من إنكار الوجود إلى قتل الشهود.. لماذا تقتل إسرائيل الصحفيين الفلسطينيين؟!
تاريخ النشر: 12th, August 2025 GMT
قتلت إسرائيل 238 صحفيّا فلسطينيّا في قطاع غزّة منذ أن بدأت إبادتها للفلسطينيين في القطاع، فبعد استهدافها مراسلي ومصوري قناة الجزيرة، أنس الشريف ومحمد قريقع، وإبراهيم ظاهر، ومؤمن عليوة، ومحمد نوفل، اغتالت الصحفي محمد الخالدي. وإذا كانت هذه السياسة أكثر انكشافا وعنفا أثناء الإبادة؛ فإنّها ليست جديدة بالنسبة للسياسات الإسرائيلية، فقد مضت أكثر من ثلاث سنوات على اغتيال قوات الاحتلال لمراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة على مدخل مخيم جنين، وذلك علاوة على استشهاد صحفيين آخرين، واعتقال غيرهم، وإغلاق العديد من المؤسسات الإعلامية الفلسطينية، واعتقال النشطاء الفلسطينيين بتهمة تعبيرهم عن آرائهم الوطنية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك في حين ما يزال قرار إغلاق قناة الجزيرة في الأراضي المحتلة عام 1948 والضفة الغربية جاريّا، مما يعني أن قتل صحفييها ومراسليها ومصوريها يأتي في سياق إنفاذ القرار في غزّة بقوّة النيران.
تأتي سياسة قتل الصحفيين الفلسطينيين في قلب السياسة الاستعمارية الإسرائيلية عموما، والإبادية خصوصا، وذلك لأنّ الاستعمار الصهيوني في جوهره تأسس على النفي؛ النفي الفيزيائي للسكان الأصليين، بإنكار وجودهم أولا، وتاليا بمحاولة تحقيق هذا الإنكار بالقوّة المسلحة، من خلال عمليات التشريد والتطهير العرقي، وبما أن العدوانية الإسرائيلية المنفلتة، والمدعومة من المغرب، والمعززة بكون الفلسطينيين وحدهم في مواجهة هذا النمط الاستعماري الفريد، لم تتمكن من اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم تماما، وبعد أن نفت إسرائيل عنهم هويتهم الفلسطينية وجعلتهم مجرد عرب يعيشون في "أرض إسرائيل التاريخية"، فإنّها نفت عنهم إنسانيتهم. فوصف سكان قطاع غزّة بأنّهم حيوانات بشرية، لم يكن انفعالا طارئا بعد السابع من أكتوبر، تأتي سياسة قتل الصحفيين الفلسطينيين في قلب السياسة الاستعمارية الإسرائيلية عموما، والإبادية خصوصا، وذلك لأنّ الاستعمار الصهيوني في جوهره تأسس على النفيوإنّما كان تعبيرا عن موقف إسرائيلي عميق يصطدم بالسكان الأصليين بوصفهم حقيقة، وهو ما يستدعي الانتقاص من آدميتهم، ليس فقط لتسهيل إبادتهم، ولكن لتسهيل الحياة الاستعمارية وتدعيم الوعي القومي الإسرائيلي، بمعنى أنّ السردية الإسرائيلية تحتاج في نفس الأمر، وبقطع النظر عن السياسات الإبادية، إلى انتقاص آدمية العدوّ الأساس لإسرائيل.
قتل الصحفي يستند في أساسه إلى هذا التصوّر، فأن يمتلك "الآدمي الناقص" أو "الحيوان البشري" وسيلة إعلامية فهو أمر شاذ، يخالف منطق الطبيعة. الفلسطيني لا حياة آدمية كاملة له، وبذلك، فهو لا ينبغي أن تكون له مظاهر الحياة المدنية الإنسانية، من منازل، ومدارس، ومستشفيات، ومساجد، وما سوى ذلك، وهو أقلّ شأنا من أن يقول الشعر ويصنع الموسيقى، ومن كان هذا حاله كيف يعمل في الصحافة، وتكون له مؤسسات إعلامية. على أية حال، هكذا صوّرت الحركة الصهيونية السكان الأصليين لفلسطين قبل النكبة، جعلتهم مجتمعات بدائية، مجرّدة من الوعي بلوازم العمران الإنساني، وبمرور الوقت، نزلت بهم في تصوّرها إلى منزلة الحيوانات البشرية، وهو أمر بالضرورة سهّل الإبادة الجماعية بهذا النحو المريع، المنفلت من أيّ كابح، ولأنّ الإسرائيلي تعوّد أن يكون ذا دلال على العالم، يستبطن استحقاقا له على أهل الكوكب، فهو يفترض أن رؤيته للفلسطينيين ينبغي أن تكون رؤية العالم كله.
يزداد الأمر توترا في عقل الإسرائيلي ودوافعه حينما يؤكد الفلسطيني أنّه في موقع مضادّ تماما للتصوّر الإسرائيلي عنه. مثلا، عززت إسرائيل من سياسات التجويع في الشهور الأخيرة لتكون مطبقة، بالرغم من كونها سياسة موجودة منذ بداية الإبادة، بوصفها واحدة من أدوات تركيع الغزيين، لكن ومع طول أمد الحرب دون وصول الإسرائيلي إلى الحسم المطلوب؛ رفع التجويع إلى درجة الإطباق الكامل، مع إنكار إسرائيلي معتاد لوجود مجاعة مفروضة منه في غزّة. ليست مشكلة الإسرائيلي فقط في انكشاف سرديته، ولكن أيضا في كون من كشف هذه السردية وفضحها وردّها سلاحا في وجه صاحبها هو شاب فلسطيني، اسمه أنس الشريف، وهذه هي عقدة الإسرائيلي؛ أن يكون الفلسطيني فاعلا وقادرا على المواجهةأنس الشريف وغيره من الصحفيين الفلسطينيين تمكنوا من تحطيم السردية الإسرائيلية، وتكذيب ادعاءاتها، وتحويل السياسة التي أريد منها تركيع الفلسطينيين إلى سلاح بيد الفلسطينيين يفضح العدوانية الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي.
ليست مشكلة الإسرائيلي فقط في انكشاف سرديته، ولكن أيضا في كون من كشف هذه السردية وفضحها وردّها سلاحا في وجه صاحبها هو شاب فلسطيني، اسمه أنس الشريف، وهذه هي عقدة الإسرائيلي؛ أن يكون الفلسطيني فاعلا وقادرا على المواجهة، فكما أنّ نزعة التفوق العنصري عانت ارتباكا مريريا مع السابع من أكتوبر، فإنّ الإسرائيلي ما زال غير قادر على تصوّر الفاعلية الفلسطينية في غزة بعد 675 يوما على الإبادة الجماعية، وهو اليوم الذي استشهد فيه أنس ورفاقه.
علاوة على النية الإسرائيلية الواضحة بـ"تطهير" الميدان من أي صحفي، وكاميرا، وطمس الصورة، والكتم المسبق للصوت، على مشارف تشريد سكان مدينة غزة، ثم الشروع في تدميرها بالكامل وقتل من تبقى من سكانها، وهو ما احتاج إلى قتل ما تبقى من مراسلي قناة الجزيرة والعاملين معها، فيجب التنويه إلى عناصر أخرى في الدافعية العنصرية الإسرائيلية، من قبيل أنّ الفلسطيني لا يستحقّ التعاطف، وهو أقلّ شأنا من أن تُغطى إبادته. هذا الاختلال الآدمي في التعامل مع الفلسطيني لا يختلف جوهريّا عمّن لا يعترض على الإبادة ولكنه يعترض على التجويع، فقتل الفلسطيني مقبول عند الغرب، ولكنه يفضل ألا يُقتل وهو جائع، أي ينبغي عند الغربيين تحسين الشروط الإنسانية الشكلية للإبادة!
x.com/sariorabi
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه إسرائيل الفلسطينية غزة إسرائيل فلسطين غزة اعلام ابادة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة رياضة سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الصحفیین الفلسطینیین قناة الجزیرة أنس الشریف
إقرأ أيضاً:
"العفو الدولية": رفع ألمانيا قيود تصدير السلاح لـ"إسرائيل" متهور
فيينا - صفا قالت نائبة مديرة الأبحاث الأوروبية في منظمة العفو الدولية إستر ميجور إن قرار الحكومة الألمانية رفع القيود المفروضة على صادرات السلاح إلى "إسرائيل"، التي فُرضت بسبب هجماتها على قطاع غزة، هو قرار "متهور وغير قانوني". وأوضحت ميجور في حديث لوكالة "الأناضول"، يوم الأربعاء، أن هذا القرار يبعث برسالة مفادها أن "إسرائيل يمكنها الاستمرار في ارتكاب الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين". وأضافت أن "رفع ألمانيا لقرار التعليق الجزئي لصادرات السلاح إلى إسرائيل هو تصرف متهور وغير قانوني، وينطوي على خطر التواطؤ في الإبادة الجماعية التي تواصل إسرائيل ارتكابها في غزة". وفي 17 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن متحدث الحكومة الألمانية ستيفان كورنيليوس أن برلين قررت رفع قيود تصدير الأسلحة إلى "إسرائيل" التي كانت مفروضة بسبب هجماتها على غزة، نظرًا لتغير الظروف في القطاع. وأشارت ميجور إلى أن قرار التعليق الجزئي لصادرات السلاح جاء نتيجة ضغط حقيقي مارسه المجتمع الدولي على الحكومة الألمانية بسبب الإبادة الجماعية. وأردفت "هذه الخطوة الخطيرة التي تتعارض مع الالتزامات القانونية لألمانيا يجب التراجع عنها فورًا، ويجب ألا تحذو الدول الأخرى حذوها". وذكّرت أن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية واتفاقيات جنيف تم اعتمادها لمنع تكرار "الهولوكوست"، وغيره من الفظائع، مؤكدة أن ألمانيا، بموجب هذه الاتفاقيات، ملزمة بمنع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها. وتابعت "ماضي ألمانيا لا يعفي الحكومة الحالية من مسؤولياتها القانونية الدولية، بما في ذلك واجب منع الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل". وأوضحت أن العلاقات الوثيقة بين ألمانيا و"إسرائيل" تمنح برلين مسؤولية وفرصة أكبر لاتخاذ خطوات فعلية لإنهاء الجرائم المخالفة للقانون الدولي، بما في ذلك الإبادة الجماعية. واعتبرت أن تبرير ألمانيا استئناف تصدير السلاح إلى "إسرائيل" بذريعة "وقف إطلاق النار" و"الاستقرار" في غزة هو تبرير غير صادق. ولفتت إلى أن "إسرائيل" ما تزال تقيّد بشدة دخول المواد الأساسية اللازمة لبقاء الفلسطينيين على قيد الحياة، كما تعرقل استعادة الخدمات الحيوية. وارتكب جيش الاحتلال إبادة جماعية في غزة، أسفرت بدعم أمريكي منذ البدء بها في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عن أكثر من 70 ألف شهيد فلسطيني، وما يزيد عن 171 ألف جريح، معظمهم أطفال ونساء، ودمارًا هائلًا مع كلفة إعادة إعمار قدرتها الأمم المتحدة بنحو 70 مليار دولار.