تحليل مكونات الصراع في السودان: قراءة من منظور العلوم الاجتماعية
تاريخ النشر: 14th, October 2024 GMT
بروفيسور حسن بشير محمد نور/ القاهرة
من اهداف هذا المقال تحفيز البحث والتحليل في اساس الحرب وجذورها لتشخيص العلة لايجاد العلاج، وهو دعوة للباحثين والاكاديميين الشباب في تخصصات علم الاجتماع وعلمي النفس الاجتماعي والتطويري بالاضافة طبعا للاقتصاد السياسي العلم الذي انتمي إليه من حيث التخصص، الدعوة للقوص في عمق هذه الازمة من مختلف جوانبها ومكوناتها لاستقصاء الأسباب الحقيقية وايجاد الحلول اللازمة للتعافي الوطني المستدام الذي يحقق السلام والأمن الاجتماعي والاستقرار.
يعيش السودان منذ فترة طويلة في حالة صراع عميق، لا يقتصر على المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل يمتد ليشمل تحولات نفسية واجتماعية متداخلة. لفهم طبيعة المكونات الداعمة لهذا الصراع، من الضروري استحضار إطار علم النفس التطويري إلى جانب التحليل الاجتماعي من منظور العلوم الاجتماعية، وهو ما يستدعي منهجية تحليلية تستلهم الأسلوب الذي يتميز بعمق الفهم للتركيبة المجتمعية والاقتصادية والسياسية للسودان، مع إيلاء اهتمام خاص لسيكولوجية الصراع.
من حيث الخلفية التاريخية والاجتماعية للصراع ينبغي اولا النظر إلى الصراع الحالي في السودان كجزء من تراكمات تاريخية واجتماعية متجذرة باعتبار السودان دولة متعددة الأعراق والثقافات، وتعاني من اختلالات هيكلية في توزيع الموارد الاقتصادية والسلطة السياسية منذ حقبة الاستعمار وما تلاها من صراعات على السلطة والثروة والهوية الوطنية.
منذ استقلال السودان في العام 1956، كان هناك تاريخ طويل من الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية المرتبطة بالتنمية غير المتكافئة، والنزاعات العرقية والقبلية، وتهميش مناطق الأطراف لصالح المركز. أدى ذلك إلى حالة من عدم الاستقرار المزمن، وتولدت فئات اجتماعية تعتمد على القوة العسكرية كوسيلة رئيسية للحصول على الموارد والنفوذ السياسي وقد تغذي ذلك من الاتفاقيات السياسية منذ اتفاقية اديس ابابا مع (انانيا تو) في 1973 وحتي اتفاقيات جوبا في 2020 مع ما سمي بحركات (الكفاح المسلح).
بتناول مكونات الوعي لدى الأطراف المتصارعة نجد ان للجيش السوداني وضع تاريخي يعتبره المؤسسة العسكرية التقليدية التي تحمل إرث الدولة السودانية الحديثة. معظمه ينتمي إلى شرائح اجتماعية ترى في الجيش رمزاً للوحدة الوطنية والاستقرار أو هكذا يجب ان يكون. غالباً ما يأتي الأفراد في هذه المؤسسة من خلفيات ريفية أو من مناطق تمثل الهوية السودانية "الرسمية"، مما يعزز لديهم تصور دور الجيش كممثل للوطنية، غض النظر عن ما لحق بالجيش من طمس لهويته وتسيسه وأدلجة في عهد الانقاذ
فيما يتعلق بالوعي النفسي لأفراد الجيش نجد وعيهم يتشكل حول فكرة الدفاع عن الدولة السودانية ككيان موحد في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، وهم يتأثرون بذاكرة الحرب الطويلة ضد التمرد في الجنوب ودارفور، مما يعزز لديهم إحساسًا بأنهم حماة "الأمة السودانية".
من جانب آخر نجد قوات الدعم السريع قد نشأت في سياق مختلف، فهي تمثل إلى حد كبير مصالح مجموعات اجتماعية مهمشة تاريخياً ، خصوصاً في مناطق مثل دارفور، حيث كانت هذه القوات في البداية ميليشيات محلية ذات طبيعة قبلية. أفراد الدعم السريع ينحدرون غالباً من خلفيات تعاني من الفقر والتهميش الاجتماعي والاقتصادي، وتبحث عن تمكين نفسها من خلال القوة العسكرية، ويتشكل الوعي النفسي لأفراد هذه المجموعة بشكل أساسي حول فكرة التمرد على النظام القائم الذي يهمشهم. ويترسخ لدي غالبيتهم المطلقة شعور عميق بالظلم التاريخي والاجتماعي، مما يولد لديهم نزعة انتقامية وإحساس بأن حمل السلاح هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة والمساواة في النفوذ والموارد.
جانب مهم آخر يجب الاهتمام به من قبل الباحثين والمحللين الاجتماعيين يتلخص في تحليل المكونات الداعمة للصراع من حيث:
1. الدوافع الاقتصادية
إذ يعتبر التنافس على الموارد أحد المحركات الأساسية للصراع. الجيش السوداني يسعى للحفاظ على السيطرة على مؤسسات الدولة ومواردها الاقتصادية، بينما تعمل قوات الدعم السريع على إعادة توزيع هذه الموارد لصالح المجموعات التي ترى أنها تهمشت لعقود علي الاقل من الناحية النظرية. يتمحور الصراع هنا حول الاستحواذ على الثروات الطبيعية مثل الذهب والنفط والاصول، وكذلك استغلال المؤسسات الاقتصادية كوسيلة للثراء والتمكين الاجتماعي.
2. العوامل النفسية والتطويرية
من منظور مناهح علم النفس التطويري، يظهر الصراع بين الجيش والدعم السريع كصراع بين هويات متنازعة تتراوح بين الوعي الجمعي المركزي (الذي يمثله الجيش) والوعي المحلي أو القبلي (الذي تمثله قوات الدعم السريع). كلا الطرفين يستفيد من رواسب صراعات الهوية التي تطورت على مر العقود، بحيث ينظر كل طرف إلى الآخر كتهديد وجودي لهويته وسبل بقائه من حيث المبدأ، حتي وإن بدا ان هناك توافق بينهم في مرحلة معينة.
يتشكل الوعي الاجتماعي والنفسي لهؤلاء الفاعلين في إطار من النزاعات الطويلة التي تعزز الإحساس بالاختلاف والتنافر. الدعم السريع، على سبيل المثال، يستند إلى ذاكرة الصراعات القبلية والمجتمعية التي تدفعه نحو التمرد على المركز التقليدي، بينما الجيش يمثل رؤية أكثر مركزية للدولة.
3. الهوية والمصالح السياسية
يرتبط الصراع أيضاً بالتنافس على السلطة السياسية. فالجيش السوداني يرغب في الحفاظ على هيمنة المركز الذي يمثل النخبة الحاكمة على مر العقود، بينما قوات الدعم السريع تسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي بما يتيح تمثيلًا أكبر للمجموعات المهمشة كما يشير خطابهم الرسمي.
من هنا، يظهر البعد النفسي للتنافس على السلطة كمحرك رئيسي للصراع؛ حيث يشعر كلا الطرفين بأنه مهدد بفقدان هويته ومصالحه الأساسية مما يدفعهم للقناعة بان السلطة تشكل ضامن وجودي لا غناء عنه.
أما من حيث تحليل السيكولوجيا الاجتماعية للصراع فيمكن القول إن كل طرف في الصراع يعكس حالة من التطور النفسي والاجتماعي المتفاوت. الجيش يمثل مؤسسات تقليدية متجذرة في الهوية الوطنية التي ترتكز تاريخيا على مركزية السلطة، بينما الدعم السريع يمثل مراحل تطور جديدة تستجيب لمتغيرات اعادة تشكيل الدولة بشكل يحقق العدالة الاجتماعية حسب مفهومهم ويظهر ذلك من خلال نبذهم (لدولة 56) واستدعاء نوعا من الحداثة حول مفهوم (سودان جديد).
هناك أيضاً بعد نفسي متجذر في مفهوم "الأنا الجمعي" لكل طرف. الجيش يسعى في خطابه لتأكيد "الأنا" الوطنية، بينما الدعم السريع يبني "أنا" جديدة تعتمد على التحدي والتغيير. وكلا الطرفين يعاني من مشاعر الخوف وعدم الأمان، مما يدفعهما إلى التصعيد بشكل خطير
في ضوء التحليل النفسي والاجتماعي اذن، يظهر أن الصراع في السودان يتغذى على تراكمات تاريخية من عدم المساواة والظلم الاجتماعي، وتدفعه تطورات نفسية ترتبط بالوعي بالذات وبالآخر. الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يمثلان قوتين متناقضتين في بنية المجتمع السوداني؛ قوة تستند إلى التاريخ والتقاليد، وأخرى تسعى لإعادة صياغة هذا التاريخ علي طريقتها الخاصة.
تبقى هذه الديناميات المعقدة حاضرة في مسرح الصراع السوداني، وستستمر في تشكيل مسارات الصراع ما لم تتم معالجة جذوره النفسية والاجتماعية والاقتصادية ومخاطبة جذور الازمة المركبة بالعمق الذي تستحقه وهذا يتطلب من الباحثين والاكاديميين وحملة راية التنوير العمل عليه قبل غيرهم من المكونات السودانية، خاصة المكونات السياسية التي لا تتميز بالتخصصية والعمق ان لم نقل انها تعاني من السطحية والتبسيط والتنميط في تعاملها مع الازمة الشائكة التي يعاني منها السودان.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الجیش السودانی من حیث
إقرأ أيضاً:
حكومة موازية في نيالا.. ماذا تعرف عن خريطة نفوذ الدعم السريع في دارفور؟
في خطوة تصعيدية تنذر بتحولات كبرى في مسار الحرب السودانية، أعلنت قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، عن تشكيل حكومة موازية تعرف باسم "حكومة السلام "، تضم قوى سياسية وتحالفات مدنية.
الإعلان تم من مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، وهي من أهم معاقل الدعم السريع.
وأعادت الخطوة رسم المشهد السياسي والعسكري في السودان، وأثارت مخاوف من انقسام الدولة فعليا إلى كيانين متوازيين.
أولًا: خريطة السيطرة الميدانية لقوات الدعم السريع
دارفور.. القاعدة المركزية
تظهر آخر الخرائط الميدانية أن قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، تفرض سيطرة شبه كاملة على إقليم دارفور، وتمدد نفوذها في ولايات كردفان.
تعد دارفور القلب النابض لقوات الدعم السريع منذ بدء الحرب في نسيان/ أبريل 2023، ومع تصاعد العمليات العسكرية ضد الجيش السوداني، عززت قوات الدعم السريع سيطرتها على أربع من ولايات الإقليم الخمس: غرب، وسط، جنوب، وشمال دارفور، بينما لا تزال شرق دارفور متنازعًا عليها.
دارفور تحت السيطرة
وبحسب معهد دراسات الحرب الأمريكي (ISW)، تسيطر قوات الدعم السريع على معظم أراضي ولايات دارفور الخمس، لا سيما غرب ووسط وجنوب دارفور، بما في ذلك مدن رئيسية مثل الجنينة، زالنجي، وكبكابية.
في ولاية شمال دارفور، فرضت القوات حصارا خانقا على مدينة الفاشر، حيث لا تزال القوات الحكومية متمركزة، وتظهر صور أقمار صناعية صادرة عن منظمات حقوقية أن الدعم السريع نفذ عمليات تهجير وقتل جماعي خاصة في الجنينة.
تمدد استراتيجي نحو كردفان
في كردفان، بسطت قوات الدعم السريع نفوذها على مدينة الفولة في غرب كردفان، كما سجلت تقارير ميدانية توغلها في جنوب كردفان بالتنسيق مع قوات الحركة الشعبية شمال، مما يشير إلى محاولة السيطرة على الممرات المؤدية للنيل الأبيض وولايات الوسط ومع أن الجيش استعاد بعض النقاط الحيوية في شمال كردفان، فإن الدعم السريع يحتفظ بممرات دعم لوجستي مهمة عبر الصحراء.
هجمات بالطائرات المسيّرة في الشمال
أفادت مصادر أمنية أن الدعم السريع شن عدة هجمات بطائرات بدون طيار استهدفت منشآت في ولايتي نهر النيل والشمالية، من بينها منشآت قريبة من سد مروي ومطار دنقلا. ورغم أن هذه المناطق لا تشهد وجودًا ميدانيًا دائمًا للدعم السريع، فإن هذه الضربات تمثل رسائل استراتيجية لتهديد عمق سيطرة الجيش السوداني.
شبكة تفتيش ونقاط نفوذ غير رسمية
على الأرض، أنشأت قوات الدعم السريع شبكة من نقاط التفتيش في دارفور وكردفان، تستخدمها لفرض رسوم على المارة والتحكم في حركة المساعدات والإمدادات، ما يضفي طابع "الدولة داخل الدولة".
وقد وثقت منظمات إنسانية أكثر من 70 نقطة تفتيش نشطة تديرها قوات الدعم السريع خارج سلطة الدولة المركزية.
ثانيًا: مناطق النفوذ المحتمل للحكومة الموازية
نيالا.. العاصمة المؤقتة
إعلان الحكومة الموازية انطلق من نيالا، لتكون بمثابة مركز إداري وسياسي جديد للتحالف المدني-العسكري بقيادة الدعم السريع. المدينة توفر قاعدة آمنة نسبيًا للحكومة الناشئة نظرًا لسيطرة شبه تامة للدعم السريع عليها.
دارفور الكبرى كمجال نفوذ أولي
مع سيطرة قوات الدعم السريع الكاملة على معظم دارفور، من المتوقع أن تكون هذه الولايات الأربع هي نواة "الدولة الثانية" التي تسعى الحكومة الموازية إلى شرعنتها، من خلال تعيين حكام إداريين وإطلاق خدمات مدنية محدودة.
تحالفات سياسية داعمة
تشمل الحكومة الجديدة تحالفًا باسم "تحالف القوى الوطنية والمدنية"، من ضمنها قيادات منشقة عن قوى الحرية والتغيير، وبعض وجوه العملية السياسية السابقة مثل محمد حسن التعايشي. هذه التوليفة تسعى لتوفير غطاء مدني للحكومة بديلة.
تطلعات لضم مناطق جديدة
الحكومة أعلنت عن تعيين حكام في ولايات لا تخضع لسيطرة الدعم السريع مثل سنار والجزيرة، في محاولة لتوسيع نفوذها الرمزي نحو وسط السودان، رغم محدودية التواجد العسكري فيها.
رئيس المجلس الإستشاري لقائد قوات الدعم السريع د. حذيفة أبو نوبة: مستعدون لحكومة السلامع المزمع تشكيلها خلال ساعات .#تحالف_تاسيس #اعلان_المجلس_الرئاسي pic.twitter.com/QYWkkwIkGj — مركز رؤى الإعلامي (رؤى نيوزRMC) (@rmcsudan1) July 26, 2025
ثالثا: التأثير الداخلي والخارجي للحكومة الموازية
داخليًا: إدارة ميدانية في مناطق السيطرة
في دارفور وغرب كردفان، تسعى قوات الدعم السريع إلى تنظيم إدارة محلية تشمل توزيع المساعدات، الإشراف على الأسواق، والتحكم في الأمن الداخلي عبر ميليشيات موالية، في بعض المناطق، بدأ تعيين لجان مدنية تحت إشراف مباشر من قادة ميدانيين في الدعم السريع.
أزمة إنسانية متفاقمة:
تسببت العمليات العسكرية وتوسع الدعم السريع في موجات نزوح هائلة، خصوصًا من نيالا والجنينة، حيث تم تسجيل أكثر من 2.5 مليون نازح داخليًا من دارفور وحدها منذ بداية الحرب، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة.
انقسام فعلي للدولة:
إعلان الحكومة الموازية يعمق الانقسام السياسي، ويجعل من احتمال تقسيم السودان واقعا فعليا وليس فقط سياسيا، مع وجود حكومتين تدّعي كل منهما الشرعية والتمثيل الوطني.
جمهورية السودان
وزارة الخارجية
مكتب الناطق الرسمي وإدارة الإعلام
بيان صحفي
تشجب وزارة الخارجية وتدين بأشد العبارات ما ذهبت إليه مليشيا الدعم السريع الإرهابية بإعلان حكومة وهمية تزعم فيها توزيع مناصب حكومية لإدارة السودان في تغافل تام واستهتار بمعاناة الشعب السوداني الذي أذاقته… — وزارة خارجية جمهورية السودان ???????? (@MofaSudan) July 27, 2025
خارجيًا:
ردود فعل دولية متحفظة
الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية أعربوا عن قلقهم إزاء إعلان الحكومة الموازية، مؤكدين أن الحل السياسي الشامل هو المسار الوحيد المقبول. الولايات المتحدة وصفت الخطوة بأنها تهديد لوحدة السودان.
استقطاب إقليمي محتمل
الخطوة قد تؤدي إلى تموضع إقليمي جديد فهناك اتهامات مسبقة بتلقي الدعم السريع مساعدات عسكرية من دول مثل الإمارات، بينما يعتمد الجيش على دعم سياسي وعسكري من مصر ودول شرق أفريقيا.
تهديد للعملية السلمية
الحكومة الموازية نسفت فعليًا أي جهود لتوحيد المسار التفاوضي، خصوصًا تلك التي كانت تجري عبر وساطات سعودية وإفريقية. قد تؤدي الخطوة إلى تصاعد القتال، خاصة في مناطق التماس مثل شمال كردفان ودارفور الشرقي.
أعلنت مليشــ.ـيات الدعم السريع عن تكوين حكومة موازية لحكم المناطق الواقعة تحت سيطرتهم، في خطوة تعد قفزة في طريق تقسيم السودان.
فاللهم احفظ السودان وأهله من شروروهم.#السودان_المنسي pic.twitter.com/2Kkydkg6jx — الھیئة العالمیة لأنصار النبي ﷺ (@SupportProphetM) July 27, 2025