قتلت إسرائيل 238 صحفيّا فلسطينيّا في قطاع غزّة منذ أن بدأت إبادتها للفلسطينيين في القطاع، فبعد استهدافها مراسلي ومصوري قناة الجزيرة، أنس الشريف ومحمد قريقع، وإبراهيم ظاهر، ومؤمن عليوة، ومحمد نوفل، اغتالت الصحفي محمد الخالدي. وإذا كانت هذه السياسة أكثر انكشافا وعنفا أثناء الإبادة؛ فإنّها ليست جديدة بالنسبة للسياسات الإسرائيلية، فقد مضت أكثر من ثلاث سنوات على اغتيال قوات الاحتلال لمراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة على مدخل مخيم جنين، وذلك علاوة على استشهاد صحفيين آخرين، واعتقال غيرهم، وإغلاق العديد من المؤسسات الإعلامية الفلسطينية، واعتقال النشطاء الفلسطينيين بتهمة تعبيرهم عن آرائهم الوطنية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك في حين ما يزال قرار إغلاق قناة الجزيرة في الأراضي المحتلة عام 1948 والضفة الغربية جاريّا، مما يعني أن قتل صحفييها ومراسليها ومصوريها يأتي في سياق إنفاذ القرار في غزّة بقوّة النيران.



تأتي سياسة قتل الصحفيين الفلسطينيين في قلب السياسة الاستعمارية الإسرائيلية عموما، والإبادية خصوصا، وذلك لأنّ الاستعمار الصهيوني في جوهره تأسس على النفي؛ النفي الفيزيائي للسكان الأصليين، بإنكار وجودهم أولا، وتاليا بمحاولة تحقيق هذا الإنكار بالقوّة المسلحة، من خلال عمليات التشريد والتطهير العرقي، وبما أن العدوانية الإسرائيلية المنفلتة، والمدعومة من المغرب، والمعززة بكون الفلسطينيين وحدهم في مواجهة هذا النمط الاستعماري الفريد، لم تتمكن من اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم تماما، وبعد أن نفت إسرائيل عنهم هويتهم الفلسطينية وجعلتهم مجرد عرب يعيشون في "أرض إسرائيل التاريخية"، فإنّها نفت عنهم إنسانيتهم. فوصف سكان قطاع غزّة بأنّهم حيوانات بشرية، لم يكن انفعالا طارئا بعد السابع من أكتوبر، تأتي سياسة قتل الصحفيين الفلسطينيين في قلب السياسة الاستعمارية الإسرائيلية عموما، والإبادية خصوصا، وذلك لأنّ الاستعمار الصهيوني في جوهره تأسس على النفيوإنّما كان تعبيرا عن موقف إسرائيلي عميق يصطدم بالسكان الأصليين بوصفهم حقيقة، وهو ما يستدعي الانتقاص من آدميتهم، ليس فقط لتسهيل إبادتهم، ولكن لتسهيل الحياة الاستعمارية وتدعيم الوعي القومي الإسرائيلي، بمعنى أنّ السردية الإسرائيلية تحتاج في نفس الأمر، وبقطع النظر عن السياسات الإبادية، إلى انتقاص آدمية العدوّ الأساس لإسرائيل.

قتل الصحفي يستند في أساسه إلى هذا التصوّر، فأن يمتلك "الآدمي الناقص" أو "الحيوان البشري" وسيلة إعلامية فهو أمر شاذ، يخالف منطق الطبيعة. الفلسطيني لا حياة آدمية كاملة له، وبذلك، فهو لا ينبغي أن تكون له مظاهر الحياة المدنية الإنسانية، من منازل، ومدارس، ومستشفيات، ومساجد، وما سوى ذلك، وهو أقلّ شأنا من أن يقول الشعر ويصنع الموسيقى، ومن كان هذا حاله كيف يعمل في الصحافة، وتكون له مؤسسات إعلامية. على أية حال، هكذا صوّرت الحركة الصهيونية السكان الأصليين لفلسطين قبل النكبة، جعلتهم مجتمعات بدائية، مجرّدة من الوعي بلوازم العمران الإنساني، وبمرور الوقت، نزلت بهم في تصوّرها إلى منزلة الحيوانات البشرية، وهو أمر بالضرورة سهّل الإبادة الجماعية بهذا النحو المريع، المنفلت من أيّ كابح، ولأنّ الإسرائيلي تعوّد أن يكون ذا دلال على العالم، يستبطن استحقاقا له على أهل الكوكب، فهو يفترض أن رؤيته للفلسطينيين ينبغي أن تكون رؤية العالم كله.

يزداد الأمر توترا في عقل الإسرائيلي ودوافعه حينما يؤكد الفلسطيني أنّه في موقع مضادّ تماما للتصوّر الإسرائيلي عنه. مثلا، عززت إسرائيل من سياسات التجويع في الشهور الأخيرة لتكون مطبقة، بالرغم من كونها سياسة موجودة منذ بداية الإبادة، بوصفها واحدة من أدوات تركيع الغزيين، لكن ومع طول أمد الحرب دون وصول الإسرائيلي إلى الحسم المطلوب؛ رفع التجويع إلى درجة الإطباق الكامل، مع إنكار إسرائيلي معتاد لوجود مجاعة مفروضة منه في غزّة. ليست مشكلة الإسرائيلي فقط في انكشاف سرديته، ولكن أيضا في كون من كشف هذه السردية وفضحها وردّها سلاحا في وجه صاحبها هو شاب فلسطيني، اسمه أنس الشريف، وهذه هي عقدة الإسرائيلي؛ أن يكون الفلسطيني فاعلا وقادرا على المواجهةأنس الشريف وغيره من الصحفيين الفلسطينيين تمكنوا من تحطيم السردية الإسرائيلية، وتكذيب ادعاءاتها، وتحويل السياسة التي أريد منها تركيع الفلسطينيين إلى سلاح بيد الفلسطينيين يفضح العدوانية الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي.

ليست مشكلة الإسرائيلي فقط في انكشاف سرديته، ولكن أيضا في كون من كشف هذه السردية وفضحها وردّها سلاحا في وجه صاحبها هو شاب فلسطيني، اسمه أنس الشريف، وهذه هي عقدة الإسرائيلي؛ أن يكون الفلسطيني فاعلا وقادرا على المواجهة، فكما أنّ نزعة التفوق العنصري عانت ارتباكا مريريا مع السابع من أكتوبر، فإنّ الإسرائيلي ما زال غير قادر على تصوّر الفاعلية الفلسطينية في غزة بعد 675 يوما على الإبادة الجماعية، وهو اليوم الذي استشهد فيه أنس ورفاقه.

علاوة على النية الإسرائيلية الواضحة بـ"تطهير" الميدان من أي صحفي، وكاميرا، وطمس الصورة، والكتم المسبق للصوت، على مشارف تشريد سكان مدينة غزة، ثم الشروع في تدميرها بالكامل وقتل من تبقى من سكانها، وهو ما احتاج إلى قتل ما تبقى من مراسلي قناة الجزيرة والعاملين معها، فيجب التنويه إلى عناصر أخرى في الدافعية العنصرية الإسرائيلية، من قبيل أنّ الفلسطيني لا يستحقّ التعاطف، وهو أقلّ شأنا من أن تُغطى إبادته. هذا الاختلال الآدمي في التعامل مع الفلسطيني لا يختلف جوهريّا عمّن لا يعترض على الإبادة ولكنه يعترض على التجويع، فقتل الفلسطيني مقبول عند الغرب، ولكنه يفضل ألا يُقتل وهو جائع، أي ينبغي عند الغربيين تحسين الشروط الإنسانية الشكلية للإبادة!

x.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه إسرائيل الفلسطينية غزة إسرائيل فلسطين غزة اعلام ابادة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة رياضة سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الصحفیین الفلسطینیین قناة الجزیرة أنس الشریف

إقرأ أيضاً:

نقابتا الصحفيين في مصر وتونس تدينان اغتيال إسرائيل طاقم الجزيرة بغزة

أعربت نقابتا الصحفيين في مصر وتونس عن إدانتهما بأشد العبارات اغتيال إسرائيل مراسلي ومصوري الجزيرة في غزة، التي تمثل حلقة جديدة في سلسلة أفظع موجة قتل للصحفيين منذ بدء اجتياح قطاع غزة.

وفجر اليوم الاثنين، قال المكتب الإعلامي الحكومي بغزة إن "الزملاء الذين اغتالتهم يد الغدر الإسرائيلية، هم أنس الشريف، ومحمد قريقع، والمصوران الصحفيان إبراهيم ظاهر ومؤمن عليوة، ومساعدهم محمد نوفل، والصحفي محمد الخالدي.

ففي القاهرة، أدانت نقابة الصحفيين المصريين "بأشد العبارات الجريمة البشعة التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني" باغتيال 6 من الزملاء الصحفيين، منهم أنس الشريف ومحمد قريقع مراسلي قناة الجزيرة.

وقالت النقابة "ننعى في الوقت نفسه الضمير العالمي، وهو يدفن يوما بعد يوم مع شهود الحقيقة وشهداء الإبادة الجماعية والتجويع المنظَّم الذي تمارسه آلة الحرب الصهيونية على شعب غزة".

واعتبرت النقابة، أن الجريمة البشعة بحق الصحفيين الستة، واعتراف جيش الاحتلال باستهداف خيمتهم، تأتي حلقةً جديدة ضمن حلقات أشد وحشية في سلسلة الإبادة الإعلامية والجريمة الأكبر الأوسع بحق الصحفيين في التاريخ الحديث".

وأضافت "نطالب المجتمع الدولي بمحاكمة عاجلة لمجرمي الحرب الصهاينة ومطاردتهم دوليًا، ونُحيِّي هذا الصمود الأسطوري، إذ يؤكد أن دماء الشهداء، وشجاعة المراسلين، وسجون المعتقلين، وأنين المشردين ستظل سجلًا حيًا يدين الاحتلال وأعوانه إلى أن تتحرر فلسطين".

عملية قتل استعراضية

وفي تونس، اعتبرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، اغتيال إسرائيل الصحفيين الستة في قطاع غزة، أمس الأحد، "سابقة لم يعرفها التاريخ" بينما وقفت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل دقيقة صمت ترحما على أرواحهم.

وقالت النقابة في بيان، اليوم الاثنين، "ببالغ الحزن والغضب، نعزي الشعب الفلسطيني وأحرار العالم في استشهاد كامل الطاقم الإعلامي لقناة الجزيرة في غزة"، معتبرة أن "عملية القتل الاستعراضية الأخيرة تمثل حلقة جديدة في سلسلة أفظع موجة قتل للصحفيين منذ بدء الاجتياح الهمجي الصهيوني قطاع غزة بما يجعلها الأخطر إعلاميًا على الإطلاق".

إعلان

وأضافت أنها "تدين هذا الاستهداف الجبان لأصوات الحقيقة في غزة وتطالب كافة الجهات الدولية بالتحرك الفوري والمكثف لحماية الصحفيين وما تبقى من المؤسسات الإعلامية في غزة".

وطالبت "ببدء تحقيقات دولية فورية في قضايا استهداف الصحفيين الفلسطينيين، بما فيها تصنيف هذه الأعمال جرائم حرب وتقديم مرتكبيها إلى العدالة الدولية.

بدوره، دعا الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، في افتتاح اجتماعات الهيئة الإدارية بالعاصمة تونس، إلى دقيقة صمت ترحما على أرواح الصحفيين. وقال الطبوبي "نقف دقيقة صمت ترحما على أرواح الصحفيين الفلسطينيين الذين طالتهم يد الغدر الصهيوني".

ومع اغتيال صحفيي ومصوري الجزيرة في غزة، يرتفع عدد الإعلاميين الذين اغتالتهم إسرائيل إلى 238 منذ بداية الإبادة الجماعية التي ترتكبها بقطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفق المكتب الإعلامي بغزة.

ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ترتكب إسرائيل بدعم أميركي إبادة جماعية في غزة تشمل قتلا وتجويعا وتدميرا وتهجيرا، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها.

وخلفت الإبادة الإسرائيلية 61 ألفا و430 شهيدا و153 ألفا و213 مصابا من الفلسطينيين، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين، منهم عشرات الأطفال.

مقالات مشابهة

  • احتلال مسرح الجريمة وقتل الشهود
  • ألبانيزي: “إسرائيل” تقتل الصحفيين بوقاحة وروايتها لم تعد تقنع شعوب العالم
  • العفو الدولية: إسرائيل تتعمد قتل الصحفيين في غزة ضمن جرائم الإبادة الجماعية
  • ألبانيزي: إسرائيل تقتل الصحفيين بوقاحة والحكومات تساعدها على الإبادة
  • دوجاريك: إسرائيل تقتل الصحفيين لمنعهم من نقل ما يحدث بغزة
  • "رايتس ووتش": إسرائيل قتلت عمدا عشرات الصحفيين في غزة
  • نقابتا الصحفيين في مصر وتونس تدينان اغتيال إسرائيل طاقم الجزيرة بغزة
  • حماية الصحفيين: ندين قتل الصحفيين الفلسطينيين ونطالب بحملة دولية لملاحقة قادة الاحتلال الإسرائيلي
  • ارتفاع قتلى الصحفيين بغزة جراء الإبادة الإسرائيلية إلى 238