاست البلاد أنه وصل إلى هذه القناعة بعد اكتشاف الالتحام والتقاطع بين نايف حواتمة زعيم الجبهة الوطنية لتحرير فلسطين، الذي كان يرفع شعارات تحريضية أدت بشكل رئيسي إلى المواجهة العسكرية على غرار " كل السلطة للمقاومة"، وقيادات في فتح، مرجحا أن حواتمة كان مدفوعا من فتح ومحميا منها.
في سياق متصل، ذكر المفكر الفلسطيني أنه منذ أحداث أيلول الأسود وما أدت إليه من نتائج لم يكن موافقا عليها -على غرار تسليم السلاح والخروج من الأردن- بدأ مرحلة جديدة من العلاقة مع قيادة حركة فتح وبعض التيارات المعارضة للقيادة داخلها، وقال شفيق إنه منذ تلك الفترة انطلق في العمل على تشكيل تيار جديد داخل حركة فتح "متمسك بثوابت فتح الرئيسية التي عبّر عنها ميثاقا منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وعام 1968".
وجوابا عن سؤال بخصوص مآل ما كان يكتبه ضيف بودكاست من كتب وكراسات وتأثيرها في الفلسطينيين، قال شفيق إن كتبه الصادرة بين سنوات 1970 و1973 كانت تروج في السجون واعتبرت من ضمن أكبر المصادر الثقافية للمساجين الفلسطينيين، وكشف عن دوره المحوري في إقناع قيادة فتح بتطوير جامعتي النجاح وبيرزيت الفلسطينيتين.
ومن الزيارات الخارجية التي تحدث عنها زيارة وفد من فتح إلى الهند بدعوة من حزب الجبهة الوطنية الشيوعي في الهند، وقال إنه تفاجأ بحجم تعاطف الجماهير الهندية مع القضية الفلسطينية، وهو ما جعله يعتقد أنه "لو تمسك الفلسطينيون بالعمل مع الجماهير الإسلامية في الهند لجعلوا أميركا تركع أمامهم".
وتحدث أيضا عن زيارته لإيطاليا ولقائه مع أمين سر الحزب الشيوعي الإيطالي لويجي لونجو، الذي لخص له قصة فلسطين مع الاحتلال الإسرائيلي في حكاية والدته التي عادت إلى منزلها في حي القطمون حيث وجدت عائلة يهودية في بيتهم هناك وقد استحوذت على المنزل بما فيه من أثاث.
وحول خلافه اللاحق مع حركة فتح، ذكر شفيق أهم النقاط التي اختلف فيها مع قيادة فتح، انطلاقا من خيار الدولة الديمقراطية التي تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود في دولة علمانية ديمقراطية، وصولا إلى ما يعرف ببرنامج النقاط العشرة وتوجُه قيادة منظمة التحرير نحو التسوية.
وذكر أنه نظم محاضرة في مقر الجامعة العربية للرد على نايف حواتمة الذي كان رأس الحربة في الدفاع عن برنامج النقاط العشرة، إلا أنه تفاجأ في مرحلة أولى بمحاولات ثنيه عن تقديم المحاضرة، ثم بإطلاق النار داخل القاعة لفض الاجتماع في مرة أولى من قبل عنصر ينتمي إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ثم في مرة ثانية من قبل عنصر من فتح، بحسبه.
ومن الأحداث المفصلية التي عمقت خلاف منير شفيق مع قيادة فتح ذكر المفكر الفلسطيني حادثة رفضه عزل حزب الكتائب اللبناني عام 1975، الذي أدى إلى انفصاله عن حلفائه في فتح على غرار صهره علوش، ثم إلى تشكل تيار جديد داخل فتح من دون الانشقاق عنها، وإنما بهدف تشكيل قيادة جديدة متمسكة بثوابت التأسيس الأولى، وفق ضيف بودكاست البلاد.
وعن ياسر عرفات وسبب قبوله بتنازلات أوسلو، ذكر منير شفيق أن "أبو عمار كان شخصية فلسطينية وطنية ومناضلة، غير أنه كان صاحب طموح فردي عال"، معتقدا في قدرته على رئاسة الشعب الفلسطيني، وأضاف أن "السجاد الأحمر كان ساحرا له" أي عرفات.
وقال شفيق "إن الزعيم الفلسطيني الراحل كان يرى في تقديم التنازلات أحد سبل الوصول إلى رئاسة فلسطين".
وتابع منير شفيق تعداده لنقاط خلافه مع قيادة فتح، متوقفا عند الاختلاف إزاء الموقف من الثورة الإسلامية في إيران، وأشار إلى أن قيام الثورة الإيرانية حينها عوّض ما اعتبرها كارثة اتفاقية كامب ديفيد بين مصر بقيادة أنور السادات وإسرائيل، خاصة في ظل ما أعلنته الثورة الإيرانية من عداء لأميركا وإسرائيل، بحسبه.
وأضاف شفيق أن سر نهضة إيران -والتيار الشيعي عموما- يكمن في موقفها الواضح الذي يرى أن "أميركا الشيطان الأكبر وإسرائيل سرطان يجب استئصاله من المنطقة وعدم الدخول في مساومات مع الغرب"، وأن لا مستقبل للحركات السنية إن لم تتبن الموقف نفسه.
سبب اعتناق الإسلاموفي جواب عن سبب تحوله إلى الإسلام، ذكر منير شفيق أنه كان في تواصل وتشاور مع الحركة الإسلامية منذ أواخر السبعينيات، حين صار مقتنعا بأن "مرحلة المقاومة العلمانية والحداثية والقومية قد انتهت أو في طريقها إلى النزول" وأن المستقبل "للمقاومة بمرجعية إسلامية".
وقال منير شفيق إن هذه القناعة كانت سببا في تحوله إلى الإسلام عام 1981، بالإضافة إلى أنه اختار أن يكون في صف "خط الجماهير الفلسطينية والعربية" التي كانت جلها تنتمي إلى الإسلام.
وكشف شفيق عما لاقاه من معارضة وانتقادات لاذعة داخل حركة فتح بسبب اعتناقه الإسلام حينها.
من أوسلو إلى طوفان أقصىوبالتطرق إلى اتفاقية أوسلو عام 1993 وموقفه منها، شدد ضيف بودكاست البلاد على أنها كانت سبب إنهاء علاقته بحركة فتح، وقال إنها تترجم القطيعة والتعارض بين قيادة فتح وثوابت الحركة ومنطلقاتها، واعتبر أن ضياع الضفة الغربية واستفحال الاستيطان فيها من نتائج اتفاقية أوسلو، بالإضافة إلى أنها أضفت شرعية على دولة الاحتلال.
وبالعودة إلى تحليل الوضع العالمي بداية التسعينيات بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي، أشار إلى كتاب أصدره حينها بعنوان "النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة"، إذ خالف فيه القراءات السائدة بشأن سيطرة أميركا على العالم.
وذكر شفيق أن الاعتقاد في سيطرة أميركا على العالم جعل إسرائيل تطمئن لوضعها وتنخرط في مسار استهلاكي، كما أسهم في انجرار قادتها إلى التجارة والفساد المالي، وهو ما تسبب في تتالي هزائمها العسكرية منذ حرب لبنان عام 2006.
وبالوصول إلى طوفان الأقصى، قال المفكر الفلسطيني إن الحدث مثّل زلزالا في إسرائيل، وجعل قادتها يراجعون خياراتهم السابقة بالتوجه نحو الجدية أكثر في بناء الجيش والمجتمع، مرجحا أن هذه الجهود لن تنجح وأن نهاية الكيان الصهيوني صارت وشيكة بسبب ما يعيشه المجتمع الإسرائيلي من شيخوخة وترهل، بحسبه.
وبخصوص المجازر الإسرائيلية في غزة، قال شفيق إن "هذه المجازر لا يمكن تبريرها بأنها رد فعل على عملية طوفان الأقصى، وإن كان هدف إسرائيل منها ترهيب الفلسطينيين فإنها ستفشل"، وأضاف أن هذه المجازر سترجع بالويلات على الكيان الصهيوني وعلى سمعته دوليا، وحتى على وجوده، وأنه لا يمكن لإسرائيل أن تكرر هذه المجزرة في المستقبل.
واستشرافا لمرحلة ما بعد الحرب، قال شفيق إن الحل يكمن في مواصلة المقاومة، مستبعدا التوصل إلى حل سياسي مع إسرائيل في المستقبل القريب باعتبار "تصميم الكيان الصهيوني على تهجير الفلسطينيين من كل فلسطين ورفضه كل الحلول السياسية المطروحة عليه لتحقيق السلام مع الفلسطينيين".
وفي النهاية، اعترف المفكر الفلسطيني منير شفيق بأن الخطأ الأكبر خلال مسيرته الطويلة كان مع والديه وإخوته بسبب الأسلوب الذي سلكه في النضال، وما نتج عنه من اعتقالات لفترات طويلة، وأيضا مع زوجته وأبنائه حيث كان حضورهم في حياته هامشيا واهتمامه بهم منقوصا.
وعن حلمه الحالي وهو في سن الـ90، قال شفيق ‘لا أحلم إلا بأن أرى نصر المقاومة وقيادتها وشعبها في قطاع غزة".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات المفکر الفلسطینی الکیان الصهیونی لتحریر فلسطین الحزب الشیوعی قیادة فتح على غرار مع قیادة حرکة فتح إلى أن من قبل
إقرأ أيضاً:
علي صدر الدين البيانوني يروي كواليس توحيد اخوان سورية ومعركة حماة الكبرى
في حلقة جديدة من سلسلة شهادته التي خصّ بها صحيفة "عربي21"، يواصل المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، المحامي علي صدر الدين البيانوني، رواية فصول من أخطر محطات العمل الإسلامي والمعارض في تاريخ سورية الحديث.
في هذه الحلقة، يكشف البيانوني تفاصيل دقيقة عن توحيد جماعة الإخوان المسلمين مع جناح الأستاذ عصام العطار والطليعة المقاتلة، وهو حدث مفصلي مهّد لتحولات كبيرة في مسار الجماعة. كما يتوقف عند معركة حماة الكبرى عام 1982، تلك اللحظة الدامية التي شهدت أعنف مواجهة بين النظام السوري والجماعة، وانتهت بكارثة إنسانية ودمار شامل للمدينة، سُجلت في التاريخ بوصفها واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين السوريين.
في سرده، يُبرز البيانوني كواليس القرارات المصيرية، والخيارات الصعبة التي واجهتها القيادة في الخارج، في ظل تزايد الضغط الأمني، وتشتت فصائل المعارضة، وتخاذل الموقف الدولي.
12 ـ توحّد الجماعة مع جناح الأستاذ عصام العطار والطليعة:
في أوائل السبعينيات، حصل انشقاق في الجماعة، بسبب الخلاف حول ضرورة وجود المراقب العام للجماعة داخل سورية، بينما كان الأستاذ عصام العطار يقيم في ألمانيا، فتدخّل بعض الإخوان من غير السوريين، وأجروا انتخابات عامة تحت إشرافهم، فاز فيها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، بينما لم يقبل طرف الأستاذ عصام بنتائجها، مما أدّى إلى انقسام الجماعة إلى فريقين: أحدهما يقوده الأستاذ عصام العطار المقيم في ألمانيا، وعُرف باسم طرف دمشق، حيث كان يتركّز معظم أتباعه، والآخر على رأسه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وبعده الأستاذ عدنان سعد الدين، وعُرف باسم طرف حلب، حيث كان يتركّز معظم أتباعه، بينما توزّع الإخوان في المدن الأخرى بين الطرفين بنسبٍ متفاوتة.
كما أن عدم الوصول إلى تفاهم واتفاق مع الطليعة - كما أشرتُ قبل قليل، أدّى إلى استمرار كل فريق في العمل مستقلاً.
وكان واضحا خلال عام 1980 أن المنحنى البياني للثورة لم يكن صاعداً، وأن الموقف الدولي ليس مشجعاً، وأن حملات البطش والتنكيل والقتل والاعتقال أضعفت مسارات الثورة، وأضعفت دور مؤيديها. واضطرت العديد من قادة الطليعة على الأرض، إلى مغادرة مواقعهم عبر المعابر الحدودية المتاحة، والالتحاق بدول الجوار..
مع بداية شهر شباط 1982، بدأت الأخبار تأتي من حماة من خلال المسافرين، تصف المعارك والقصف الشديد على المدينة، والفظائع التي ترتكبها قوات النظام. وأعلنت الجماعة النفير العام، وبدأ الإخوان يتوافدون إلى المعسكر في بغداد، استعداداً للتدخّل لإنقاذ المدينة، إذا أتيحت الفرصة، لكن بعض العقلاء في الجماعة، تدخّلوا لوقف هذه العملية التي كان محكوماً عليها بالفشل، والتسبب في مقتل المتدخّلين، دون جدوى. وعاد الإخوان المتجمّعين في المعسكر، إلى أقطارهم التي قدموا منها.ولما كانت ظروف المعركة التي تخوضها الأطراف الثلاثة مع النظام، تستدعي التنسيق والتعاون، فقد نجحت مساعي بعض الإخوان من مختلف الأطراف، وفي مقدّمتهم الشيخ منير الغضبان رحمه الله، في الوصول إلى اتفاق في شهر آذار 1981، وحّد الأطراف الثلاثة في جماعة واحدة، بقيادة المراقب العام الدكتور حسن هويدي (من فريق الأستاذ عصام العطار)، وشكلت قيادة واحدة ضمّت أربعة ممثلين عن كل طرف. وبالمناسبة فقد تمت محاولة اغتيال الأخ الأستاذ عصام العطار في ألمانيا، في نفس الأسبوع الذي تمّ فيه توقيع الاتفاق، واستشهدت في المحاولة زوجته الأخت الفاضلة بنان الطنطاوي رحمها الله.
وقد أقرّ مجلس شورى الجماعة هذا الاتفاق بالإجماع، لكن عدنان عقلة لم يلبث أن انشقّ عن الجماعة، ثم تمّ استدراجه من قبل أجهزة الأمن إلى الداخل السوري، حيث اعتقل مع حوالي سبعين من شباب الطليعة، ثم أعدموا واستشهدوا جميعا، رحمهم الله.
13 ـ أحداث حماة الكبرى 1982
في أواخر عام 1981، وبداية عام 1982، ازداد الضغط والحصار على المقاتلين في مدينة حماة، ووصلت رسالة من المسئول عنهم إلى القيادة، تشير إلى صعوبة الوضع، وأنه ليس أمامهم إلاّ المواجهة، والدخول في معركة حاسمة مع قوات النظام. فكان جواب القيادة أن وضع المدن الأخرى لا يسمح بالمشاركة في مثل هذه المعركة، وأن عليهم الانسحاب من مواقعهم، وعدم الدخول في معركة مكشوفة، وأنّ بإمكان الملاحقين والمطلوبين التسلّل والخروج من المدينة، ومغادرة البلاد مؤقتاً، ريثما يعاد ترتيب الأوضاع. لكن عدنان عقلة كان قد دخل إلى حماة، قبل شهر واحد، ووعدهم بالدعم والإمداد، وعلمنا أنه أرسل إليهم عبر الإذاعة إشارة تؤكد جاهزيته لمساندتهم.
ومع بداية شهر شباط 1982، بدأت الأخبار تأتي من حماة من خلال المسافرين، تصف المعارك والقصف الشديد على المدينة، والفظائع التي ترتكبها قوات النظام. وأعلنت الجماعة النفير العام، وبدأ الإخوان يتوافدون إلى المعسكر في بغداد، استعداداً للتدخّل لإنقاذ المدينة، إذا أتيحت الفرصة، لكن بعض العقلاء في الجماعة، تدخّلوا لوقف هذه العملية التي كان محكوماً عليها بالفشل، والتسبب في مقتل المتدخّلين، دون جدوى. وعاد الإخوان المتجمّعين في المعسكر، إلى أقطارهم التي قدموا منها.
لقد تسبّب القرار المرتجل في استنفار الإخوان، وتجميعهم في المعسكر، للتدخّل لإنقاذ مدينة حماة، في ظروفٍ لا تسمح بمثل هذا التدخّل، بل كان سيؤدّي ـ لو تمّ ـ إلى نتائج كارثية، ثم إيقاف عملية التدخّل.. لقد تسبّب كلّ ذلك بخيبة أملٍ كبيرة، وكان له انعكاسات سلبية على الصف الداخلي، امتدّت آثارها لعدّة سنوات، انتهت بانقسام الجماعة في عام 1986، لا سيما بعد أن تبيّن أن قوات النظام قامت بتدمير معظم أحياء المدينة، وقتل عشرات الآلاف من سكانها، وارتكاب أفظع الجرائم بحق سكان المدينة، وتهجير عشرات الآلاف منهم.. دون أن تتمكن الجماعة من تقديم أيّ مساعدة لوقف هذه المجزرة، أو التخفيف من معاناة سكان المدينة..
14 ـ التحالف الوطني لتحرير سورية:
كانت جماعة الإخوان المسلمين تدرك أنها لا يمكن أن تنفرد بقيادة الثورة، وأنه لا بدّ من التوافق على هيئة وطنية جامعة لكل قوى المعارضة السورية، تعبّر عن تطلّعات الشعب السوري بكلّ شرائحه ومكوّناته.
وكانت العراق والأردن تشكلان حزاماً عربياً مؤيداً لثورة الشعب السوري، وقد اجتمع فيهما نخبة من القيادات الوطنية السورية، من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، المهجّرة بفعل الملاحقات والتصفيات ومختلف وسائل القمع الأسدي..
لقد تسبّب القرار المرتجل في استنفار الإخوان، وتجميعهم في المعسكر، للتدخّل لإنقاذ مدينة حماة، في ظروفٍ لا تسمح بمثل هذا التدخّل، بل كان سيؤدّي ـ لو تمّ ـ إلى نتائج كارثية، ثم إيقاف عملية التدخّل.. لقد تسبّب كلّ ذلك بخيبة أملٍ كبيرة، وكان له انعكاسات سلبية على الصف الداخلي، امتدّت آثارها لعدّة سنوات، انتهت بانقسام الجماعة في عام 1986وقد شهدت الأشهر الأخيرة من عام 1981، والأشهر الأولى من عام 1982، لقاءات سياسية، وحوارات بين شخصيات معارضة إسلامية ويسارية وقومية وبعثية.. انتهت إلى الاتفاق على إعلان تشكيل (التحالف الوطني لتحرير سورية) في شهر آذار 1982، وتمّ التوافق على ميثاق وطني له، وتحوّل إلى مؤسّسة وطنية. وقد دعمت الحكومة العراقية تشكيل هذا التحالف، الذي كان مقرّه بغداد. وقام بعقد مؤتمرات وأنشطة سياسية وإعلامية في بعض الدول الأوروبية، وكانت الجماعة طرفاً وطنياً فاعلاً ومؤثّراً فيه. كما كان أول تحالف تلتقي فيه هذه القوى السياسية المختلفة، وشكّل تجربة وطنية ناجحة ومستقرّة.
كان من هذه القوى التي شكّلت التحالف: حزب البعث العربي الاشتراكي (جناح القيادة القومية)، وعلى رأسهم الأستاذ شبلي العيسمي الذي اختطفه نظام بشار الأسد من لبنان، مع بداية الثورة السورية الحالية، ومن ورائه الأستاذ ميشيل عفلق، مؤسّس حزب البعث، والرئيس الأسبق أمين الحافظ الذي دخل التحالف كشخصية مستقلة، وأكرم الحوراني عن الحزب العربي الاشتراكي، واللواء محمد الجراح وزير الداخلية السوري الأسبق، من الاتحاد الاشتراكي.. وغيرهم.
إقرأ أيضا: مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي سيرته لـ "عربي21".. هذه بدايتي
إقرأ أيضا: مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي تفاصيل تجربته في سجون الأسد
إقرأ أيضا: علي صدر الدين البيانوني يروي شهادته.. من سجون الأسد إلى مفاوضات الطليعة