ألاعيب «البيضة والحجر» لتزوير العلامات التجارية
تاريخ النشر: 29th, November 2024 GMT
أطعمة فاسدة أمام محطات المترو وسلع مضروبة فى الأسواق.. والرقابة غائبة
100 جنيه عقوبة تزوير الماركات.. والثمن أرواح المواطنين
خبراء يطالبون بتغيير القانون وتشديد العقوبة على المخالفين
ألاعيب شيطانية يقوم بها بعض معدومى الضمير لتحقيق مكاسب غير مشروعة ولو على حساب صحة المواطنين وأرواحهم، فهؤلاء دأبوا على تزوير العلامات التجارية لمعظم السلع واستبدالها بماركات غير مطابقة للمواصفات، وهذا الأمر يبدأ من الصناعات الغذائية ويصل إلى قطع غيار السيارات وأسلاك الكهرباء وغيرها من السلع التى تمس أمن المواطنين وأرواحهم.
ورغم وجود قوانين تجرم عمليات الغش وتزوير العلامات التجارية، إلا أنها لم تمنع هذه الجريمة التى تحدث على مرأى ومسمع من جميع المسئولين فى كل مكان فى مصر، وهو ما كشفه لـ«الوفد» بائعون وأصحاب توكيلات ومحلات قطع غيار سيارات ومحامون.
محمد فاروق، المحامى، كان واحدا ممن حاولا محاربة هذه الظاهرة حينما تقدم بالبلاغ رقم 4819 /23 جنح القطامية ضد «صفاء م. ف» الشهيرة بـ«نيشا»، وحسام «ر. أ»، واتهمهما بتزوير وتقليد علامة تجارية شهيرة لمنتج شوكولاته، وعلى إثرها ضبطت الإدارة العامة لمباحث التموين المشكو فى حقهما، وقُيد المحضر برقم 4725 لسنة 2023 جنح القطامية.
وقال «فاروق»: إن قانون العلامة التجارية رقم 33 لسنة 1952 عرف العلامة التجارية فى المادة 63 بأنها كل ما يميز منتجا سلعة أو خدمة عن غيره، وتشمل على وجه الخصوص الأسماء المتخذة شكلا مميزا والامضاءات والكلمات والحروف والأرقام والرسوم والرموز، وعناوين المحال والدمغات، والأختام والتصاوير، والنقوش البارزة، ومجموعة الألوان التى تتخذ شكلا خاصًا ومميزًا.
وأوضح الخبير القانونى أنّ جريمة التقليد عرفها القانون بأنها كل من اتخذ علامة تشبه فى مجموعها العلامة الأصلية للمنتج، ما ينجم عنه تضليل الجمهور أو خداعة لظنه أنها العلامة الأصلية، وهى تختلف عن جريمة تزوير العلامات التجارية وهى نقل العلامة المسجلة نقلاً حرفيًا وتامًا بحيث تبدو مطابقة تمامًا للعلامة الأصلية.
وأشار إلى أن المادة 113 من قانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002 جرم هذه العمليات وتنص على الحبس مدة لا تقل عن شهرين وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين ومع عدم الإخلال بأى عقوبة أشد فى قانون آخر، كل من قلد علامة تم تسجيلها طبقا للقانون بطريقة تدعو إلى تضليل الجمهور، كما يعاقب أيضا بنفس العقوبة كل من استعمل بسوء قصد علامة تجارية مقلدة، وتسرى هذه العقوبة على كل من وضع بسوء قصد على منتجاته علامة تجارية مملوكة لغيره، وأخيرا كل من باع أو عرض للبيع أو للتداول أو حاز بقصد البيع أو التداول منتجات عليها علامة تجارية مقلدة أو موضوعة بغير حق مع علمه بذلك.
سوق التوفيقية
فى منطقة وسط القاهرة خاصة فى سوق التوفيقية، تُرتكب جريمة كبرى، وهى بيع قطع الغيار المقلدة وغالبا ما تكون صينى بدلا من قطع الغيار اليابانى والكورى باهظة الثمن، والمشترى من لديه الخبرة يعرف ذلك.
الكارثة الأكبر فى بيع كاوتشات السيارات المستعملة على أنها جديدة بحيل شيطانية من البائعين الذين يطبعون عليها علامات تجارية تشبه الأصلية، وبمجرد تركيب الإطار والسير عيه لعدة كيلومترات ينفجر الإطار ويتعرض السائق وركاب السيارة للموت، وهو ما كان سببا فى زيادة عدد حوادث الطرق فى مصر، والتى تبين أن معظمها يعود لانفجار إطارات السيارات أو اختلال عجلة القيادة بسبب عدم اتزان العجلات.
وأشار عدد كبير من البائعين إلى أنّ ارتفاع أسعار قطع الغيار الأصلية يدفع الكثيرين لشراء المنتجات المقلدة، كما أن تاجر الجملة يدرك ذلك أيضا، ولكن ما يهمه هو توفير قطع الغيار حتى وإن كانت مقلدة، إلا أنّ هذا يشكل خطرًا كبيرًا على حياة قائدى السيارة وركابها.
الأمر لا يختلف كثيرًا عن المنتجات الغذائية المتواجدة بجوار العديد من محطات المترو، والتى يحمل بعضها علامات وماركات تجارية معروفة إلا أنها فاسدة ولا يوجد عليها تاريخ إنتاج أو صلاحية، ما يعرض الشركات لخسائر فادحة بعدما تخسر مصداقيتها أمام المواطنين.
خسائر فادحة
وقال الدكتور عمرو يوسف، الخبير الاقتصادى، إنّ استخدام وسائل الغش والتزوير فى العلامات التجارية يمثل بداية الانهيار لها مما ينتج عنه نفور المستثمرين، مشيرا إلى أنّ الكثير من المواطنين والمستثمرين يلجأون إلى علامات تجارية بعينها رغم ارتفاع أسعارها مقارنة بغيرها لقيمتها الشرائية وحفاظها على الجودة، وحال إقدام الشركة على تقليل جودة المنتج أو تعرضها للسرقة من غيرها وتقديم منتجات مجهولة الهوية عليها ما يؤثر على حجم التجارة ويعرض الشركة لخسائر فادحة.
وأشار الخبير الاقتصادى إلى أنّ هناك قانون يحمى العلامات التجارية والملكية الفكرية لهذه المنتجات وأجهزة تراقب الغش منها جهاز حماية المستهلك، ما يحمى المستثمرين من الوقوع فى فخ نصب العلامات التجارية.
وأوضح «يوسف» أنّه ليس هناك رقم محدد صادر من جهة رسمية تؤكد حجم الخسائر التى تعرضت لها مصر من مثل هذه الممارسات غير الأخلاقية فى الأسواق، إلا أنّ حجم الخسائر تقدر بالملايين بالإضافة إلى نفور المستثمرين من مصر.
تشديد القانون
ويرى محمد البهى، عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات، أن التصدى لممارسة الغش التجارى وتزوير الماركات المعروفة تبدأ من سن القوانين الصارمة للحد من هذه الظاهرة
وأشار «البهى» إلى أن القوانين الحالية ضعيفة جدًا، فلا يوجد قانون للتعامل مع مهربى السلع فى السوق المحلى، موضحا أن أقصى عقوبة يمكن فرضها على من يثبت قيامه بضخ سلع مغشوشة تقدر بـ 100 جنيه فقط، وهو ما سمح للكثيرين بالتلاعب فى الأسواق.
وشدد عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات، على ضرورة وجود إرادة قوية من الحكومة لسن قوانين جديدة تتعلق بالغش التجارى لحماية الصناعة والمستهلك من ممارسات أصحاب مصانع «بير السلم» والمهربين من مستوردى السلع عبر المنافذ، حيث أن هذه السلع تضر بالصناعة المصرية من جانب وصحة المستهلك الذى لا يستطيع التفرقة بين المغشوش «الردىء» والسلع الجيدة.
وأوضح أن هناك سلعا تمس صحة المواطنين ومنها الأدوية ولابد أن تكون عقوبة الدواء المغشوش هى نفس عقوبة القتل العمد، واتخاذ الإجراءات القانونية الرادعة للقائمين على تهريب هذه السلعة، لافتا إلى أن هناك تهريب من منافذ عديدة أبرزها المنافذ البرية عبر الحدود مترامية الأطراف مع مصر ومنها ليبيا والسودان، بالإضافة إلى سلع مصانع بير السلم التى تحمل علامات مشابهة للسلع ذات الجودة العالية.
ملابس مزورة
فى سياق متصل، قالت سماح هيكل، عضو مجلس إدارة شعبة الملابس الجاهزة، إنّ الغش التجارى أو التزوير فى الماركات والعلامات التجارية كلها ممارسات تعود لسنوات طويلة، ولكنها قلت بعض الشىء بجهود الحكومة وحملاتها المكثفة لضبط الخارجين عن القانون.
وأضافت عضو مجلس إدارة شعبة الملابس الجاهزة، أنّ هناك العديد من المصانع التى تدار فى المحافظات بدون ترخيص والتى تقوم بتزوير العلامات التجارية على الملابس ما تفقد الشركة هيبتها فى السوق.
وأشارت «هيكل» إلى أنّ مسئولية التصدى لمثل هذه المنتجات تبدأ من المواطن الإيجابى الذى يبلغ عن أى منتجات أرصفة وليس فى الملابس فقط إنما فى المنتجات الغذائية أيضا وغيرها من السلع.
وأوضحت أن التلاعب فى الماركات التجارية عادة ما يحدث داخل سوق وكالة البلح من قبل بعض التجار من معدومى الضمير الذين يطبعون علامات تجارية على خامات رديئة ويبررون ذلك بأنه الموضة الحديثة للشركة.
وقالت عضو مجلس إدارة شعبة الملابس، إن جهاز حماية المستهلك هو الجهة المنوط بها توجيه الشكوى ضد ممارسات الغش التجارى وتزوير ماركات وعلامات تجارية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: تزوير العلامات التجارية منطقة وسط القاهرة المنتجات الغذائية العلامات التجاریة عضو مجلس إدارة علامات تجاریة علامة تجاریة الغش التجارى قطع الغیار إلى أن إلا أن
إقرأ أيضاً:
العودة إلى زمن (المصابيح الزرق) لحنّا مينه.. علامة مبكرة من روائع الرواية العربية الحديثة
في أيامنا يولد كثير من الكتاب والروائيين عبر وسائل التواصل، ولا تتعدى تجارب بعضهم ما يتصفحون من ملخصات تجود بها محركات البحث وبرمجيات الذكاء الاصطناعي، وما يعايشون من صور ومقاطع تبثها تلك الوسائل في كل لحظة.
أما قبل عقود غير بعيدة، فلم يكن هناك (إنترنت) ولم يكن هناك وسائل تواصل، كان الروائيون العظام يولدون في ظروف مختلفة، وهكذا ولدت أسماء كبيرة منها على سبيل المثال: نجيب محفوظ، صنع الله إبراهيم، غائب طعمة فرمان، عبد الرحمن منيف، غالب هلسا، حنا مينه، الطاهر وطار، مؤنس الرزاز…إلخ.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"وزائرتي كأن بها حياء"… تجليات المرض في الشعر العربيlist 2 of 2"غزة فاضحة العالم".. بين ازدواجية المعايير ومصير شمشونend of listفي هذه المقالة نلقي الضوء على بدايات حنا مينه، وهو واحد من روائيي العرب العظام في القرن الـ20، مثّلت رواياته موردا رئيسيا من موارد الرواية العربية، وفي الوقت نفسه ندعو إلى قراءته وقراءة تجارب جيل الروائيين والكتاب الكبار، وخاصة من الأجيال الجديدة، ممن يتوجهون إلى كتابة الرواية، فهذه التجارب الرائدة تمثل موردا مهما من موارد الكتابة والإبداع.
حنا مينه.. أشهر روائيي سورياحنا مينه (1924-2018) أشهر الروائيين العرب في سوريا، وواحد من أبرز الأسماء في الرواية العربية بأسرها، في سيرته أنه من مواليد اللاذقية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط عام 1924م، لعائلة فقيرة، هاجرت عائلته من اللاذقية إلى بلدة السويدية في لواء الإسكندرون، ثم إلى الإسكندرون (المدينة) وظلت فيها عدة سنوات حتى هاجرت مجددا عام 1939 إلى اللاذقية. درس مينه المرحلة الابتدائية في الإسكندرون، ثم خرج من المدرسة ليعمل صبيا لإعانة عائلته. وكذا فعل بعد الهجرة إلى اللاذقية، فعمل حلاقا، وعاملا وحمالا وصبيا أو فتى في الميناء… فكان الواقع المدبب الشقي مدرسته الكبرى التي تأسست عليها رؤيته وموقفه وكتابته الروائية فيما بعد.
وقد تكون هذه النشأة في بيئة الكفاح والعمل هي التي قربته إلى الواقعية الأدبية والفكرية، فإلى هذا الواقع كان يعيد رؤيته اليسارية وكراهيته لليمين، يقول:
"وقد كنت كما هو معروف، يساريا وسأبقى..أما لماذا الأمر كذلك، فإن هذه (اللماذا) في غير محلها! تصوروا ابن العالم السفلي، العاري، الحافي، الجائع، مثلي ومثل ناسي… ثم نكون في اليمين الذي يتغذى أطفاله بالشيكولاته ويركبون الكاديلاك! مفارقة أليس كذلك".
(أشياء من ذكريات طفولتي، ط.دار الآداب، ص121).
إعلانويبدو أن المصادفات لها دورها في تكوينه الثقافي الاعتباطي، ففي السنوات الأولى لعمله وهو صبي، تصادف أن معلّمه الأمي كان شيوعيا بسيطا، فكان الصبي يساعده في قراءات النشرات الحزبية، وعن تلك البدايات كتب حنا مينه:
"بعد شهادتي الإبتدائية، وهي الوحيدة التي حصلت عليها، عملت أجيرا عند صاحب دكان لتأجير الدراجات، كان هذا المعلم، يدعى عفيف الطويل، مشبوها، قد ضبط، في أول أيار، يعلق بيارق صغيرة حمراء، على أعمدة الهاتف، وفي بيته حيث يعيش مع أخته الخياطة، صودرت كل الفساتين من اللون الأحمر الفاقع، الذي كان موضة تلك الأيام.
كان معلمي أسمر طويل، فيه طيبة وفيه ملاحة لكنه بسيط، لا يخطر لك وأنت تراه، أنه في خلية حزبية، تعقد اجتماعاتها في المغائر على ضوء الشموع، ولأن معلمي أمّي فقد كان يأخذني مساء لأقرأ له بعض النشرات.
وفيها لأول مرة قرأت كلمة فلسفة، ما قرب ماركس من قلبي ونفسي، أنه بفكره العظيم، أعطاني مفهوما عن العالم، منحني الرؤية التي فتحت عيني، وأضفى على مهنتي الأدبية، لا الوعي وحده، بل الجمالية أيضا".
(وقائع الندوة التكريمية، ص214).
وهكذا تعلم حنا مينه على نفسه، وكتب قصصا ومسرحيات أول الأمر، نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، ولكن (المصابيح الزرق) أولى رواياته التي قدمته للقارئ ولأوساط الثقافة، وقد كتبها في السنوات الأولى من خمسينيات القرن الـ20، ونشرها عام 1954م. ليسجل بصدور هذه الرواية المتفوقة اسما لامعا في سجل الرواية العربية.
الاتجاه الواقعي وتأثير محفوظ وغوركيوقد اختار حنا مينه الاتجاه الواقعي، الذي افتتحه نجيب محفوظ قبيل ذلك بسنوات قليلة، عندما نشر منتصف الأربعينيات رواياته المكانية: خان الخليلي، زقاق المدق، القاهرة الجديدة. وكذلك ظهرت رواية عبد الرحمن الشرقاوي (الأرض)، ويبدو أن هذا الاتجاه قد راق حنا مينه بتفاعله مع الواقعية وبقراءته بعض آثار الأدباء الروس والسوفيات، وعلى رأسهم (غوركي)، وبانتماء الكاتب إلى الواقع الكادح، وبرغبته في التمرد ضد الواقع؛ ولذلك فقد كان لروايته دورها الريادي إلى جانب الأعمال القليلة في تلك الحقبة في التحول من الرومانسية إلى الواقعية.
وقد أقر حنا مينه بأثر محفوظ وغوركي بوجه خاص فكتب عن الاتجاه الواقعي وتأثره به:
"في تأثري بالمذهب الواقعي كان لي اتصال بنجيب محفوظ من الروائيين العرب، وبغوركي من الروائيين العالميين. وحين بدأت كتابة روايتي الأولى "المصابيح الزرق" لم يكن لي أي إلمام، أو اطلاع، على نظرية الرواية، أو تقنيتها أو مفهومها".
ومعنى هذا أنه يذهب إلى أنه تعلم من قراءة الروايات التي راقته ووافقت ميوله الأدبية، أكثر من الاطلاع على الجانب التاريخي والنظري والتقني المتصل بنظرية الرواية وتطورها وتاريخها.
ومع ما سبق فإن قارئ هذه الرواية التي تمثل باكورة تجربة الكاتب الراحل الرائد، يدرك أن اطلاع الكاتب لم يكن هينا، ولكن حنا مينه يميل دائما لتصوير الكتابة كأنها إلهام رغم واقعيته الاشتراكية التي لا تعترف بمثل هذه الميول، فكل ما في الرواية من عناصر ومن إتقان ومن حرفية تشهد على اتساع الاطلاع لا على الروايات العربية والأجنبية وحدها، وإنما على قطاع واسع من تقنيات الرواية الواقعية بوجه خاص، وأن الأمر لا يعود إلى الموهبة وحدها، وإنما إلى ضرب من الثقافة الواسعة إلى جانب الاستعداد الإبداعي والإخلاص للتجربة.
إنها رواية واقعية ذات نفس ملحمي إذا صح التوصيف، ذلك أنها بمقدار ما فيها من شخصيات بارزة، تقصدت التعبير عن روح شعب أو قطاع من الشعب العربي يغالب الاستعمار والانتداب، ويغالب الحرب العالمية الثانية التي أشعلتها القوى الكبرى واحترقت الشعوب بتأثيراتها، وتمكن من المحافظة على درجة دقيقة من النفس التاريخي مع دمجه بالتفاصيل الواقعية الغنية، التي ملأت الرواية بالحياة والحيوية. فكانت الروح الجماعية هي صاحبة البطولة وليس الفرد.
إعلانوالرواية من عنوانها وفقرتها الأولى تضع القارئ في أجواء الحرب العالمية الثانية، فالمصابيح الزرق هي المصابيح التي تطلى باللون الأزرق لتخفيف الإضاءة تجنبا لخطر الحرب:
"لم يكن فارس في بدء الحرب العالمية الثانية شيئا يذكر. كان صبيا يافعا في السادسة عشرة من العمر، مولعا شأن اليافعين، بالروايات والحوداث الفظيعة! لعله كان يبغي، دون أن يعي منفذا إلى الحركة من الجمود المسيطر على حياته، ويحلم بمغامرات خارقة أملا بالحصول على ما حرم منه".
ص18.
هذه هي نقطة البداية، تحديد الزمان والشخصية المحورية، ثم تهيأ للرواية أن تتشعب مع تقدم الزمن، زمن الحرب وما ألقته على حياة الناس من تأثيرات، وتقدم فارس في العمر حتى دخوله مرحلة النضج والشباب. وهي في جوانب منها أقرب إلى روايات التعلم أو التربية، تلك التي تقدم صورة نامية عن أبطالها وكيفية تكونهم وتطور وعيهم وسلوكهم.
وقدمت الرواية مشاهد قوية لتسجيل مشاهد الجوع والفقر والبطالة والظلم، من خلال مشاهد واقعية حية، فصوّرت صراع الناس من أجل رغيف الخبز، ومعاناتهم أمام نقصان السلع واختفائها من الأسواق، وانتشار البطالة وغير ذلك من مشكلات اجتماعية واقتصادية مركبة، ترتد كلها إلى المشكلة السياسية وإلى الاحتلال أو الاستعمار، وهو أمر يحسب للوعي السياسي عند المؤلف، بمعنى أنه لم يفصل هذه المشكلات وإنما جعلها كتلة مترابطة ترتد كلها إلى ظروف الانتداب وما جاء معه من شرور وويلات.
ومن اللمحات الدالة أن مشاكل الصيادين الذين كانوا يلجؤون لخير البحر قد تفاقمت مع قدوم شركات الصيد الأجنبية التي تستخدم القوارب الحديثة، فلا تترك لهم شيئا. وتدفعهم الرواية إلى الوعي بالربط بين تراجع أحوالهم وانهيارها وبين الاحتلال الذي جاءت معه هذه القوارب المعادية التي لا تبقي لهم شيئا يصيدونه.
المنظور الطبقي من مسلّمات الواقعيةوإلى جانب هذا، التفتت الرواية إلى قسمة حاسمة بين عالمين، عالم الفقراء والكادحين والعمال، وهو العالم الذي تولد فيه روح الثورة والتمرد والنضال، مقابل عالم الأغنياء والمتنفذين وأعوان السلطات وصولا إلى سلطات الانتداب، وقلما نجت شخصية من هذا الضرب من التنميط. فإما أن تكون هنا أو هناك.
إنها رواية متشعبة كأنه وضع فيها بذور موهبته ورواياته اللاحقة كلها، ومن يعرف روايات مينه يدرك أن بذور أغلبها موجودة في بعض تشعبات هذه الرواية وأجوائها وتفاصيلها الكثيرة. فهي رواية بحر من جهة من خلال بيئة اللاذقية وتصوير البيئة البحرية وثقافة ناس الشاطئ السوري، وهي رواية مقاومة على صعد كثيرة، صورت موقف سكان اللاذقية وحي القلعة الفقير -المكان الرئيس في الرواية- من سلطات الاستعمار الفرنسي، فقدمت مشاهد المظاهرات المنظمة والإضرابات وصولا إلى المعارك التي تنشب في هذه الأجواء، وظهور طبقة من القيادات الشعبية التي تسعى لتنظيم المتظاهرين ومعظم تلك القيادات نلمح فيها التفاعل مع الفكر المقاوم، ولكن على قاعدة التجربة والكفاح الشعبي أكثر من التأثر الفكري القادم من الكتب أو الأدبيات الفكرية والسياسية.
والرواية إلى ذلك في قسم واسع منها تمثل جانبا من أدب السجون، من خلال تجربة فارس الذي بدا كأنه الشخصية المحورية، أو الخيط الناظم بين أكثر شخصيات الرواية، فلقد تعرض للسجن، وفيه نضجت تجربته وانتقل من مرحلة الصبا إلى الشباب بقوة وشجاعة:
"في السجن عاش فارس فتى بين الرجال، ثم صار رجلا مثلهم..أنضجه بسرعة ما رأى وما سمع من شؤون الحياة".
(ص159)
ودائما هناك المعلمون الذين يلتقيهم بالمصادفة، كعبد القادر في السجن، ومحمد الحلبي وأبو جميعة خارجه، لقد بدا ميالا إلى هؤلاء الذين يمثلون التمرد والروح النضالي بوضوح.
وهي رواية تتأمل الواقع، بما فيه من إقطاع أو بقايا إقطاع، وتتقصد التحرش بالقسمة غير العادلة، بين المالكين الأثرياء والعاملين، سواء في الأرض، أو البحر، أو المصانع والمشاغل (العمال)، معظم أصحاب العمل أشرار مستغلون -كما تقدمهم الرواية- وهي صورة نمطية صاحبت الرواية الواقعية، وأما الكادحون فهم غالبا أخيار مضطهدون مظلومون، ولكنهم رغم فقرهم وتحليهم بالصبر مستعدون للتمرد وللنضال ضد الواقع المختل.
إعلانومؤكد أن هذا التنميط يقتضي المراجعة والنقد في كثير من الأحيان، ولكنه في العموم سمة كبرى صاحبت الرواية الواقعية في تلك المرحلة المبكرة.
ومن الأمور التي يمكن تأملها في هذه الرواية، الدقة في رسم الشخصيات، إذ تظهر قدرة الكاتب على إبداع الشخصيات ورسمها رسما دقيقا، بما فيها الشخصيات الثانوية أو الهامشية، كشخصية (مريم السودا) التي لم يفت الكاتب وصفها، والوقوف عند سوادها، مع التنويه على لسان أبي فارس: "لا تأخذوا بالمظاهر.. الإنسان في فعله لا في لونه". ص33.
مثل هذه اللمحة التي تحمل وعي الرواية والروائي تتسرب على ألسنة الشخصيات وتميز رواية المصابيح الزرق. ولكن يفلت منه ما يعارضها أحيانا، فبعد اللمحة الواعية السابقة يأتي على لسان الراوي: "أما مريم السودا -ويسميها أبو فارس الجاجة- فكانت تحاول الظهور بمظهر النساء النصف، ويقول العارفون إنها تكبر زوجها 20 عاما..". ص33.
فالكنية التي مصدرها أبو فارس لا تستقيم مع ما ظهر من وعيه حيال رفض التمييز بناء على اللون، أو تضعف ذلك الوعي على أقل تقدير.
أما أبو فارس، إلى جانب عمله في البناء، فهو مغني الحي في أوقات الراحة القليلة، غناؤه المفضل هو الموال: "وكان أحب الغناء إلى أبي فارس، الموال، ففيه رجولة وأصالة –هكذا يقول- وفيه معان بعيدة عن التخنث والابتذال". ص35.
ويستطرد بعدها لإيراد نماذج أو أمثلة على مواويلله. وما يخالطها من الميجنا. والرقص الذي يخالط ذلك كله وتشارك فيه مريم السودا بعرجتها المميزة، وزوجها نايف وعازار الإسكافي ذو الرجل المقطوعة.. فيغدو الحفل حفلا خاصا على مقاس سكان هذه الدار من دور حي القلعة.
تتميز الرواية الواقعية بوضوح عنصر الشخصية، وبأنها مرسومة بدقة وقوة، بدءا من اسمها، أي أن الشخصيات تحمل أسماء وكنى تنبئ عن طبيعتها وفرادتها ووضوح مكوناتها، وقد سمى المؤلف معظم شخصياته الرئيسة والثانوية بأسماء دالة: فارس، أبو فارس، الصفتلي، محمد الحلبي، جريس المختار، الشاروخ، بشارة القندلفت، مريم السودا، وزوجها الفحل، عبد المقصود أفندي، رشيد أفندي، نجوم (الفتى الريفي/الراعي)، رندة… آرتين (الخمار)، فتسمية الشخصية عنصر مركزي في هذه الرواية وفي معظم روايات مينه اللاحقة.
ونلتفت إلى عناية المؤلف بشخصية فارس التي تبدو مشتقة من شخصية المؤلف نفسه، في بعض جوانبها، ولكنه تصرف بها وحولها إلى شخصية روائية مبتعدا بها عن أطياف السيرة الذاتية، التي عالجها في روايات لاحقة وخاصة (بقايا صور) و(القطاف) و(المستنقع). وقد صوّر حب فارس ورندة، فلا بد في الملاحم والروايات الطويلة من قصة حب، ولكنه حب لم يكتمل، ولم يقيض له في زمن الحرب أن ينجو من ويلاتها.
إنه حب محكوم بالعطب، تعرض هذا الحب للاختراق من خلال ما تعرض له فارس من استغلال، بسبب حاجته للعمل بعد خروجه من السجن، فقد استغلته أرملة معلمه القديم، وكافأته ليعمل بوظيفة جيدة من وظائف سلطات الانتداب، ثم لما ابتعد عنها ليكسب رندة، عاقبته عقابا قاسيا، ففصل من عمله.
وبالرغم مما منحه المؤلف للشخصية من وعي فإنه في الفصل الأخير لم يكن مقنعا بتصوير الصراع الذي أدى بفارس أن يتطوع ليتجند في صفوف الجيش الفرنسي، طواعية، سوى ظروف البطالة، وبدا أن كل الوطنيين والمقاومين وأهله كذلك يعدّون هذا العمل غير مشرف، حتى وإن كان سيحارب معهم في ليبيا.
لم تسوغ الرواية هذا التحول في شخصيته، ولم تقدم إيضاحا سرديا كافيا أو مقنعا لهذا الانكسار بعد أن جعلته تلميذا وفيا للمقاومين منذ دخوله السجن وبعده. فلا يليق بتلميذ المقاومة أن ينتهي إلى هذا المآل.
المهم أن الروائي عاقبه بهذا التحول المخزي، فجعله يضيع أو يموت ولا يعود إلى موطنه، ولم يتبق منه غير صورة مكبرة على الجدار الفقير في غرفة أسرته تبكي أمامها أمه كل يوم في انتظار عودة لن تتحقق. أما رنده فتمرض وتموت، دون أن تفسر الرواية أسباب ذلك، ودون أن تربط مرضها بغياب فارس إلا على سبيل الافتراض.
لمحات المعاصرة والموروثوترصد الرواية دخول الراديو والفونوغراف (الحاكي)، إلى الحي، وهي لمحة على محاولة الرواية التقاط المؤثرات الجديدة، وما تخلفه من أثر. ولكن مع الحرب اختلف كل شيء، فحتى هذه اللحظات المبهجة القليلة سرقتها الحرب. وهو يذكرنا برصد محفوظ لدخول الراديو إلى المقهى وتراجع دور الشاعر الشعبي في التقاطة مماثلة من اللفتات الواقعية في رواية زقاق المدق لمحفوظ.
إعلانوفي الرواية لمحات قوية من الموروث، من مثل سرد أجزاء من سيرة الزير سالم المعروفة بأجوائها البطولية، حيث يقوم الصفتلي بدور الحكواتي، ويتم التركيز على الأجزاء الملحمية البطولية كأنها تغذي بقية أجزاء القصة. (ص167)
وكذلك بعض اللقطات من الثقافة الشعبية المحلية، ففي حادثة مقتل أحد الجنود، بعد تعرض فتاة لتمزيق ملايتها من جندي ثمل، وما تبعه من إيقاف بعض المتهمين، محمد الحلبي وبعض رفاقه، "وذهب وفد إلى السراي محتجا، وضع أحدهم خنجره على طاولة المحافظ دون أن يتكلم. كانت عادة وضع السلاح على مكتب صاحب النفوذ أو السلطة عادة قديمة، لكنها متبعة، معناها أن الأمر لن يمر بسلام" ص170.
أما اللغة فقد أحكمها المؤلف إحكاما شديدا، وتمكن باللجوء إلى الفصيحة المطعمة بالمفردات والتأثيرات المحكية في الحوارات الثنائية والجماعية من تقديم نموذج قوي على التنوع في الشخصيات وفي الكلام المنسوب إليها، وهي سمة تكاد تداني مقدرة نجيب محفوظ، في هذا الجانب الحيوي.
النهاية المتفائلةالنهاية رغم هذا الموت لبعض الشخصيات الفردية كانت متفائلة، مقاومة، بمشهد المظاهرة والقبضات المهددة الرافضة للاستعمار. وبمعنى ما فإن انتصار الجماعة واستمرار المقاومة هو الفكرة التي أرادت الرواية تثبيتها، رغم الحوادث الفاجعة التي مني بها الحي فوق الفقر والبطالة والاحتلال.
"ظل المتظاهرون يتقدمون بجموع سدت الشارع الكبير على رحبه. كان محمد الحلبي في المقدّمة يحمل البيرق مركزا عقب ساريته في خصره، ومصطفى الصيداوي وأبو فارس وصقر والجبلاوي وعلي مكسور يسيرون مع السائرين، وعبد القادر يهتف محمولا على الأكتاف، وهتافات الجموع ما تفتأ تعنف وتعنف في كل خطوة، والناس يتسارعون فينضمّون إلى المظاهرة ويهزّون قبضاتهم في الفضاء، مرسلين إنذارا بالموت أو الجلاء".
ص317.
هذه لمحة من بدايات حنا مينه التي حملت رواياته اللاحقة معظم طوابعها، فكانت توسيعا وتجويدا وتفصيلا لبلاغة الواقع ولبعض ما عايشه الروائي الراحل في اللاذقية وبيئة الشاطئ السوري. وعلى وجه الإجمال، قدم حنا مينه رواية ناجحة ما زالت قابلة للقراءة، حتى اليوم، فيها قوة الفكرة أو المضمون، وفيها المتعة السردية المشوقة، وفيها المقدرة على تصوير المشاهد الجماعية المعقدة.
وكل ذلك يدفعنا لنقول في الختام إن المصابيح الزرق واحدة من الأعمال الروائع في مكتبة الرواية العربية الحديثة.. ويحسن بمن يحاولون الرواية أو يحلمون بكتابتها أن يتعلموا بعض دروس الرواية وتقنياتها وطرق رسم الشخصيات وصياغة الحوارات القوية الحية من مثل هذه الرواية وما يشابهها من روائع الرواية العربية الباقية.