توفرت في غزة، كل الأدلة الدامغة على ارتكاب إسرائيل جرائم الإبادة الجماعية، ولم تعد تلك الجرائم تشكل فعل الصدمة على مجتمع دولي منافق، وعربي عاجز عن لجم الاحتلال ووقف هذه الجرائم وصد العدوان المتواصل على الشعب الفلسطيني وحمايته. فجريمة إعدام طاقم صحفيي الجزيرة في غزة الأحد، واستهدافهم بشكل مباشر، كانت واضحة الأهداف، لأن هذا النمط الشنيع من البشاعة والإرهاب كان نهجا إسرائيليا خالصا منذ بدء ارتكاب إسرائيل لجرائم الحرب والإبادة في غزة ومنذ نكبة الشعب الفلسطيني قبل 75 عاما.
سبق إعدام طاقم الجزيرة تهديد إسرائيلي مباشر لهم ونية مسبقة للقتل، وسبق كل ذلك تحضير وتهديد وتجهيز لإعادة احتلال قطاع غزة، فبعد 22 شهرا من العدوان الإسرائيلي على غزة، واحتلالها المباشر لمدن القطاع وتدميرها بشكل كامل، ووضع أكثر من مليوني فلسطيني تحت الضغط والسحق المباشر لحياتهم، انتشرت صور وأخبار جرائم الإبادة الجماعية، وحاصرت تلك المشاهد سردية المؤسسة الصهيونية ووضعتها في قفص الاتهام عند الشعوب حول الأرض، ولم تنفع كل البروباغندا الداعمة لجرائم الإبادة في طمس الحقائق.
إعلان نتنياهو عن تحضير حملة عسكرية لإعادة احتلال غزة، متذرعا بـ"الأمن" وضرورة إنهاء المهمة وهي مهمة الإبادة الجماعية، كأنه يقول للعالم إن إسرائيل لم تحتل القطاع بعد، ولم تدمر وتقتل وتشوه مئات الآلاف من سكان غزة وتحطم القطاع بأكملها. الإبادة الجماعية شارفت على الانتهاء، وإسرائيل بحاجة ماسة للسيطرة على مسرح الجريمة وقتل الشهود وتهجير من تبقى من ضحايا الإبادة الجماعية. فكل ما تبقى من جعبة المؤسسة الصهيونية حاليا بالنسبة لغزة، تنظيف مسرح الجريمة وحرق الأدلة قبل أن يتاح للمحاكم الدولية والمؤرخين فحص الخيوط الدالة والهائلة لإدانة إسرائيل، فإسرائيل دمرت 97 في المئة من أبنية غزة إلى جانب المستشفيات والجامعات والبنى التحتية، وهذا المستوى من الدمار كان بتخطيط صهيوني وتنسيق لسياسة إبادة جماعية متعمدة في غزة.
وسبق لمحكمة العدل الدولية، أن قضت بأن أفعال إسرائيل "تعتبر إبادة جماعية محتملة" وأمرتها بوقف الهجمات وبدخول المساعدات، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت، وضيقت الأسوار القانونية الخناق عليهما. ونتنياهو يعلم ذلك، لكن النقطة الجوهرية هنا هي أن الاحتلال الكامل لغزة، يعني سيطرة كاملة على الأدلة، يمكن إعادة دفن المقابر الجماعية كـ"مواقع بناء واستيطان جديدة"، لهذا تقتل وتجوع الأطفال بذريعة حتى لا يكونوا ضمانة مستقبلية لحماس، ولهذا تم تصنيف المستشفيات المدمرة كـ"بنية تحتية عسكرية لحماس"!
كل هذا كان جزءا من خطة صهيونية، ملتوية أُتقنت على مدى عقود، لتطهير عرقي، وإعادة صياغة الحقائق على الأرض وتزويرها، وإعادة صياغة التضاريس بالاستيطان والتهجير. لا جديد يُذكر في الواقع في السلوك الصهيوني المعتاد تجاه الفلسطينيين لا في غزة، ولا في بقية المناطق المحتلة في الضفة والقدس، لقد نجحت هذه الاستراتيجية في عام 1948 عندما تم محو قرى فلسطينية بأكملها من الخرائط والتاريخ، ويبدو أنها تنجح في الضفة الغربية المحتلة حيث تنمو المستوطنات وتنمو فوق المنازل المهدمة، وسوف ينجح الأمر مرة أخرى في غزة ما لم يتدخل العالم الآن، فكل يوم يمرّ وغزة تحت الاحتلال الإسرائيلي الكامل هو يومٌ آخر لنبش المقابر الجماعية، ولتدمير الوثائق، ولإسكات الشهود أو تشريدهم.
بعد الحصول على موافقة الإدارة الأمريكية الضمنية، يمكن للدبابات والجرافات الإسرائيلية أن تبدأ توغلا جديدا بعد أن دمرت كل شيء، ولا تجد أمامها ما يمكن تدميره، فهي ستكون في مهمة محو نطاق الدمار وتجريف ما تبقى من معالم وأدلة على الجرائم الإبادة. وليس مصادفة أن يصمت العالم كله عن هذه الجريمة، بل هو منسق بتواطؤ دولي وأمريكي، فالأمر ليس إعادة احتلال وسرقة أرض، لأنه موجود بالفعل والاحتلال مارس كل أنواع الجرائم ومستمر بها، بل متعلق بسرقة ذاكرة شعب ليضمنوا، عندما يبحث المؤرخون والمدعون العامون عن أدلة على ما حدث في غزة بين تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وآب/ أغسطس/ 2025، أن يجدوا رواية إسرائيلية بدلا من الشهادات الفلسطينية وبقايا الإبادة الجماعية.
إن احتلال غزة هو في واقع الأمر المرحلة النهائية للإبادة الجماعية: محو أدلة الجرائم وطمسها، فالإبادة الجسدية تليها إبادة تاريخية أولا، تقتل الناس، ثم تمحو ذكرى ما فعلته بهم، وتلك سيناريوهات نكبة 48، وعدوان 67 واحتلال بقية فلسطين، والآن جريمة الإبادة الجماعية في غزة. ولهذا السبب تُعدّ اللحظة الراهنة حرجة للغاية، فكل يوم يمر دون تدخل عربي ودولي، هو يوم آخر لقتل المزيد من الناس ودفن المزيد من الأدلة، حرفيا ومجازيا، وكل مقبرة جماعية لا تُحمَى هي جزء آخر من الحقيقة التي تتلاشى إلى الأبد.
يجب أن ندرك تماما أن ما نشهده هنا ليس مجرد دعوات لضم غزة، بل هو محاولة قتل التاريخ نفسه، وهو أمر تحب إسرائيل أن تفعله في مسرح الجريمة الذي تحتله منذ 75 عاما وتحاول قتل شهوده وكي وعيهم.
أخيرا، ذريعة إسرائيل لإعدام الصحفيين والأطباء وقتل مئات الآلاف بأنهم ينتمون لحماس، هي ذريعة تافهة لأن ذاكرة الشعب الفلسطيني مثخنة من إرهاب المحتل وقتله لمئات آلاف الفلسطينيين واستهداف قادتهم وكوادرهم من غسان كنفاني وأبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، إلى خليل الوزير وفتحي الشقاقي وأحمد ياسين، وتسميم عرفات، وكل القافلة الطويلة من الشهداء من مناضلين وكتاب وصحفيين وشعراء وكوادر، ليس لأنهم من هذا الفصيل أو ذاك، بل لأنهم فلسطينيون خاضوا على امتداد الزمان والمكان كفاحا ضاريا من أجل انتزاع الحرية لشعبهم وأرضهم ولأجل قضية عادلة، ففلسطين كلها مسرح جريمة صهيونية، وشهودها لن يصيبهم الفناء رغم تكالب العالم كله ضدهم.
x.com/nizar_sahli
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء غزة إسرائيل الاحتلال الفلسطيني إسرائيل احتلال فلسطين غزة ابادة قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة رياضة مقالات سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإبادة الجماعیة مسرح الجریمة فی غزة
إقرأ أيضاً:
كاتب إسرائيلي: مذبحة ناميبيا تكشف جذور الإبادة الجماعية الاستعمارية
في مقال نشرته صحيفة "هآرتس" الصادرة بالعبرية، طرح الكاتب الإسرائيلي كوبي نيف سؤالا تاريخيا مثيرا للجدل، وهو: هل يمكن أن يبرر وقوع "مجزرة" ارتكاب إبادة جماعية؟
وانطلق الكاتب من دراسة حالة ناميبيا، الدولة الصغيرة في جنوب القارة الأفريقية التي لم يتجاوز عدد سكانها اليوم 3 ملايين نسمة، والتي خضعت عام 1884 للاستعمار الألماني في عهد الإمبراطورية القيصرية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صحف أميركية: سيطرة ترامب على واشنطن توسع سيطرة الجيش وتهدد الديمقراطيةlist 2 of 2مجلة تايم: الذكاء الاصطناعي يغيّر موازين القوة في العالمend of listويشير الكاتب إلى أن أول حاكم للمستعمرة، هاينريخ إرنست غورينغ، والد هيرمان غورينغ، أحد أبرز قادة النظام النازي لاحقا، فرض فورا نظاما قانونيا مزدوجا يميز بين المستوطنين الألمان والسكان الأصليين، وصادر أراضي القبائل، فيما نُهبت ثروات البلاد من نحاس وألماس وذهب ومعادن نادرة.
قمع وحشي
ورغم محاولات متفرقة للمقاومة، قُمعت جميع الانتفاضات بوحشية، وفي يناير/كانون الثاني 1904، توحدت قبيلتا الهيريرو والناما في انتفاضة مسلحة بدأت بقتل نحو 150 مستوطنا ألمانيا.
وكان الرد الألماني على تلك المذبحة صاعقا؛ إذ أرسلت برلين الجنرال لوتار فون تروتا على رأس جيش كبير، معلنا أنه "لا يمكن خوض حرب إنسانية ضد من ليسوا بشرا"، ومتعهدا "باقتلاع القبائل المتمردة ببحور من الدم والذهب".
ونفذ فون تروتا خطة لتطويق مناطق الهيريرو، تاركا منفذا وحيدا للهروب نحو الصحراء، حيث مات معظم الفارين جوعا وعطشا.
وحسب التوثيق التاريخي، ارتكب الجيش الألماني مذابح بحق الرجال والنساء والأطفال، وقتل الجرحى والأسرى، وسمّم آبار المياه، قبل أن يرسل من تبقى إلى معسكرات اعتقال.
ارتكب الجيش الألماني مذابح بحق الرجال والنساء والأطفال وقتل الجرحى والأسرى وسمّم آبار المياه قبل أن يرسل من تبقى إلى معسكرات اعتقال ظروف مروعةويصف المقال تلك المعسكرات بأنها شهدت ظروفا مروعة من العمل القسري والتعذيب والاغتصاب والإعدامات، حيث مات ثلث المرحلين في الطريق إليها، وتوفي كثيرون آخرون داخلها بسبب الأمراض وسوء المعاملة.
ووفق التقديرات، قُتل نحو 65 ألفا من الهيريرو، أي 80% من شعبهم، وعشرة آلاف من الناما، أي نصف تعدادهم.
إعلانويؤكد الكاتب أن هذه كانت أول إبادة جماعية في القرن العشرين، رغم أن مصطلح "إبادة" لم يُصغ إلا عام 1943 على يد الحقوقي الأميركي اليهودي رافائيل لمكين. لكنه يشير إلى جدل بين المؤرخين فيما إذا كان ينبغي تصنيف ما جرى كإبادة جماعية، خاصة أن الانتفاضة بدأت بهجوم على المستعمرين، وهو ما استغله المستعمر لتبرير الإبادة.
ويخلص المقال إلى أن الإجماع الأكاديمي اليوم يصنف ما جرى في ناميبيا كـ"إبادة جماعية استعمارية"، تكشف كيف يمكن للسلطات المحتلة أن توظف أحداثا دموية -مهما كانت- كذريعة لإبادة شعوب بأكملها، وهي عبرة تاريخية ما زالت أصداؤها تتردد في النزاعات المعاصرة.