لم يعد السيد "فزاعة" مخيفا كما في القديم.. لم يعد يرعب العصافير أو الغرابيب أو الطيور المهاجرة.. ويمكن الآن لأي عصفور شريد أو بلشون مهاجر أن ينقره بين عينيه أو يختبئ من وهج الشمس داخل جلبابه المهترئ.. لم يعد "خيال المآتة" أمينا على ثمار الحقل أو بقله أو فومه أو بصله، لا لأنه تحول عامدا من قديس إلى عربيد، ولكن لأنه في الحقيقة لم يكن سوى كومة من القش والبوص والخرق طوال حياته.
ليس ذنب المصلوب في وهج الشمس أن الصيادين والفلاحين وبائعي الخضار كانوا يمنحونه مهابة مصطنعة أو ودا كاذبا.. لطالما صدق "المجدار" أنه أقوى من الريح وهو يدور مقهقها حول نفسه والطيور تتقافز من حوله في رعب وهي تكتم زقزقتها النزقة.. كان يظن "النظار" المسكين أن ذراعيه المتورمتين قادرتين على صنع دوامات في الأفق تجعل الريح صرا وتجعل من النسمة عاصفة.
لم يكن "خيال المآتة" قديسا يتبرك الفلاحون بملامسة ساقه الوحيدة، بل كان مجرد كومة من حطب يابس تديرها الرياح يمنة ويسرة أو تقلبه على وجهه إن شاءت، فيأتي المزارع الكهل كل صباح ليغرس ساقه في رحم الأرض ليمنحه أسطورة خلود كاذبة.. اليوم، لا يحتاج السيد "فزاعة" أن ينزله أحدهم من برجه العاجي، ليخبره أنه قد هرم، وأنه قد آن أن يحترق حتى آخر قشة في هيكله التعس.. فقد عرف السيد "النظار" هذا في نظرات من كان يملأ عيونهم ألقا وروحهم نزقا وقلوبهم خفقا.
حين أخبرته حورية كانت تتلو صلواتها في أذنيه كل يوم خمس مرات أنه صار يابسا كعجز نخلة خاوية، وأنه لم يكن سوى دمية تعبث بها الحشرات والديدان، وأنها تقدس الريح التي تستطيع بعثرته فوق الآكام والتلال في لحظة غضب عاصفة، أدرك أنها لم تقدس أحشاءه الممتلئة بالقش أبدا.. ولكنها مارست خداعه كالعواصف والأمطار والفلاحين وبائعي الخضار.
وأدرك المأسوف على ثيابه البالية وقشه الآيل للتآكل أنه شارك في الخديعة حين حارب العصافير زمنا دون أن يكون بينه وبينها ثمة ثأر أو سابق احتقان. أيقن أنه قضى عمرا في مطاردة طيور بريئة لم تنافقه يوما أو تتبرك بثيابه المهلهلة اتقاء غضبة مفاجئة أو ثورة ريح عقيم.
للأسف، لن يستطيع السيد "فزاعة" أن يغير انتماءه للريح والسراب ليلقي جسده المتآكل في أحضان العصافير التي لم تعد تحس بوجوده أصلا، وصارت تتعامل معه كشجرة في زاوية أو حجر فوق جدار، لأن تاريخه المدهش لا زال يغريه بمزيد من الأمل الواهي. أليست زقزقة العصافير جميلة أيها الذاهل في واد أحلامك البائدة؟ ألا ترى أن مناقيرها أصغر كثيرا من أفواه الفلاحين وبائعي الخضار؟ ألا تشعر اليوم بعجز مريع وأنت تمد ذراعك عن آخرها فلا تستطيع أن ترد طائرا صغيرا صمم على التحليق فوق رأسك والتبول على كتفيك؟ ها أنت تدور حول ساقك الخشبي في هياج فلا تخيف أنثى غراب، وتترك ثيابك للريح فلا تستطيع التخلص من طفل عنكبوت نسج عشه الواهن تحت إبطيك.
انتهي عصرك الذهبي أيها القديس القديم، وأصبحت مجرد صارية لا معنى لها في حياة من قدسوك. ليته الموت يأتي حتى لا تهان أكثر، وليتك تستطيع أن تترجل من فوق ساقك العرجاء لتعلن تمردك على واقع لم يقدرك كما يجب ولم يعاملك بما يليق. ليت ريحا صرصرا عاتية أو رجزا من السماء يضع نهاية ليست أقل مأساوية من وقفتك المذلة عاريا من كل مجدك القديم لتمارس دورا وضيعا رسمه الفلاحون وبائعو الخضار وحورية وثقت بعينيها ذات انبهار.
عبد الرازق أحمد الشاعر
[email protected]
المصدر: الأسبوع
إقرأ أيضاً:
إلى السيد وزير التعليم العالي.. هذا القرار مخالف للدستور
آخر منشور تم نشره في صفحتي على الفيس بوك كتبه أحد الأباء المقيمين بدولة الإمارات العربية المتحدة… حكى فيه الظلم الذي تعرضت له ابنته المتفوقة وبالتالي كل أسرته… إذ أن الابنة امتحنت الشهادة الثانوية في مهجر أسرتها في 2025 فتفوقت وامتازت … وكرمت هناك تكريما يليق بتفوقها… ومنحت الإقامة الذهبية لمدة عشر سنوات… وبالمقابل عندما قدمت للالتحاق بالجامعات السودانية الحكومية.. حرمت من التقديم في الدور الأول الحكومي لأنه لم يسمح إلا لطلاب 2023 من حملة الشهادة العربية (ياربي ديل قاعدين سنتين منتظرين أورنيك القبول للجامعات السودانية؟) .. ولم يسمح لها إلا بالتقديم في القبول الحكومي الخاص وحتى في هذا أخرجها نظام المحاصصة أي استنفاد الفرص… ولم يبق لهذه الطالبة إلا الجامعات الخاصة وأبوها واقف منتظر و (إيدو في قلبه) لأنه (ضاق لدغة الثعبان الحكومي… عام وخاص) …. بعد نشر المنشور انهالت التعليقات المتعاطفة مع الطالبة وأسرتها… لابل تم (شيل حال) الجامعات السودانية ومجمل النظام التعليمي في السودان…. ونصح الأب بأن يبحث لابنته عن جامعة خارج السودان… كما فعل الكثيرون ليس لأنهم لم يجدوا لأبنائهم فرصة في الجامعات السودانية بل حرصا على مستقبل أبنائهم… لذلك لم يقدموا للالتحاق بالجامعات السودانية … كان لسان الحال أن الجامعات السودانية أصبحت (رزية ونطاحة)… وهذا يطلق على البقرة المتوحلة في الطين وتقوم بنطح من جاء يخرجها ..
الجامعات السودانية تعرضت لتدمير ممنهج جراء (الحربة) الحالية.. ورغم ذلك يصر بعض الآباء كأمثال صاحب المنشور على إلحاق أبنائهم المتفوقين بها (وطنية بس)… أي حرصا على التنشئة الوطنية ولكنهم اصطدموا بمثل هذة القرارات الجائرة العشوائية غير المدروسة..
طالب سوداني شاءت الأقدار أن يكون كل تعليمه العام خارج السودان… ولم تتوقف دراسته وتحصل على الشهادة الثانوية في 2025… عندما يريد الإلتحاق بالجامعات السودانية الحكومية يقال له ما عندك فرصة… لأن الفرصة هذا العام للذين كانوا يفترض أن يدخلوا الجامعة في 2023 وتأخروا بسبب الحرب…طيب ما ذنب هذا الطالب؟ هل هو الذي أشعل الحرب؟ هل المطلوب منه أن ينتظر عامين إذا كان غير قادر على الدراسة على النفقة الخاصة؟… بعد عام ستكون شهادته (بايتة) وبالتالي سيكون خارج المنافسة.. إذن هذا القرار أخرق وأشتر وغير تربوي وغير أخلاقي وغير دستوري.. نعم لأنه يحرم مواطن من حقه الدستوري … وأتمنى أن ينبري نفر من المحامين بمخاطبة المحكمة الدستورية التي يتوجب عليها كفالة الحقوق التي يقر بها الدستور للمواطن… أو تقوم المحكمة الموقرة من تلقاء نفسها بإحقاق هذا الحق… والحمد لله أن هذه المحكمة العامة قد عادت للوجود بعد غيبة طويلة..
فيا سيادة وزير التعليم العالي الحالي من المعروف أنه ليس لك في هذا القرار يد ولكن الواجب يحتم عليك أن تقوّم ما وجدته معوجاُ فالأمر بين يديك… فانظر ماذا ترى.
حاشية…أو كسرة:
قبل حوالى عقدين من الزمان إن لم تخن هذة الذاكرة الخربة… قامت هجمة قوية على شهادة لندن ابتدرها أحد أساتذة جامعة الخرطوم… على أساس أنها تضيق على طلاب الشهادة السودانية في الإلتحاق بالجامعات السودانية… خاصة جامعة الخرطوم… وقد أشترك عمود حاطب ليل في هذة الحملة… بدافع عصبية للشهادة الثانوية السودانية… أو بقايا ثورية أو ربما لا يخلو الأمر من طبقية (أولاد المصارين البيض)… أو قد يكون تأثرا بفكرة المركز المتمتع بالمطايب الهامش الذي (ياكل ناره).. لكن أصدقكم القول لو استقلبت من أمري ما استدبرت لما وقفت من شهادة لندن ذلك الموقف… لأنني جالست فيما بعد صديقنا الراحل الدكتور صفوت فانوس استاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم والذي شغل منصب مدير لإحدى مراكزها… وأطلعني على مناهجها ونسخ من امتحاناتها… فوجدت فيها ما أدهشني من التميز (الناس أعداء ما جهلوا)… ومن المؤكد أن الذين بحملونها سوف يسدون ثغرة للبلاد…
اليوم العلينا كثر سوادنة الشتات.. وأصبح السودان كحال ساكن بغداد.. (في كل بلد سوالو أولاد)… وفي هذا جانب إيجابي لأنهم سوف يرفدون البلاد بمرجعيات وتجارب علمية مختلفة… وسوف يكملون ما قصرت فيه مناهجنا..
قبل عدة سنوات جلست جلسة مطولة مع الدكتور علي الشيخ مدير مكتب القبول…. وعلي هذا خبير وطني ومفخرة في هذا المجال… إذ كنت أحمل له بعض شكاوي المغتربين أو بالأحرى بعض تظلماتهم.. فأوضح لي بالبيانات أنه إذا أخذت الشهادة العربية كماهي دون أي معادلة.. وألغيت المحاصصة في الدخول للجامعات… فإن طلاب الشهادة الثانوية السودانية لن يجدوا أكثر من عشرة في المية في كليات الطب والأسنان والهندسة في أكبر ثلاثة جامعات سودانية… وقد قام دكتور علي برفع توصيات يراها مرضية لكافة الأطراف.. وبالتالي أصبح القرار سياسي.. ولكن حدث ما حدث… ياربي دكتور علي ومكتبه وين الآن؟
أن نظام الشهادة الثانوية السودانية نظام صارم يندر ان تجد له مثيل.. إذ تؤخذ نسبتها كاملة من امتحان موحد قومي مافيهو شق ولا طق… وإذا حدث أي تسرب يعاد كل الامتحان وفي كل السودان… وقد حدث هذا عدة مرات… وأكاد أجزم أن مكتب امتحانات السودان من المؤسسات القليلة التي لم تطالها يد الخراب.. يكفي الشهادة الثانوية السودانية فخراً أنه يتساوى فيها ابن الوزة وابن السمبرية (مش قلنا ما دايرين سياسة)
ولكن مع ذلك لو أن بعض أهل السودان ربنا رفع قدمهم… بسبب الاغتراب أو الهجرة… أو كترت القروش… أو الوظيفة الدولية أو بحاجات تانية حامياني… وعلموا أولادهم تعليما متقدما تعجز عنه إمكانيات بلادنا… فإننا يجب أن نفرح لهم لأنهم أولادنا وأولاد بلدنا… وحتما سوف يفيدون البلاد والعباد وكما يقول علماء الأصول ما لايدرك كله لا يترك جله..
دكتور عبد اللطيف البوني
إنضم لقناة النيلين على واتساب