الكتاب: "إفريقيا أفقًا للفكر في مساءلة الكونية وما بعد الكونية"
الكاتب: سليمان بشير دياني وجان لو أمسيل
ترجمة: فريد الزاهي
الناشر: دار معنى للنشر و التوزيع، الطبعة الأولى 2021
(عدد الصفحات 222من القطع الكبير).

ظهور براديغم ما بعد الكولونيالية


يملكُ مفهوم براديغم مَا بَعْدَ الْكُولُونْيَالِيَةِ دلالتين اثنتين؛ إِنَّهُ ظاَهِرَةٌ برزتْ بعد الاستعمار،وهو ظاهرةٌ تعارضُ الاستعمار وتبعاتهِ في العالم المعاصر في الجنوبِ كما في الشمالِ.

ثمَّ إنَّ براديغم مَا بَعْدَ الْكُولُونْيَالِيَةِ يلزم تصريفه بصيغةِ الجمعِ؛ لأنَّ ثمَّةَ كُتَابٌ و مفكرون و سياسيون عديدون ، ومتخصصون  آخرون في العلوم الإنسانية والاجتماعية ،لعبُوا دورًا مُبَشِّرًا فيه، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، التي شهدتْ ظهورَ وصعود حركاتِ التحرُّرِ الوطنيِّ في بلدان أفريقيا وآسيا، بوصفها تمرداتٍ وانتفاضاتٍ عسكريةٍ في عالم الجنوب  الخاضع للنظام الاستعماري الأوروبي، الذي أصبح مَحْكُومًا عليه بالأفول كما أبرز ذلك استقلال الهند والباكستان عام 1947.

عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، برزت على المسرح العالمي القوتان الكبريان المنتصرتان في الحرب أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وعرفتْ التعارض التام في مسألة الهيمنة، بحيث أنَّهما،على الرغم من اختلاف أيديولوجيتيهما السياسية (الرأسمالية الليبرالية للأولى، والاشتراكية للثانية)، كانتا تشتركان في معارضة الاستعمارالأوروبي  بأشكاله القديمة كما كانت أوروبا قَدْ أَرْسَتْهُ منذ بداية القرن السادس عشر. إِنَّهَا الفترةَ التي أخذتْ فيها الولايات المتحدة، بالأخصِّ، مكانَ أوروبَا في الهيمنةِ على بقيةِ المعمورةِ.

لقد تأسَّسَ النظام الرأسمالي العالمي منذ ما يقاربُ خمسة قرونٍ،وفي كل حقبةٍ تاريخيةٍ معينةٍ كانت تَقُودُهُ إمبراطوريةٌ مُحدِّدَةٌ: في الأول  كانت الإمبراطورية الآيبيرية بعد عام 1494، والإمبراطورية الهولندية في القرن السابع عشر. وفيما بعد  تمّ تشكيل النظام العالمي البريطاني لاحقاً نتيجة مؤتمر فيينا عام 1815، والذي كان من شأنه إعادة تقسيم أوروبا بعد هزيمة نابليون، وبعد مؤتمر برلين عام 1885، الذي قسّم القارة الأفريقية بين القوى الأوروبية على أساسِ تفوّقها العنصري المفترض لكونها محتضرة مقارنة بالأجناس الإفريقية المتخلفة بالفطرة، وتأكيد تجارة الرقيق ومبدأ الحرِّية في الداخل والعبودية في الخارج.

يُمْكِنُنَا أنْ نعتبرَ أنَّ التاريخَ الحقَّ لما بَعْدَ الْكُولُونْيَالِيَةِ يبدأُ مع مؤتمر باندونغ، أو"المؤتمر الآسيوي الأفريقي"، وجمع تسعة وعشرين بلدًا أفريقيًا وآسيويًا، وهو أول اجتماع لدول العالم الثالث، التي كانت قد استقلتْ حديثًا في منتصف القرن العشرين، عُقد في الفترة من 18 إلى 24 أبريل/نيسان عام 1955 في باندونغ بإندونيسيا.ومع انهيار العصر الإمبراطوري البريطاني بعد حربين عالميتين، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1945،تشكّل النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي الأمريكي، من خلال مؤتمرينِ رئيسيينِ، عُقد الأول في برايتُن وودز في مقاطعة نوه امشِر البريطانية عام 1944، حين أنشأتْ 44 دولة حليفة تمويلاً دولياً للنظام الذي يجسّده البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وبعد عام اعتمدت 50 دولة ميثاق الأمم المتحدة في مؤتمر مدينة سان فرانسِسكو.

كان على الحلّ الرسمي لتناقضات "حرية الداخل وعبودية الخارج" أن ينتظر حتى عام 1945، عندما قادت واشنطن دول العالم لصياغة مشروع ميثاق الأمم المتحدة ووعدت الشعوب بحرِّية تكوين دولها وفي الموافقة على إعلان آخر بعد ثلاثِ سنواتٍ، حين أكّدت حقوق الإنسان العالمية، وبوضوح فإنّ قيامَ النظامِ الدوليِّ الحاليِّ المكوّن من 193 دولة ذات سيادة وعلى قدمِ المساواةِ في الأمم المتحدة يمثّل تقدّماً هائلاً بعد العصور الإمبراطورية حين حكمت العشرات منها ثلث البشرية. ومع ذلك وفي سعيها وراء القوة العالمية، سرعان ما بدأتْ واشنطن في تحدّي الاتفاقيات الأممية التي حدّدتْ نظامها العالمي الخاصّ، مخالفة السيادة الوطنية من خلال التدخّلات السِرِّيَةِ لوكالة المخابرات المركزية والحروبِ الوحشيةِ في جميع أنحاء العالم وانتهاكِ حقوقِ الإنسانِ وممارسةِ التعذيبِ.

يُمْكِنُنَا أنْ نعتبرَ أنَّ التاريخَ الحقَّ لما بَعْدَ الْكُولُونْيَالِيَةِ يبدأُ مع مؤتمر باندونغ، أو "المؤتمر الآسيوي الأفريقي"، وجمع تسعة وعشرين بلدًا أفريقيًا وآسيويًا، وهو أول اجتماع لدول العالم الثالث، التي كانت قد استقلتْ حديثًا في منتصف القرن العشرين، عُقد في الفترة من 18 إلى 24 أبريل/ نيسان عام 1955 في باندونغ بإندونيسيا.

فقد جمع مؤتمر باندوينغ ، والذي يُعتبرُ تاريخَ دخولِ البلدانِ المستقلةِ في كل من أفريقيا وآسيا التي تسمى بلدان العالم الثالث للساحة الدولية،وتضمنَ القرار الأخير لهذا المؤتمر الدولي إدانةً للاستعمارِ والإمبرياليةِ و الصهيونيةِ  عُمُومًا، ولا سيما نظام الأبارتهايد بجنوب أفريقيا، وفرنسا التي كانت حينها إحدى القوتين الاستعماريتين العظميين بأفريقيا تنضافُ إلى ذلك إرادةِ البلدانِ المشاركةِ في أنْ تعتبر نفسها بلدانًا تلتزمُ بِعدمِ الإانْحِيَازِ لِإحْدَى الكتلتين العظميين، أي الكتلة السوفييتية والكتلة الغربية، وهي الإرادة التي كانت تعلنُ ربَّمَا أيضًا عن إرادة التخلص من الإيديولوجيات التي تهيمن في تينك المجموعتين، إضافة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدان الأفريقية والآسيوية، وإنهاء الاستعمار.

خلال فِتْرَةِ الْحَرْبِ الْبَارِدَةِ كان العالم مقسمًا إلى معسكرين: شرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي، وغربي بزعامة أمريكا، وكانتْ أغْلَبُ دولِ العالمِ مُنْحَازَةً إلى أحد المعسكرين، في هذا الوقت بدأت مجموعة من الدول على مستوى آسيا وأفريقيا، خاصة التي خرجتْ للتو من شَرْنَقةِ الاستعمارِ، التفكير في إنشاءِ تًكَّتُلٍ يجعلها خارج تصنيف "شرق غرب" ويُبْقِيهَا على مسافةِ الحيادِ من المعسكرينِ.

لذلك، تضمنتْ نتائج مؤتمر باندونغ إدانة جميع أشكال الإمبريالية والدعوة إلى التعاون الاقتصادي بين المشاركين لإنهاءِ الاعتمادِ المتزايدِ على الولايات المتحدة الأمريكية أو اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، مع الأملِ في مزيدٍ من التعاونِ والتآزرِ بين هذه الدول لتعزيزِ أنظمةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ بديلةٍ لحالة الانقسام بين الرأسمالية الليبرالية الأمريكية والشيوعية السوفياتية خلال فترةِ الحربِ الباردةِ.

بعد سِتِ  سنواتٍ من مؤتمر باندونغ، أُنْشِئَتْ حَرَكَةُ عدمِ الْانْحِيَازِ، التي ضمَّتْ بلدانًا أخرى خارج آسيا وأفريقيا، مثل يوغوسلافيا، وذلك حينما قادت مبادرة الرئيس اليوغوسلافي جوزيب براز تيتو إلى تنظيم المؤتمر الأول لرؤساء دول عدم الانحياز الذي عقد في سبتمبر/ أيلول عام 1961 بالعاصمة اليوغوسلافية بلغراد.

كانت المبادئُ الأساسيةُ لحركةِ عدمِ الانحيازِ هي ذاتها المبادئ التي وضعتها بلدان العالم الثالث في مؤتمر باندونغ مثل ضمان استقلال الدول المستعمرة والسيادة والسلامة الإقليمية والأمن لدول عدم الانحياز في كفاحها ضد الإمبريالية والاستعمار الجديد والعنصرية وجميع أشكال العدوان والاحتلال والسيطرة والتدخل الأجنبي.

وكان من أبرز مخرجات مؤتمر باندونغ، أنَّه جَمَعَ عددًا من القادةِ الذين انْضَمُّوا في النهاية إلى حركةِ عدمِ الانحيازِ، بما في ذلك نهرو وعبد الناصر، اللَّذَانِ كانَا إلى جانب تيتو رئيس يوغوسلافيا، من الْمُؤَيِّدِينَ المهمين لحركة "عدم الانحياز"، التي وصل عددُ الدولِ المنضمين إليها 120 دولة حتى نهاية عام 2022، وهي بذلك تُعَدُّ أكبرَ تجمعٍ للدول في جميعِ أنحاءِ العالم بعد الأممِ المتحدةِ.

عقب نهاية الحرب الباردة، انهارَ النظامُ ثُنَائِيُ القطبِ، بعد (انهيار أحد القطبين انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1991). ما يطلق عليه اسم "النظام الدولي الجديد"، هو النظام الأمريكي القائم بالْفِعْلِ، حيث أعلنتْ الولايات المتحدة في عام 1990 أنَّها حققتْ الانتصار بقولها: "بأنَّ الحربَ الباردةَ قد انتهتْ.. لقد فُزْنَا فِيهَا". وهذا النظام الدولي ذو القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة، والذي يعكسُ جوهريًا أزمةَ العولمةِ الرأسماليةِ الجديدةِ، يقومُ على الثورةِ التكنولوجيةِ الهائلةِ التي تَعْتَمِدُ على المعرفةِ الْمُكَثِّفَةِ، وتُشَكِّلُ المراكزُ الرأسماليةُ الغربيةُ قاعدتَها الأساسيةِ، والتي سوف يكون لها إسقاطاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية في تغيير الوجه المادي للعالم.

فكر ما بعد الاستعمار يهتم بتفكيك الظاهرة الاستعمارية ويسعى إلى مناهضة المركزية الغربية ودحض نظرياتها الفكرية وتصوراتها الاستعلائية في محاولة لتغيير مفاهيمها الخاطئة التي تروج لفكرة تدني الأعراق والأجناس غير الأوروبيةوارتباطاً بما سبق نستنتج أن فكر ما بعد الاستعمار يهتم بتفكيك الظاهرة الاستعمارية ويسعى إلى مناهضة المركزية الغربية ودحض نظرياتها الفكرية وتصوراتها الاستعلائية في محاولة لتغيير مفاهيمها الخاطئة التي تروج لفكرة تدني الأعراق والأجناس غير الأوروبية، وقد اختلفت افكار أهم رواده حول معالجة الظاهرة الاستعمارية، في حين اعتمد فانون على مفهوم العنف للتخلص من الاستعمار، دعا أدوارد سعيد إلى فكرة التنوع الثقافي والتعايش السلمي كمشترك إنساني.

إن اللهجة التحريضية التي اتسم بها كتاب (معذبو الأرض) عند فانون بسبب الاضطهاد النفسي الذي مارسه الاستعمار، نجد ما يوازيها عند نكروما وكابرال وأنتا ديوب ومالك بن نبي، إذ يعتبر أن الجنس الأبيض أوقع ظلما غير مبرر بالجنس الأسود، وسيظل ماثلاً في ذهن الإنسان الأسود حتى يشعر أنه قد رد اعتباره، فإن محو الاستعمار؛ كما يذهب جان بول سارتر (1905م ـ 1980م) في تقديمه لكتاب فانون يستهدف تقييم نظام العالم وقلب النظم قلباً مطلقاً؛ لذلك نجد فانون في خاتمته لكتابه (معذبو الأرض) يقول: "إذا أردنا أن نحيل إفريقيا إلى أوروبا جديدة وأن نحيل أمريكا إلى أوروبا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلى أوروبيين.. فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا ومن أجل الإنسانية، يجب علينا يا رفاق، أن نلبس جلداً جديداً، أن ننشيء فكراً جديداً، أن نحاول خلق إنسان جديد".. إن فانون يريد أن يقول: إن الماركسية ليست حلاً شاملاً؛ كما أن البنيان التحتي الاقتصادي في المستعمرات، هو بنيان فوقي؛ فالمرء غني لأنه أبيض وأبيض؛ لأنه غني، حاثاً العالم الثالث لأن يقف بمنأى عن الصراع بين الاشتراكية، والرأسمالية؛ فهو يرى ان هناك اعتقاداً سائداً لدى الناس عامة أن على العالم والعالم الثالث خاصة أن يختار بين النظام الرأسمالي، والنظام الاشتراكي؛ لكن هذه البلاد يجب أن ترفض الانصياع لهذا التنافس، وأن لا يكون قائماً على أمر مسبق.

لكن بعد الإمبراطوريات الاستعمارية ثم سقوط حائط برلين، وبعد وضعية ما بعد الحرب الباردة، أخذت المواجهات العمودية، حسب جان لو أمسيل، وبشكل سريع، شكلاً جديداً من خلال التخلي عن البراديغم التاريخاني والماركسي لصراع الطبقات، الذي كان مع ذلك وليد حرب الأعراق، لبث روح جديدة في هذا الأخير بالمجاوزة الأكيدة للروابط الجانبية أو الصراعات الأفقية. ومما تبقى من العلاقات الاستعمارية فضلت لنا هويات عمودية وعرقية أضحت تقوم بعمليات القطع والتشذير والعزل للأجسام أو الحقول الاجتماعية والفكرية والأدبية والفنية وتقسيمها إلى قطع وحزات عمودية. إننا نشهد اليوم عودة قوية للعرق، وإضفاء متزايداً للطابع الإثني على العلاقات الثقافية كما برهن على ذلك الأنثربولوجي بشكل مستفيض (أثننة فرنسا، 2011؛ الحفر السفر الجدد، 2014).

اقرأ أيضا: الأبحاث ما بعد الكولونيالية وتأثيراتها على المجتمعات المستعمرة.. كتاب جديد (1من2)


المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الاستعمار أوروبا العالم الثالث أوروبا كتاب استعمار عرض عالم ثالث كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة العالم الثالث التی کانت بلدان ا ما بعد التی ت

إقرأ أيضاً:

ماذا لو دخلت أميركا الحرب مباشرة؟ وما الأهداف التي لا تتنازل عنها؟

خطورة التدخل الأميركي أهداف لا تنازل عنها  الرد الإيراني لماذا المقامرة الأميركية؟

يقف العالم على أعتاب لحظة حاسمة عقب تصريحات للرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن اتخاذ ما قد يكون أخطر قرار في مسيرته السياسية، وهو توجيه ضربة عسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني، استكمالا لما بدأه جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ الجمعة الماضي.

وفي مواجهة هذا التصعيد المحتمل، تظهر المواقف الإيرانية رافضة لأي استسلام أو إملاءات خارجية، وجاءت الرسالة على لسان المرشد الإيراني علي خامنئي، وتحمل كلماتها تحديات أكّد فيها استعداد القوات المسلحة والشعب للدفاع عن البلاد، محذرًا من أن الهجمات الأميركية ستقود إلى "عواقب وخيمة لا يمكن إصلاحها".

وأمام هذا المشهد الذي تتباين فيه "تقديرات الردع والرد"، يشير محللون -في مقابلات مع الجزيرة نت- إلى أبعاد أوسع للصراع، تشمل بنية النظام الإقليمي، وتغيير خريطة المنطقة وفق رؤية ممارسات القوة الحالية، ومستقبل جديد من التوازنات في الشرق الأوسط، مؤكدين أن أي خطأ في الحسابات قد يزج المنطقة بأسرها في نفق التصعيد وأبواب قد تُفتح على مجهول.

خطورة التدخل الأميركي

ويشير التوجه الأميركي -وفقا لتصريحات المسؤولين الأميركيين- إلى تحريك قوات عسكرية ونقل مقاتلات متطورة إلى الشرق الأوسط، ومنها طائرات "إف-16″ و"إف-22" و"إف-35″، إضافة إلى قاذفات "بي-52" الموجودة حاليا في قاعدة "دييغو غارسيا" بالمحيط الهندي.

وهناك خيارات أخرى تدرسها الإدارة الأميركية مثل التدخل المباشر في المواجهات، عبر شن هجوم عسكري واسع النطاق ضد منشآت إيران النووية، وعلى رأسها "منشأة فوردو" المحصنة داخل الجبال.

وحسب الكاتب والباحث السياسي أسامة أبو أرشيد من واشنطن، فإن دخول الولايات المتحدة المباشر إلى المواجهة مع إيران سيغيّر موازين القوة بشكل جذري، إذ إن قدراتها الجوية والبحرية تفوق بكثير ما يمكن أن توفره إسرائيل وحدها، خاصة مع امتلاك واشنطن قنابل خارقة للتحصينات ذات قدرة -ولو نظريا- على تدمير المنشآت النووية المحصنة بالكامل.

إعلان

وفي ما يتعلق بهذه النقطة تحديدا، فقد أعربت الحكومة الإسرائيلية في مناسبات عدة عن أنه يمكنها تعطيل البرنامج النووي وإرجاعه عدة سنوات للوراء، لكنها تفتقر للقدرات التي تمكنها من تدمير هذا البرنامج من دون دعم أميركي مباشر.

وأمام هذه الرؤية التي تتجلى شيئا فشيئا مع مرور الساعات من عمر المواجهات بين إيران وإسرائيل، يذهب المحلل السياسي إبراهيم المدهون إلى أن واشنطن انتقلت فعليا إلى "مرحلة التهيئة" للتدخل المباشر في الحرب، وأن "الحشود العسكرية والتصريحات التصعيدية للرئيس ترامب تؤكد دخول الولايات المتحدة شريكا مباشرا في هذه الحرب، حتى لو لم يُعلن ذلك رسميا بعد".

ومع ذلك، فإن واشنطن تدرك فداحة كلفة حرب طويلة في المنطقة، ولهذا تميل إلى سياسة "التدخل المتدرج"، بحيث تترك لإسرائيل الدور الأكبر في المراحل الأولى وتتدخل في لحظة الحسم فقط، وفقا للمدهون.

لكن في الجهة المقابلة، يقلل مدير مركز الرؤية الجديد للدراسات والإعلام في إيران مهدي عزيزي من احتمالية التدخل الأميركي المباشر، ويرى أن الولايات المتحدة تمارس في الوقت الحالي حربا نفسية وإعلامية هدفها الضغط على طهران وإرباك الخصم، وذلك "في ظل استنزاف القدرات الإسرائيلية وعجزها عن خوض حرب استنزاف طويلة".

طائرات مقاتلة من طراز إف-18 على سطح حاملة طائرات أميركية (رويترز) أهداف لا تنازل عنها

وتضع فداحة كلفة التدخل المباشر للولايات المتحدة في الحرب سقوفا مرتفعة لما يجب على الإدارة الأميركية تحقيقه من أهداف، وهذه الأهداف -وفق تصريحات ترامب وكبار معاونيه- تتوزع بين هدف عاجل وآخر إستراتيجي طويل الأمد.

ويصف أبو أرشيد الهدف الآني المعلن لترامب بأنه "استسلام كامل من دون شروط" من قبل إيران، بحيث يجري تفكيك البرنامج النووي الإيراني كليا، وتصفير قدرة التخصيب داخل الأراضي الإيرانية، على أن تقتصر إمكانية إنتاج الطاقة النووية على استيراد الوقود النووي المخصّب من الخارج.

ويشير الباحث السياسي من واشنطن إلى أن هذا الهدف قد يتطور ليشمل تفكيك برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، الذي تعده إسرائيل تهديدا مباشرا لأمنها ولمصالح أميركا وحلفائها في المنطقة، ومنها القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في الخليج والعراق.

كما أشار المتحدث نفسه إلى هدف ثالث يتبناه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو تفكيك "محور المقاومة" الإيراني في المنطقة، أو ما تسميه واشنطن "محور الشر"، وربما الدفع نحو تغيير النظام نفسه.

أما المدهون فيذهب أبعد من ذلك، ويرى أن المشروع الحقيقي لواشنطن هو "إعادة ترتيب المنطقة بالكامل"، وربما السعي نحو "سايكس بيكو جديد" بإشراف أميركي إسرائيلي.

مضيفا أن الهدف النهائي ليس فقط إخضاع إيران واستسلامها، بل تغيير شكل النظام السياسي والاجتماعي الإيراني بما يخدم الرؤية  الأميركية ومصالحها في المنطقة. و"لا يستبعد أيضا أن يكون تفكيك إيران وتقسيمها أحد السيناريوهات المطروحة إذا تحقق انتصار أميركي سريع".

 الرد الإيراني

وفي مقابل هذه الأهداف المعلنة أميركيا وإسرائيليا، يؤكد الخطاب الإيراني أن طهران مستعدة "للدفاع عن مقدساتها مدعومةً من المسؤولين وكل أبناء الشعب"، وأن أي هجوم أميركي "ستكون له عواقب وخيمة لا يمكن إصلاحها"، حسب المرشد الإيراني.

إعلان

وشدد خامنئي على أن الشعب الإيراني "لن يخضع لأي إملاءات"، وأن إيران "لن يُفرض عليها سلام أو حرب".

ووفق تحليل أسامة أبو أرشيد، فإن الرد الإيراني سيكون عبر استهداف القواعد الأميركية في المنطقة، خاصة تلك الموجودة في العراق والخليج، والتي تقع ضمن المدى الصاروخي الإيراني، بالإضافة إلى تحريك الحلفاء الإقليميين لفتح جبهات متعددة ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية، مع تهديدات بإغلاق مضيق هرمز وتعطيل الملاحة الدولية.

ويذهب عزيزي إلى تفاصيل أكثر في الرد الإيراني، فحسب تحليله فإن إيران لن تتخلى عن حقوقها في تخصيب اليورانيوم وتطوير قدراتها الدفاعية والصاروخية، و"كل الخيارات مفتوحة دفاعا عن مصالح إيران حتى ولو أدى الأمر إلى إغلاق مضيق هرمز وخلق أزمة إقليمية ودولية في مجال الطاقة".

في حين يوضّح المدهون أن إيران قد تجد نفسها مضطرة -إذا واجهت ضربة أميركية ساحقة تستخدم فيها واشنطن "قوة غير تقليدية"- إلى عدم الرد حفاظا على ما تبقى من الدولة، و"حتى لا تفتح على نفسها باب الدمار الكامل".

عزيزي: إيران لن تتخلى عن حقوقها في تخصيب اليورانيوم وتطوير قدراتها الدفاعية والصاروخية (الجزيرة) لماذا المقامرة الأميركية؟

التأمل في تشابك المصالح الأميركية في المنطقة، وتوزعها على مساحات جغرافية متعددة، وبقياس حسابات المكاسب والخسائر، قد يضعنا أمام معادلة تقول: إن أميركا بتبنيها الحرب الإسرائيلية على إيران "تقامر" بمصالحها ومكاسبها في المنطقة أمام مكسب إستراتيجي نعم لكنه قد لا يتحقق أمام رد الفعل الإيراني.

وهنا، يقول أبو أرشيد إن تحميل إسرائيل وحدها مسؤولية جرّ الولايات المتحدة للمواجهة مع إيران فيه تبسيط مخل، إذ يرى أن "التوسع وفرض الهيمنة هما جزء من الجينات الوراثية للولايات المتحدة" منذ نشأتها، وهي لا تقبل بوجود منافسين إستراتيجيين في مناطق تعدّها حيوية لمصالحها.

وهذه الرؤية تعززها عقيدة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر (في الثمانينيات) التي تؤكد أنه لن يُسمح لأي قوة أخرى بمنافسة النفوذ الأميركي في الخليج العربي، وتجارب واشنطن في فيتنام وأفغانستان والعراق تؤكد أن أميركا لا تتردد في استخدام قوتها حين ترى مصالحها مهددة، حتى لو كانت الخسائر أكبر من المكاسب الفعلية، حسب ما بيّنه أبو أرشيد.

أما المدهون، فيرى أن واشنطن "تقامر" في كل مرة بمصالحها من منطلق تصور قدرتها على فرض نظام عالمي جديد، مستندة إلى تفوقها العسكري وقناعتها بأن الهيبة الأميركية تتطلب ضرب خصومها في عقر دارهم ومنعهم من امتلاك أدوات الردع.

يذكر أنه منذ الجمعة الماضي شهدت المنطقة تصعيدا خطيرا بين إيران وإسرائيل، تمثل في سلسلة من الضربات الجوية المتبادلة وتوسيع دائرة الاشتباك لتشمل جبهات جديدة، وكشفت إسرائيل عن تنفيذ هجمات جوية على مواقع داخل إيران استهدفت منشآت مرتبطة ببرنامجها النووي، واغتالت عددا من القادة العسكريين وعلماء الطاقة الذرية في إيران.

وفي المقابل، ردت إيران بإطلاق رشقات صاروخية على مواقع عسكرية إسرائيلية في عدة مناطق، مع تفعيل منظوماتها الدفاعية. وأكدت المصادر الإيرانية أن الردود الإيرانية ستستمر في حال توسعت دائرة العدوان، وهو ما دفع واشنطن لإرسال مزيد من التعزيزات العسكرية إلى الشرق الأوسط تحسبا لانفجار إقليمي أوسع.

مقالات مشابهة

  • رفقة الحويج.. وزير خارجية اليمن الأسبق يزور ضريح الشهيد عمر المختار
  • الإمارات تدعم نهجاً متكاملاً لإدارة المياه العذبة
  • سفير الإمارات في بيرو يستعرض جهود الدولة في الأمن المائي
  • الجزيرة للدراسات يختتم مؤتمر التنافس بين القوى العظمى والشرق الأوسط
  • ماذا لو دخلت أميركا الحرب مباشرة؟ وما الأهداف التي لا تتنازل عنها؟
  • حرب المعلومات المضللة بين إسرائيل وإيران.. ما أبرز الأخبار الكاذبة التي انتشرت؟
  • عالم آثار العالم القديم.. كتاب جديد لعيد مرعي
  • العالم الإسلامي ترحب ببيان رئاسة مؤتمر الأمم المتحدة بشأن فلسطين
  • العالم في زمن «ما بعد النظام»
  • "مؤتمر القضية الفلسطينية": نؤكد استمرارية جهود إنهاء الحرب في غزة