في ظل تغيرات إقليمية ودولية.. هل يأتي مؤتمر أستانا 22 بجديد لسوريا؟
تاريخ النشر: 12th, November 2024 GMT
قد يبدو إعلان وزارة الخارجية الكازاخية تحديد يومي 11 و12 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري موعدا لانعقاد الجولة 22 من مؤتمر أستانا بشأن سوريا عاديًّا، ويأتي استكمالًا للجولات السابقة التي بدأت منذ عام 2017 بين وفدي المعارضة والحكومة السورية، إلا أن احتدام الوضع الإقليمي بعد التصعيد الإسرائيلي على جبهتي غزة ولبنان، والتحذيرات المستمرة من حرب إقليمية، وتحول سوريا إلى ساحة لمحاربة النفوذ الإيراني وقطع خطوط الإمداد عن حزب الله، فضلا عن المتغيرات المتوقعة على الساحة الدولية بعد فوز ترامب بالانتخابات الأميركية؛ كل ذلك قد يجعل من هذه الجولة مختلفة عما سبقها من حيث التوقعات والنتائج.
وكانت الخارجية الكازاخية أوضحت يوم الجمعة الماضي 8 نوفمبر/تشرين الثاني أن جدول أعمال المؤتمر سيضم اجتماعات تشاورية ثنائية وثلاثية بين الوفود، يليه عقد جلسة عامة ومؤتمر صحفي عقب انتهاء اليوم الثاني، وسيتطرق إلى مناقشة تطورات الملف السوري والجهود الرامية إلى التوصل لحل سياسي شامل في سوريا، وتدابير الثقة وملف المفقودين، إضافة إلى الوضع الإنساني وملف إعادة الإعمار وعودة اللاجئين السوريين.
وبعيدًا عن جدول الأعمال الذي يتشابه كثيرا مع جداول أعمال الجولات السابقة، يبرز السؤال التالي: هل ستدفع المتغيرات الإقليمية والدولية التي ذكرناها إلى تحقيق تقدّم واضح في هذا المسار؟
تبدو كل من الأطراف الضامنة لمسار أستانا (تركيا وروسيا وإيران) بحاجة إلى تنسيق الجهود في ما بينها، على وقع التهديد بحرب إقليمية بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل وما تبعه من رد إسرائيلي، إضافة إلى عدم وجود أفق لحل أو تسوية لإنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أو الجنوب اللبناني.
المحافظة على الوضع الميداني القائم دفعت الدول الضامنة إلى عقد اجتماع لها ضمن إطار مسار أستانا حول سوريا في مدينة نيويورك الأميركية، وذلك على هامش أعمال الدورة 79 لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث ناقشت الدول الثلاث -إضافة إلى العراق- الوضع الأمني والسياسي والإنساني في سوريا، وذلك بحسب ما أفادت به وكالة الأناضول.
ولدى الحديث عن توقيت عقد هذه الجولة، يبدو واضحًا أن استئناف المؤتمر يأتي في ظل عوامل جيوسياسية مهمة، منها الهجمات الإسرائيلية المتكررة على مواقع تابعة لإيران وحزب الله في سوريا ولبنان، والتي تضيف ضغطًا متزايدًا على طهران ونظام الأسد، قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع وتغيير حدود السيطرة العسكرية، وهو ما يجعل التنسيق بين تركيا وروسيا وإيران أكثر ضرورة، وذلك بحسب سمير العبد الله مدير قسم تحليل السياسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
يضاف إلى ذلك -بحسب الباحث- التوترات في إدلب التي تزيد من حاجة الدول الضامنة لضمان استقرار الهدنة، مع الحفاظ على التفاهمات السابقة، إذ إن انهيار الهدنة في هذه المحافظة السورية قد يؤدي إلى موجة نزوح جديدة وتصعيد عسكري كبير.
وشهدت الأيام الأخيرة كثيرا من الأخبار والتحركات العسكرية على حدود التماس بين قوات الجيش السوري والمعارضة في شمال غربي سوريا، بعد الحديث عن نية المعارضة استغلال التوتر الإقليمي للقيام بعملية عسكرية تجاه مدينة حلب أو المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والتي سيطر عليها بعد اتفاق سوتشي -بين روسيا وتركيا- عام 2020، مثل مناطق مورك وخان شيخون.
وكانت صحيفة الوطن الموالية للحكومة السورية ذكرت -أمس الاثنين- أن تركيا أجرت ترتيبات مع المعارضة السورية للحفاظ على الاستقرار في شمال غربي سوريا قبيل انعقاد محادثات أستانا 22، وأضافت أن الاستخبارات التركية أجرت خلال اليومين الماضيين مفاوضات مع "هيئة تحرير الشام" لأخذ تعهد منها بإلغاء عمليتها العسكرية ضد قوات النظام في حلب.
حديث صحيفة الوطن فهمه متابعون للوضع السوري على أنه يعكس رغبة الحكومة وحلفائها بإبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع الأطراف المعنية من خلال لقاءات أستانا، والمحافظة على الوضع الراهن بما يضمن عدم الانجرار إلى أي خيار آخر قد يؤدي إلى تفجّر الأوضاع على خطوط التماس بين النظام والمعارضة.
شكلت العملية السياسية وما تمخّض عنها، من "لجنة دستورية" تضمّ المعارضة والنظام ومنظمات المجتمع المدني، أساسا يسعى مسار أستانا لتفعيله منذ انطلاقته عام 2017، لكن اللجنة لم تستطع تحقيق أي تقدم في هذا المجال، مما أدخل القضية السورية حالة من الجمود والاستعصاء، إلا أن ما تشهده الساحة الإقليمية من تصعيد، وانعكاس ذلك على الأسد وحلفائه، جعل المعارضة السورية تتفاءل بتحقيق بعض التقدم في هذا الملف.
هذا التفاؤل عبَّر عنه أحمد طعمة رئيس وفد المعارضة المشارك في مؤتمر أستانا -في تصريح للجزيرة نت- قائلا إن حالة الضعف التي يعاني منها النظام وحلفاؤه -وبالأخص إيران و"حزب الله"- نتيجة التصعيد الإسرائيلي، قد تدفع النظام السوري إلى الانخراط في العملية السياسية بجدية، وإلى إظهار بعض الليونة في ملف "اللجنة الدستورية" مثلا.
ولكن طعمة يرى بالمقابل أيضا أن حلفاء النظام رغم الأزمات التي يمرون بها من قبيل التصعيد الإسرائيلي ضد إيران وحزب الله، وانشغال روسيا بالملف الأوكراني؛ قد لا يرغبون الآن في الانخراط بالعملية السياسية، لكي لا يظهروا أنهم في موقف ضعف، وبهذه الحالة ستبقى إيران على وجه الخصوص عاملا مهما لا يمكن تجاوزه في أي تسوية سياسية قادمة.
من ناحيته، لا يرى الباحث سمير العبد الله أن النظام وحلفاءه في حالة ضعف، فهو في هذه المرحلة يشعر بأنه قوي، خاصة أنه وُعد بمكافأة في نهاية الحرب لالتزامه حالة الحياد بعد عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على الجنوب اللبناني.
ويُدلل العبد الله على كلامه بنقطتين: الأولى أن النظام السوري لم يقدم أي تنازلات في مسار "جنيف" عندما كان فعلا في حالة ضعف بين 2012 و2015 تاريخ التدخل الروسي. والثانية، أنه رفض كل المبادرات التركية للتطبيع معه على الرغم من الدفع الروسي بهذا الاتجاه، لذا فقد تم تفعيل مسار أستانا كونه الذي يرتب الأوضاع على الأرض أكثر من اللجنة الدستورية التي يكون التفاوض فيها على دستور لمستقبل سوريا.
يذكر أن "اللجنة الدستورية" التي انطلقت عام 2019 ومقرها جنيف لم تحرز أي تقدم يذكر على الرغم من انعقادها 8 مرات، بينما لم تعقد الجولة التاسعة في جنيف حتى الآن لأن روسيا لم تعد تعتبر سويسرا "مكانًا محايدًا"، ولأن الحكومة السورية لم تقبل عقد تلك الجولة في جنيف نتيجة لذلك.
إلى جانب ما ذكر من العوامل المرتبطة بالتصعيد الإقليمي وتأثيره على محادثات "أستانا 22″، يأتي فوز الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في مقدمة العوامل المؤثرة في هذه الجولة من المفاوضات، إذ يرى مراقبون أن تفعيل مسار أستانا حاليا يعتبر جزءًا من جهود إعادة ترتيب الأوراق في سوريا بين الدول الضامنة، استعدادا لأي تغييرات قد تحدث على مستوى الإقليم مع قدوم الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة ترامب.
أبرز هذه التغييرات قد يكون انسحاب القوات الأميركية من مناطق شمال شرقي سوريا الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ولا سيما أن الرئيس المنتخب سبق أن اتخذ قرارًا بهذا الشأن في ولايته الأولى، مما يثير سؤالًا عمن سيملأ هذا الفراغ؛ هل ستكون تركيا عن طريق عملية عسكرية، أم هي الحكومة السورية بعد أن تقدم لها "قسد" كثيرا من التنازلات وأوراق الاعتماد، أم سيكون هناك سيناريو ثالث يتمثل بسيطرة تركيا على المناطق الحدودية، بينما تسيطر الحكومة السورية على بقية المناطق؟
وكانت هذه المسألة حاضرة على طاولة "أستانا 22″، إذ أوضح رئيس وفد المعارضة أحمد طعمة، تعليقًا على هذا الموضوع، أن ترامب كان يعلن دائما أنه سينسحب من شرق سوريا، وتساءل: هل سينفذ هذا الانسحاب؟ وهل سيتم بشكل منظم وضمن تفاهمات دولية، أم إن طبيعة المستجدات في المنطقة ستجعل الأميركيين يؤخرونه؟
من ناحيته، يرى الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان أن وصول ترامب للرئاسة سيعطي فرصة مناسبة لكل من تركيا وروسيا للضغط على إيران في الملف السوري، مستغلين تخوف طهران من عودة الرئيس الأميركي من جهة، وتصاعد الضغط والتهديد الإسرائيلي عليها من جهة أخرى.
وفي سياق الضغط الروسي على إيران في سوريا، يُرجّح علوان -في حديثه للجزيرة نت- أن يعود التنسيق الروسي الإسرائيلي بشكل أفضل مما كان عليه قبل "طوفان الأقصى".
وعن التغييرات المحتملة في السياسة الأميركية تجاه سوريا في عهد ترامب، قال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتيف إن ترامب يبدو عازما على تعديل السياسات الخارجية الأميركية وعكس موقفها بشأن الصراعات.
وتعليقًا على إمكانية الانسحاب من سوريا، قال لافرينتيف قبيل انعقاد جولة أستانا "سنرى، ولكن يبدو أن ترامب مستعد لتغيير موقفه وتعديل مسار السياسة الخارجية للإدارة الأميركية، وستظهر الأفعال والمقترحات المحددة التي سيصوغها".
لذلك لا يتوقع علوان أن تخرج الجولة 22 الجديدة من مسار أستانا بتقدم غير روتيني قياسًا على الجولات السابقة، إذ من الواضح أن هناك تحفظا من تركيا وروسيا من إيجاد أي شيء جديد من التفاهمات إلى أن تتوضح معالم السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الحکومة السوریة الدول الضامنة ترکیا وروسیا مسار أستانا قد یؤدی إلى فی سوریا
إقرأ أيضاً:
تقاسم مناطق النفوذ.. كيف يغير ترامب النظام الدولي؟
تُثير السياسات الداخلية والخارجية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، جدالات واسعة في العالم، فقد اتخذ سلسلة من المراسيم الرئاسية والأوامر التنفيذية التي مثلت تحدياً لعديد من الأفكار والممارسات الأمريكية التقليدية. ومع أن سياسة ترامب الخارجية لم تستقر معالمها بعد، فقد اقترح عدد من المعلقين أن الرئيس الأمريكي الحالي يُعيد إحياء سياسة تقسيم مناطق النفوذ في العالم بين الدول الكبرى، فيما يشبه ما حدث في مؤتمر “يالطا”، وهو المؤتمر الذي انعقد بمدينة يالطا السوفيتية في فبراير 1945، وحضره آنذاك الرئيس الأمريكي، ثيودور روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني، وينستون تشرشل، والزعيم السوفيتي، جوزيف ستالين، كإحدى حلقات الاتفاق على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تم فيه التوافق بين الدول الثلاث على تقسيم مناطق النفوذ في أوروبا بين الغرب والاتحاد السوفيتي، وذلك على شاكلة توزيع مناطق النفوذ بين القوى الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
صفقة كبرى مع روسيا!
تنبأ أولئك المعلقون بأن هناك في الأفق “صفقة كبرى بين أمريكا ترامب وروسيا بوتين”، ووصفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية المكالمة الهاتفية بين الرئيسين في 18 مارس 2025، بأنها “لحظة يالطا الخاصة بهما”. وفي هذا الإطار، تخوف الأوروبيون من أن تكون المكالمة هي بداية لرسم خريطة جديدة للنفوذ في أوروبا، وتقسيم مجالات أو مناطق النفوذ بين واشنطن وموسكو. ويستندون في ذلك إلى القبول الضمني لإدارة ترامب بفكرة أن لكل قوة كبرى منطقة نفوذ خاصة بها.
وتتمثل مظاهر هذه الفكرة في أوروبا، في التقارب الأمريكي مع روسيا وعدم اعتبارها عدواً أو المصدر الرئيسي لتهديد القارة العجوز، والذي ظهر في اتصال الرئيسين ترامب وبوتين هاتفياً ثلاث مرات في 12 فبراير و18 مارس و19 مايو 2025، استعادا فيها العلاقة التي نشأت بينهما خلال سنوات الولاية الرئاسية الأولى لترامب. واستمرت المكالمة الأولى لتسعين دقيقة، وحسب بيان البيت الأبيض عن المكالمة، فإنها تناولت سُبل إنهاء الحرب الأوكرانية وموضوعات أخرى مثل الطاقة والذكاء الاصطناعي. أما المكالمة الثانية، فقد استمرت لما يزيد على ساعتين، وهي أطول مكالمة هاتفية بين ترامب وبوتين، وتناولت تحسين العلاقات الثنائية، وتنسيق المواقف بينهما بشأن امتلاك إيران للسلاح النووي، وتعليق الضربات الروسية على البنية التحتية الأوكرانية تمهيداً لبدء عملية تفاوضية لوقف إطلاق النار.
ووصف ترامب المكالمة الثالثة مع بوتين، التي استمرت نحو ساعتين، بأنها “ممتازة”، مؤكداً بعدها أن روسيا وأوكرانيا ستباشران فوراً مفاوضات للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. كما وصف بوتين هذا الاتصال بأنه “مفيد جداً”، مبدياً استعداد موسكو للعمل مع كييف على “مذكرة تفاهم” بشأن “اتفاقية سلام مُحتملة”، ومشدداً على الحاجة إلى إيجاد تسويات لدى طرفي النزاع.
وبعيداً عما تم الإعلان عنه، هناك ما يُشير إلى وجود مساحة تقارب بين الرئيسين الأمريكي والروسي للعمل المشترك، عبّر عنها الرئيس بوتين في تصريح له يوم 14 مارس الماضي، عندما وصف ترامب بأنه “ذكي وعملي” ويمتلك الخبرة والقدرة على إيجاد حلول. وتجلى هذا التقارب أيضاً في خطاب نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، في مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير الماضي، الذي أشار فيه إلى أن مصدر التهديد لأوروبا ليس روسيا أو الصين أو أي مصدر خارجي آخر، وتابع: “الذي يقلقني أكثر من أي شيء آخر.. التهديد من الداخل الذي يتمثل في تراجع أوروبا عن بعض قيمها الأساسية”.
وأثارت هذه الكلمات حفيظة الحكومات الأوروبية؛ لكنها أدركت الرسالة التي تبعثها واشنطن، ومؤداها أن الأخيرة ليست مستعدة لاستمرار الدعم العسكري لأوكرانيا إلى ما لا نهاية، أو الدخول في مواجهة مفتوحة مع روسيا بهذا الشأن، وأنه من الممكن بدء المفاوضات بين موسكو وكييف للوصول إلى وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، وهو ما بدأت تباشيره في الاجتماع الذي انعقد بين الطرفين في إسطنبول، يوم الخميس 15 مايو 2025. وعلى الرغم من الصعوبات التي أحاطت بهذا الاجتماع، فقد أسفر عن الاتفاق على تبادل ألف سجين من كلا الطرفين. وترافق ذلك مع تصريح الرئيس ترامب من أبوظبي، خلال جولته الخليجية، بأنه لن يحدث حل قبل لقائه مع بوتين.
وينطلق الحل الذي يقترحه ترامب من الإقرار بالأمر الواقع، وحقيقة ضم روسيا لشبة جزيرة القرم بعد حرب عام 2014، وسيطرتها على الأقاليم الأوكرانية الأربعة بعد الحرب الدائرة، والتي بدأت في فبراير 2022. كما ينطلق من قبول فكرة عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” باعتباره استفزازاً غير مطلوب لروسيا.
وفي المقابل، دار حديث بين واشنطن وموسكو حول مستقبل العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فزار المبعوث الاقتصادي الروسي، كيريل ديميرتيف، واشنطن في إبريل 2025، لبحث موضوعات اقتصادية شتى، منها فرص التعاون في مجال المعادن النادرة، والطاقة في القطب الشمالي، وعودة الشركات الأمريكية إلى العمل في السوق الروسية. فيما وقّعت الولايات المتحدة وأوكرانيا، في 30 إبريل الماضي، اتفاقية استثمار المعادن النادرة التي قضت بإنشاء صندوق استثماري مشترك لإعادة إعمار أوكرانيا واستغلال مواردها الطبيعية، على أن تقوم الشركات الأمريكية بالتنقيب والبحث عن هذه المعادن ويتم تقسيم الأرباح مناصفة. ورفضت واشنطن طلب كييف بتقديم ضمانات أمنية لها، واعتبرت أن وجود شركاتها ومهندسيها ومعداتها على الأرض هو ضمان كافٍ لأمن أوكرانيا.
العلاقات مع الصين:
من مظاهر سياسة تقسيم مناطق النفوذ في آسيا، العلاقات الأمريكية مع الصين. فمع أن ترامب يستخدم لهجة حادة معها، إلا أن مبدأ الواقعية الذي يلتزم به نهجاً وسلوكاً، وإدراكه لحقائق القوة الصينية وتقدمها التكنولوجي والعسكري؛ يجعل إدارته تبعث بإشارات عن الرغبة في إعادة ترتيب العلاقات بين البلدين بطريقة تُحافظ على توازن القوى، بما يتحاشى الدخول في صدام مباشر.
ومن أمثلة ذلك، ما حدث بشأن الرسوم الجمركية. فعندما ردت الصين برفع الرسوم على الواردات الأمريكية، فرض ترامب رسوماً إضافية بلغت 145%، وهو ما ردت عليه بكين أيضاً. وأدرك ترامب أن هذا الموقف لا يُمكن استمراره، فدعا إلى مفاوضات مع الصين، انتهت بتوقيع اتفاقية في جينيف شارك فيها وفدان برئاسة وزير الخزانة الأمريكي ونائب رئيس الوزراء الصيني، وأسفرت عن توقيع اتفاقية يوم 12 مايو الجاري، وضعت الأسس لإنهاء الخلافات التجارية بين البلدين.
ولا توجد مؤشرات علنية عن موقف الصين تجاه هذا الموضوع، ويؤكد خطابها السياسي في المناسبات كافة رفض تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين القوى الكبرى، ويعتبر أن مثل هذه المفاهيم من الموروثات الاستعمارية التي ينبغي رفضها وعدم قبولها، وأن اكتساب النفوذ يكون من خلال الاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجية، وليس عبر التحالفات العسكرية والاقتصادية التقليدية. وفي المُقابل، هناك من يرى أن السلوك الصيني في الممارسة يسعى إلى إبعاد الوجود البحري الأمريكي عن منطقة بحر الصين الجنوبي باعتبارها منطقة مصالح وأمن مباشرة لها، في الوقت الذي ترفع فيه شعار حرية التجارة.
تجاهل سيادة الدولة:
من تجليات موقف ترامب أيضاً، عدم تقديره لمبادئ سيادة الدولة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، واحترام حدودها الدولية. والذي ظهر في عديد من مواقفه وتصريحاته، مثل الحديث عن كندا باعتبارها الولاية 51 في الاتحاد الأمريكي، والمطالبة باستعادة قناة بنما، وضم جزيرة غرينلاند الدنماركية، وامتلاك قطاع غزة، وطلب مرور السفن الأمريكية في قناة السويس من دون دفع رسوم.
وتفصح هذه المواقف عن ازدراء ترامب لقواعد القانون الدولي ومبدأ سيادة الدولة، وتفتح الباب لسياسات الدول الكبرى لاقتسام مناطق النفوذ في العالم. ومن الأرجح أن هذا المسار يبدو أكثر جاذبية لترامب بدلاً من الصراع والمواجهة، خاصةً مع إدراكه أنه قد حدث تراجع في قوة الولايات المتحدة؛ بسبب السياسات الخاطئة التي اتبعتها الإدارات السابقة، وأنها تحتاج إلى فترة من التهدئة الدولية تستعيد فيها عناصر قوتها الاقتصادية.
وقد يؤدي مسلكه هذا إلى تشجيع القوى الإقليمية على توسيع نفوذها بناءً على حجج تاريخية. ومن ذلك مثلاً، ما دعا إليه رئيس الوزراء ووزير الخارجية التركي الأسبق، أحمد داوود أوغلو، في 12 فبراير الماضي، في اجتماع للكتلة البرلمانية لحزب “طريق جديد”، عندما ذكر أن الإمبراطورية العثمانية كانت آخر دولة حكمت قطاع غزة بطريقة شرعية، وتابع قائلاً: “ما زال الفلسطينيون يحملون الهوية العثمانية في وجدانهم وتاريخهم”. كما طالب بإعادة ربط قطاع غزة بالجمهورية التركية كمنطقة تتمتع بالحكم الذاتي.
تراجع الالتزامات الدولية:
أعادت واشنطن النظر في بعض التزاماتها الدولية، مثل الانسحاب من معاهدة باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتراجع الاهتمام بالمنظمة الدولية عموماً، وفرضت عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بدعوى انخراطها في أعمال “مُعادية للسامية”؛ مما يعني ابتعاد واشنطن عن النظام الدولي متعدد الأطراف الذي قامت بدور قائد في إرساء أركانه بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن أمثله ذلك، قرارات ترامب الأحادية برفع الرسوم الجمركية في عام 2025، متجاوزاً في ذلك قواعد المنظمات الاقتصادية الدولية وعلى رأسها منظمة التجارة الدولية، واعتباره أن الدفاع عن أوروبا وحماية أمنها هو مسؤولية الدول الأوروبية نفسها؛ مما يؤدي إلى إضعاف حلف الناتو الذي ضمن أمن المنطقة الأطلسية على مدى أكثر من 75 عاماً، ويُعرض الأمن الجماعي للخطر في أوروبا الشرقية وآسيا، فضلاً عن إعلان الولايات المتحدة عزمها تخفيض عدد قواتها المسلحة في سوريا من ألفي جندي إلى نحو900 تقريباً في الأشهر القليلة المقبلة. وهكذا، فإن ترامب يُفضل بوضوح إبرام الاتفاقيات الثنائية مع الدول، بديلاً عن الالتزامات الجماعية متعددة الأطراف.
وسوف يكون من شأن سلوك ترامب، تأكيد مبدأ استخدام القوة في العلاقات بين الدول، وهو ما أسماه باستراتيجية تحقيق “السلام من خلال القوة”. وكذلك تغير الدور التقليدي للولايات المتحدة كضامن للنظام الدولي القائم على قواعد نظام الأمم المتحدة، كما أنه سوف يُوجد مجالاً للقوى الدولية الكبرى الأخرى والقوى الإقليمية لتعزيز نفوذها في مناطق العالم. وفي حالة حدوث ذلك؛ فإنه يضع الدول الصغيرة في موقف صعب للغاية في مواجهة تدخلات أطراف إقليمية ودولية أكبر وأقوى، ويحرمها من المساندة المعنوية التي كان يوفرها النظام الدولي، وذلك في سياق يتسم بازدياد احتمالات الفوضى الدولية.
وإذا كان من الأرجح أن يستمر ترامب في سياسة تقاسم مناطق النفوذ مع القوى الكبرى، فإن السؤال هو إلى أي مدى سوف تجاريه موسكو وبكين في هذا الشأن؟
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”