ينبغي أن نُخرِج، حين البحث في هذا السؤال، الذين يستندون في مواقفهم إلى مموّلهم، إذ لا يجوز التعامل معهم بجدّية، فما يقولونه، ليس أفكاراً ولا مبادئ، فثباته لا يرتبط بعامل نظريّ، وكذلك تغيّره، وأمّا الذين يعجزون عن رؤية الخطأ في أفكارهم بسبب الدوغما الأيديولوجية، فهم يستحقّون احتراماً أكثر من هؤلاء، بيد أنّ عجزهم في الغالب معروف الأسباب، ومضمّن في التوصيف السالف، من كونها تعسفية اعتقادية، وارتكاساً في الإلف الطويل، وخشية من الفضاء الفسيح خارج اليقينية المطبقة!
أفكارنا الخاطئة التي يُسأل عن تكرارها هنا، هي تلك المتعلّقة بالواقع، بالعمل، بالسياسة والاجتماع، وهذه الأفكار المكرورة، التي لا يملّ أصحابها عن العودة إلى طرحها، نراها دائماً في السجالات الفلسطينية، وهو أمر مثير للإعجاب، فقد كان من عادة المثقفين في أزمنة ماضية الانسحاب إلى ذمّ أهل العمل، وتصوّر ثنائية مريرة تنفي النظر عن العامل والعمل عن الناظر، لكن الاستمرار في القول اليوم بلا كلل، كائن في زمن تتسع فيه مساحات القول، ولم تعد مقتصرة على مثقفي المقاهي، الذين بالكاد وجدوا منابر لهم في صحف، أو مجلات حزبية، إذ القول اليوم متاح على طول التقنيات الحديثة وعرضها، ممّا يعني أن القائل يكرّر كلامه لأنّه ربما لا يجد ما يقوله، وإن كان التكرار قد يدلّ من جهة أخرى على شعور بالمسؤولية، فإنّ الخطأ يظلّ خطأ، والناظر ربما بات بلا نظر.
فلننظر كم ورقة ومبادرة قُدّمت في السنوات الأخيرة للخروج من الانسداد الفلسطيني الراهن، في مستوويه الداخلي والنضالي، وكلّها تنتسح من بعضها، وتقترح سبب الانسداد حلّاً للانسداد، أيّ تعوّل على العلّة للشفاء من المرض، وهي بذلك تشخّص الأعراض فترى سقماً، لكنّها لا ترى الأسباب التي لا يزيد العرض عن كونه تجلّيّاً لها
فلننظر كم ورقة ومبادرة قُدّمت في السنوات الأخيرة للخروج من الانسداد الفلسطيني الراهن، في مستوويه الداخلي والنضالي، وكلّها تنتسح من بعضها، وتقترح سبب الانسداد حلّاً للانسداد، أيّ تعوّل على العلّة للشفاء من المرض، وهي بذلك تشخّص الأعراض فترى سقماً، لكنّها لا ترى الأسباب التي لا يزيد العرض عن كونه تجلّيّاً لها، فتجهل العلّة الباعثة على مظاهر السقم، فتبقى تدور في دوائر المرض، تدعو لتأبيد السقم، وهي تعتقد أنّها تقترح العلاج العبقريّ!
انتهت أطروحة الحلّ السياسيّ الذي يبدأ بسلطة محدودة قبل زوال الاحتلال إلى ما نحن فيه اليوم، وإذا كان لا ينبغي أن نتجادل في الحقائق القاتلة، الماثلة اليوم بسبب هذا المسار، فإنّ الأمر لن يخلو من صاحب دوغما سياسية، يعمى عن تلك الحقائق عصبية لصانعيها أو عصبية ضدّ خصومهم السياسيين، لكن في اتجاه آخر، قد نجد من يُبالغ في إحسان الظنّ في الفاعلين بلا استثناء، وكأنّ ما ينقصهم، فقط أن يشير عليهم مثقف بحلّ عبقريّ هم قابعون فيه أصلاً.
يصعب القول، مثلاً، إنّ مقترحاً ما، من مثقف ما، يتمثّل في استئناف العلاقة الوطنية على قاعدة السلطة، وقد غفل عنه السياسي الذي يدير تحركاته أصلاً باستمرار على هذه القاعدة. وإذا كانت غلبة النزعة العملية على السياسي وانغماسه في البحث عن المخارج والممكنات القريبة تضيّق الأفق النظري أمامه، فإنّنا والحالة هذه، إزاء مثقف هو في الحقيقة سياسيّ قاعد، لا يفعل سوى اقتراح ما يعرفه السياسيّ ويسعى إليه، ممّا يعني أنّ القصور النظري حاصل عند أهل النظر كذلك، وإذا أمكن عذر السياسي لتجريبه المجرّب باستمرار، للضرورات التي تُلحقها به السياسة ومسؤولياتها، فما الذي يدفع مثقفاً للاستمرار في تجريب القول الخاطئ؟!
لا يبتعد عن ذلك ما يطرحه مثقفون في تحليل سياسات دول عربية تجاه القضية الفلسطينية، وعلاقاتها المستجدّة مع العدوّ الإسرائيلي، بحيث تقترب تلك الأطروحات من العلاقات العامّة، أكثر من قول ما يفيد، أو قول ما يمكن أن يوجد له معنى. ماذا يعني مثلاً مديح دولة عربية بخصوص القضية الفلسطينية، في سياق الأخبار التي تتحدّث عن احتمالات تطبيعها مع العدوّ؟ ما المخبوء الذي يمكن اكتشافه في هذا الظاهر الفجّ بحيث يستدعي المديح؟ أو القول إنّ هذه الدولة لن تتخلّى عن القضية الفلسطينية؟ الأسوأ طبعاً أن يتطرّف بعضهم ويجد في مسارات التطبيع ما يخدم القضية الفلسطينية. لكن هذا لن يكون مستغرباً إن كان من مثقفي اليمين العربي ومشروع التسوية أو ممن لديه هوى غامض الأسباب تجاه هذا البلد أو ذاك، بما يشمل نظامه، لكنّه مستغرب ممّن ليس كذلك!
يتحدّث بعضّ المثقفّين، وكأنّه لا ينقص السياسيّ إلا أن يؤمن بقولهم، في ضرب من استبطان قدر من النبوّة، وكأنّ صلاح العالم قائم على إنفاذ آراء هذا المثقف، الذي يتلطّف في عبارته لتُقبل، بما يصل بها أحياناً حدّ الخداع، بافتراض ما ليس قائماً في هذه الجهة أو تلك، من أنظمة أو هيئات
يتحدّث بعضّ المثقفّين، وكأنّه لا ينقص السياسيّ إلا أن يؤمن بقولهم، في ضرب من استبطان قدر من النبوّة، وكأنّ صلاح العالم قائم على إنفاذ آراء هذا المثقف، الذي يتلطّف في عبارته لتُقبل، بما يصل بها أحياناً حدّ الخداع، بافتراض ما ليس قائماً في هذه الجهة أو تلك، من أنظمة أو هيئات، مع أنّنا لو افترضنا أحسن الظنون في هذه الجهة أو تلك، ولو أرادت حقّاً هذه الجهة أو تلك الخير، فإنّ الأمر في الواقع أعقد من أنه ينتظر مقترحاً عبقريّاً في تغريدة على موقع تويتر الذي صار للمفارقة اليوم (X).
لا يختلف ذلك عن مثقف يُعقّب على موجة العنصرية في تركيا، داعياً الأجانب فيها من عرب ومسلمين لضبط انفعالاتهم إزاء ما يتعرّضون له. ليست القضية هنا فقط في كونه ضمنيّاً يحمّل الضحيّة المسؤولية حينما لا تضبط انفعالاتها على وقع حكمته، ولكن في تصوّره أن الملايين من لاجئين ومسافرين وسائحين يقفون على نوافذ تغريداته ينتظرون تعاليمه!
لا يقل عن ذلك سوءاً، أن يكون الأمر فقراً نظريّاً بالفعل، مُسبَّباً عن افتقاد المعرفة الكافية بتاريخ هذه الجهة أو تلك، والجهل ببنيتها، ونخبها النافذة، وشبكات مصالحها، والتصوّرات الكامنة في أعصابها والمتوارثة فيها إن كانت بنية اجتماعية ثقيلة، كأن تكون دولة أو سلطة، أو حزباً سياسيّاً، أو عائلة حاكمة، هنا يكون المثقف أصلاً بلا عدّة نظريّة فيما لا بدّ منه لمجال اشتغاله، ليصير آخر الأمر مجرّد قوّال لا أكثر.
twitter.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأفكار الفلسطينية المثقفين الواقع فلسطين أفكار الواقع مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة مقالات صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة
إقرأ أيضاً:
خبراء لـ "الفجر": السودان بين جحيم الحرب وبوادر التحول السياسي
وسط استمرار الحرب الأهلية في السودان للعام الثالث على التوالي، تتكثف المعاناة الإنسانية والاقتصادية في مختلف أنحاء البلاد، فيما تلوح في الأفق ملامح تحول سياسي تقوده حكومة تكنوقراط برئاسة الدكتور كامل إدريس.
ويشهد السودان تداخلًا معقدًا بين تفاقم المأساة اليومية للمدنيين، والجهود الجارية لإحداث اختراق في المشهد السياسي.
مجزرة جديدة في مستشفى المجيدشهدت ولاية غرب كردفان حادثة دموية مأساوية، حيث تعرض مستشفى المجيد لغارة جوية أودت بحياة أكثر من 40 مدنيًا، بينهم أطفال وكوادر طبية. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن هذه الجريمة تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الإنساني الدولي.
واتهمت قوات الدعم السريع الجيش السوداني بتنفيذ الهجوم، بينما نفى الجيش مسؤوليته، مؤكدًا التزامه بعدم استهداف المنشآت المدنية. وقد أثارت الحادثة إدانات دولية واسعة، ومطالبات بإجراء تحقيق دولي مستقل ومحاسبة المتورطين.
الأمم المتحدة: الوضع الإنساني في السودان كارثيوصفت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة الوضع في السودان بأنه من "أسوأ أزمات حقوق الإنسان في العالم المعاصر"، مشيرة إلى تفشي العنف الجنسي، وعمليات القتل الجماعي، والاختطاف، ونهب المساعدات في ولايات دارفور وكردفان والنيل الأزرق.
ودعت الأمم المتحدة إلى وقف تسليح الأطراف المتحاربة، وفتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية، مؤكدة أن الحلول السياسية يجب أن تُسبق بوقف فوري لإطلاق النار.
أزمة نزوح تتفاقمتجاوز عدد النازحين واللاجئين السودانيين حاجز الأربعة ملايين، معظمهم فروا إلى دول الجوار، وخاصة تشاد، التي تشهد بدورها أزمة لوجستية وإنسانية حادة. وتشير تقارير منظمات الإغاثة إلى أن نسبة تمويل الاستجابة الإنسانية لا تتجاوز 14% من المطلوب، مما يهدد بانهيار شامل في البنية المجتمعية.
الذهب يغذي الحرب ويطيل أمد الصراعأكدت تقارير اقتصادية موثوقة أن أطراف النزاع، ولا سيما القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، تستغل تجارة الذهب كمصدر رئيسي لتمويل أنشطتها العسكرية. ويتم تهريب الذهب السوداني إلى الخارج، خصوصًا إلى روسيا والإمارات، في ظل غياب الرقابة وفعالية العقوبات الدولية.
الإمارات تمد يد العون للاجئين السودانيينأعلنت السلطات الإماراتية تمديد إقامات السودانيين المقيمين على أراضيها، بمن فيهم من انتهت صلاحية جوازات سفرهم، في خطوة وصفت بأنها إنسانية وتضامنية مع الشعب السوداني. وتُعد هذه المبادرة جزءًا من جهود إقليمية واسعة النطاق للتخفيف من معاناة اللاجئين.
حكومة تكنوقراط بقيادة إدريس: بداية المسار السياسي الجديدفي 31 مايو 2025، أدى الدكتور كامل إدريس اليمين الدستورية كرئيس لحكومة انتقالية من التكنوقراط تضم 22 وزيرًا. ومنذ تسلمه المنصب، شرعت الحكومة في إعادة هيكلة الجهاز التنفيذي، وفتحت قنوات للحوار الوطني، مع التزام بالإصلاحات الاقتصادية والعدالة الانتقالية.
وتعهدت الحكومة بتحسين الخدمات الأساسية، وإعادة بناء المؤسسات العامة، وسط ترقب شعبي واسع لإجراءات فورية توقف النزيف الوطني.
خطاب إدريس إيجابي ويدعو للتفاؤلقال الدكتور صديق تاور، الخبير السياسي والقيادي السوداني، في تصريحات خاصة لـ "الفجر"، إن خطاب رئيس الوزراء الأخير حمل نبرة تصالحية وواقعية، وأشار إلى وجود رغبة حقيقية في تجاوز الانقسامات.
وأضاف تاور لـ "الفجر"، يجب البناء على ما ورد في الخطاب من خلال تسريع تنفيذ خطوات السلام، وتوسيع المشاركة الوطنية لتشمل القوى المدنية والمجتمعات الهشة في جميع الأقاليم".
كما شدد على أن تنفيذ اتفاق جوبا يعد ضرورة ملحة، لكنه بحاجة إلى دفع سياسي حقيقي لتفعيل مساراته الأمنية والتنموية في الشرق والجنوب ومناطق النزاع الأخرى.
وحذر تاور من أن استمرار التدهور الأمني في مناطق مثل جنوب كردفان والنيل الأزرق قد يقوض أية محاولة للسلام، داعيًا إلى خطة شاملة تعالج الأوضاع الأمنية والاقتصادية معًا.
إعادة الإعمار أولوية.. ومصر شريك أساسيمن جانبه، أكد المحلل السياسي السوداني حسام الدين أبو العزائم لـ "الفجر"، أن حكومة إدريس تشكل فرصة نادرة لإعادة صياغة المشهد السياسي السوداني، مشيرًا إلى أن السودان بحاجة إلى وزراء يمتلكون حلولًا غير تقليدية، قادرة على تجاوز آثار الحرب التي خلفتها "ميليشيات آل دقلو".
وأضاف لـ "الفجر" أن مصر مؤهلة لتكون الشريك الاستراتيجي الأهم في عملية إعادة الإعمار، لما تمتلكه من خبرات فنية واسعة وتاريخ من التعاون المثمر مع السودان في مجالات البنية التحتية والزراعة.
وأشار أبو العزائم إلى أن إدريس، بخلفيته الدولية ومكانته الدبلوماسية، قادر على فتح قنوات تعاون مع المجتمع الدولي، واستعادة ثقة المؤسسات العالمية في السودان.
المجتمع المدني: دعم التعليم أولوية وسط الحربوفي بيان تلقته "الفجر"، رحبت المجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات بإشارات صدرت عن قائد قوات الدعم السريع بإعادة النظر في الخطاب العدائي تجاه مصر، واعتبرتها تطورًا إيجابيًا يجب دعمه.
وقال رئيس المجموعة، الصادق علي، إن آلاف السودانيين وجدوا في مصر الملاذ الآمن، داعيًا إلى ضرورة الحفاظ على العلاقات التاريخية بين الشعبين.
كما رحّب بالنداء الموجه إلى السلطات التشادية للسماح للطلاب السودانيين بأداء امتحانات الشهادة السودانية، مشددًا على أن قوات الدعم السريع نفسها كانت قد منعت طلابًا من التنقل العام الماضي، ما يحتم ترجمة التصريحات الحالية إلى أفعال ملموسة.
واختتم البيان بدعوة لتحييد ملف التعليم عن الصراع العسكري والسياسي، وضمان حق الطلاب في التعليم الآمن، في ظل الظروف القاسية التي يعيشها آلاف التلاميذ في مناطق النزاع والنزوح.
خلاصة المشهدالسودان يقف اليوم على مفترق طرق حاسم. فبينما تعمّ الفوضى الأمنية والكارثة الإنسانية، تلوح مبادرات سياسية قد تمهّد لإنهاء الحرب، بشرط توافر الإرادة السياسية، والتزام الأطراف المسلحة بوقف القتال، وتحرك دولي فاعل لدعم عملية الانتقال وإعادة الإعمار.
وحكومة الدكتور كامل إدريس، بما تحمله من مقومات تكنوقراطية واستقلالية، قد تكون المنصة المناسبة للانطلاق نحو سودان جديد، متى ما توفرت لها الأدوات الأمنية والدبلوماسية والدعم الشعبي المطلوب.