مونيكا وليم تكتب: نظرية الردع المعدل.. مصر نموذجا
تاريخ النشر: 27th, December 2024 GMT
استحضر لي كتابة هذا المقال بعد هجوم إسرائيل على اليمن في خطوة عسكرية تحمل كثيرا من الرسائل السياسية، فقد تجاوز الحدود اليمنية عدد من الغارات على مواقع وتحصينات الحوثيين. حيث إنه قد تنامي إلى الذهن تساؤل هام ومحوري يتعلق بأسباب تصاعد مساعي الجانب الإسرائيلي في الآونة الأخيرة وبمدى أهمية بناء قدرات كامنة تسهم في تعزيز مفهوم الردع لتحقيق التوازن وحماية المصالح الوطنية في ظل هذه التحركات المتسارعة.
وكانت الإجابة أن غياب الردع المعدل هو السبب الذي يكمن وراءه تنامي وتصاعد إسرائيل وإضعاف بعض الأهداف العربية. وهو ما يتوافق مع مقولة ثيودور روزفلت التي تنص على " تحدث بهدوء واحمل عصا غليظة، وستذهب بعيدًا".
وعليه، كان من الضروري استقراء مقدرات مصر الكامنة، والقدرات العسكرية والتي تعكس دلالات سياسية واستراتيجية عدة، خاصة في ظل تغييرات جيوسياسية ولا تعرف سوى رؤية القوة والرجوع الحرب التقليدية بالصراعات لحروب حرب الجيل الأول: هي الجيل الأول التي يسيطر عليها الحروب العسكرية.
فقد تميز التسليح في الجيش المصري في السنوات الأخيرة، على الاعتماد على أسلحة تتماشى مع التحديات التي فرضتها الظروف في ظل التطورات الإقليمية، وكذلك تطلعاتها في تنمية وحماية مواردها، حيث كانت خطة التسليح تتوافق مع رؤية الدولة الشاملة في تأمين وحماية المصالح الاستراتيجية، ويكفل الردع، بما يمكنها من التعامل مع المستجدات فيما يخص العمليات الارهابية، وغيره لمواجهة كافة العدائيات المحتملة. وذلك من خلال تطوير واستخدام جميع القدرات والإمكانات المتيسرة للدولة، فى جميع جوانبها السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والبشرية.
وفي هذا الصدد، يمكن القول إن الجيش المصري شهد تطورا نوعيا على كافة المستويات، حيث تنوعت مصادر التسليح الجديدة، فلم يتوقف عن تعزيز قوته بمئات الآلاف من الجنود ورفع الكفاءة القتالية لهم، إلي جانب تدعيم الأسلحة الثقيلة والخفيفة من مختلف الدول حول العالم على رأسها روسيا، فقد بني منظومة تسليح متنوعة ومتطورة فقد جمع بين طائرة F16 الامريكية والطائرة الروسية الصنع Mi-26ومعها مقاتلة رافال الفرنسية، إلى جانب صواريخ دفاعية وهجومية مطورة محلياً او مستوردة، ووفقا لغلوبار فاير باور تمتلك مصر أكثر من 1130 طائرة حربية، 83 من المطارات العسكرية في الخدمة.
إلي جانب ذلك شهدت السنوات الأخيرة، تطوير القدرات العسكرية المصرية خاصة فيما يتعلق بتطوير البنية التحتية للقوات المسلحة، فقد تم إبرامة عدد من الاتفاقيات في مجال التسليح، تدشين 3 قواعد عسكرية.
والأبرز في نظري في هذا الشأن هو توطين الصناعات العسكرية بحيث تم تصنيع كافة الدبابات المدرعة وتصنيع الصواريخ المضادة للدبابات وبناء السفن الحربية، هذا فضلا عن الإعلان عن مسيرات مصرية الصنع خلال معرض "إيديكس" 2023 إلي جانب افتتاح مصنع 300 الحربي في فبراير 2020 لتلبية احتياجات القوات المسلحة.
على صعيد البحر، فقد كشفت مناورات حسم 2024 والتي نفذت بعمليات الذخيرة الحية في منطقة البحر المتوسط عن القوة البحرية المتمثلة في مروحيات عملاقة وغواصة استراتيجية، كما تمتلك مصر 245 وحدة بحرية تجعل أسطولها الحربي في المرتبة الـ 12 عالميا ويشمل حاملتي مروحيات و13 فرقاطة و7 كورفيتات و8 غواصات، إضافة إلى 48 سفينة دورية و23 كاسحة ألغام بحرية.
وتأسيسا على ذلك، فقد تبنت مصر نظرية "الردع المعدل" والتي تعد من أحدث النظريات الردعية التي فرضت نفسها في ظل تغيير طبيعة التهديدات ونطاقها وحدودها، إذ سعى رواد هذه النظرية إلى التركيز على إثبات فلسفة ردعية، مفادها أن التزود بأدوات ومنظومات ُردعية متنوعة للدولة هو ما يمكنها من تحقيق أهدافها دون الحاجة إلي اشتباك عسكري مباشر، وهو ما أحدث تغييرا جذريا في استراتيجية الردع المنتهجة الآن.
وتـجـــدر الإشارة إلــى أن مـضـمـون نـظـريـة "الـــردع الـمـعـدل" يكمن فـي الــقــدرة على حسن توظيف الإمكانات، والـقـدرات المتاحة لـدى الــدول لتحقيق استراتيجية "الـردع المعدل" دون مخالفة الأعراف، والقواعد الدولية لحفظ السلم والأمن الدوليين.
وهو ما يدفعنا للتساؤل عن كيف وظفت مصر كل القدرات المشار إليها عاليه، لتنفيذ نظرية الردع المعدل والذي اتضح في عدة مواقف سياسية أبرزها استعراض قوة مصر والتي تناولتها صحيفة يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية على سبيل المثال فى يوليو الماضي تحت عنوان "اتفاقية السلام" من خلال تناول مقدرات الجيش المصري وتصنيفه كتهديد لبعض المساعي الإسرائيلية.
وحاليا تنامت الأصوات في الصحف الاسرائيلية التي تركز علي مقدرات الجيش المصري وهو ما يعكس شواغل القيادة الاسرائيلية، وقد برز ذلك في تقرير تم بثه علي القناة ١٤ الاسرائلية وايضا لقاء السفير الاسرائيلي السابق في مصر في صحفية يديعوت أحرونوت الأسبوع الماضي .
وفي الوقت نفسه، بدت ملامح التفعيل الفعلي بوضوح لنظرية الردع المعدل وتأويلاتها، حينما قامت مصر بتوقيع معاهدة الدفاع المشترك واتفاقيات ومذكرة تفاهم أمنية وتفعيل التعاون العسكري في افريقيا وفي منطقة القرن الافريقي على وجه الخصوص لرفع كفاءة الهياكل الأمنية بها.
إلي جانب ذلك مسألة قوات حفظ السلام الأفريقية في الصومال التي تتولى مصر نشرها بداية من شهر يناير القادم وتأتي المشاركة المصرية في تلك القوات علي خلفية سلسلة من الأحداث، على رأسها التوترات بين الصومال وأثيوبيا، وبالتالي ارتأت مصر أنها فرصة لإثبات دورها الإقليمي في القرن الأفريقي خاصة في ضوء ثقل قدراتها العسكرية.
ختاما، يمكن القول إن استراتيجية الردع المعدّل التي انتهجتها مصر تعكس رؤية متوازنة وعميقة لمواجهة التحديات الجيوسياسية المتزايدة في المنطقة، ففي ظل التغيرات الإقليمية والدولية، وتفاقم التحركات الإسرائيلية في الإقليم، أثبتت هذه الاستراتيجية فعاليتها في حماية المصالح الوطنية المصرية وضمان أمنها القومي. ومع استمرار مصر في تطوير أدواتها الدبلوماسية والعسكرية، يظهر نجاح هذه المقاربة كدليل على قدرتها على التكيف مع تعقيدات المشهد الإقليمي، ما يعزز من مكانتها كقوة إقليمية محورية قادرة على تحقيق توازن مستدام في منطقة الشرق الأوسط.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: إسرائيل الحوثيين المزيد الجیش المصری إلی جانب وهو ما
إقرأ أيضاً:
ماذا يعني سعي بريطانيا لرفع ردعها التسليحي؟ وما تداعيات ذلك؟
يثير التوجه البريطاني نحو تحديث منظومة الردع النووي تساؤلات بشأن دلالاته العسكرية والسياسية في مرحلة تبدو فيها القارة الأوروبية أمام تحولات إستراتيجية ضاغطة، ولا سيما مع تضعضع الثقة الأوروبية بالمظلة الأميركية وتفاقم التهديد الروسي.
ويبدو أن لندن تسعى إلى ترميم الفجوة التي خلّفها انسحابها من الاتحاد الأوروبي عبر تثبيت حضورها العسكري في سياق أوروبي قلق، وبناء تحالفات مستدامة تعزز مكانتها داخل الناتو دون الارتهان المطلق لقيادة واشنطن.
ونقلت صحيفة "تايمز" عن مصادر تأكيدها أن بريطانيا دخلت في محادثات مع الولايات المتحدة لشراء مقاتلات قادرة على حمل رؤوس نووية تكتيكية، في خطوة وصفت بأنها الأوسع نطاقا في تطوير منظومة الردع البريطانية منذ الحرب الباردة.
وبحسب الصحيفة، فإن هذا التوجه يندرج في إطار مراجعة إستراتيجية شاملة أطلقتها الحكومة البريطانية بهدف تعزيز جاهزية البلاد في مواجهة ما تعتبره تهديدا متعاظما من جانب روسيا، في ظل استمرار الحرب بأوكرانيا.
إعادة تموضعووصف الخبير العسكري والإستراتيجي العميد إلياس حنا هذا التحرك بأنه يمثل إعادة تموضع ضمن بيئة دولية متقلبة، مشيرا إلى أن أوروبا خضعت لصدمة كبرى منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، وأضحت ساحة اختبار لأنواع جديدة من التهديدات والأسلحة.
إعلانوأشار حنا خلال مشاركته في برنامج "ما وراء الخبر" إلى أن التوازن الردعي في القارة بات مهددا، خصوصا مع امتلاك روسيا قرابة ألفي رأس نووي تكتيكي مقابل 200 فقط لدى الولايات المتحدة، مؤكدا أن السلاح التكتيكي لم يعد هامشيا، بل بات أداة مركزية في العقيدة الدفاعية الجديدة.
وأوضح أن السلاح النووي التكتيكي يختلف من حيث المدى والقدرة التدميرية، لكنه يظل بالغ الخطورة، إذ إن أصغر هذه القنابل يعادل في طاقته التدميرية أضعاف عدة لما دمرت به هيروشيما، مما يضاعف تعقيد المشهد الأمني.
ويضيف حنا أن بريطانيا تفتقر إلى "ثالوث الردع" الذي يجمع بين القدرات الجوية والبحرية والبرية لإطلاق السلاح النووي، وهو ما يجعل صفقة الطائرات خطوة لتعويض هذا القصور، ولا سيما أن المنظومة البريطانية الحالية تعتمد فقط على الغواصات.
تراجع هيكلي
بدوره، يرى الدكتور حسني عبيدي أن التحرك البريطاني ينطوي على محاولة لاستعادة المكانة العسكرية التقليدية لبريطانيا، في وقت تعاني فيه القوة العسكرية البريطانية من تراجع هيكلي شمل البحرية وسلاح الجو، بحسب تقارير رسمية متكررة.
وأشار عبيدي في حديثه لـ"ما وراء الخبر" إلى أن بريطانيا تسعى من خلال هذه الصفقة إلى تحقيق أكثر من هدف، أبرزها توطيد العلاقة الإستراتيجية مع واشنطن، وتعزيز الجاهزية الدفاعية أمام أي تغير محتمل في الموقف الأميركي في حال فوز دونالد ترامب مجددا في الانتخابات.
واعتبر أن استيراد مقاتلات "إف-35" المتطورة -التي تشارك بريطانيا في تصنيعها- يمثل ردا تقنيا مباشرا على مراجعات أمنية دعت إلى تحديث الترسانة العسكرية البريطانية بما يتناسب مع تحولات المشهد الأوروبي والدولي.
ورغم هذا التوجه البريطاني فإن العميد حنا يرى أن أوروبا -ومن ضمنها بريطانيا- لا تزال تعاني من فجوة جاهزية خطيرة، مشيرا إلى أن الأسلحة التقليدية لا تزال عماد المعارك، وأن نقص الذخائر بات أزمة عامة كشفها الصراع في أوكرانيا.
إعلان التحديات الديمغرافيةوأضاف حنا أن الدول الأوروبية تدرك الآن أن الاعتماد الكلي على المظلة النووية الأميركية لم يعد خيارا مضمونا، وأن على هذه الدول إعادة ترتيب موازناتها وتعزيز صناعاتها الدفاعية ومعالجة التحديات الديمغرافية المرتبطة بنقص التجنيد.
أما الدكتور عبيدي فيرى أن السياق الأوروبي الأوسع يشير إلى سباق تسلح غير معلن، إذ رفعت ألمانيا بالفعل مخصصاتها الدفاعية، في حين تعمل دول أخرى على تعزيز قدراتها، وإن بقيت فرنسا أكثر تحفظا في هذا المسار حتى الآن.
وأوضح أن أوروبا تشهد اليوم "انتكاسة دفاعية" بعدما فشلت محاولات خلق مظلة أوروبية مستقلة، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الارتهان للولايات المتحدة، في وقت تُظهر فيه واشنطن إشارات مستمرة تدعو الأوروبيين إلى تحمّل مسؤولياتهم الأمنية.
ويضيف عبيدي أن الإشكالية الأعمق تكمن في أن الردع النووي بحد ذاته لا يعني بالضرورة الرغبة في استخدام السلاح، بل توجيه رسالة إستراتيجية إلى الخصم، لافتا إلى أن الردع كان ولا يزال صمام أمان لعدم الانزلاق نحو حروب شاملة.
حرب تقليدية
ويؤكد العميد حنا أن روسيا تدرك هذه المعادلة، لكنها في الوقت ذاته تستخدم خطابها النووي غطاء لحربها التقليدية، محذرا من أن أي تغيير في موازين القوى سيستدعي إعادة رسم للعقائد العسكرية داخل الناتو وخارجه.
وفي ضوء هذه المعطيات، يذهب عبيدي إلى أن التوجهات الحالية قد تقلل فرص التوصل إلى حلول دبلوماسية، إذ تؤدي إلى تصاعد انعدام الثقة، وتفرض أعباء اقتصادية ضخمة قد تؤثر على أولويات الشعوب، وتغذي صعود التيارات المتطرفة.
ومع استمرار الانقسام في التصورات الدفاعية داخل أوروبا تبدو الحرب في أوكرانيا مرشحة لمزيد من التصعيد، في وقت تحذر فيه تقارير إستراتيجية من اتساع الصراع خارج أوكرانيا ليطال البنى التحتية الحيوية كما لوحت بذلك بريطانيا مؤخرا.
إعلانوفي ظل هذه الظروف يخلص حنا إلى أن أوروبا رغم خطواتها التصعيدية لا تزال عاجزة عن بناء عقيدة ردع موحدة، وهو ما يجعلها في موقع هش رهينة لتحولات السياسة الأميركية من جهة، ولاحتمالات التهور الروسي من جهة أخرى.