د. إبراهيم بن سالم السيابي **
عندما كنت على مقاعد الدراسة الجامعية، كان مدرس مادة الدراسات المالية مدرسًا مُتمكنًا من المادة وكان عميدًا للكلية في نفس الوقت، وبالرغم من أنه يحمل درجة الأستاذية، لكنه كان يتسم بالتواضع، وكان يتحاور مع طلابه، ويُبدي رأيه في كثير من القضايا المالية التي تشغل الرأي العام في ذلك الوقت، ويربط هذه الآراء بما يحتويه المقرر الدراسي.
ومن بين هذه القضايا، العجز المالي والدين العام والبطالة وسعر الصرف والخصصة، والغريب أن هذه القضايا المالية هي نفسها التي ما زلت تشغل العالم العربي منذ ذلك الحين وحتى اليوم. وبالرغم من تواضعه لكنه كان ذا شخصية قوية، وفي كثير من الأحيان يطرد العديد من الطلبة خارج قاعة المحاضرة، لعدم التزامهم بالانضباط وإثارة الهرج في المحاضرة. وفي يوم من الأيام، وصل إلى المحاضرة لكنه لم يتقبل أي أسئلة كعادته، وبدى حزينًا مُنكسرًا، لم يفوت الطلبة الفرصة وأرادوا معرفة سبب هذا الانكسار والحزن، فتحدث بعيون دامعة بأنَّه فقد والده منذ يومين، فتقدَّم عدد من الطلبة لمواساته.
عرفتُ من يومها معنى الانكسار الحقيقي، عندما تفقد أحدهم إلى الأبد ويرحل عن دنياك مهما كنت، وخاصة إذا كان هذا الراحل هو أحد والديك. ومن موقف هذا الأستاذ الجامعي، عندما انكسر وسمح لدموعه أن تسقط بهذه الغزارة أمام طلابه، وهو الذي كان يمثل لهم العزة والكبرياء والشموخ وهو في هذه السن لفقدانه والده، يُمكن أن تعرف ببساطة ما يعنيه الأب في حياة الإنسان.
وها هي الأيام تمر وذكرى رحيل والدي العزيز- رحمة الله عليه- تُذكِّرُني بهذه القصة كل عام، تُذكِّرُني بمعنى الإحساس بالانكسار عندما تفقد من كان سببًا في وجودك بعد الله في هذه الحياة، وهو الذي بنى حياتك وشخصيتك وربّاك وعلّمك.
كنت لا أعرف القراءة والكتابة، لكن أبي أصر ألا يُفارِق يدي القلم، وألا يفارق ناظري الكتاب، وقد كنتُ ولدًا شقيًا كحال أبناء جيلنا في ذلك الزمن، نعشق كرة القدم حتى الثمالة، ونطاردها أين ما حلت، وكان يُعنفني لأني أُهمل دروسي، وعندما حاولت أن أختصر الطريق، والقبول بفرص للعمل، كانت تلك "اللا" الوحيدة من طلباتي الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى!
كان يركب الطرقات ويجوب الشوارع ويتتقل بين مركبات الأجرة لكي يصل إلى مقر عمله، ليوفر لي ما أُريد حتى لا يساورني التفكير في ترك الدراسة. وأتذكرُ أنه عندما عُدتُ من مسقط في ذلك اليوم وأنا أحمل كشف درجاتي لأخبره بنبأ حصولي على شهادتي الجامعية الأولى، لم تسعه الفرحة، وكأن أحدهم بُشِّر بمولود بعد طول انتظار.
وعندما مرَّت السنون، وأُخبِرتُ بأني حصلت على الدرجة العلمية الثانية، كان الوقت قد تأخر، لكنني ذهبت إلى غرفته وأيقظته من النوم لكي أخبره بهذا النبأ، لأني كنت أريد أن أمنحه فرحة كبيرة ليقيني بأنَّه لا خبر سيُفرِحه أكثر من هذا الخبر.
وعندما حصلت على آخر درجاتي العلمية، كنتُ أتمنى أن أبحث عنه لكي أخبره، لكن مع الأسف، تأخرتُ كثيرًا هذه المرة، فقد ودّعنا وفارق هذه الدنيا للقاء ربه، وتركنا ورحل منذ بضع سنين.
في شريط الذكريات، أتذكر أنه عندما انشغلت عنه بالعمل والأسرة، كنت عندما أعود إليه أتعمد أن أسمعه ولا أضيع الوقت في الحديث عن أي شيء يخصني، وأتذكر عندما أُخبِره عن ما يفرحه تتساقط دموعه وهو يدعو لي بأن يزيدني الله من العلم والمعرفة، وأظن بفضل الله وهذا الدعاء اشتعل رأسي شيبًا، وما زلت أحمل الكتاب أين ما ذهبت وأين ما حللت.
هكذا تنكسر كإنسان، ففي الجانب الآخر من هذه الحياة ثمة مواقف قد تُسبِّب لك أشد الآلام، فقد يخذلك أحدهم في العائلة، أو في العمل، أو قد يخذلك أحد الرفاق عندما تحتاج إليه لأي أمر!
غير أن أصعب الانكسارات هو انكسار الأُمّة، وما يحصل اليوم في غزة الجريحة، من خذلان أمة بأكملها لشعب أعزل يُعتدى عليه ويُباد ويُذبَّح أطفاله ونساؤه وشيوخه من الوريد للوريد منذ ما يقارب السنة، فقط لأنه يدافع عمّا تبقى من شرف هذه الأمة، ولم يرض بالظلم ويطالب بأرضه ووطنه، بينما الأمة ما تزال مشغولة بتجميع الأوراق والقراطيس والأدلة، لتذهب بها لتشتكي في أروقة المنظمات والمؤسسات التي تُدار من قوى البغي والشر والعدوان.
** خبير في الشؤون المالية
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إلغاء إدانة بريطاني بالقتل بعد 38 سنة من السجن
قال رجل بريطاني قضى ما يقرب من أربعة عقود في السجن بتهمة قتل امرأة إنه ليس غاضباً ولا يشعر بالمرارة، اليوم الثلاثاء، وذلك بعد إلغاء إدانته بالقتل؛ بفضل أدلة الحمض النووي التي أصبحت متاحة حديثاً.
ووضع بيتر سوليفان يده على فمه وبدا متأثراً عاطفياً عندما أمرت محكمة الاستئناف في لندن بإلغاء إدانته بعد سنوات من محاولات تبرئة اسمه.
وقالت المدعية سارة ميات خارج المحكمة، إنه أكثر ضحية قضت مدة في السجن بسبب إدانة خاطئة في المملكة المتحدة.
وقال سوليفان، الذي شاهد الجلسة عبر الفيديو من سجن ويكفيلد في شمال إنجلترا، في بيان إنه ليس مستاء ويتوق لرؤية أحبائه.
وكان سوليفان 68 عاماً قد أدين في عام 1987 بقتل ديان سيندال في بيبينجتون، بالقرب من ليفربول في شمال غرب إنجلترا.
وقضى 38 عاماً خلف القضبان.
وقالت الشرطة، إن سيندال21 عاماً، وهي بائعة زهور كانت مخطوبة، كانت عائدة إلى منزلها من وظيفة بدوام جزئي ليلة جمعة في أغسطس 1986 عندما نفد وقود شاحنتها الصغيرة.
وشوهدت آخر مرة وهي تمشي على الطريق بعد منتصف الليل. وعثر على جثتها بعد حوالي 12 ساعة في إحدى الحارات، ولقد تعرضت للضرب المبرح.