محمد الشحي يستكشف الأبعاد الجمالية والمعرفية في تجربة العرافي شاكر حسن
تاريخ النشر: 13th, July 2024 GMT
"عمان": في إصدار أدبي مميز، قدمت مؤسسة بيت الزبير عملا شعريا فريدا للدكتور محمد بن عبدالكريم الشحي بعنوان "مقامات لام وضمّة ميم ـ من تأملات ومذكّرات شاكر حسن آل سعيد". يأتي هذا العمل كمحاولة جادة لاستكشاف الأبعاد الجمالية والمعرفية للتجربة التشكيلية والإبداعية في تجربة الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد (1925-2004)، الذي ترك بصمة لا تُمحى في مشهد الفن العربي المعاصر.
تتميز المجموعة، التي زينها غلاف من تصميم الكاتب هلال البادي، بتنوعها الأسلوبي، حيث تمزج بين النثر الشعري وقصائد التفعيلة. وقد قسم "الشحي" عمله إلى خمسة مقامات، كل منها يستكشف جانبا مختلفا من عالم حسن شاكر الفني والفكري.
المقام الأول، "مقام الأحافير والأحجار والجدران"، يضم نصوصا مثل "مسبحة صغيرة تحيط بفم الجرة" و"خطوط على جدار، 1978"، مستحضرا الملمس المادي لأعمال حسن شاكر. أما المقام الثاني، "مقام الأنوار والأزمنة والنداءات"، فيتضمن عناوين مثل "شموع النذر، 1954" و"قنديل الرؤيا"، مستكشفا البعد الروحي والزمني في أعمال الفنان.
في "مقام النقطة"، الذي يمثل المقام الثالث، نجد نصوصا مثل "لامُ الحيرةِ الدافئةُ" و"أنا النقطةُ فوقَ فاء الحرف"، مسلطا الضوء على اهتمام حسن شاكر آل سعيد بالحروفية والرمزية. المقام الرابع، "مقام الأشجار والخضرة والينوع"، يستكشف علاقة الفنان بالطبيعة من خلال نصوص مثل "في مديح الغابة" و"الغرق في بهو الخضرة".
أما المقام الخامس والأخير، "مقام البعد الواحد"، فيختتم المجموعة بتأملات في مفاهيم الوحدة والتجريد التي ميزت أعماله المتأخرة.
تمتد المجموعة على 175 صفحة، وتعكس بعمق الأبعاد الصوفية والروحية التي ميزت أعمال شاكر حسن. كما تستحضر الأساطير والتراث الحضاري العراقي الغني، الذي شكل مصدر إلهام دائم للفنان. وتبرز النصوص اهتمام "الفنان" بالحروفيات والرموز والتجريد، وهي العناصر التي شكلت جوهر أسلوبه الفني الفريد.
يستدعي "الشحي" في نصوصه شخصيات مؤثرة في مسيرة الفنان حسن شاكر آل سعيد، مثل يحيى بن محمود الواسطي، وجواد سليم، وجبرا إبراهيم جبرا، مسلطا الضوء على السياق الثقافي والفني الذي عمل فيه الفنان. كما يشير إلى أعمال بارزة للفنان مثل "شموع النذر" و"خطوط على جدار"، مقدما قراءة شعرية لهذه الأعمال التشكيلية.
يشكل هذا العمل جسرا فريدا بين عالمي الشعر والفن التشكيلي، حيث يقدم الدكتور محمد عبدالكريم الشحي رؤية شعرية عميقة لتجربة "شاكر حسن" الفنية والفكرية. وبذلك، يفتح آفاقا جديدة لفهم وتقدير إسهامات هذا الفنان الرائد في مشهد الفن العربي المعاصر.
تأتي هذه المجموعة الشعرية كإضافة قيمة للمكتبة العربية، مقدمة قراءة إبداعية ومتعمقة لإرث أحد أبرز الفنانين العرب في القرن العشرين، وداعية القراء إلى استكشاف العلاقة المتشابكة بين الكلمة والصورة، وبين الشعر والفن التشكيلي.
في نص بعنوان "تناوب" يقول الشاعر:
تعالَ معي وشاهدْ كيفَ
يتبادلانِ الأدوارَ
غبارُ الطلعِ
وغبارُ المجرّاتِ
فتنبتُ نخلةٌ في طريقِ
هجراتِ الأجرامِ
والمجراتِ البعيدةِ
وينامُ كويكبٌ صغيرٌ
في عشِّ البومِ.
ومما جاء في نص "مديح الماء في نوم الغزالة":
أنا من شمالِ الحكمةِ المجروحِ،
من هذا الهباء الرَّخْوِ
من تاريخِ عصمتِه المرقّطِ
بالنوايا الغابراتِ وبالثوابِ المستقيلِ
ونومِ قطّاعِ الخواطرِ في صحاري الليلِ
قلتُ كأنني أحثو على التابوتِ من ندمي المقدّسِ
أو كأني أدفعُ الأيامَ حينَ تيبَّسَتْ لتمرَّ
في المعنى المضرّسِ كي يباغتَها وأُبْعَثَ من فُتاتي
لم أعدْ أقوى على قَسَمِ الوفاءِ لدمعةِ الأسلافِ
لم أرسمْ لهمْ قمرا على الأحجارِ
لكني أضيءُ بالامتثالِ لهاتفِ النجوى
مناماتِ الأبدْ
لم أغترف من بركةِ الآلاءِ ما يدني
ولم أنصبْ خياما في يدِ البيداءِ
لكني حفرتُ مناحةَ العشّاق
في ليلِ القوافلِ
بالوتدْ
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: آل سعید
إقرأ أيضاً:
بيان المسيرات اليمنية “لا أمن للكيان”.. قراءة في الأبعاد والدلالات السياسية والدينية والاستراتيجية
يمانيون / تحليل خاص
في مشهد شعبي غير اعتيادي، خرج اليمنيون بمسيرات مليونية عارمة، تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة والانتهاكات المتواصلة بحق المسجد الأقصى، تحت شعار صريح: “لا أمن للكيان.. وغزة والأقصى تحت العدوان”. وقد حمل البيان الصادر عن هذه المسيرات مضامين استراتيجية عميقة تتجاوز التنديد اللفظي، إلى خطاب تعبوي وتحريضي ذي أبعاد إقليمية واضحة ، هذا التحليل يسلط الضوء على أبرز الأبعاد والدلالات السياسية والدينية والاجتماعية والعسكرية التي تضمّنها البيان، ويستقرئ رسائله في ظل احتدام المواجهة في غزة، وتنامي الوعي الشعبي المقاوم في عدد من الساحات العربية.
البعد الديني – المقدسات محرك شعبي جامع :
البيان يبدأ بصيغة إيمانية صريحة: “نجدد عهدنا ووفاءنا وولاءنا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله…”
هذه العبارة ليست مجرد افتتاحية تقليدية، بل تعكس مركزية البعد الديني كرافعة سياسية وتعبوية. إذ يتم الربط مباشرة بين الإساءة للنبي محمد صلوات الله عليه وآله ، والانتهاكات التي تطال المسجد الأقصى، في محاولة لإعادة تمركز القضية الفلسطينية في وجدان المسلمين بوصفها قضية عقائدية غير قابلة للمساومة.
من خلال هذه الصياغة، يُراد كسر طوق التجاهل الذي فرضته بعض الأنظمة عبر التطبيع، والتأكيد على أن الأمة الإسلامية تملك قاسمًا دينيًا مشتركًا يتفجر عند المساس بمقدساتها.
البعد السياسي – المواجهة مع المشروع الصهيوني والتحالف الغربي
البيان لا يكتفي بوصف العدوان الإسرائيلي على غزة باعتباره عملاً عدائيًا، بل يوسع المشهد ليضعه في سياق صراع دولي، من خلال وصف الدعم الغربي للعدو الإسرائيلي بأنه يأتي من “أمريكا والغرب الكافر وصهاينة العالم”.
هذا الخطاب يُعيد تفعيل مفردات “المواجهة الحضارية”، ويصور الصراع القائم بأنه ليس مجرد نزاع سياسي، بل صراع على القيم والهوية والوجود. كما أنه يبعث برسالة ضمنية إلى الأنظمة العربية التي تقيم علاقات مع العدو الإسرائيلي، بأن الموقف الشعبي المقاوم هو في وادٍ آخر، وهو ماضٍ في التصعيد.
إضافة إلى ذلك، فإن التأكيد على أن “فكرة تراجعنا عن موقفنا المساند لغزة هي من أفشل الأفكار” يُعدّ رسالة سياسية قوية بأن التحركات الشعبية في اليمن ليست ظرفية، بل تنطلق من موقف استراتيجي ثابت في مناهضة الاحتلال والوقوف مع المقاومة الفلسطينية.
البعد التعبوي والاجتماعي – المسيرات كأداة ضغط ونفير شامل
يستعمل البيان مفردات قوية للدعوة إلى التعبئة الجماهيرية: “لن نكتفي أمام إساءة اليهود المتكررة ببيانات الإدانة، بل نرد بالنفير والخروج المليوني…”
في هذا الإطار، المسيرات ليست فقط استجابة عاطفية، بل تحولت إلى فعل سياسي منظم، يُستعمل كوسيلة ضغط داخلي وخارجي، ورسالة مفادها أن الشارع لا يزال حاضرًا وفاعلًا في معادلة الصراع، رغم كل الضغوط الاقتصادية والحصار.
كما يدعو البيان شعوب الأمة الأخرى للتحرك، في محاولة لتوسيع دائرة المقاومة الشعبية، والتأكيد على أن نضال غزة ليس نضالًا محصورًا بفصيل أو شعب، بل هو نضال أممي إسلامي جامع.
البعد العسكري – رسائل نارية ومواقف غير تقليدية
البيان لم يخلُ من رسائل مباشرة موجهة إلى الميدان العسكري: “نقول لمجاهدينا في القوات المسلحة: لا تسمحوا للعدو الصهيوني أن يشعر بشيء من الأمان طالما وغزة تحت الإبادة…”
هذه العبارة تُعبّر عن تحول لافت، حيث يتم الربط بين التحركات الشعبية والخطاب العسكري المباشر، في إعلان ضمني أن اليمن، كجزء من محور المقاومة، يحتفظ بحقه في الرد العسكري إذا استدعت الحاجة، وأن “الأمن” الإسرائيلي أصبح مرهونًا بوقف العدوان على غزة.
البيان يضع “العدو الصهيوني” في حالة استنفار، ليس فقط داخل حدود فلسطين، بل على مستوى الجغرافيا الإقليمية، ويعيد التأكيد أن أي استهداف للبنية المدنية في غزة سيُقابل بمواقف عملية، وليس بمواقف إدانة تقليدية.
البعد الإنساني والتضامني – دعم معنوي صلب للمقاومة
يُختتم البيان برسالة إلى غزة وفلسطين: “اصبروا وصابروا فأنتم تجاهدون في سبيل الله ولن يضيع الله صبركم… ونحن معكم.”
في هذه الصيغة المزدوجة، يندمج الخطاب الإيماني بالسياسي. فهو من جهة يُطمئن أهل غزة بأن صبرهم في سبيل الله لن يذهب هدرًا، ومن جهة أخرى يؤكد لهم أنهم ليسوا وحدهم، وأن الظهير الشعبي في اليمن وكل ساحات المقاومة موجود وحاضر.
بهذه العبارات، يتجاوز البيان منطق التضامن الرمزي، إلى تعهد ميداني ومعنوي بالدعم والصمود، وهو ما يمنح فصائل المقاومة دفعة معنوية كبرى وسط حصار خانق وعدوان مستمر.
ختاماً : اليمن يُعيد التموضع في قلب معادلة الصراع
البيان الصادر عن المسيرات اليمنية لا يمكن قراءته بوصفه فقط موقفًا تضامنيًا تقليديًا، بل هو إعلان عن تموضع استراتيجي جديد، يحمل عدة رسائل إلى الكيان الإسرائيلي ’’لا أمان ما دام العدوان قائمًا’’ وإلى الأنظمة العربية ’’ لا تطبيع يغطي على جرائم الاحتلال’’ ، وإلى شعوب الأمة ’’ التحرك الشعبي ممكن وفاعل، والنفير الجماهيري واجب’’ وإلى غزة والمقاومة ’’ لستم وحدكم، والأمة لا تزال حية’’.
من هنا، فإن المسيرات المليونية، التي خرجت من بلد يعاني ويلات الحرب والحصار، تُعيد التأكيد أن القضية الفلسطينية لا تموت ما دام هناك من يعتبرها بوصلته الأخلاقية والعقائدية والسياسية.