تونس تدخل في مرحلة طويلة من الصمت المبرمج ومن بكائيات لزجة؛ يرمي فيها كل طرف أسباب الفشل على غيره وينقذ نفسه ويقف عند ذلك. فالخطوة الموالية صارت مكلفة جدا، لقد استهان التونسيون بحريتهم وفرطوا في احتمال التقدم بالديمقراطية. هذه الآن مرحلة تدبير البقاء بقانون الصمت.
مر الرئيس وأجهزته إلى السرعة القصوى في مكافحة الفساد، وتغيب المعلومات الدقيقة من الملفات عن جدية الخطوات المعلنة وأسانيدها الواقعية.
قانون الصمت
حذرت الهيئة الانتخابية منذ صدور نتائجها من كل محاولة تشكيك في نزاهة الانتخابات، فلم يتكلم أحد حتى من المرشحين الخاسرين في منافسة الرئيس. لا علم لنا بصدور نص قانوني أو ترتيبي يجرم مناقشة النتائج، لكن إنذار الهيئة كان كافيا ليتحول الحديث في السوشيال ميديا إلى أسعار البيض والدجاج. وجد البعض فجأة مهربا في الحديث عن فلسطين، وحوَّل مشاعره المكبوتة تجاه عدو مكشوف، لكن الشأن الوطني صار موضوعا حراما إلا أن يكون الحديث في دوري كرم القدم أو أحوال الطقس.
كانت ساحة مقفرة من الفعل والإنجاز ومليئة بالرغاء والرغوة، انكشف الوهم وماتت السياسة القديمة التي ورثت عما قبل 2011 واستمرت بلا مراجعات جذرية بناءة، وهي الآن تدخل مرحلة تنظيف الطاولة لبدء حياة سياسية جديدة بلا سياسة
لكن قانون الصمت الأكثر تأثيرا لا يتعلق بمناقشة الوضع الراهن، بل يكشف/ يغطي الخوف من المراجعة والسعي إلى الإجابة عن السؤال المزعج من المتسبب في انهيار التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس والعودة إلى حكم الفرد.
هذا السؤال يفتح على سلسلة الأسباب التي أدت إلى انتخابات 2024 بشكلها الذي جرت به وبنتيجتها التي انتهت إليها. عرض سلسلة الأسباب يكشف قائمة المخطئين في حق الديمقراطية، وهذا باب مغلق من قبل المشاركين في جريمة إعدام الحرية في تونس. لذلك نرى أن الخضوع السريع بلا جدال لتنبيهات الهيئة الانتخابية ليس خوفا منها بقدر ما هو خشية من أن يبدأ الجمهور في مسائلة المتسببين قبل الوصول إلى هذه النتيجة/المرحلة. لقد وفرت لهم الهيئة ذريعة للصمت فرحبوا.
كان من المتوقع أن تعقب نتيجة الانتخابات أيام صمت لاستيعاب الصدمة، رغم أنها كانت مكشوفة لكل مبصر، وكان من المنتظر أن يتكلم أحدهم لانتشال الجمهور من حيرته لكن هذا المتكلم صمت في اللحظة التي كان عليه فيها الكلام، كان سيتحول زعيما للمرحلة القادمة ولو من وراء القضبان، ونفسر صمته بغير الجبن بل بيقينه من أن لن يكون له أنصار من أهل السياسة الذين أودوا بالتجربة، وهم كثر وبدرجات مختلفة لم يحددها أحد. وهؤلاء على اختلافهم متفقون الآن على أنه لن يقوم حلف منهم/ بينهم ضد نتيجة الانتخابات، إنهم يدينون أنفسهم بالصمت إذا يتخاذلون.
سنبحث عن الخير في الشر
ما عهدنا في حكم الفرد خيرا فقد جربناه، لكن مجريات كثيرة تشير إلى نتائج مفيدة للمرحلة، وأول هذه النتائج تصفية جذرية لكل القوى التي خانت معركة الحريات. عجز الشعب التونسي والأحزاب عن مواجهة تغول النقابة لكن الحاكم الفرد ألزمها الصمت، وهي تتخفى منه الآن ويبلغها التهديد بالمزيد؛ لم تعد تفرض الوزراء في الحكومات ولم تعد تغلق الطرقات ولم تعد تصدر حتى بياناتها التقليدية بنصرة فلسطين وهي البيانات التي لم تكن تكلفها إلا الورقة بخط اليد. ليس في النقابة من يقر بالدور التخريبي الذي مارسته وأرّخت له بمذكرات قياداتها المتبجحة، وبعد خمس سنوات أخرى ستكون النقابة ذكرى.
موت النقابة يعني موت التيارات السياسية التي كانت تتخفى داخلها وتأخذ قسطا من الحكم بلا قاعدة جماهيرية، وأجد في هذا خيرا لتونس ولو بعد عشر سنوات. لن يحتاج أحد أي جملة في النقد الذاتي من النقابة، أما الحزيبات المتخفية في النقابة فمصيرها الفناء.
قانون موت النقابة سيجري على الأحزاب التي حكمت وخضعت للنقابة عندما كانت مواجهتها بقوة ضرورة لحماية الحريات وحماية تجربة بناء الديمقراطية. مهادنة النقابة انتهت بمن هادنها أو ارتعب أمامها إلى الموت مثلها أو قبلها، وستعاد صياغة قانون الأحزاب والجمعيات في أجل متوقع لن يتجاوز 2025، بحيث ينهي الحاكم الفرد كل الأجسام الوسيطة طبقا لنظريته في الحكم كما وضعها في دستوره الخاص. لن يجد معترضا على برنامجه السياسي، خاصة وهو شخص لا يفاوض بل يفرض.
الانفلات الجمعياتي الذي ظهر بعد 2011 سيتم لجمه ثم تفكيكه، ولن يعيش التونسيون جدالا في حق المتعريات في تعرية أجسادهن في الشوارع. كثير من هذه الجمعيات كانت أدوات خارجية تتموّل من الخارج وتستهين بثقافة الناس، وكانت نتيجة انفلاتها تدمير هوامش الحرية. وقد انتبهنا في الإبان إلى أن ناشطي مثل هذه الجمعيات قد قفزوا إلى باريس وحصلوا على حق اللجوء بعد 25 تموز/ يوليو، لقد انتهت مهمتهم، وقد دمروا الحريات إذا أفحشوا في استعمالها؛ سيتهمون الشعب بالجهل من قلب عاصمة الأنوار/ مكّتهم المقدسة.
ستكون مرحلة 2024-2029 مرحلة تصفية نخبة تونس المستنفدة، شخصيات وأفكارا وأساليب عمل. ماذا سيخرج من هذه المرحلة التي قد تمتد إلى 29-34؟ لا يمكننا التوقع بسهولة، فالنخبة المحتضرة لم تفشل في الحكم والمعارضة فحسب، بل فشلت في إعداد بديلها المستقبلي وسينبت هذا البديل من خارجها
أولئك الكسالى ينتظرون الجوع ليحرك لهم شوارع جائعة ومحبطة، فيقفزون إلى ثورتها كما في 2011 ويعلنون قيادة الجماهير سيفقدون أملهم بالتدريج؛ لن تكون هناك جماهير جائعة في الشوارع لتقدم أرواحها لنخبة المقاهي، لقد فهم الجمهور وأغلق عليه باب بيته، وتنتظره أيام صعبة لتدبير معاشه.
من سيبقى في الساحة؟ لقد كانت ساحة مقفرة من الفعل والإنجاز ومليئة بالرغاء والرغوة، انكشف الوهم وماتت السياسة القديمة التي ورثت عما قبل 2011 واستمرت بلا مراجعات جذرية بناءة، وهي الآن تدخل مرحلة تنظيف الطاولة لبدء حياة سياسية جديدة بلا سياسة.
انتهت نخبة تونس الكلاسيكية وانتهت أساليبها، وفقد خطابها معناه، وماتت قبل الأجل شخصيات طالما شحنت الأذهان بالحديث وقلة الفعل. لم تؤمن هذه الشخصيات بالحرية فعلا، لذلك فرطت فيها بسهولة، وهذه مرحلة دفع أثمان العبث بالحرية.
هل في هذا خير، أنا أرى فيه خيرا كثيرا، إنه الحريق الذي سيقضي على الأشجار الهرِمة لتنبت بذور من رمادها في زمن قد لا ندركه إلا بالتمني. لم يغلق قيس سعيد قوس الربيع العربي في تونس، لقد أغلقته قبله النخب الكافرة بالحرية وسلمته المفاتيح وسيحكم مطمئنا.
ستكون مرحلة 2024-2029 مرحلة تصفية نخبة تونس المستنفدة، شخصيات وأفكارا وأساليب عمل. ماذا سيخرج من هذه المرحلة التي قد تمتد إلى 29-34؟ لا يمكننا التوقع بسهولة، فالنخبة المحتضرة لم تفشل في الحكم والمعارضة فحسب، بل فشلت في إعداد بديلها المستقبلي وسينبت هذا البديل من خارجها، وهذا يقين.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تونس الحريات الأحزاب قيس سعيد المستقبلي تونس حريات أحزاب مستقبل قيس سعيد سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة رياضة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من هذه
إقرأ أيضاً:
حديث شغور منصب الرئيس في تونس…
المـؤكّد حاليا في تونس شيء واحد فقط: الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر، ومن غير المقبول أصلا أن يستمر.
مؤشرات عديدة بدأت في البروز تدريجيا متجاوزة الجدل العادي حول أداء الرئيس قيس سعيّد لتصل هذه المرة للحديث عن ضرورة رحيله لتجاوز حالة الانسداد القاتل وهو حديث لم يعد متداولا بين معارضيه فقط، خاصة في الخارج، بل اتسعت دائرته إلى أبعد من ذلك.
هذا الانتقال النوعي من انتقاد سعيّد إلى المطالبة برحيله أملته مجموعة عوامل على رأسها الوصول إلى اليأس الكامل والنهائي من إمكانية تراجع الرجل عن نهجه المنفرد في الحكم منذ انقلابه عن الدستور في يوليو 2021، إلى جانب وضعه الصحي، وأخيرا الخوف من انفلات الأمور والذهاب إلى حالة خطيرة من الفوضى أو عدم الاستقرار.
لكل ما سبق ازداد الحديث عن «شغور منصب رئيس الجمهورية» بعد أن ظل طوال أشهر من المحاذير التي يفضل الجميع تجنّب الخوض فيها علنا. لم يعد غريبا، على سبيل المثال لا الحصر، أن تجد أستاذا جامعيا في القانون الدستوري هو أمين محفوظ، الذي كان من مؤيدي سعيّد في انقلابه قبل أن يغيّر موقفه، يقول في مقابلة صحافية إنه في حال حدوث مثل هذا الشغور على رئيسة الحكومة تولي رئاسة الدولة مؤقتا إلى حين تنظيم انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، في حين لا يتردّد الصحافي زياد الهاني في نشر تدوينة يقول فيها إن على الجيش الوطني أن يتولى ذلك بهدف «منع حصول الفراغ في أعلى هرم الدولة، ومن ثمّ رعاية مؤتمر حوار وطني جامع»، رغم الحذر الشديد من خيار الزج بالمؤسسة العسكرية في تسيير شؤون البلاد ولو مؤقتا.
مردّ هذا الاختلاف أن دستور قيس سعيّد الذي كتبه بنفسه عام 2022، وفرضه على البلاد باستفتاء هزيل، ينص على أنه في حال حصول شغور في منصب الرئاسة يتولى رئيس المحكمة الدستورية مقاليد الأمور حتى إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، لكن ما حصل هو أن سعيّد تعمّد عدم تشكيل هذه المحكمة إلى الآن، رغم مرور أكثر من ثلاثة أعوام على تصريح وعد فيه بأنه سيفعل ذلك «في أسرع وقت ممكن»!!
الحديث عن شغور منصب الرئاسة وضرورة معالجة هذه الثغرة الدستورية الخطيرة، التي تركها سعيّد متعمّدا وكأنه سيبقى رئيسا إلى الأبد، لا يعود فقط إلى ازدياد عدد المطالبين برحيل الرئيس، وإنما أيضا إلى معاينة وضعه الصحي الخطير، ليس النفسي فقط بل والجسدي كذلك، وسط تكتم رسمي عن حقيقة كل ذلك وما يشاع بين فترة وأخرى عن دخوله إلى المستشفى. المطالبة برحيله ظهرت كذلك في الشعارات التي رفعت في أكثر من مظاهرة أخيرة، بعد أن نفض الجميع اليد من إمكانية تعديل سياساته حين اتضح أنه غير مستعد أبدا لأي تراجع، أو حتى مراجعة، لاقتناعه المطلق أنه الوحيد على حق وكل من سواه خونة وعملاء.
في كل تاريخ تونس الحديث شكّل الإعلان عن إضراب عام مؤشرا بالغ الدلالة على تحوّل كبير في سير الأحداث
ما يعزز الزخم المتنامي رويدا رويدا في اتجاه رحيل قيس سعيّد نزول المركزية النقابية بثقلها معلنة عن الإضراب العام في البلاد في 21 يناير/كانون الثاني المقبل في جميع القطاعات بعد أن سجّلت في بيانها الأخير الصادر عن اجتماع هيئتها الإدارية «استمرار الاحتقان السياسي والاجتماعي وتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد وإرساء منظومة استبداد منغلقة (…) وتواصل غلق أبواب الحوار ورفض التفاوض والتفرّد بالقرار والهروب إلى الأمام (..) وتنامي تدهور القدرة الشرائية للشغّالين وعموم الشعب بسبب التهاب الأسعار وغلاء المعيشة وتردّي خدمات المرافق العامة وتواصل الاحتكار وتقصّير الدولة من دورها الاجتماعي».
في كل تاريخ تونس الحديث شكّل الإعلان عن إضراب عام مؤشرا بالغ الدلالة على تحوّل كبير في سير الأحداث، سواء نُفّذ في كامل البلاد مثل 26 يناير /كانون الثاني 1978 زمن حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، أو في بعض المحافظات الكبرى فقط مثل 14 يناير /كانون الثاني 2011 يوم مغادرة الرئيس زين العابدين بن علي وانتصار الثورة. هذه المرة، يأتي هذا الإضراب العام الجديد والرئيس سعيّد فاقد لكل سند سياسي، أو شعبي واضح ومقنع، مستقويا بأجهزة الدولة لا غير. إنه يعاني عزلة سياسية واضحة، بما في ذلك بين أنصاره الأوائل ومنهم نواب برلمان تحدث بعضهم في جلسات علنية عن «الزمن السياسي» لسلطته الحاكمة، وبعضهم الآخر عن «رئيس منفصل عن الواقع»، فضلا عن تناول محيطه العائلي باعتبارهم «طرابلسية جدد» في إشارة إلى فساد أصهار الرئيس بن علي.
هذه العزلة فاقمتها عزلة دولية وبيانات تنديد خارجية، رسمية ومن منظمات حقوقية كبرى، للمحاكمات السياسية وخضوع القضاء ووضع الحريات وحقوق الإنسان. المخيف أن سعيّد لا يواجه كل ذلك إلا بمزيد من العناد والتقوقع بعد أن تلبّسته حالة غير سويّة، سبق أن عبّر عنها بعظمة لسانه حين قال إنه يشعر أنه «قادم من كوكب آخر» وإنه سيكون «أحد صانعي التغيير في العالم كله»، بل وإنه يشعر كأنه «النبي صالح في قوم ثمود»!!.
القدس العربي