فورين أفيرز: هذه أسباب أفول شمس القوة الأميركية
تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT
نشرت مجلة فورين أفيرز مقالا مطولا للباحثة الأميركية إيمي زيغارت تناولت فيه أسباب اضمحلال قوة الولايات المتحدة التي كانت المعرفة أبرز الأسس التي ارتكزت عليها، واقترحت حلولا لهذه المعضلة، وقالت إن الولايات المتحدة خارت قواها عندما فقدت المعرفة التي كانت تعد مكمن قوتها.
وأضافت زيغات -الباحثة في مؤسسة هوفر وفي معهد الذكاء الاصطناعي بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا- أن قوة الأمم ظلت على مدى قرون من الزمن تنبع من موارد ملموسة يمكن للحكومات إدراكها وقياسها والتحكم فيها، مثل أعداد المواطنين الذين بمقدورها تجنيدهم، والأراضي التي تستطيع إخضاعها، والأساطيل البحرية العسكرية التي يمكن نشرها، والسلع التي يتسنى لها عرضها أو تقييدها كالنفط مثلا.
أما اليوم -تتابع زيغات- فإن الدول تستمد قوتها من الموارد غير الملموسة المتمثلة في المعرفة والتقنيات التي تعمل على تعزيز النمو الاقتصادي والاكتشاف العلمي والإمكانات العسكرية، مثل الذكاء الاصطناعي، ويصعب على الحكومات السيطرة على هذه الموارد بسبب طبيعتها غير الملموسة وسهولة انتشارها عبر القطاعات والبلدان.
تحولات كبرىوتقول إن المسؤولين الأميركيين لا يستطيعون، على سبيل المثال، الإصرار على استعادة خوارزمية ما من أحد خصوم الولايات المتحدة، على نحو ما فعلت إدارة الرئيس جورج بوش الابن عندما طالبت بكين بإعادة طائرة تجسس أميركية كانت قد تحطمت في جزيرة هاينان جنوبي الصين في عام 2001.
كما لا يمكنهم أيضا مطالبة مهندس بيولوجي صيني بإعادة المعرفة التي اكتسبها من أبحاث ما بعد الدكتوراه التي أجراها في الولايات المتحدة، فالمعرفة -كما تقول زيغات- هي أفضل سلاح متنقل.
ولأن هذه الموارد عادة ما تنشأ في القطاع الخاص والأوساط الأكاديمية، فإنها تجعل مهمة الحكومة أكثر صعوبة.
فقرارات الشركات الخاصة بدأت تكون لها تبعات جيوسياسية، بحيث لم تعد مصالح القطاع الخاص تتوافق دائما مع الأهداف الوطنية. وضربت الباحثة الأميركية مثلا على ذلك بشركة ميتا -المؤسسة الأم لفيسبوك وإنستغرام وواتساب- التي تصوغ الوقائع لنحو 3 مليارات شخص يستخدمون منصاتها في جميع أنحاء العالم.
وعندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، قرر الملياردير الأميركي إيلون ماسك -مالك منصة إكس (تويتر سابقا)- بمفرده ما إذا كان سيسمح للجيش الأوكراني باستخدام خدمة الإنترنت ستارلينك الخاصة به، وأين ومتى.
تدهورومع تدهور العديد من قدرات الحكومة الأميركية، فقدت أدواتها التقليدية في السياسة الخارجية حيويتها وقوتها حتى باتت تعيينات الرئيس للمناصب العليا في الخارجية مثقلة بالمشاكل لدرجة أن ربع المناصب الرئيسية على الأقل ظلت شاغرة في منتصف الفترة الأولى لآخر 3 رؤساء أميركيين.
ولأول مرة على الإطلاق ستنفق الولايات المتحدة هذا العام، مزيدا من الأموال لسداد فوائد الديون الفدرالية المتصاعدة أكثر مما ستنفقه على الدفاع.
ولأن الكونغرس لا يستطيع في كثير من الأحيان إقرار بعض الميزانيات السنوية، فإن وزارة الدفاع (البنتاغون) تعتمد بشكل متزايد على تدابير ميزانية مؤقتة لسد الفجوة في تمويل البرامج القائمة فقط، وليس البرامج الجديدة، مما يحول دون إطلاق مبادرات جديدة في مجال البحث والتطوير أو برامج لتطوير الأسلحة.
ووفقا للمقال، فإن هذا النظام "المعطوب" يعيق بشكل جائر الشركات الجديدة والصغيرة التي تقدم حلولا مبتكرة. ولهذا السبب تظل أنظمة الأسلحة الضخمة الباهظة الثمن قائمة في حين تموت الحلول الجديدة الرخيصة في مهدها.
والأهم من ذلك، أن المنظومة التعليمية من مرحلة الروضة حتى الثانوي والجامعات البحثية في الولايات المتحدة "في تقهقر"، رغم أنها تُعد مكامن الإبداع الطويل الأجل للبلاد.
وتقول الباحثة إنه في عالم اليوم الذي تحركه المعرفة والتكنولوجيا، يتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة التفكير بطرق جديدة حول ما الذي يشكل عماد القوة الأميركية، وكيفية تطويرها ونشرها.
القدرة التعليمية والبحثيةوتتابع أن الرخاء والأمن لن يعتمد في المستقبل كثيرا على منع الخصوم من الحصول على التكنولوجيا الأميركية، بل على تعزيز القدرة التعليمية والبحثية للبلاد وتطويع التكنولوجيات الناشئة -بشكل أكبر- لخدمة المصالح الوطنية.
وعلى مدى عقود من الزمن، ظل صناع السياسات في الولايات المتحدة يستخدمون أدوات القوة الصلبة والناعمة للتأثير على الخصوم والحلفاء الأجانب. فقد استعانوا بالقوة الصلبة لتعزيز المصالح الأميركية، فعملوا على بناء القوة العسكرية واستخدموها لحماية الأصدقاء وتهديد الأعداء أو إلحاق الهزيمة بهم.
وبالقوة الناعمة -توضح زيغات- نشروا القيم الأميركية وجذبوا اهتمام الآخرين بقضايا الولايات المتحدة. وما فتئت القوة الصلبة والناعمة مهمتين، ولكن لكونهما لا تحددان نجاح أي بلد مثلما كانت تفعلها في السابق، فعلى الولايات المتحدة أن تعمل على توسيع قوتها المعرفية بتعزيز المصالح الوطنية من خلال استنهاض قدرة البلاد على توليد التكنولوجيا التحويلية.
وبحسب كاتبة المقال، فإن قوة المعرفة تتألف من عنصرين أساسيين هما القدرة على الابتكار والقدرة على التوقع. ويتعلق العنصر الأول بقدرة الدولة على إنتاج وتسخير الاكتشافات التكنولوجية. أما العنصر الثاني فيتعلق بالاستخبارات. ويندرج جزء من هذا العمل في إطار المهمة التقليدية لأجهزة الاستخبارات المنوط بها الكشف عن نية الخصوم وقدراتهم على تهديد المصالح الأميركية.
ولكن مع تلاشي الحدود بين الصناعة المحلية والسياسة الخارجية، فإن وكالات الاستخبارات بحاجة كذلك إلى مساعدة الحكومة على فهم الآثار المترتبة على التكنولوجيات التي يتم تطويرها في الداخل.
الابتكارورغم أن الابتكار والتوقع عنصران قادران على تعزيز قدرات الجيش الأميركي وقوته الجاذبة، فإن المهمة الأساسية لقوة المعرفة تكمن في مدى قرب منتجيها من الوطن. وهذا ينطوي على حشد الأفكار والمواهب والتكنولوجيا التي تعين الولايات المتحدة وشركاءها على الازدهار، بغض النظر عما تفعله الصين أو أي عدو آخر.
ولعل من الصعب تحديد مكونات قوة المعرفة وقياسها، ولكن ذلك لا يمنع أن تكون نقطة البداية الجيدة هي الوقوف على مستويات الكفاءة التعليمية الوطنية. وتُظهِر الأدلة الدامغة أن القوى العاملة الحاصلة على تعليم جيد تدفع النمو الاقتصادي الطويل الأجل، تشرح زيغات.
ويشكل التركيز الجغرافي المتمثل في تجمع المواهب التقنية في مكان واحد أو منطقة جغرافية معينة، مؤشرا آخر لقوة المعرفة، وهو ما يحدد أي الدول التي تتهيأ لطفرة في المجالات الحيوية.
وتقول الباحث إن قياس آفاق القوة لأي دولة على المدى البعيد يستوجب بالضرورة قياس مدى فاعلية جامعاتها البحثية. ورغم أن الشركات تلعب دورا أساسيا في الابتكار التكنولوجي، فإن سلاسل توريد تلك الابتكارات تبدأ مبكرا في مختبرات الجامعات والفصول الدراسية.
وبالنسبة لزيغات، فإذا كان التعليم والابتكار يشكلان مفتاح قدرة الولايات المتحدة على فرض قوتها، فإن إمكانيات البلاد لا تزال تقف على أرض هشة. فالتعليم من مراحل الأساس والثانوي في الولايات المتحدة يعيش في أزمة، فالتلاميذ اليوم يسجلون أسوأ العلامات في في اختبارات الكفاءة مقارنة بما كانوا يسجلونه منذ عقود من الزمان، ويتخلفون عن أقرانهم في الخارج.
منافسة على المواهبوتعاني الجامعات الأميركية أيضا من صعوبات، إذ تواجه منافسة عالمية متزايدة على المواهب، ونقصا مزمنا في الاستثمار الفدرالي في الأبحاث الأساسية التي تشكل أهمية حيوية للابتكار في الأمد البعيد.
وتؤكد الكاتبة، أنه بينما يتخلف الطلاب في الولايات المتحدة عن الركب، فإن أقرانهم في بلدان أخرى يتقدمون. فقد كشف برنامج التقييم الدولي للطلاب، الذي يختبر التلاميذ الذين تبلغ أعمارهم 15 عاما في جميع أنحاء العالم، أن الولايات المتحدة احتلت في عام 2022 المرتبة 34 في متوسط الكفاءة المهارة في الرياضيات، خلف سلوفينيا وفيتنام.
وفي المرحلة العليا، سجل 7% فقط من المراهقين الأميركيين أعلى مستوى من الكفاءة في الرياضيات، مقارنة بنحو 12% من المتقدمين للاختبار في كندا و23% في كوريا الجنوبية.
وأشارت الباحثة زيغات في مقالها إلى أن سكان دول العالم الأخرى باتوا أكثر تعليما إلى حد كبير من المواطنين الأميركيين في العقود الماضية، مما أعاد رسم خريطة قوة المعرفة في هذه العملية. فقد تحسن أداء الجامعات الأجنبية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حيث قدمت المزيد من البدائل لأفضل وألمع الطلاب.
وتظهر استطلاعات الرأي بالفعل أن حصة الطلاب الصينيين الذين يفضلون الدراسة في آسيا أو أوروبا بدلا من الولايات المتحدة آخذة في الارتفاع.
وإذا أقدمت الصين على الحد من تدفق طلابها المتفوقين إلى الولايات المتحدة، فإن العديد من المختبرات والشركات الجامعية الأميركية ستواجه مشاكل خطيرة. وإزاء هذا الوضع، تتآكل ميزة الابتكار التي تتمتع بها الجامعات الأميركية على نظيراتها الأجنبية، حيث كانت تنتج أكثر البحوث العلمية التي يستعين بها العالم.
جاذبية القطاع الخاصوتشرح زيغات أن الجاذبية التي يتمتع بها القطاع الخاص تعزز الابتكار قصير الأجل والفوائد الاقتصادية، لكنها تستنزف أيضا مصادر الابتكار في المستقبل.
وتخلص الكاتبة إلى أن الأمر يتطلب من الولايات المتحدة، كخطوة أولى، تطوير قدراتها الاستخباراتية لمعرفة مدى تقدم أين تقف وأين تتخلف في مجال التقنيات الناشئة.
كما يتعين عليها إضفاء الطابع المؤسسي على الجهود الرامية إلى بناء علاقات أقوى مع الشركات والجامعات، مع توفير قنوات لتبادل الخبرات بشكل أسرع وأكثر تواترا، والاستثمار في البنية الأساسية الوطنية اللازمة للابتكار التكنولوجي.
والأمر الآخر -وفق المقال- أن تعزيز قوة المعرفة لا يتوقف على تطوير قدرات جديدة، بل يتعداه إلى إصلاح المشاكل التي تعتري نظام الهجرة في البلاد وميزانية الدفاع.
وقالت إنه يتعين على الكونغرس أن يقر إصلاحات الهجرة للسماح لعدد أكبر من أفضل وألمع طلاب العالم بالبقاء والعمل في الولايات المتحدة بعد تخرجهم من الجامعات الأميركية، شريطة أن تكون هناك تدابير لحماية الملكية الفكرية الأميركية والحماية من مخاطر التجسس.
وأخيرا، تحتاج الولايات المتحدة إلى إصلاح التعليم من رياض الأطفال إلى المرحلة الثانوية، والتحذير من مغبة تدهور هذا القطاع وما يمثله من تهديد لازدهار البلاد وأمنها وزعامتها العالمية في المستقبل، ليس بالأمر الجديد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات ترجمات فی الولایات المتحدة القطاع الخاص قوة المعرفة
إقرأ أيضاً:
الانحدار الثقافي في الولايات المتحدة يهدد مستقبل الديمقراطية
ترجمة - بدر بن خميس الظفري -
كمراقب لأنظمة الحكم الديمقراطية ومحامٍ دستوري في بريطانيا، أتابع بقلق متزايد ما تشهده كثير من الدول الغربية من بوادر انهيار ديمقراطي. قد لا تكون هذه البلدان قد وصلت إلى مستوى فنزويلا أو بيرو أو المجر أو تركيا أو روسيا، لكن ما يحدث فيها يوضح كيف تموت الديمقراطية بصمت، لا بضجيج. لا دبابات تجتاح الشوارع ولا حشود غاضبة تملأ الساحات، لكن ما يجعل الديمقراطية حية تتلاشى ببطء، وغالبًا بدعم جماهيري كبير. هذه الدول ما زالت تقيم انتخابات، وتملك برلمانات ومحاكم، لكن الإطار المؤسسي القائم يخلو من الروح؛ لأن الثقافة السياسية التي تغذيه قد انهارت.
الولايات المتحدة، اليوم، مهددة بأن تُدرج في هذه القائمة. مؤسساتها ما زالت تعمل، رغم التوترات المتزايدة بينها، غير أن التدهور في ثقافتها السياسية مثير للقلق. ويشترك هذا الوضع مع كثير من الديمقراطيات الغربية الأخرى التي تعاني تحت وطأة توقعات متزايدة وغير واقعية من الدولة، يفرضها الناخبون.
الديمقراطية آلية دستورية للحكم الذاتي الجماعي، يُناط فيها اتخاذ القرار بأشخاص يقبل بهم غالبية الناس، وتُقيد سلطاتهم ويُسحب تفويضهم متى اقتضى الأمر. لكن الديمقراطية لا تقوم على المؤسسات وحدها، بل على ثقافة متجذرة في سلوك السياسيين والمواطنين. إنها تتطلب استعدادًا لاختيار حلول يستطيع معظم الناس التعايش معها، وتفرض أعرافًا تحد من الاستعمال التعسفي أو الانتقامي أو القمعي للسلطة، حتى عندما يكون قانونيًا. والأهم من ذلك، أنها تتطلب أن يُنظر إلى الخصوم السياسيين كمواطنين شركاء في الوطن، لا كأعداء يجب سحقهم.
ومن هنا تبرز خطورة دونالد ترامب، الذي يُجسد ثلاث سمات كلاسيكية للأنظمة الاستبدادية هي الزعامة الكاريزمية المحاطة بعبادة شخصية، والخلط بين الدولة وذاته، والرفض التام لشرعية المعارضة أو الاختلاف. والنتيجة هي استبدال حكم القانون بحكم قائم على الأهواء، وهو ما كان المؤسسون الأوائل للولايات المتحدة يعتبرونه الخطر الأكبر على الديمقراطية.
ترامب استخدم سلطاته العامة لتصفية حسابات شخصية. استهدف مكاتب محاماة مثلت خصومه، وحرم شخصيات عامة من الحماية الأمنية، وهاجم مؤسسات ثقافية مثل جامعة هارفرد ومركز كينيدي لأنها لا تتماشى مع أجندته الشخصية. حتى المادة الثانية من الدستور، التي تلزم الرئيس بتنفيذ القوانين بأمانة، باتت مرهونة بمزاجه. فقد وجّه وزارة العدل بعدم تطبيق قوانين صادق عليها الكونجرس، مثل قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة، وقلّص أو أوقف برامج خُصصت لها أموال اتحادية، وهدد حكام الولايات بقطع الدعم عنهم ما لم ينصاعوا له.
قد نمتلك نحن المراقبين من الخارج رفاهية المتابعة من مسافة، لكن علينا أيضًا التأمل في هشاشة ديمقراطياتنا. ما يحدث في الولايات المتحدة هو أزمة توقعات، شبيهة بما تمر به كثير من الدول المتقدمة. ففي استطلاع رأي أُجري في بريطانيا عام 2019، أعرب أكثر من نصف المشاركين عن تأييدهم لفكرة أن بلادهم «بحاجة إلى قائد قوي مستعد لكسر القواعد».
شهدت أوروبا ارتفاعًا في الدعم الانتخابي لشخصيات سلطوية بشكل علني، كمارين لوبان في فرنسا، ويورغ هايدر في النمسا، وفيكتور أوربان في المجر، وقيادات حزب البديل لأجل ألمانيا. الأسباب معقدة، لكن أبرزها أن الناس باتوا يتوقعون من الدولة أشياء تفوق قدرتها، ويزداد نفورهم من المخاطرة. في بعض الأحيان، تتحقق هذه التوقعات على حساب قيم مهمة أخرى. وتحديدًا، يعلّق الناخبون آمالهم الكبرى على أن تحميهم الدولة من التقلبات الاقتصادية القاسية.
نحن نطلب من الدولة الحماية من كل الأخطار التي تحفل بها الحياة مثل فقدان الوظيفة والفقر والكوارث الطبيعية والمرض والفقر والحوادث. وهذا نابع جزئيًا من التقدم الهائل في القدرات التقنية للإنسانية منذ القرن التاسع عشر. وبات الناس يطالبون الدولة بحلول لكل أزمة، وإذا لم يجدوا هذه الحلول، رموا بفشلهم على الحكومة.
وعندما تخيب هذه التوقعات، يلوم الناس النظام بأسره، أو ما يسمى بـ«الدولة العميقة». في غياب الثقافة الديمقراطية، يتجه الناس تلقائيًا نحو «الزعيم القوي»، ويخدعون أنفسهم بأن هذا الزعيم سينجز ما عجز الآخرون عنه.
الولايات المتحدة تقدم مثالًا فريدًا. لقد نعمت بما يقارب 150 عامًا من الحظ السعيد والاستقرار النسبي، لكن هذا الحظ قد ينتهي الآن، مع صعود قوى اقتصادية مثل الهند والصين. المهارات التقليدية باتت عديمة القيمة في الاقتصادات مرتفعة الأجور، مع انتقال الثروة نحو صناعات التكنولوجيا المتقدمة، ما أضر بدخول من اعتمدوا على التصنيع والزراعة والصناعات الاستخراجية. وحتى في المجالات التكنولوجية التي لا تزال أمريكا تتفوق فيها، فإن الفجوة بدأت تضيق.
هذه المشكلات لا تخص أمريكا وحدها. أوروبا تعاني منها أكثر، وتوقعاتها من الدولة أعلى. لكن فقدان الأمل لحظة خطرة في حياة أي ديمقراطية. خيبة الأمل من وعود التقدم كانت أحد أسباب الأزمة الأوروبية الكبرى التي بدأت في 1914 وانتهت في 1945.
والمفارقة أن التاريخ يعلّمنا أن الزعماء الأقوياء لا يحققون شيئًا في نهاية المطاف.
ربما يرضون غرور بعض الناس لفترة، لكن بثمن باهظ. غالبًا ما يلتصق هؤلاء بحلول مبسّطة لمشكلات معقدة، ويركزون السلطة في أيدي قلة، دون تخطيط أو بحث أو مشورة. ويحيطون أنفسهم بالموالين بدل الحكماء، وبالمتملقين بدل المستشارين، ويضعون مصالحهم فوق المصلحة العامة. وهذه وصفة للفوضى والانهيار السياسي والانقسام المجتمعي.
إذا استمر الأمريكيون في انتخاب شخصيات سلطوية ومن يروّجون لها إلى الكونجرس، فلن تصمد الديمقراطية. لكن هذا ليس قدرًا محتومًا بعد.
كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة يدركون تمامًا أن الديمقراطية تعتمد على الثقافة، وأنها هشة. كتب الرئيس الثاني للبلاد، جون آدامز، وهو في شيخوخته، أن الديمقراطية، مثل غيرها من أنظمة الحكم، معرضة لأهواء الغرور والطمع والطموح، بل إنها أكثر تقلبًا منها. وخلص إلى أن «لا ديمقراطية في التاريخ إلا وانتهت بالانتحار».
ولذا، صمّم المؤسسون «حكمًا يقوم على القوانين لا على الأشخاص». حكمًا يقوم على مبادئ عقلانية مطبقة باستمرار، لا على أهواء رجال يتحكمون بمصير الدولة. فالحكم القائم على الأشخاص دعوة لحكم الاستبداد، تغذّيه نزوات الغرور والجشع والطموح.
عرفت أمريكا ديماغوجيين في تاريخها، لكنها كانت حتى الآن قادرة على إقصائهم. فقد كانت الأحزاب السياسية تحترم النظام الديمقراطي بما يكفي لقطع الطريق عليهم.
ولا يزال الأمل قائمًا في أن يقتنع الناخبون، بعد تجربة الحكم الفردي، بضرورة العودة إلى الإرث الديمقراطي الحقيقي للولايات المتحدة، وإلى السعي الجاد لجعلها - عظيمة حقًا - من جديد.
جوناثان سمبشن قاض سابق في المحكمة العليا البريطانية ومؤلف كتاب «تحديات الديمقراطية وسيادة القانون».
خدمة نيويورك تايمز