اقتصاد إسرائيل يترنح.. خسائر فادحة وأمل العودة يتقلص
تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT
المناطق_متابعات
في أواخر سبتمبر/أيلول، ومع اتساع رقعة حرب إسرائيل التي استمرت قرابة عام وخفض تصنيفها الائتماني مرة أخرى، قال وزير مالية البلاد، بتسلئيل سموتريتش، إنه على الرغم من الضغوط التي يتعرض لها الاقتصاد الإسرائيلي، فإنه يتمتع بالقدرة على الصمود.
وقال سموتريتش في 28 سبتمبر/أيلول، بعد يوم من مقتل زعيم حزب الله حسن نصر الله، في العاصمة اللبنانية بيروت بغارات جوية إسرائيلية، “إن الاقتصاد الإسرائيلي يتحمل عبئاً أطول وأغلى حرب في تاريخ البلاد”، مما أثار المخاوف من تحول التوترات مع الجماعة المسلحة إلى صراع كامل.
وبعد مرور عام على الحرب مع حماس في 7 أكتوبر، تواصل إسرائيل المضي قدماً على جبهات متعددة: شن هجوم بري ضد حزب الله في لبنان، وتنفيذ غارات جوية في غزة وبيروت، والتهديد بالانتقام من هجوم الصواريخ الباليستية الإيراني في وقت سابق من الأسبوع الماضي. ومع امتداد الصراع إلى المنطقة الأوسع، فإن التكاليف الاقتصادية سوف تتفاقم أيضا، سواء بالنسبة لإسرائيل، وفقاً لما ذكرته شبكة “CNN” الأميركية، واطلعت عليه “العربية Business”.
بدورها، قالت محافظة البنك المركزي الإسرائيلي السابقة، كارنيت فلوغ: “إذا تحولت التصعيدات الأخيرة إلى حرب أطول وأكثر كثافة، فإن هذا من شأنه أن يفرض ضريبة أثقل على النشاط الاقتصادي والنمو (في إسرائيل)”.
وقالت الأمم المتحدة في تقرير لها الشهر الماضي إن الحرب أدت إلى تفاقم الوضع في غزة بشكل كبير، ودفعتها إلى أزمة اقتصادية وإنسانية منذ فترة طويلة، وإن الضفة الغربية “تعاني من تدهور اقتصادي سريع ومثير للقلق”.
وفي الوقت نفسه، قد ينكمش الاقتصاد اللبناني بنسبة تصل إلى 5% هذا العام بسبب الهجمات عبر الحدود بين حزب الله وإسرائيل، وفقا لشركة BMI، وهي شركة أبحاث السوق المملوكة لشركة فيتش سوليوشنز.
وقد ينكمش اقتصاد إسرائيل أكثر من ذلك، استنادا إلى أسوأ تقدير من قبل معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب.
وحتى في سيناريو أكثر اعتدالاً، يرى الباحثون أيضاً أن الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي للفرد ــ الذي تجاوز في السنوات الأخيرة نظيره في المملكة المتحدة ــ سوف يتراجع هذا العام، مع نمو عدد سكان إسرائيل بسرعة أكبر من نمو الاقتصاد وانخفاض مستويات المعيشة.
وقبل هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب التي تلته بين إسرائيل وحماس، توقع صندوق النقد الدولي أن ينمو اقتصاد إسرائيل بنسبة 3.4% هذا العام. أما الآن، فتتراوح توقعات خبراء الاقتصاد بين 1% و1.9%. ومن المتوقع أيضاً أن يكون النمو في العام المقبل أضعف من التوقعات السابقة.
ومع ذلك، فإن البنك المركزي الإسرائيلي ليس في وضع يسمح له بخفض أسعار الفائدة لإنعاش الاقتصاد لأن التضخم يتسارع، مدفوعاً بارتفاع الأجور والإنفاق الحكومي المتزايد لتمويل الحرب.
أضرار طويلة الأمدقدر بنك إسرائيل في مايو أن التكاليف الناجمة عن الحرب ستبلغ 250 مليار شيكل (66 مليار دولار) حتى نهاية العام المقبل، بما في ذلك النفقات العسكرية والنفقات المدنية، مثل الإسكان لآلاف الإسرائيليين الذين أجبروا على الفرار من منازلهم في الشمال والجنوب. وهذا يعادل حوالي 12% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل.
يبدو أن هذه التكاليف سترتفع أكثر مع تفاقم القتال مع إيران، وحزب الله في لبنان، مما يضيف إلى فاتورة الدفاع الحكومية ويؤخر عودة الإسرائيليين إلى منازلهم في شمال البلاد. شنت إسرائيل توغلاً برياً في جنوب لبنان مستهدفة حزب الله في 30 سبتمبر/أيلول.
وفيما أعرب سموتريتش، وزير المالية، عن ثقته في أن اقتصاد إسرائيل سوف ينتعش بمجرد انتهاء الحرب، لكن خبراء الاقتصاد قلقون من أن الضرر سوف يستمر لفترة أطول بكثير من الصراع.
قالت فلوغ، محافظ بنك إسرائيل السابق ونائب رئيس الأبحاث في معهد الديمقراطية الإسرائيلي، إن هناك خطراً يتمثل في قيام الحكومة الإسرائيلية بخفض الاستثمار لتحرير الموارد للدفاع. “إن هذا من شأنه أن يقلل من النمو المحتمل (للاقتصاد) في المستقبل”.
ويشعر الباحثون في معهد دراسات الأمن القومي بالتشاؤم على نحو مماثل.
وقالوا في تقرير في أغسطس/أغسطس إن الانسحاب من غزة والهدوء على الحدود مع لبنان من شأنه أن يترك اقتصاد إسرائيل في وضع أضعف مما كان عليه قبل الحرب. وكتبوا: “من المتوقع أن تعاني إسرائيل من أضرار اقتصادية طويلة الأجل بغض النظر عن النتيجة”.
“إن الانخفاض المتوقع في معدلات النمو في جميع السيناريوهات مقارنة بالتوقعات الاقتصادية قبل الحرب وزيادة الإنفاق الدفاعي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم خطر الركود الذي يذكرنا بالعقد الضائع بعد حرب يوم الغفران”.
حرب أكتوبر 1973كانت حرب عام 1973، المعروفة أيضاً باسم الحرب العربية الإسرائيلية، التي شنتها مصر وسوريا ضد قوات إسرائيل في شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، بمثابة بداية لفترة طويلة من الركود الاقتصادي في إسرائيل، ويرجع ذلك جزئياً إلى زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير في البلاد.
وعلى نحو مماثل، فإن الزيادات الضريبية المحتملة وتخفيضات الإنفاق غير الدفاعي ــ والتي اقترحها سموتريتش بالفعل ــ لتمويل ما يتوقعه كثيرون أن يصبح جيشاً موسعاً بشكل دائم، من الممكن أن تلحق الضرر بالنمو الاقتصادي. ومثل هذه التدابير، إلى جانب ضعف الشعور بالأمن، من الممكن أيضاً أن تحفز هجرة أعداد كبيرة من الإسرائيليين.
وحذرت فلوغ من أن الإسرائيليين المتعلمين، وخاصة رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا، سيغادرون البلاد بأعداد كبيرة.
وقالت فلوغ عن قطاع يمثل 20% من الناتج الاقتصادي الإسرائيلي: “لا يجب أن يكون بأعداد كبيرة، لأن قطاع التكنولوجيا يعتمد بشكل كبير على بضعة آلاف من الأفراد الأكثر ابتكارا وإبداعا وروح المبادرة”.
إن رحيل دافعي الضرائب من ذوي الدخل المرتفع على نطاق واسع من شأنه أن يزيد من تضرر مالية إسرائيل، التي تضررت بشدة من الحرب. وقد أرجأت الحكومة نشر ميزانية العام المقبل لأنها تكافح مع المطالب المتنافسة التي تجعل من الصعب تحقيق التوازن في دفاترها.
وتسبب الصراع في مضاعفة عجز ميزانية إسرائيل – الفرق بين الإنفاق الحكومي والإيرادات، ومعظمها من الضرائب – إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي، من 4% قبل الحرب.
لقد ارتفعت الاقتراض الحكومي وأصبح أكثر تكلفة، حيث يطالب المستثمرون بعوائد أعلى لشراء السندات الإسرائيلية وغيرها من الأصول. ومن المرجح أن تؤدي التخفيضات المتعددة للتصنيف الائتماني لإسرائيل من قبل وكالات فيتش وموديز وستاندرد آند بورز إلى زيادة تكلفة الاقتراض في البلاد بشكل أكبر.
في أواخر أغسطس/آب ــ قبل شهر من تنفيذ إسرائيل لضربات على العاصمة اللبنانية والتوغل البري ضد حزب الله في جنوب البلاد ــ قدر معهد دراسات الأمن القومي أن شهرا واحدا فقط من “الحرب عالية الكثافة” في لبنان ضد الجماعة المسلحة، مع “هجمات مكثفة” في الاتجاه المعاكس تلحق الضرر بالبنية الأساسية الإسرائيلية، من الممكن أن يتسبب في ارتفاع عجز الموازنة الإسرائيلية إلى 15% وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تصل إلى 10% هذا العام.
عدم اليقين “العامل الأكبر”لتقليص الفجوة المالية، لا تستطيع الحكومة الاعتماد على تدفق صحي من عائدات الضرائب من الشركات، التي ينهار العديد منها، في حين يتردد البعض الآخر في الاستثمار في حين لا يزال من غير الواضح إلى متى ستستمر الحرب.
وتقدر شركة كوفاس بي دي آي، وهي شركة تحليلات أعمال كبرى في إسرائيل، أن 60 ألف شركة إسرائيلية ستغلق أبوابها هذا العام، ارتفاعا من متوسط سنوي يبلغ نحو 40 ألف شركة. ومعظم هذه الشركات صغيرة، تضم ما يصل إلى 5 موظفين.
وقال آفي حسون، الرئيس التنفيذي لشركة ستارت أب نيشن سنترال، وهي منظمة غير ربحية تعمل على الترويج لصناعة التكنولوجيا الإسرائيلية على مستوى العالم: “إن عدم اليقين أمر سيئ للاقتصاد، وسيئ للاستثمار”.
وفي تقرير حديث، حذر حسون من أن المرونة الملحوظة لقطاع التكنولوجيا الإسرائيلي حتى الآن “لن تكون مستدامة” في مواجهة حالة عدم اليقين الناجمة عن الصراع المطول والسياسة الاقتصادية “المدمرة” للحكومة.
حتى قبل هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت خطط الحكومة لإضعاف القضاء تدفع بعض شركات التكنولوجيا الإسرائيلية إلى التأسيس في الولايات المتحدة. وقد أدى انعدام الأمن الناجم عن الحرب إلى تفاقم هذا الاتجاه، حيث تم تسجيل معظم شركات التكنولوجيا الجديدة رسمياً في الخارج، على الرغم من الحوافز الضريبية للتأسيس محلياً، ويفكر عدد كبير منها في نقل بعض عملياتها خارج إسرائيل، كما قال حسون لشبكة سي إن إن الشهر الماضي.
وكانت قطاعات أخرى من الاقتصاد الإسرائيلي، وإن كانت أقل أهمية من التكنولوجيا، قد تضررت بشكل أكبر. فقد كافح قطاعا الزراعة والبناء لسد الفجوات التي خلفها الفلسطينيون الذين تم تعليق تصاريح عملهم منذ أكتوبر من العام الماضي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الخضروات الطازجة وأدى إلى انخفاض حاد في بناء المساكن.
كما تضررت السياحة، حيث انخفض عدد الوافدين بشكل حاد هذا العام. وقد قدرت وزارة السياحة الإسرائيلية أن الانخفاض في عدد السياح الأجانب ترجم إلى خسارة 18.7 مليار شيكل (4.9 مليار دولار) من العائدات منذ بداية الحرب.
اضطر فندق نورمان، وهو فندق صغير في تل أبيب، إلى تسريح بعض الموظفين وخفض أسعاره بنسبة تصل إلى 25%، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن بعض مرافقه – بما في ذلك مطعمه الياباني على السطح – لا تزال مغلقة لتوفير التكاليف.
انخفضت مستويات الإشغال من أكثر من 80% قبل الحرب إلى أقل من 50% حالياً، وفقاً للمدير العام للفندق يارون ليبرمان.
وقال لشبكة CNN في منتصف سبتمبر: “نعلم أنه في اليوم الذي ستنتهي فيه الحرب، سيكون الأمر مجنوناً هنا فيما يتعلق بعودة الأعمال”، مستشهداً بمراسلات من ضيوف محتملين حريصين على زيارة إسرائيل لكنهم غير قادرين على حجز الرحلات الجوية أو تأمين التأمين على السفر.
لكن في الوقت الحالي، قال ليبرمان: “العامل الأكبر هو عدم اليقين. متى ستنتهي الحرب؟”
المصدر: صحيفة المناطق السعودية
كلمات دلالية: إسرائيل الناتج المحلی الإجمالی الاقتصاد الإسرائیلی اقتصاد إسرائیل حزب الله فی عدم الیقین من شأنه أن قبل الحرب هذا العام
إقرأ أيضاً:
ما هي الصدمة الثلاثية التي تعيق عودة السوريين إلى وطنهم؟
شكل سقوط نظام بشار الأسد ديسمبر/كانون الأول 2024 نقطة تحول مفصلية في الأزمة السورية المستمرة المتعلقة بالتشريد القسري (للاجئين والنازحين داخليا)، غير أن العودة الجماعية المرتقبة ما زالت معرقلة بفعل جملة من العقبات المركبة التي تتجاوز نطاق التحليل التقليدي.
تشير إحصائيات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى أنه بين ديسمبر/كانون الأول 2024 ومنتصف 2025، عاد ما يقارب 500 ألف لاجئ و1.2 مليون نازح داخليا إلى مناطقهم الأصلية، وهي أرقام متواضعة مقارنة بإجمالي أعداد المشردين قسريا، والذين يناهز عددهم 6.8 ملايين لاجئ، و6.9 ملايين نازح داخليا، موزعين في دول المنطقة وخارجها.
ويكشف هذا المعدل المحدود للعودة، رغم إزالة العائق السياسي الرئيسي، عن وجود معوقات أعمق وأشد تعقيدا، تستوجب دراسة حقوقية أكثر تفصيلا.
تركزت الجهود التقليدية في فهم هذه العقبات على الجوانب المادية والملموسة؛ كالبنية التحتية المدمرة، والنزاعات المتصلة بحقوق الملكية، والتدهور الاقتصادي، والمخاوف الأمنية المتبقية، دون أن يُمنح الاهتمام الكافي لبعد بدأ يفرض نفسه بقوة، بعد أحداث الساحل والسويداء في سوريا، وهو انتشار خطاب الكراهية والتحريض الطائفي على الإنترنت، والذي يتخطى حدود المكان، ويسهم في إدامة حالة التشريد من خلال آليات رقمية وافتراضية.
تفترض هذه المقالة أن خطاب الكراهية الإلكتروني والتحريض الطائفي والانتشار الواسع لمقاطع الفيديو التي تصور العنف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تشكل فئة مستقلة من عقبات العودة، ذات أثر واضح في تشكيل قرارات العودة لدى النازحين واللاجئين السوريين.
عوائق العودة الطائفيةيمثل تحول التوترات الطائفية من المجال المادي إلى الفضاء الرقمي تطورا في كيفية تعاطي مجتمعات ما بعد الصراع مع الانقسامات الهوياتية وتكريسها.
تبين المفاهيم التقليدية للطائفية، المبنية على السيطرة على الأرض والعنف المباشر، محدوديتها في استيعاب ديناميكيات النزوح المعاصرة، حيث خلقت الوسائل التقنية مساحات افتراضية جديدة تطيل أمد النزاع.
إعلانيتطلب هذا التطور إعادة نظر في مفهوم الحواجز الطائفية، آخذين في الحسبان الخصائص الخاصة للبيئة الرقمية؛ من حيث استدامتها، وسهولة انتشارها، وقدرتها على تجاوز الحواجز الزمنية والجغرافية.
تتمثل الطائفية الرقمية بنشر الكراهية القائمة على الهوية عبر المنصات الإلكترونية بشكل مكثف، مما يؤدي إلى تعزيز الشقاقات والتوترات والانقسامات الداخلية، مهددة الاستقرار المجتمعي لمرحلة ما بعد الصراع.
وعلى عكس العنف الطائفي التقليدي الذي يتطلب التقارب الجغرافي والقدرة التنظيمية، تعمل الطائفية الرقمية من خلال شبكات لامركزية عابرة للحدود، تسهم في ترسيخ الانقسامات بين مجتمعات الشتات.
وتعكس الحالة السورية هذا التحول بوضوح، حيث تظهر منصات التواصل الاجتماعي انتشارا واسعا للخطاب الطائفي قبل وبعد سقوط نظام الأسد، لا سيما عقب أحداث الساحل والسويداء، مما أدى إلى خلق بنية رقمية متزايدة الحدة في الانقسامات الطائفية.
تلعب منصات التواصل الاجتماعي دورا رئيسيا في تعميق هذه الانقسامات عبر آليات متعددة:
أولا، تساهم الخوارزميات في تضخيم المحتوى الطائفي وتعزيز انتشاره، في حين تحجَب الأصوات المعتدلة. ثانيا، يؤدي الطابع الفيروسي للمحتوى التحريضي إلى منح الحوادث الفردية أو المحلية حضورا رقميا مبالغا فيه، مما يعمم مخاوف محلية لتصبح عامة. ثالثا، تسمح الطبيعة المجهولة لكثير من المنصات بنشر خطاب متطرف يصعب التعبير عنه في التفاعلات الاجتماعية المباشرة.وتنتج هذه الآليات مجتمعة ما يمكن وصفه بـ"البنية التحتية العاطفية للكراهية"، أي البنية الرقمية التي تغذي وتعزز المشاعر الطائفية بشكل دائم عبر الزمان والمكان.
التأثير النفسي والاجتماعي لخطاب الكراهية عبر الإنترنتيكشف الترابط بين التعرض الرقمي للمحتوى الطائفي وتحديات الصحة النفسية للنازحين عن مسارات معقدة يتحول من خلالها خطاب الكراهية الإلكتروني إلى معاناة إنسانية فعلية.
ويمثل السياق السوري تحديا في هذا المجال، إذ يواجه النازحون قسريا مصادر متشابكة ومتراكمة للصدمات النفسية؛ بدءا من التعرض المباشر للعنف، مرورا بالصعوبات المرتبطة بالنزوح، وانتهاء بالتعرض المستمر للمحتوى الرقمي الطائفي الموجه ضد مجتمعاتهم. وتعقد هذه "الصدمة الثلاثية" التحديات النفسية التي يعانيها ضحايا التشريد القسري.
تسهل المنصات الرقمية انتشار ما يسميه المختصون النفسيون "الصدمة غير المباشرة"، عبر التداول الواسع لمقاطع الفيديو التي تصور مشاهد العنف، ما يؤدي إلى إعادة تنشيط استجابات الصدمة لدى المشاهدين.
وتشير الدراسات التي أجريت حول النازحين إلى أن هذه الآثار النفسية لا تتضاءل مع مرور الوقت، بل قد تتزايد نتيجة استمرار التعرض للمحتوى الرقمي الصادم، والذي تساهم الخوارزميات في تكرار ظهوره أمام المستخدمين الذين سبق أن تفاعلوا مع محتوى مرتبط بالصراع، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء دورات من الصدمات المتجددة، تبقي النازحين في حالة تأهب مستمرة، حتى مع تراجع التهديدات الجسدية.
يسهم زرع الخوف عن طريق الخطاب الطائفي الرقمي في تشكيل قرارات العودة لدى النازحين واللاجئين عبر آليات نفسية محددة، حيث يخلق المحتوى التحريضي عبر الإنترنت قلقا استباقيا تجاه سيناريوهات العودة، محولا الاحتمالات النظرية إلى مخاوف واقعية من خلال استخدام لغة وصور تهديدية ومباشرة.
إعلانوتؤكد دراسات ميدانية حول العائدين المحتملين أن التعرض للمحتوى الطائفي الرقمي يزيد من شعورهم بالتهديد، ويضعف الثقة في الضمانات الأمنية المعلنة، ويرفع من تقديرات المخاطر المحتملة عند العودة.
إن استمرار تواجد المحتوى التحريضي على الإنترنت يجعل من التهديدات التي صدرت خلال ذروة النزاع حاضرة دوما في أذهان النازحين، فيما يعرف بـ"الانهيار الزمني"، مما يضطر العائدين المحتملين إلى تقييم أوضاعهم لا بناء على الظروف الراهنة فحسب، بل استنادا إلى المحتوى الرقمي المستمر الذي يشير إلى ضعف محتمل في المستقبل.
ساحة المعركة الرقمية في سوريا وأثرها على ديناميكيات العودةبرزت البيئة الرقمية في سوريا ما بعد الصراع كساحة معركة محتدمة، تتصارع فيها السرديات الطائفية حول تشكيل تصورات العودة وظروفها، كانت هذه الظاهرة في البداية منحصرة نسبيا ضمن نطاق المواجهة بين الموالين لنظام الأسد والمعارضين له، غير أن الأحداث الأخيرة في الساحل خلال مارس/ آذار، وفي السويداء خلال يوليو/ تموز 2025، فجرت موجة من الخطاب الطائفي، يرجح أن تكون لها تداعيات بعيدة المدى تتجاوز المستقبل المنظور.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على مجرد تصعيد في حدة الخطاب، بل تشير إلى تحول جوهري في آليات تكوين الهويات الطائفية وتوظيفها سياسيا واجتماعيا كسلاح في الصراع السوري.
وتستغل هذه الهويات البيئة الرقمية متعددة المنصات، ما أدى إلى انتشار واسع النطاق لمحتوى الكراهية، مع استدامة لم تعهدها الأشكال التقليدية من النزاعات الطائفية.
تطور الخطاب الطائفي على الإنترنت من مجرد إشارات مبطنة أو تلميحات غامضة إلى خطاب صريح قائم على استهداف واضح للهويات الفرعية، ما أدى إلى نشوء توترات وانقسامات داخلية تهدد بجدية فرص التعايش السلمي.
ويعكس هذا التحول اللغوي تحولات هيكلية أعمق على مستوى الإدراك المجتمعي السوري لمفاهيم الاختلاف والانتماء، إذ يسهم الأرشيف الرقمي للهويات الطائفية عبر الوسوم (الهاشتاغات) والمجموعات والعبارات المنتشرة في خلق ما يمكن وصفه بـ"أرشيف الكراهية"، وهو ما يجبر العائدين المحتملين على التعامل معه كجزء من تقييمهم لفرص العودة الآمنة إلى مناطقهم الأصلية.
وقد برزت منصات رقمية محددة كقنوات رئيسية لنشر وتعزيز الخطاب الطائفي، وتمتاز كل منها بسمات خاصة تؤثر في طبيعة المحتوى المنشور وانتشاره. إذ تتحول مجموعات فيسبوك المنظمة وفق التقسيمات الجغرافية إلى ساحات افتراضية توثق فيها الحوادث الطائفية وتناقش وتضخم، فتُحول بذلك الحوادث المحلية إلى روايات عامة تؤثر في العلاقات بين مختلف الطوائف.
في حين تسهم مجموعات واتساب، بحكم خصوصيتها وتشفيرها ودينامياتها القائمة على التقارب الشخصي، في انتشار واسع للتقارير غير الموثقة والشائعات التحريضية ضمن دوائر موثوقة اجتماعيا، ما يمنح الخطاب الطائفي مصداقية أكبر من خلال التفاعل المباشر.
وتتيح طبيعة منصة إكس، بما فيها من مزايا التفاعل الآني وانتشار الوسوم، التصعيد السريع للتوترات الطائفية خاصة في أوقات الأزمات أو الأحداث البارزة. كما تؤدي قنوات تليغرام دورا محوريا كمنصات للتنسيق والتعبئة الطائفية، خصوصا تلك التي يديرها أشخاص أو جماعات ترتبط بالنظام السابق، أو بفصائل مسلحة، أو بمجموعات متطرفة، وتسعى عبر محتواها التهديدي إلى استهداف مجتمعات بعينها.
وتشير الأدلة المتاحة إلى أن العديد من هذه الحسابات قد تكون موجهة من قِبل دول، أو جهات تسعى لتعميق الانقسامات، بغرض تحويل الأزمة الطائفية إلى مواجهات مسلحة تبقي النازحين بعيدا عن أوطانهم الأصلية.
مقاطع الفيديو العنيفة كوسيلة رادعة للعودةيمثل تداول مقاطع الفيديو التي تصور العنف عبر الشبكات الرقمية وسيلة فعالة وواسعة الانتشار في إطالة أمد النزاع الطائفي، لتصبح حاجزا نفسيا وعاطفيا قويا يردع اللاجئين والنازحين عن العودة، متجاوزا الاعتبارات العقلانية المتعلقة بالتقييم الأمني للوضع.
إعلانوتنتشر على نطاق واسع تسجيلات تبث عنفا طائفيا تاريخيا أو حديثا، بدءا من مشاهد المجازر القديمة وانتهاكات الكرامة الإنسانية، ووصولا إلى لقطات التدمير والترهيب المعاصرة، وتوزع هذه المواد المرئية عبر الشبكات الرقمية السورية بتأثير قوي تضمنه الخوارزميات الحديثة.
وتقوم هذه المقاطع بوظائف متعددة، فهي تخلد الصدمات التاريخية، وتكرس التهديدات المستمرة، وتلقي بظلالها على سيناريوهات العودة المستقبلية. ويؤدي استمرار توفر هذه المواد الرقمية إلى إبقاء تأثير العنف الماضي حاضرا بشكل دائم، مما يقلص المسافة الزمنية بين فظائع الأمس وقرارات اليوم.
يظهر تأثير هذه الفيديوهات جليا على عمليات اتخاذ القرارات الخاصة بالعودة لدى اللاجئين والنازحين، وذلك من خلال آليات نفسية معقدة تدمج الأدلة البصرية بشكل مباشر في تقييم المخاطر.
ويشير العائدون المحتملون إلى أن مجرد مشاهدة مقطع واحد يصور عنفا طائفيا في مناطقهم الأصلية قد يكون كافيا لترجيح قرار عدم العودة، حتى لو تعددت التقارير التي تتحدث عن تحسن نسبي في الظروف الأمنية.
وتضمن الطبيعة الفيروسية لهذا المحتوى أن تكتسب الحوادث المنعزلة أو المتفرقة أثرا مبالغا فيه، حيث تنتقل هذه المقاطع بسرعة كبيرة بين مجتمعات الشتات السوري، متجاوزة بذلك أي معلومات سياقية أو تقييمات موضوعية للمخاطر الفعلية، مما يعزز ما يعرف في الأدبيات النفسية بـ"سلاسل التوافر المعرفي"، أي أن الصور والمقاطع المتوفرة بسهولة عن العنف تهيمن على إدراك النازحين لمستوى المخاطر المحتملة.
ويخلق هذا المحتوى الرقمي "جغرافيات خوف متخيلة"، وهي بنية نفسية وعاطفية تكرس استمرار النزوح وتحدي المفاهيم التقليدية للانتماء الجغرافي. وتتحول مقاطع الفيديو التي تصور العنف إلى "نصب رقمية" دائمة تذكر النازحين بأماكن يعتبرونها ملوثة بالعنف الطائفي بشكل لا يمكن تجاوزه أو نسيانه، بغض النظر عن الواقع الحالي.
وتتكون هذه الجغرافيات المتخيلة من خرائط عاطفية قوامها الخوف والاشمئزاز والغضب، وتؤثر بقوة في قرارات العودة، حتى من مسافات بعيدة. ويصف اللاجئون السوريون ردود أفعالهم الغريزية عند مشاهدة مقاطع توثق عنفا في مناطقهم الأصلية، والتي تتحول إلى مشاعر نفور واشمئزاز عميقين، لتتحول تلك المشاعر إلى قرارات ترفض العودة.
خاتمةتشكل خطابات الكراهية الرقمية، والتحريض الطائفي، وانتشار مقاطع الفيديو التي تصور العنف عبر منصات التواصل الاجتماعي ما يمكن تسميته بـ«البعد الرابع» لأزمة النزوح السوري؛ وهو بعد يتداخل مع عوامل النزوح التقليدية كالتدمير المادي، والتهديدات الأمنية، والعقبات القانونية، والقيود الاقتصادية، لكنه في الوقت ذاته يتمتع باستقلالية واضحة عنها.
يتميز هذا البعد الرقمي بخصائص تستدعي إعادة النظر في السياسات والمقاربات المتعلقة بالعودة؛ إذ إنه عابر للحدود، ومستمر رغم التحولات السياسية، ويخلق عوائق نفسية وعاطفية قد تكون أكثر صعوبة من العوائق المادية.
وتؤكد الحالة السورية بوضوح كيف يجد النازحون واللاجئون أنفسهم أمام تحديات لا تقتصر على تدمير البنى التحتية أو النزاعات المتعلقة بحقوق الملكية، بل تشمل كذلك بيئة رقمية مشبعة بالكراهية الطائفية، تعيد باستمرار إنتاج الظروف النفسية والاجتماعية المسببة للصراع.
إن الاعتراف السياسي بالطائفية الرقمية بوصفها عائقا أساسيا أمام عودة النازحين واللاجئين يحمل في طياته تداعيات جوهرية، ويتطلب من الحكومة السورية ومن المجتمع الدولي تطوير إستراتيجيات متقدمة تدمج ما بين الجوانب التقنية، والنفسية، والسياسية.
إذ ينبغي استكمال الجهود التقليدية لتيسير العودة، والتي تتركز عادة على إعادة إعمار البنية التحتية، وحل النزاعات القانونية، وتوفير الضمانات الأمنية، بمبادرات رقمية تهدف إلى بناء السلام والتعايش.
وتتضمن هذه المبادرات تأسيس وحدات متخصصة ضمن آليات العدالة الانتقالية، تتولى رصد وتحليل ومعالجة خطاب الكراهية والتحريض على العنف في الفضاء الرقمي؛ بالإضافة إلى تطوير شراكات فعالة مع منصات التواصل الاجتماعي الكبرى من أجل تحديد وإزالة المحتوى الذي يحرض على العنف الطائفي.
كما ينبغي العمل على إنشاء برامج تعليمية تعزز «محو الأمية الرقمية»، بهدف تمكين النازحين واللاجئين من تقييم المحتوى الرقمي نقديا، وتشجيع ودعم إنتاج روايات بديلة ترفض التأطيرات الطائفية وتعمل على تعزيز التعايش والتماسك الاجتماعي.
إعلانعلاوة على ذلك، فإن مواجهة تحديات المجال الرقمي تتطلب تشريعات متخصصة، وبناء قدرات مؤسسية، وأطر تعاون دولي وأممي تكون قادرة على التصدي للطبيعة العابرة للحدود الوطنية للمحتوى الطائفي.
لا يقتصر تحقيق العودة المستدامة للسوريين على إعادة بناء المدن المدمرة أو تصحيح الأوضاع القانونية وحدها، بل يقتضي أيضا استعادة المجال الرقمي من تجار الكراهية والتحريض الطائفي. يتطلب هذا الأمر تحولا في إدراك مفهوم العودة بعد انتهاء النزاع؛ من مجرد انتقال جغرافي إلى تفاوض معقد مع بيئات رقمية تؤثر بشكل عميق في تصورات الهوية، والأمن، والتعايش المشترك.
ومن خلال إدراك هذه الحقيقة، يمكن للمجتمع الدولي أن يساهم في خلق الظروف الملائمة التي تمكّن ملايين النازحين واللاجئين السوريين من العودة إلى ديارهم، دون أن يرافقهم خوف مستمر من الكراهية الرقمية التي ما زالت تنتشر بقوة في شبكات التواصل التي تجمعهم وتفرقهم في آن واحد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline