التواضع في القرآن الكريم.. قيمة أخلاقية تقود إلى الرفعة في الدنيا والآخرة
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ عليها القرآن الكريم، ويُعتبر أحد السلوكيات المحمودة التي يدعو إليها الإسلام. هذا الخلق الكريم هو الذي يقوض نزعة الكبر والغرور عند الإنسان، ولما كان القرآن الكريم يشدد على ذمّ الكبر ويتوعد المتكبرين، فإن التواضع هو علاج هذا الداء لدى المسلم، والتواضع مظهر من مظاهر الأدب والاحترام بين الناس.
يُمثل التواضع في القرآن الكريم قاعدة مهمة للرفعة الحقيقية، حيث أن هذه القيمة تجمع بين تقوى النفس وعظمة الأخلاق، وهو ما يؤدي إلى تحقيق السمو والرفعة في الدنيا والآخرة.
التواضع في القرآن الكريم يعني خفض الجناح للآخرين والتعامل معهم بدون تعالٍ أو تكبر. وينبع التواضع من إدراك الإنسان لحقيقة وجوده في هذه الحياة، وأنه عبدّ لله كغيره من العباد، وأن كل ما يملكه من مال أو جاه أو علم هو من عند الله، وبالتالي، لا يحق له أن يتكبر أو يستعلي على الناس. قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]. وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾[ الإسراء: 37]، وهذه الآيات تأمر الناس بشكل واضح وصريح بالتواضع وعدم التفاخر بما لديهم، وتذكر حقيقتهم كعبيد لله لا يملكون من أمرهم شيء. قال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 21 – 23].
يعكس التواضع في القرآن أيضاً مدى احترام الإنسان لحقوق الآخرين وتقديرهم بغض النظر عن مكانتهم أو قدراتهم. فالتواضع يعزز من سمو الأخلاق ويؤكد على مكانة الإنسان كخليفة لله في الأرض، فهو الخليفة الذي يعمل على تحقيق العدل والمساواة بين البشر، وهذه المهمة لا تتحقق بدون التخلي عن الكبر والغرور والتحلي بخلق التواضع لله ولعباده المؤمنين. فالتواضع صفة لصيقة بعباد الرحمن كما وصفهم القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].
ولأهمية هذا الخلق في بناء شخصية المسلم وتهذيب أخلاقه فقد أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بالتحلي بصفة التواضع، وعدم التكبر والتعالي، وخصوصاً أمام إخوانهم في الدين والعقيدة. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]. وقال سبحانه: ﴿مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعًا سُجّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ﴾ [الفتح: 29]. بل إن الله تعالى وجه هذا الأمر بشكل خاص إلى سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وهو من شهد الله تعالى له بحسن الخلق في قوله سبحانه: ﴿ وَإِنّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]. ورغم ذلك فقد شدد الله تعالى على التحلي بخلق التواضع في خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعين من القرآن الكريم، وذلك في رسالة لعموم المسلمين بأهمية هذا الخلق وضرورة الالتزام به، قال سبحانه: ﴿ لَا تَمُدّن عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]. وقال عز وجل: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215].
ويعتبر التواضع يعتبر مفتاحاً لبناء علاقات إنسانية متينة ومتوازنة، كما أنه يقوي أواصر المحبة ويذيب أسباب الكراهية بين الناس. فمن يتصف بالتواضع ينجح في كسب قلوب من حوله، لأنهم يرون فيه شخصاً ينظر إليهم بعين الاحترام والتقدير، دون أن يُشعرهم بأنهم أقل قيمة، فيسمعون منه وينتصحون بقوله، وذلك نهج الأنبياء في دعوتهم للناس إلى الحق والتوحيد، قال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ ۚ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ﴾ [سورة آل عمران: 159] فالتواضع يزيد من الثقة والود بين الناس، حيث يشعر الجميع بأنهم سواسية، فلا تطغى عليهم مشاعر الحقد والتباغض أو الحسد والغيرة.
والتواضع في الإسلام سبيلاً مهماً للرفعة في الآخرة. فالله سبحانه وتعالى يكرم المتواضعين، ويرفع من شأنهم في الدارين. قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ﴾ [القصص: 83]. وهذه الآية تؤكد على أن الرفعة الحقيقية ليست لأولئك الذين يسعون إلى العلو في الدنيا ويتكبرون ويتجبرون على الناس، بل للمتواضعين الذين يتجنبون التكبر والاستعلاء بغير الحق.
فالتواضع هو مدخل للقبول عند الله، فمن يتواضع لله ولعباده ينال رضوان الله ومغفرته، لأانه يجعل المسلم قادراً على الاعتراف بذنبه والشعور بضعفه وحاجته لله، وهذا الاعتراف يقوده إلى الاستغفار والتوبة والخشوع، مما يعزز مكانته عند الله. والقرآن الكريم يربط التواضع وعدم التكبر بالتقوى والإيمان، قال تعالى: ﴿ إِنّما يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بِهَا خَرّوا سُجّدًا وَسَبّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [السجدة: 15]. فالمؤمن يستشعر عظمة الله ويخشاه في السر والعلن، ويستحضر عجزه وضعفه، فيتعامل مع الآخرين برحمة وعدل، ويتجنب التصرفات التي تسيء للآخرين أو تنتقص من قيمتهم، لأنه يعلم أن ما عنده من فضل أو مكانة هو ابتلاء من الله ليختبر سلوكه وأخلاقه.
لذلك، ينبغي على المسلمين أن يتمسكوا بهذه القيمة العظيمة ويطبقوها في معاملاتهم اليومية، وأن يسعوا دائماً إلى التخلص من مظاهر الغرور والتكبر، لأن التواضع هو الطريق الأمثل للوصول إلى أعلى مراتب الإيمان التي لا تتأتّى إلا بالتواضع لله ولخلقه.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: القرآن الکریم قال سبحانه الله تعالى ف ی ال أ ال أ ر ض ع ل ى ال
إقرأ أيضاً:
5 مكاسب لإطعام الطعام .. سبب لدخول الجنة والنجاة من النار
كشفت الصفحة الرسمية لمجمع البحوث الإسلامية، عن 5 مكاسب لإطعام الطعام في الإسلام، مشددة على ضرورة أن يحرص المسلم على اغتنام هذه المكاسب من هذا الخلق العظيم.
وذكرت الصفحة الرسمية لمجمع البحوث الإسلامية، في منشور لها على فيس بوك، أن إطعام الطعام من أفضل القربات وأعلاها عند الله – عز وجل- التي ترفع البلاء وتزيل الهم، ومن مكاسب إطعام الطعام ما يلي:
- سبب لدخول الجنة لقوله اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشق تمرة.
- أن تكون من خيرة الناس، لقوله : « خَيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ وَرَدَّ السَّلام.
- من خير الأعمال؛ لقوله عندما سُئل عن (أي الإسلام خير: تطعم الطَّعَامَ، وَتَقْرَأ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفُ).
- له أجر إطعامه ويضاعفه له الله ؛ لقول النبي حَتَّى إِنَّ التَّمْرَةَ أَو اللُّقْمَةَ لَتَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ أَحد".
- النجاة من أهوال يوم القيامة ودخول النار، لقوله اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة".
فضل إطعام الطعامومن أهمية إطعام الطعام في الإسلام: أنه من الوسائل التي يعبر بها المسلم عن شكره لله تعالى عند النعم؛ فكانت "الوليمة" عند العرس، و"العقيقة" عن المولود، و"الوكيرة" عند بناء البيت وغير ذلك.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا»، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» أخرجه أحمد في "المسند"، والطبراني في "مكارم الأخلاق"، والبيهقي في "البعث والنشور"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.
وقد تواردت النصوص من الكتاب والسنة على أن إطعام الطعام من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأرجاها للقبول حتى جعله الله تعالى من أسباب الفوز بدخول الجنة؛ فقال تعالى مادحًا عباده المؤمنين: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان: 8]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الإسلام خير؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» متفق عليه.