محمد فائق وزير إعلام ثورة يوليو يحكي سيرة ثورة آمنت بالشعب فأخلص لها الشعب
تاريخ النشر: 22nd, July 2024 GMT
القرب من هذا الرجل يجعلك تشعر بحنين جميل إلى أيام عظيمة عاشتها مصر مع بزوغ شمس 23 يوليو. ولا تتعجب عندما تجده يتذكر اسمك من أول لقاء، ولِمِ لا وهو السيد محمد فائق أولُ مَن شارك في تأسيس جهاز الاستخبارات العامة ووزير الإرشاد القومي في عهد الزعيم عبد الناصر من عام 1966 حتى 1970، ثم صار وزيرًا للدولة للشئون الخارجية عام 1970.
عندما تحضر مع السيد فائق أي مناسبة تخص إفريقيا تشعر أنه ملك قلوبهم، فهم يسمونه (أبو إفريقيا)، فقد كان مع الزعيم عبد الناصر مهندسَ حركات التحرر لشعوب باندونج التي تسعى للحرية. وقدَّم خلال مسئولياته كمستشار للشئون الإفريقية ثم الإفريقية الآسيوية أهم إسهاماته في مقاومة الاستعمار والعنصرية وتأكيد حق تقرير المصير، وعقد صداقات مع زعماء حركة التحرر الوطني في العالم وزعماء حركة عدم الانحياز مثل: نيلسون مانديلا، كوامي نكروما، فيدل كاسترو، أرنستو جيفارا، السيدة أنديرا غاندي، والسيدة باندرانيكا. وقد أثَّرت حواراته مع هؤلاء الزعماء في تشكيل رؤيته العميقة لحركة التحرر الوطني العالمية.
الملك والثورة
فى كتابه الذي صدر مؤخرًا وتم توقيعه وسط نخبة من المفكرين تحدث فائق عن مقدمات أدت إلى الثورة وكان أهمها تصدُّع العرش وانهيار الملكية فقد كان «حكم الملك فاروق انتكاسةً حقيقيةً للنهضة التي شهدتها مصر عقب ثورة عام 1919».
يقول إنه «عندما تولّى الملك فاروق عرش البلاد في عام 1936 كان يتمتع بشعبية واسعة ولم يكن قد بلغ السن القانونية بعد، وهو ما استدعى وضعه تحت الوصاية، ولكن بعد عدة شهور ظهرت فتوى بأن عمر الملك المسلم يُحسب بالسنة الهجرية، وبذلك اختُصرت مدة الوصاية». لكن «للأسف لم يحافظ فاروق على هذه الشعبية، فلم يكن مؤهلًا للحكم على الإطلاق». وقد «تعلّق الملك الصغير برغبة جامحة في أن يبايعه الشعب الذي غمره بهذا الحب كله ليكون خليفةً وإمامًا للمسلمين، ووجد مَن يؤيده ومَن يدفعه بهذا الاتجاه، وتصدّر هذا الاتجاه الإخوان المسلمون وبايعوه منذ اللحظة الأولى خليفةً وأميرًا للمؤمنين».. في ذلك الوقت كانتِ الحكومة مؤلفةً من حزب الوفد وهو حزب الأغلبية برئاسة النحاس باشا «الذي عمل على أن يُتوَّج الملك تحت قبة البرلمان الذي يمثل الشعب أي مصدر السلطات». وقد «استغلت بريطانيا هذا الخلاف بين الملك وحزب الأغلبية أسوأ استغلال»، فلم «تكنِ المملكة المتحدة حريصةً على قيام نظام ديمقراطي حقيقي في مصر، بل كانت تعلن أن الديمقراطية نظام أوروبي لا يصلح للمشرق».
كان السؤال: كيف عرفت عبد الناصر؟
يقول فائق: «كان أول لقاء مع جمال عبد الناصرعام 1951 في مدرسة الشئون الإدارية العسكرية، حيث كنت أدرس بها لمدة شهرين للتأهيل للترقي إلى رتبة يوزباشي «نقيب»، وكان ناصر مُدرِّسًا في هذه المدرسة والمشرف على الجماعة التي ينتمي إليها فايق ويُدرِّس لهم علم التحركات العسكرية. وكان من ضمن برنامج الدراسة الانتقال إلى الإسكندرية».
يتابع فائق: «سافرنا بالقطار وكان عبد الناصر في صحبتنا ذهابًا وعودة. حيث دارت معه أحاديث ومناقشات متحررة من القيود شملتِ الأوضاع في داخل الجيش والأوضاع العامة. ومن وقتها تعددتِ اللقاءات واستمرت لحين وفاة ناصر في 28 سبتمبر سنة 1970».
قيام الثورة والجيش
بحسب فائق، وكما قال في كتابه (مسيرة تحرر): « كان ضباط الجيش يدركون القضية الوطنية، والاستقلال وإجلاء قوات الاحتلال، وأنه لا يمكن حلهما إلا بتغيير الأوضاع الداخلية ومقاومة الوجود العسكري البريطاني في منطقة القنال. كان الفساد قد استشرى في كل شيء. والأحزاب تتصارع مع بعضها البعض. وأصبحت فضائح الملك على كل لسان. إلى جانب سعيه المستمر في تركيز السلطة في يده مُعتديًا على الدستور والصراع مع حزب الوفد.وتفجَّرتِ الأوضاع الاجتماعية، وأصبح ثالوث الفقر والجهل والمرض ظاهرًا للعيان حتى صارتِ المظاهرات تهتف: أين الكساء والغذاء يا ملك النساء؟ كما وصلتِ القضية الوطنية إلى طريقٍ مسدود.حيث بدد الملك فاروق كلَّ رصيده من الشعبية التي غمره بها الشعب المصري في بداية جلوسه على عرش أجداده والذي لم يحافظ عليه».
هل شاركت في ثورة يوليو؟
سؤال حكى فائق تفاصيله فقد كان في إجازة صيفية في يوليو 1952، وحضر إلى القاهرة قبل الثورة بيوم. وفى اليوم التالي ذهب إلى وحدته في منشية البكري ليجد تعليمات بحصار قصر القُبَّة. وقد حدث ذلك دون أي مقاومة أو اشتباكات.
عندما قامتِ الثورة كان لليوزباشي محمد فائق موقع مُتميز داخل وحدته: البطارية الثالثة المُضادة للطائرات في منشية البكري، فقد كان أركان حرب الوحدة. وكان في نفس الوقت مطلوبًا للخدمة في أماكن متميزة أخرى مثل رئاسة المدفعية في ألماظة ومدرسة المدفعية، لتستمر الخطوات داخل المؤسسة العسكرية، حتى صدر قرار بتعيين فائق في جهاز الاستخبارات الحربية التي كان يترأسها البكباشي زكريا محيي الدين.
يقول فائق: «كان القرار مفاجئًا، ولم تكن لديَّ رغبة أن أكون ضابطَ أمن. وذهبت للقاء محيي الدين وإبلاغه بالقرار، لكنه تحدث معي بهدوء وقدرة على الإقناع جعلني أعرف أن (آفاق العمل في الاستخبارات واسعة)، ووجدت نفسي أوافق على الانضمام للجهاز الذي ساهم في بناء الثورة ومسيرتها».
الاستخبارات العامة
يقول فائق: «فى بداية الثورة كانتِ الاستخبارات الحربية هي جهاز الاستخبارات الوحيد في الدولة، وأضيف لها بعض المهام التي اقتضتها الثورة وتأمينها داخليًّا وخارجيًّا». وقد تم تكليف فائق بالعمل داخل جهاز الاستخبارات (فرع إسرائيل).
يقول: «كانت مهمتنا جمع المعلومات عن الجيش الإسرائيلي من المصادر المكشوفة مثل الصحف والمطبوعات ودليل التليفونات، وكانت تلك المصادر وهو ما سيدهشكم (بها كم من المعلومات السرية كبير)، لأنها تعتمد على إهمال تأمين المعلومات الحربية من الجيش وأفراده».
ولم يكتفِ فائق بذلك، بل قام بالتنسيق مع زملائه في سوريا والأردن وطرح عليهم فكرة تبادل المعلومات، لينشئ فائق ومعه الصاغ محرز أدهم الاستخبارات العامة التي أصبحت جزءًا من الاستخبارات الحربية.
وقد كان لهم دور كبير في دعم المقاومة الشعبية ببورسعيد ضد الاحتلال الإنجليزي، فارتدى فائق زي الصيادين وانغمس في صفوف المقاومة الشعبية مع مجموعة من الضباط ضد 83 ألف جندي بريطاني. وهكذا كان الهدف والعمل بكل الطرق لتأمين الثورة داخليًّا وخارجيًاّ وإجلاء قوات الاحتلال البريطاني. وكانتِ المقاومة ورقةً مهمةً في يد الرئيس جمال عبد الناصر للضغط، ولم تكنِ المقاومة -كما يقول فائق- في السلاح فحسب، بل بالإعلام أيضًا، وصحّت مقولة إن المقاوم يشد أزر المفاوض، حيث كان لضغط المقاومة الشعبية بالغُ الأثر في توقيع اتفاقية الجلاء، وتوقفتِ العمليات بعد أن نفَّذ الإنجليز ما تم الاتفاق عليه.
تأميم القناة
لماذا أصر ناصر على تأميم القناة؟ سؤال لابد أن لدى فائق الكثير ليكشف عن سببه حيث يقول: «إن تأميم قنال السويس لم يكن مجرد انتقال ملكية شركة أو مرفق إلى ملكية الدولة، كما لم يكن ذلك مجرد اتفاق اقتصادي لتحصل مصر على عائدات القناة فحسب، لكنها كانت عملية ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بحركة التحرر الوطني واستقلال مصر».
يقول فائق: «كُنّا في جهاز الاستخبارات العامة نتابع تطورات أزمة القناة ساعة بساعة، ونُعِدّ يوميًّا تقديرَ موقف في ضوء ما يصلنا من معلومات تُقدَّم إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت هذه التقارير تشمل مدى استعداد القوات البريطانية في قواعدها في مالطا وقبرص كل يوم، وكان ذلك بمساعدة رجال الرئيس مكاريوس رئيس قبرص».
إفريقيا وحركات التحرر
كانت حرية الشعوب هي الميثاق الذي تمسك به عبد الناصر ورفاقه، وكان حق تقرير المصير للدول أهم مبدأ تمسكت به الثورة، وكان أول قرار باستقلال السودان عن مصر.
يقول فائق: «أصيب الشارع المصري بصدمة بأن مصر تخلت عن السودان. ولكن جاء الاستفتاء لصالح الاستقلال، وكانت مصر أولِ دولة تعترف بالسودان».
لم تكن إثيوبيا على علاقة جيدة بالقاهرة، فيزورها فائق متنكرًا في وظيفة طبيب، وكان هناك إصرار من عبد الناصر على تحسين العلاقة مع الامبراطورهيلا سلاسي ودعاه لزيارة مصر وأقام معه صداقة قوية.
«هكذا كان الإصرار على الوحدة وتخطي الصعاب» -كما يقول فائق- «فكانت زياراتنا لإفريقيا صعبة، لأن معظمها لم تكن مستقلة (كنت أزور بعض الدول بجواز سفر لبنانى مزوَّر). وانتهتِ الجولات المستترة بوجود رابطة لزعماء إفريقيا في المنفى مقرها القاهرة لتنطلق منها حركات التحرر الوطني».
و«أصبحتِ القاهرة قاعدةَ التحرر في إفريقيا، وبلغ عدد اللغات الإفريقية التي توجهها القاهرة إلى شعوب إفريقيا 25 لغة تصدُر كلها باسم صوت إفريقيا من القاهرة، وكانت مصر أولَ دولة في العالم تخاطب الشعوب الإفريقية بلغاتها الأصلية، والتي وصلت إلى أكثر من 700 لغة في القارة.. إضافة إلى لهجات صوتية لا ترتقي لتكون لغة».
وزيرًا للإرشاد القومي
تولى فايق وزارة الإرشاد القومي عام 1966. يقول «في أول يوم أذهب فيه إلى مبنى التلفزيون كان أول مَن استقبلته في مكتبي الفنانة فيروز اللبنانية التي لها مكانة خاصة جعلتها أيقونة الأمة العربية. كما كنت أول وزير مصري يزور سورية بعد الانفصال».
يضيف: «وفي بداية عام 1967 تصاعدتِ الحملة الإعلامية المُعادية متهمة الجيش المصري بأنه يحتمي بقوات الأمم المتحدة، وأن عبد الناصر يقف متفرجًا على مرور السفن الإسرائيلية في المياه الإقليمية لمصر. وكانتِ الأمم المتحدة قد وضعت قوات لها على الحدود المصرية- الفلسطينية بناء على طلب مصر وبعد العدوان الثلاثي. ولم يشعر المصريون طول هذه الحقبة بهذه الترتيبات التي ترتب عنها مرور السفن الإسرائيلية إلى خليج العقبة، إلا بعد حملة التشهير الإعلامية من الإذاعات العربية المعادية».
وتابع: «حلّت الهزيمة سريعًا، وأعلن عبد الناصر خطاب التنحي. ولم تمضِ دقائق معدودة حتى وجدتُ تظاهرة على باب مكتبي، وجاءت أم كلثوم تطلب مناشدة ناصر من خلال الإذاعة العودة. وكان معها مُناشدة كتبها لها الشاعر صالح جودت ولحَّنها رياض السُنباطي. ولم تكن أم كلثوم وحدها بل كان: محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، ليلى مراد، شادية، سعاد محمد، صباح، كارم محمود، عبد المطلب، وفايزة أحمد.ومن الملحنين: كمال الطويل، بليغ حمدي، محمد الموجي، رياض السُنباطي. أما ما كان يحدث في القاهرة فكان فوق أي تصور، فكانتِ الشوارع تموج بطوفان من البشر تطالب ناصر بعدم التنحي والرجوع عن القرار».
وتحدث فائق عن صعوبة تنظيم توجه الإذاعة بعد الهزيمة، ونشأت في هذه الفترة إذاعة أم كلثوم التي كانت تذيع أغاني طوال اليوم، وقال إنها كانت تبث من أجهزة إرسال في مكان سري سوف يُستخدم كبديل للإذاعة في حالة ضرب الإذاعة حتى يتم إصلاحها.
حرب الاستنزاف
كانت حرب الاستنزاف حربًا عبقرية -كما يصفها فايق- ولم يكن ذلك يعني استبعاد الحلول السلمية كما قال عبد الناصر، وشدّد على أن «إسرائيل لن تقبل ذلك إلا بقوة السلاح». فلم ينتظر عبد الناصر إلى أن يكتمل إعداد الجيش ثم يحارب، لكنه بدأها فورًا بعد توقف القتال عام 67، واسترداد عبد الناصر كامل سلطاته كقائد أعلى للقوات المسلحة، إذ «نجحتِ القوات المصرية خلال هذه الحرب في بناء حائط الصواريخ المصري الذي كان أحد الأسباب الأساسية في نجاح عملية العبور واقتحام خط بارليف- حرب 73».
رحيل عبد الناصر وسجن فائق
وفاة ناصر ورحيله كانا صدمة عنيفة للجميع ومنهم فائق الذي يقول «كان الأمر مفاجئًا وصدمةً عنيفةً لم يكن استيعابُها سهلًا». وكان لابد من تسهيل انتقال السلطة للسادات الذي كان النائب الوحيد لرئيس الجمهورية، والأقدم بين أعضاء مجلس الثورة. ولكن كانت خطوات عديدة قام بها السادات كان أبرزها الحكم على فائق بالسجن 10 سنوات ليبدع فائق في توصيفه ليوميات السجن، والعلاقات التي تحكم بين نزلائه، وكانتِ القراءة أهمَّ شيء في حياة السجن، وفي السجن تم إعداد كتاب (عبد الناصر والثورة الإفريقية)، وأمكن إخراجه على دفعات، وطُبع ونُشر في بيروت، كما ظهر على شكل حلقات في ثلاث صحف عربية: السفير (بيروت)، الخليج (الشارقة)، وجريدة الاتحاد الاشتراكي (المغرب).
خرج فائق من السجن بعد عشر سنوات كاملة بسبب رفضه كتابة اعتذار للسادات مقابل الخروج في نصف المدة. وأسس دار نشر، بسببها يتم سجنه مرة أخرى مع آخرين من قيادات حزب التجمع، والناصري، والجماعات الإسلامية، ومحمد حسنين هيكل وغيرهم من السياسيين والنخب في اعتقالات سبتمبر 1981، ليخرج الجميع عقب اغتيال السادات.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: جمال عبدالناصر ثورة يوليو محمد فائق الاستخبارات العامة جهاز الاستخبارات التحرر الوطنی عبد الناصر فقد کان لم تکن ناصر م لم یکن
إقرأ أيضاً:
لماذا يقول ملك بلجيكا الحقيقة ويجبن بقية ساسة أوروبا ؟
ترجمة أحمد شافعي -
في اللحظة التي بدا فيها أن إخفاقات أوروبا الأخلاقية بشأن غزة قد اكتملت، إذا برأس دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي يبرز برسالة قوية ذات موقف أخلاقي واضح. فقد أدان الملك البلجيكي فيليب ـ الذي نادرا ما يصدر تصريحات سياسية ـ الانتهاكات السياسية الجسيمة في غزة واصفا إياها بأنها «عار على الإنسانية».
في خطاب تليفزيوني احتفالا باليوم الوطني البلجيكي في الحادي والعشرين من يونيو، قال فيليب «إنني أقف في صف كل من يدينون الانتهاكات الإنسانية الجسيمة في غزة، حيث المدنيون الأبرياء محاصرون في قطاعهم، ويموتون بالجوع وبقصف القنابل. وقال الملك إنه يدعم دعما كاملا نداءات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، المطالبة بإنهاء «هذه الأزمة غير المحتملة». وأضاف الملك من داخل قصره الملكي قائلا «إن الوضع الحالي طال أكثر مما ينبغي، وإنه عار على الإنسانية».
بعد الإجازة الأسبوعية التي لقي فيها ما لا يقل عن مائة شخص مصرعهم في أرجاء غزة وهم يسعون إلى الطعام والماء ـ في أعمال عنف لم تؤد إلى أي رد فعل من الاتحاد الأوروبي ـ برزت رسالة الملك البلجيكي. وتحدث الملك عن لقاء قريب برامي إلهانان وبسام عرامين ـ وهما أبوان، إسرائيلي وفلسطيني، فقد كل منهما ابنته في أعمال عنف حديثة في الشرق الأوسط. قال الملك «إنهما عدلا عن الرغبة في الانتقام، وآثرا تحويل ما يشعران به من ألم إلى رسالة للسلام» وقال إن «كرامة الإنسان هي المحك دائما وأبدا».
وكانت لكلمات الملك أصداء تجاوزت بلجيكا. إذ تساءلت هيئة الإذاعة الوطنية الهولندية (إن أوه إس) لماذا لم يقل الملك الهولندي فيليم ألكسندر مثل ذلك البيان.
والملك فيليب بطبيعة سلطاته الدستورية لا يملك غير سلطات محدودة. حتى أن خطابيه السنويين ـ في العيد الوطني لبلجيكا وفي عشية الكريسماس ـ يخضعان لمراجعة رئيس الوزراء قبل إذاعتهما. لكن تصريحاته في العام الحالي جاءت مناقضة تناقضا صارخا لموقف الحكومة الفيدرالية ورئيس الوزراء القومي الفلمنكي بارت دي ويفر الذي يضم حزبه (التحالف الفلمنكي الجديد N-VA)، وهو الحزب الأكبر في بلجيكا، العديد من المدافعين الصرحاء عن عمليات الجيش الإسرائيلي في غزة. وكان دي ويفر قد قاوم النداءات الداعية إلى فرض عقوبات على إسرائيل. بل وشكك في ما إذا كان يمكن أن تعتقل بلجيكا بنيامين نتنياهو ـ مثلما يطالب القانون الدولي ـ في حال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لبلده.
وفي تجاوز للسياسات الداخلية، وجه فيليب نداء واسعا للعمل، فقال إن «أوروبا لا بد أن تؤكد زعامتها بمزيد من القوة. ولا بد أن تقف بوضوح، حصنا منيعا دون صراعات القوى الوحشية التي نشهدها اليوم، وبديلا واضحا لها».
وفي ضوء صمت الاتحاد الأوروبي غير المقبول تجاه جرائم الحرب الإسرائيلية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتعمق الأزمة الإنسانية، كان من أسباب الارتياح أن نستمع ولو إلى رأس واحد لدولة يقول الحق جهيرا. فقد عجز اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل الأسبوع الماضي عن اتخاذ إجراء ضد إسرائيل، فدفع ذلك منظمة العفو الدولية إلى توجيه اتهام بـ«الخيانة القاسية غير القانونية» للفلسطينيين. ويبقى إعلان إيمانويل ماكرون بأن فرنسا سوف تعترف بدولة فلسطينية في سبتمبر ـ على أهميته ـ أمرا رمزيا في غياب أي عقوبات اقتصادية أو مالية أو دبلوماسية.
وقد أبرز الملك العجز عن الالتزام بالقانون الدولي، وذلك بعد أيام قليلة فقط من لقائه مع منظمات إنسانية عاملة في غزة. وقال إنه «على مدى عقود، كان القانون الدولي حجر زاوية تستطيع الدول أن تعتمد عليه. واليوم تحيط الشكوك بهذا. لكن عندما يوطأ القانون الدولي، يعاني العالم كله. ويصبح للعنف الجامح مطلق العنان».
ومع إشادته بالجهود الجماعية لمواجهة تحديات من قبيل أزمة المناخ والتحول الرقمي والتعاون الدفاعي، حث فيليب قادة الاتحاد الأوروبي على «الوفاء لقيمنا: قيم الديمقراطية والعدل وسيادة القانون». وفي أفق سياسي تزداد فيه سيطرة السياسات الواقعية، جاء صوت الملك مصرا على الأسس الأخلاقية للمشروع الأوروبي.
وللملك البلجيكي سجل راسخ في مقاومة التمييز والدفاع عن حقوق الإنسان. بعد هجمة إرهابية دموية على متحف يهودي في بروكسل سنة 2014، قام بزيارة رسمية لموقع الهجوم. وفي عام 2015، دعا وفدا كبيرا من الحاخامات وقادة المجتمع اليهودي إلى القصر بعد تفكيك خلايا إرهابية في بروكسل وفيرفييه.
ولمواقف الملك فيليب الأخلاقية جذور عميقة في الميراث الملكي البلجيكي. فقد اعترفت مؤسسة ياد فاشيم [وهي مؤسسة إسرائيلية لإحياء ذكرى الهولوكوست] بجدته الكبرى الملكة إليزابث واحدة «من الصالحين في الأمم». فخلال الحرب العالمية الثانية، استعملت الملكة موقعها بوصفها الملكة الأم للتدخل بالنيابة عن اليهود الذين يواجهون التهجير. ووفقا لمؤسسة ياد فاشيم فإن «هذه التدخلات من فرد في عائلة ملكية في أوروبا بالنيابة عن اليهود كانت منقطعة المثيل». ومنذ استقلالها في سنة 1830، تمنح بلجيكا اليهود حقوقا مدنية كاملة ـ باستثناء سنوات الاحتلال النازي، وهذه الحقوق، ومنها حرية الدين والتعبير والصحافة، مصانة في الدستور البلجيكي. وفي وقت أقرب، في عام 2022، قام فيليب بزيارته الأولى لجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكانت من قبل مستعمرة بلجيكية تأسست على يد سلفه ليوبولد الثاني وتعرضت لاستغلال وحشي. وفي أثناء زيارته للكونغو الديمقراطية، أعرب الملك عن «أسفه العميق» للمعاناة التي تسبب فيها الاستعمار البلجيكي. فقال إن «النظام الاستعماري في ذاته كان قائما على الاستغلال والهيمنة» واتسم بـ«البطريركية والتمييز والعنصرية».
والحق أن إحساسنا بتميز تصريحات الملك فيليب بشأن القانون الدولي ومعاناة غزة ليبين إلى أي مدى بلغ الجبن بقادة أوروبا المنتخبين. فقد قال الملك ما كان يجب أن يقولوه هم منذ شهور.
وبطبيعة الحال، لن تنهي تصريحاته هذه الحرب. لكن يجدر بها أن تذكر أوروبا ـ والعالم ـ بأن الصمت في مواجهة الظلم أمر يتدنى إلى مستوى التواطؤ، وأنه لا يزال بوسع ملك دستوري، في أوقات الجبن السياسي، أن يكون قائدا معنويا.
ديفيد فان ريبروك فيلسوف هولندي مرموق.
عن الجارديان البريطانية