حـوار المناقـرة وحـوار المنـاظــرة
تاريخ النشر: 27th, November 2024 GMT
كـلُ حـوارٍ تـجريـه ثـقافـة مـا مع غيرها من الثـقافـات، أو تجريـه داخـلَـها تيـاراتُـها المختـلـفـة، مـفـيـدٌ لها؛ فهـو سمـاد إخصـابٍ لتـربتـها لا غـنًـى لها عنه لكي تونِـع وتزدهـر أكـثر وهـو، إلى ذلك، دليـلُ عافيـةٍ وحيـويـة فيها. بيـان ذلك أن نـكـوص ثـقـافـةٍ عـن حـوار غيرها من الثـقافـات تعبيرٌ عن انـغـلاقـيـةٍ فيها تمنعها من الامتـيـاح الضـروري من المـوارد الثـقافـيـة التي تنـشـأ من خـارج ضفافـها، والتي هي مـن أَظْـهَـر عوامـل الإنـماء الثـقافـي لدى أي مجتـمـعٍ أو جمـاعـة ثـقـافـيـة.
على أن الحـوار أنـواعٌ من العـلاقـة الثـقافـيـة مختـلفـةٌ ومتـفاوتـةٌ من حيث الأسسُ والمضمـونُ والقيـمـة، وليست تَـقْـبـل الجمْـع بيـنـها تحت عـنـوانٍ عـامٍ جامـع لـمـجرد أن المشـتَـرَك بيـنـها هـو عـلاقـة الحـوار. مـا كـلُ حـوارٍ بيـن ثـقافـتيـن أو ثـقـافـات، أو بيـن تيـاريْـن أو تيـارات مُـفْـضٍ، بالضرورة، إلى تعـزيـز مـواردِ قـوةِ الثـقافـة أو تـمتـين روابـط التـبادل الثـقافـي بين مَن يخـوض فيـه؛ فلقـد يكـون الحوار هـدامـًا بحيث يستـوي وجـودُه وعـدمُـه، أو قد يكون عـدمُـه أجْـزلَ فائـدةً من وجوده؛ ولقـد نكـون إزاء شبهـةِ حـوارٍ - ومـا هـو بحـوار- يجري من طـرفٍ واحـد... وقِـسْ على هـذيـن من صنـوف حـوارٍ أخرى لا نـظـفـر منها بطائـل! نكـتـفـي من تلك الصـنوف باثـنيـن منها متـقابليـن ومتـضادي النـتـائج: الحـوار الذي مَـبْـناهُ على المساجلـة الفـارغـة والحـوار الذي مبـنـاه على المجادلة البـنـاءة. لا تخلو ثـقـافـةٌ من الثـقافـات من انْـوجـادِ هـذيـن الصـنـفـيْـن من الحـوار فيـها، ومن اصطـراعٍ بيـنـهـما - مثلـما هي حـالُ الثـقـافـة العـربـيـة - غير أن الأهـم من وجودهـما وصـراعهما مـآلاتُ ذلك الصراع والنـوعُ الذي تكـون لـه السـيادةُ والغلبـة منـهـما؛ إذْ في ذلك ما تـتـحـدد بـه حـالةُ الثـقافـة: عـلـةً وسـواءً، نـهـوضـًا وسقـوطـًا، انتـظـامـًا وانـتـقـاضـًا... نسـمـي حـوار المساجلـة الفارغـة باسم حـوار المنـاقَـرة؛ لأن السـجـال الذي يـدور فيـه بين «المتحاورين» أشـبـهُ ما يكـون بالنِـقَـار الذي يجـري في البـيـوت، عـادةً بين مَـن درجـوا - أو دَرَجْـنَ- على المـلاسَـنـة وإرسـال النِـقْـرةِ تلـو النِـقـرة لـمجـرد التـغايُـظ (= تـبـادُل الإغـاظـة) أو حتـى، أحيـانـًا، لتـزجيـة الوقـت وتـقـطيـعِـه! ولا يستغـربـن أحـدٌ من أن يكـون نظـيرُ هـذا «الحـوار» مـألـوفًا في البيـئـات الثـقافـية؛ لأن هـذه كـثـيـرًا ما انـتـقـلـت إليها تـقاليـدُ الحياة الحـزبيـة وقِـيَـمُـها وانتـعـشـت فيـها حتى بـاتت ممـا يُعـاد إنـتـاجُـه وكـأنـه مـن عُـدة الشـغـل. وليس السـجـال في الثـقافـة حـوارًا (وإنْ كان يمـكـنـه أن يكون كذلك في السـياسـة وبين الإيـديولوجيـات السياسيـة)، بل هـو- على وجْـه التـحقيـق - نـقـضٌ لمـبـدإِ الحـوار ولإمـكانـه. إنه لا يـتـوسـل طـرائق الحـوار ومـفـرداتـه، بـل يتـغـيـا إفحـام الخـصـم من طريـق تـلاعـبـاتٍ لفـظـيـة لا تخـلو من السـفسـطـة؛ والحـال إن نظـام الحـوار يقـوم على أسلـوب الاحتجـاج بالأسانـيد الدامغـة: عـقـلـيـة كانت (منـطـقـيـة) أو واقـعيـة، مثـلمـا يـهْـدُف إلى تـوليـد أفكـارٍ من عمليـة التـحاوُر وممارسةِ الإقـنـاع بوجـاهـة الرأي والحـجـة. والحـق أن الكـثـرة الكاثـرة من المنغـمسيـن في «حـواراتٍ» ثـقافـيـة - في بـلادنا العربيـة وفي العـالم - تـنـتمـي إلى طيـنـة المساجِـليـن؛ الذيـن تكـاد أن لا تجـد في ما يـقـولونَـه ويكـتـبـونـه ما يَـعْـلو، ولو قلـيلًا، مستوى المنـاقَـرة أو ما يمكـن أن يُـشْـتَـقَ منـه ما يـنـفـع النـاس. في مقابل هـذا النـوع من «الحـوار» الذي يجري بالتـراشق النـظري، ينتصب نوعٌ ثـانٍ منـه هـو الحـوارُ على الحقيقة. نسمـيـه، في ما يلي، حـوار المناظَـرة لأن مبْـنـاه على جـدلٍ خصب يتبادل طرفـاهُ المعنى (= بـدلًا من تبادُل الرشـق بمفردات المزايدة كما عند المتناظريـن). ليس الغايـةُ المرتجـاةُ من حـوار المناظرة أن يُـفْـحِم الواحـدُ من المتـناظـريْـن خصْـمَه إلا لِـمامًا. وفي هـذه الحال، يـلجأ إلى طـرُقِ إقـنـاعٍ مشهـورة عنـد المناطقة وأهل الجـدل والعلمـاء، ويُحْـجِـم - الإحـجـامَ كـلَـه - عن إساءة القول والمخاطَـبـة تجاه شريـكه في تلك المناظـرة. الغالب على هذا النـوع من الحـوار الميْـلُ إلى تنميـة التـفـكـير في المسألة التي يـدور عليها (ذلك الحـوار)؛ لأن الفرضيـة الضـمنـيـة التي تحكـم مَـن ينخـرطون فيه مفادها أن الفـكرة تـتبـلور من تبـادُل النـظـر، ومـن تـقـليب السـؤال عـنها على وجـوهٍ عـدة، ومن النظـر إليها من زوايا مختـلفة: وكـلُ ذلك لا يتأتـى إلا من طـريق الجـدل والمناظَـرة. إن الحوار الذي هـذا معناهُ هـو وحـده الذي تـتـقـدم بها الثـقـافات حين تـنـتـحِـلُـه لنفسها وتـرْتاض عليه؛ وهو وحده الذي يليـق بالثـقافـة والمعرفـة والذي يَحْـسُـن بأهلـهـمـا أن يلـتـزمـا سبيـلـه. ومـن أسـفٍ لم نعـد نعـرف، في ثـقافـتـنا العربيـة، مَـلْـمَـحًا لحـوار المناظرة هذا بعـد إذْ كـان مألوفـًا فيها، قديـمـًا وحـديـثـًا، ومدروجـًا على المُـضِـي فيه بين أهلها. كـلُ الذي نعـرفـه من «حوار» هو ذلك النـوع الأول الرديءُ والرثُ الذي يَغْـمُـر ساح الثـقـافـة ويخـتـنـق به الفـكـر: حـوار المناقـرة. إنـه، من دون سواه، المسؤول عن ظواهـر الاحتـقـان الثـقافـي التي يـقـود استـفحـالُ أمـرها إلى إطـلاق موجـاتٍ مـن الحـرب الأهـليـة الثـقافـيـة العربيـة بين فيـنـةٍ وفيـنـة!. |
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الأمير الذي نام طويلاً.. واستيقظت حوله الأسئلة
في عالمٍ سريعِ الخطى؛ حيث تمر القصص دون أن نمنحها وقتًًا للتأمل، هناك حكاية ظلت واقفة عند نفس المشهد لأكثر من عشرين عامًا. الأمير الراحل الوليد بن خالد بن طلال، الذي عُرف إعلاميًا بـ”الأمير النائم”، لم يكن مجرد شاب سقط في غيبوبة، بل أصبح رمزًا حيًّا للأسئلة التي لا نملك لها إجابات، كان في عمر السادسة عشرة حين وقع الحادث، حادث قد يبدو عاديًا بالنسبة للعالم، لكنه في حالته كان بداية لحياة جديدة لا تشبه الحياة ولا تشبه الموت، بقي قلبه ينبض، وعقله معلق بين عالمين، وجسده يرقد في سكون، وكأن الزمن تجمد داخله. عشرون عامًا مرت، تغير فيها العالم، تبدلت الوجوه، وسقطت دول، وولد أطفال أصبحوا شبابًا، وهو مازال هو، لم يتحرك سوى بعينٍ ترف أحيانًا، ويدٍ ترتعش عند نداء أمه، كأن في داخله شيء يسمع ويريد أن يعود، ما كانت قصته مجرد حالة طبية نادرة، بل كانت مرآة لانكساراتنا البشرية، فكم مرة شعرنا بالعجز تجاه من نحب، كم مرة تمنينا أن نوقظ من نحب بكلمة.. بلمسة.. بدعاء؟ عائلته لم تفقد الأمل يومًا، وكل يوم كانوا يوقظون فينا فكرة أن الحب أحيانًا لا يشترط ردًا، يكفي أن يعطى، رحيله ليس مجرد إعلان رسمي؛ بل هو نهاية فصل ظل مفتوحًا في الذاكرة الجماعية للعرب، لكنه أيضًا بداية لتأمل طويل. هل كنا نظنه “نائمًا” لأننا لا نعرف كيف نتعامل مع الضعف، مع من لا يستطيع الرد علينا، هل كان حضوره طوال هذه السنوات نوعًا من المقاومة الصامتة للموت، ربما لم يكتب له أن يتحدث، لكن صمته علمنا ما لم تقله الكلمات، علمنا أن الحياة ليست دائمًا ضجيجًا، وأن الجسد- وإن خذلَ صاحبه- قد يظل يعلمنا الوفاء، والثبات، والإيمان. ارتح يا أمير النور، فإنك لم تكن غائبًا عن الوعي كما ظنوا، لقد كنت فقط في بعدٍ آخر أقرب إلى الله، ابتعد عن ضجيج البشر، فإنك الآن في جنات الفردوس الأعلى- بإذن الله. اللهم ارحمه برحمتك التي وسعت كل شيء، وآنس وحشته، واغفر له، واجعل صبر أهله نورًا في صحيفته وأجرًا لا ينقطع.
NevenAbbass@