ضريبة على هواتفهم.. هل استعان السيسي بتطبيق إسرائيلي لمراقبة مصريي الخارج؟
تاريخ النشر: 10th, January 2025 GMT
في الوقت الذي صدمت فيه الحكومة المصرية أكثر من 14 مليون مصري يقيمون في الخارج وفقا لإحصائيات رسمية، بقرار يجبرهم على تنزيل تطبيق على هاتفهم المحمول مهمته حساب الضريبة المقررة على كل هاتف يشترونه من الخارج لدفعها عند دخولهم به البلد العربي الإفريقي الذي يعني اقتصاده أزمات هيكلية مزمنة.
لكن ناشطون كشفوا عن صدمة ثانية، وهي أن تطبيق "تليفوني" المفروض على المصريين بالخارج تنزيله، تم تصميمه في إسرائيل، ويجري إدارته من "تل أبيب"، على حد قولهم.
التطبيق الخاص بالجمرك
تم تصميمه وادارته فى #اسرائيل #تليفونى يمكنكم التاكد من فحص التطبيق بالمتجر كالصورة http://pic.twitter.com/ed9RwTEaF8 — راجى عفو الله (@emaarw) January 6, 2025
وهو الحديث الذي بحثت "عربي21"، في مدى مصداقيته بتجربتها للتطبيق، وعبر الحديث مع خبير مصري في الإعلام الرقمي، ولم تثبت صحته، ولكن تظل هناك الكثير من المخاوف باقية من ذلك التطبيق، بحسب متحدثين، ومراقبين.
ويظل ملف اعتماد الحكومة المصرية على برامج التجسس ومنها الإسرائيلية مقلقا للمعارضين المصريين خاصة بعدما كشفه تحقيق دولي في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، من أن شركة مراقبة رقمية إسرائيلية باعت للنظام المصري برامج تجسس، لاستخدامها ضد المعارضين.
وقالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، إن التحقيق كشف عن وثائق تفيد بأن شركة "إنتليكسا" وهي تحالف لشركات أسلحة ومراقبة رقمية مملوكة لإسرائيليين وعمل بها رئيس وزراء الاحتلال الأسبق إيهود أولمرت كمستشار، باعت برنامج التجسس المعروف باسم "بريداتور" لمصر لاستخدامها لتقويض حقوق الإنسان وحرية الصحافة والحركات الاجتماعية.
"انتقادات الجباية ومخاوف التجسس"
وانتقد البعض فرض الحكومة المصرية هذا التطبيق على المصريين لفرض الرسوم الجمركية الجديدة على الهواتف المستوردة بقيمة 38.5 بالمئة، وللسيطرة على سوق الأجهزة المحمولة ومنع المستوردة منها والبالغ حجمها نحو ملياري دولار سنويا، وفق بيان لوزارتي المالية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، مطلع كانون الثاني/ يناير الجاري.
وقررت الحكومة أن يكون لكل مواطن قادم من الخارج موبايل "مُعفى" للاستخدام الشخصي لفترة انتقالية مدتها 3 أشهر، والسماح للمواطنين بتسجيل هواتفهم المحمولة المستوردة بالمنظومة الإلكترونية الجديدة عبر تطبيق "تليفوني"، ويمكنهم الاستعلام عن قيمة الرسوم المستحقة وسدادها "أون لاين" خلال مهلة تمتد، لأول مرة، 3 أشهر عبر التطبيق.
وفق البيان، يعزز القرار الجديد توطين صناعة المحمول، ويوفر المزيد من فرص العمل ومنع التهرب من الجمارك والضرائب، ويحمي السوق من الممارسات غير القانونية ويحافظ على حقوق الدولة وحماية المستهلكين من الأجهزة المقلدة.
لكن خبراء اقتصاد مصريين بينهم الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، أكدوا في تصريحات صحفية أن السبب الرئيسي للقرار هو العجز الكبير في ميزانية الدولة الذي بلغ في (2023-2024) 504.5 مليارات جنيه (حوالي 10 مليارات دولار)، ولذا ترغب في تحصيل الرسوم على جميع الهواتف التي تدخل مصر.
وفي المقابل، يتخوف مصريون من أن يكون تطبيق تليفوني وسيلة للتجسس على المقيمين بالخارج، كما يرى البعض أن القرار الذي يأتي بهدف جمع الأموال من المصريين في الأساس، له هدف آخر وهو تقليل نقل التكنولوجيا الحديثة عبر الهواتف المستوردة حيث يتخوف النظام من تأثير التكنولوجيا على المصريين، ويدفعهم للاكتفاء بالمصنع محليا الأقل جودة والأكثر سعرا.
السيسي وأعوانه الواطئين الحقراء الخونة بيرغموا شعب مصر كله ينزل تطبيق اسرائيلي على تليفوناتهم، عشان العميل الخسيس بتاعهم يفضل حابس نفس مصر حتى الموت.
يا شعب مصر حرام تسيبوا الكلام ده بدون حساب والله، https://t.co/NVVwLf2B3m — Amr Waked (@amrwaked) January 6, 2025
كما يعتقد البعض أن القرار بجانب فكرة التجسس المحتملة يخدم مجموعة صافي وهبة صهر شقيق السيسي، موزع ومنتج حصري لهواتف "شاومي" الصينية، وموزع معتمد لهواتف "آبل" الأمريكية، و"سامسونغ" الكورية الجنوبية.
لكنه ومنذ آب/ أغسطس 2018، حين جرى عقد قران محمد صافي وهبة، على مريم أحمد السيسي ابنة المستشار أحمد السيسي شقيق رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، وصعد نجم إمبراطورية صافي وهبة، ودخلت العديد من المجالات ونال العديد من المناصب، بشكل مثير للتساؤلات.
وتقوم العديد من الشركات الدولية الكبرى بالعامين الماضيين، بتصنيع منتجاتها في مصر، ومنها شركات "سامسونغ" و"شاومي" و"فيفو" و"إنيفينكس" و"نوكيا" و"مايكروماكس".
"مشروعات ابتزاز المصريين"
وتمثل تحويلات المصريين في الخارج أهمية كبيرة لدى الحكومة المصرية خاصة مع زيادة تحويلاتهم السنوية بشكل مطرد والتي حققت خلال الشهور العشرة الأولى من العام الماضي، نحو 23.7 مليار دولار، بحسب البنك المركزي المصري.
ومن آن إلى آخر، تطلق الحكومة المصرية مبادرة جديدة تستهدف المصريين بالخارج وتسعى من خلالها زيادة تحويلاتهم، في وقت تعاني مؤسسات الدولة المصرفية من أزمة شح الدولار، وتواجه فيه الحكومة المصرية أزمات سداد فوائد ومتأخرات وأقساط قروض دين خارجي يفوق 155 مليار دولار.
ومنها: مبادرة تسوية الموقف التجنيدي للمصريين بالخارج، في آب/ أغسطس 2023 مقابل 5 آلاف دولار، والتي جرى مدها مرتين مقابل 7 آلاف دولار، وذلك إلى جانب مبادرة إعفاء جلب سيارات من الخارج عام 2022، وتخصيص أراضي لهم بالدولار في العاصمة الإدارية والمدن الجديدة، ومبادرة "بيتك في مصر"، وإطلاق شهادة "بلادى الدولارية"، وغيرها.
ويصل عدد المصريين العاملين بالخارج نحو 14 مليون مصري معظمهم في دول الخليج العربي، بحسب وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج السفيرة سها جندي، فيما يبلغ عدد السكان بالداخل أكثر من 107 ملايين نسمة.
وأجمع "محمد"، و"إسلام"، أحدهما مقيم في إيطاليا، والآخر في السعودية، على أن "كل ما تطلقه الحكومة المصرية من مبادرات في ظاهرها خدمات للمصريين في الخارج ولكن الجميع يعي أن هدفها هو جمع الأموال منهم بكل الطرق".
وأشارا إلى "ما يتم تحصيله منهم عبر السفارات والقنصليات من أموال بالعملات الصعبة لقاء استخراج شهادات ومحررات رسمية"، مؤكدين أن "عيون الحكومة على أموال المصريين في الخارج، وتطبيق (تليفوني) حلقة من حلقاته".
"ليس إسرائيليا.. والأزمة عدم ثقة"
وفي رؤية فنية حول الحديث المنتشر عن تطبيق (تليفوني)، قال الإعلامي وخبير الإعلام الرقمي ومقدم برنامج "هاي تك" على "قناة الشرق"، عمر الشال: "بداية التطبيق يأخذ بعض الصلاحيات على الهاتف المحمول عند تنزيله، وتبدو أن جميعها صلاحيات منطقية".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أوضح، أن "ذلك الرأي يأتي وسط اعتبار أنه يمكن أخذ صورة أو ترسل له معلومات فهو يجمع بيانات عن المستخدم، وهذا يبدو من تفاصيل التطبيق على (آب ستور) أو (بلاي ستور) ويمكن منهما التعرف على البيانات التي يقوم التطبيق بتجميعها عنك".
لكن الشال، يرى أن "المشكلة ليست في هذا الأمر"، مبينا أن "أغلب التطبيقات والبرامج الموجود على الهواتف المحمولة تأخذ صلاحيات أكثر من هذا، مثل فيسبوك وغيره، ولذا ليست المشكلة في الصلاحيات أو في البيانات التي يحصل عليها التطبيق ولكن المشكلة في انعدام ثقتنا في من يقوم بجمع هذه المعلومات".
وقال: "بمنتهى البساطة ولانعدام الثقة في الحكومة وفرضها هذا التطبيق على المصريين في الخارج واضطراراهم لاستخدامه، وأنه يجمع معلوماتهم الشخصية فهذا أمر مقلق جدا في دولة مثل مصر".
ولفت إلى أن "هناك دول كثيرة في العالم بها تطبيقات مشابهة وليست بنفس الطريقة ويستخدمونها بشكل عادي، لأن هناك ثقة، وهناك قوانين تحمي من تسريب البيانات وتحمي الخصوصية والمعلومات الشخصية، وهذا غير موجود في مصر للأسف الشديد".
ويعتقد أن "التخوف هنا في محله جدا من جمع المعلومات وربط تلك المعلومات بالأشخاص وبالتليفونات، وما قد ينتج عن ذلك، خاصة وأن التطبيق يجمع (آي بي) التليفون لمعرفة مكان الشخص المستخدم، وتفاصيل أخرى قد تكون بالفعل تمثل نوعا من القلق أو الضرر".
وأشار خبير الإعلام الرقمي المصري إلى الشق الثاني من الموضوع وما يثار أن هذا التطبيق جرى تصميمه في إسرائيل، قائلا: "أرى أن هذا الكلام غير منطقي ولا يوجد دليل عليه، والصورة المنتشرة ليست لها علاقة بالتطبيق، ولقد قمت بالتحري عن الموضوع، ولو دخل أي شخص على تطبيقات تحميل البرامج لن يجدها".
وكشف عن أن "تلك الصورة تمثل إعلانا ظهر لشخص ما يقول إن الجهة المعلنة في إسرائيل، وهذا يمثل نوعا من الشفافية حيث أنه لو ظهر لك إعلان فيمكنك معرفة ما هي تلك الشركة وأين مكانها؟، ولكن الصورة لا علاقة لها بتطبيق(تليفوني)".
ويرى أن "من غير المنطقي والمستبعد تماما أن يكون التطبيق الذي تطلقه الهيئة القومية لتنظيم الاتصالات (حكومية) في مصر، في أي مرحلة من مراحله تم تصنيعه في إسرائيل، لأن هذا أمر غير منطقي، ويخص الأمن القومي المصري".
وأكد أنه "في مصر كفاءات علمية وتقنية كبيرة جدا، والتطبيق أصلا لا يحتاج كفاءات، وهو بسيط جدا، ولكن بعض نتائجه غير منطقية حيث يخرج منه قيم ضريبية كبيرة جدا على هواتف قديمة".
وختم بالقول: "ولذا من وجهة نظري الفنية البحتة أرى أن ربط التطبيق بإسرائيل غير منطقي ولا دليل عليه، ولكن التخوف من أن يساء استخدام هذا التطبيق في جمع بيانات المصريين وربطها بأمور لها علاقة بالملفات الأمنية واستيفاء وجمع معلومات، فهي هنا مخاوف منطقية".
"جباية وفساد وتجسس"
من جانبه، قال الكاتب الصحفي أحمد حسن بكر ، معلقا على فرض ضريبة الهاتف المحمول على المصريين في الخارج، بأنها "جباية، وفساد وتجسس، في اللادولة"، مضيفا في حديثه لـ"عربي21": "علينا أن نتوقع ما هو أسوأ من تلك الضريبة".
وأكد أنه "في مصر حيث لادولة، باع السيسي كل شىء من أجل لا شىء، ولم يعد أمامه إلا فرض الضرائب الجزافية على وسائل التواصل الإلكترونية، التي أعفتها كل دول العالم تقريبا من الجمارك، لأنها أصبحت ضرورة من ضرورات الحياة والعمل".
وأوضح أن "نظام السيسي المترنح فقد عقله السياسي، وسيطر عليه فساد الحاشية والأصهار، لذا نسمع كل يوم عن قرارات لا تخدم الوطن أو المواطن، وإنما تخدم الحاشية والأصهار".
"صهر شقيقه والقرار"
ويعتقد بكر، أن "قرار جمارك وضرائب الهاتف المحمول يصب في المقام الأول بخزائن رجل الأعمال (صافي وهبة) صهر شقيق السيسي، والذي يسيطر على توكيلات بعض أجهزة التليفونات الصينية، وهي التليفونات التي ترفض معظم الدول الأوربية وأمريكا تحميلها على شبكتها، خوفا من حملها برامج تجسس صينية".
وبعد وصفه تطبيق (تليفوني) بـ"الخبيث"، قال: "بداية يجب أن نعلم أن مصر إشترت من إسرائيل الكثير من برامج التجسس، للتجسس على معارضي نظام السيسي، وفي الوقت نفسه تستخدمها إسرائيل للتجسس على كافة قطاعات الدولة المصرية، وكما تردد بقوة فإن تطبيق (تليفوني) خبيث في الأساس وإن كان الظاهر أنه يختص بتنفيذ قرار الضريبة الجديدة".
وأشار الكاتب المصري المعارض من الولايات المتحدة إلى ملف مرتبط بالقضية وهو "تهريب الهواتف المحمولة من الموانىء المصرية"، موضحا أنه "عندما تُعلن الصحف المحلية أن تجار المحمول شغلوا أكثر من مليون جهاز تليفون من ماركات (سامسونغ)، و(آبل)، قبيل سريان قرار الجباية، فهذا يكشف أنه يتم تهريبها من الموانيء المصرية، وبأعداد كبيرة عبر تجار ومهربين، وليس من خلال المصريين العاملين بالخارج".
ولفت أيضا إلى أن "هذا القرار الغبي والفاسد ينطوي على ما يسمى بالازدواج الضريبي، لأن المصري حين يشتري هاتفه من الدولة المقيم بها فإنه يدفع ضريبة مبيعات، ثم يأتى لمصر ليعيد دفع أكثر من 38 بالمئة من قيمة الهاتف، وهذا يعني أنه دفع أكثر من ثمن الهاتف".
وخلص للقول إن "السيسي بهذه الطريق يكسب أكثر من شركات (سامسونغ)، و(آبل)"، مبينا أنه "بالضريبة والجمارك التي فرضها على الهواتف المحمولة يحقق بذلك مكاسبا تفوق مكاسب الشركتين العالميتين بكل هاتف".
وفي نهاية حديثه توقع أن "يجد شباب المبرمجين المصريين حلولا إلكترونية قريبا تفسد ما تحاوله الدولة لإيقاف عمل التليفونات التي لا تدفع الجباية"، لكنه شدد على أن "هذا الأمر لو نجح فيه الشباب سيكون خطير كبيرا على الأمن السيبراني لقطاع الاتصالات والمعلومات".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية المصرية السيسي مصر السيسي ضريبة الهواتف المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المصریین فی الخارج الحکومة المصریة على المصریین هذا التطبیق فی إسرائیل تطبیق على أکثر من فی مصر
إقرأ أيضاً:
الشريعة الإسلامية في السودان.. من الشعار إلى التطبيق
تحكمت ثلاثة عوامل بالدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان طوال الفترة التي سبقت انقلاب الإسلاميين في العام 1989، كان العامل الأول منها هو حدة الصراع السياسي الذي ولدت في إطاره الدعوة لتحكيم الإسلام كمنظومة تشريعية وكنظام شامل للحياة، إذ لم يغادر المستعمر البريطاني البلاد في العام 1956 حتى برز الصراع بين التيارات الفكرية الناشئة عندئذ والمتطلعة لمستقبل البلاد.
والمفارقة أن الحزبين التقليديين اللذين يستندان على قوى اجتماعية إسلامية لم يتخلفا عن المناورة بأمر الشريعة رفضا وقبولا، وكان صوت الحزب الشيوعي هو الأعلى على الرغم من تقدم الأحزاب التقليدية عليه في العدد والمناصرين، ولكن وجوده وسط الفئات المتعلمة وانفراده بالأساليب العصرية في التنظيم والحشد أكسبه قوة تأثيرية هائلة، ولم يكن الحزب في وارد قبول من ينافسه في القطاع الحديث وسط المتعلمين، خاصة إذا كان هذا المنافس تقوم أطروحته على الدعوة للإسلام ويوظف خطابه لوصم الماركسية بالإلحاد.
ومن رحم هذا الخلاف النظري جاءت معظم الخلافات السياسية التي أثرت في تاريخ السودان وحاضره، وتكاد النخبة العلمانية بجميع مرجعياتها الفكرية أن تجمع على أن الدعوة للدستور الإسلامي كانت سببا من أسباب تعمق الخلاف بين الفرقاء السودانيين. يقول الدكتور حيدر إبراهيم: "شكلت الدعوة للدستور الإسلامي استنزافا للعقل السياسي السوداني وأدخلت البلاد في نفق مظلم أدى إلى الكارثة التي تعيشها البلاد الآن".
من رحم هذا الخلاف النظري جاءت معظم الخلافات السياسية التي أثرت في تاريخ السودان وحاضره، وتكاد النخبة العلمانية بجميع مرجعياتها الفكرية أن تجمع على أن الدعوة للدستور الإسلامي كانت سببا من أسباب تعمق الخلاف بين الفرقاء السودانيين
أما الحزب الشيوعي الذي يمثل الطليعة للقوي اليسارية، فقد جاءت حادثة طرد نوابه من البرلمان وسحب ترخيصه في العام 1967 لتضيف عاملا آخر من عوامل عدائه المتزايد للتيارات الإسلامية ولكل ما تمثله من أفكار، إذ يرى الدكتور محمد سعيد القدال أن "أخطر ما في الدعوة للدستور الإسلامي أنها أقحمت في القاموس السياسي الشعار السياسي الملتحف بالدين، فأصبح الموقف الاجتماعي الطبقي موقفا يوازي عقيدة المرء ودينه، وبهذا تكون قد دشنت النفاق باسم الدين في شكل جديد". إن ظهور الدعوة لتطبيق الشريعة وسط كل تلك الصراعات السياسية أضر بالتطور الطبيعي الذي كان يمكن أن تقوم عليه التطورات التشريعية والقانونية لاحقا.
أما العامل الثاني، فهو الحالة الثورية والطريقة المهرجانية من كلا الفريقين في الدعوة للشريعة ومقاومتها، مما أثر سلبا وحدّ من إنتاج رؤية علمية هادئة ورصينة للاحتكام لمنظومة تشريعية تعبر عن ثقافة أهل السودان وقيمهم المحافظة القائمة على ثوابت الدين الإسلامي.
ولعل الحادثة التي أغفلها البحث العلمي هي الدور الكبير الذي لعبه الدكتور زكي مصطفى، وزير العدل زمن الرئيس النميري وتحديدا في العام 1974، والذي لعب دورا بارزا في تثبيت قوانين الشريعة، ولم يتوقف دوره عند تكوين لجنة مراجعة القوانين لتتواءم مع الشريعة الإسلامية وفقا لما نص عليه دستور العام 1973، ولكن ومن بين كل القوانين التي تمت مراجعتها يأتي تعديل المادة التاسعة من القانون المدني التي كانت ركيزة من ركائز الإنجليز في نشر القوانين البريطانية والأجنبية، حيث تم تعديلها في قانون الإجراءات المدنية لتقرأ على النحو التالي: "في المسائل التي لا يحكمها أي نص تشريعي تطبق المحاكم المبادئ التي استقرت في السودان ومبادئ الشريعة الإسلامية والعرف والعدالة والوجدان السليم". هذا التعديل الحاسم أعطى المحاكم سلطات تقديرية واسعة للانفتاح على مبادئ الشريعة الإسلامية دون تقييد بمذهب ضيق، وهو الأقرب لروح الشريعة في تجارب المجتمعات المسلمة تاريخيا، وهو الأمر الذي جعل الدكتور حسن الترابي، حين تولى وزارة العدل لاحقا، أن يصرح بأن نتائج عمل اللجان التي كوّنها زكي مصطفى وبعد مراجعتها لأكثر من 280 قانونا؛ وجدت أن 10 في المئة فقط هو ما احتاج إلى تعديلات في بعض مواده ليتسق مع الشريعة الإسلامية. تم كل هذا الجهد الحاسم بهدوء وعلمية بعيدا عن أجواء السياسة ومعاركها..
والعامل الأخير الذي وصم سلوك أصحاب الدعوة للشريعة ومخاصميهم هو الاتهام بتوظيف واستغلال الشريعة في الخصام السياسي من جهة القوى العلمانية، والرد بأن دعوى التوظيف السياسي تستبطن رفضا لشرع الله، ولذلك وحين أعلن النميري قوانين الشريعة الإسلامية في العام 1983 (وبصورة مهرجانية) زادت حدة الانقسام حول الموقف من الشريعة تبعا لحالة الانقسام السائدة أصلا في المشهد السياسي، ولولا حالة الانقسام هذه لما اكتسبت تلك القوانين كل هذا الجدل في التاريخ السوداني. يقول المحبوب عبد السلام: "لم تكن قوانين سبتمبر لتكون شيئا في تاريخ السودان لولا أنها منحت تيار الإسلام السياسي تميزا كان يفتقده أمام الأحزاب التقليدية المؤسسة على الولاء الديني، ولم تكن قوانين سبتمبر لتكون شيئا لولا أن حكم النميري يومها قد فقد مبررات وجوده بالكامل وطفق يلتمسها في الدين"..
الإنقاذ الوطني والشريعة الإسلامية:
بعد البحث والتحري يمكن القول بكل ثقة إن الصراع الحاد بين الإسلاميين والقوى الوطنية الأخرى لم يكن حول الشريعة، وإنما كان حول السلطة، فالنخبة العلمانية ترى أنها وريثة الدولة الحديثة من المستعمر الأجنبي، وبالتالي فإن سقف قبولها بالآخر ينتهي عند المحافظة على وجودها هي حصرا في مواقع التأثير الفكري والسلطة السياسية، ولن ترضى بأي تعايش مع قوى أخرى تختلف معها في رؤاها هذه.
ظلت قضية شرعية النظام محلا للخلاف مع القوى السياسية طوال فترة حكومة الإنقاذ الوطني، وإن صالح أغلبها في فترات مختلفة إلا أنه صلح بدا عليه أنه إذعان لسلطة الأمر الواقع، أو بلغة الأصوليين "بيعة للسلطان ذي الشوكة"
وللتأكيد على أن جوهر الصراع لم يكن حول الشريعة، وإن أعلت القوى العلمانية لافتة اتهام الإنقاذ بإقامة الدولة الدينية والتضييق على الآخرين من منصة القوانين الإسلامية، فإنه كان واضحا منذ بداية تجربة الإسلاميين أن تصورهم للدولة الإسلامية يقع تحت سقف الدولة الحديثة بكل شروطها التي وضعها الفلاسفة الغربيون؛ لا سيما توماس هوبز الذي يرى أن "الأمن والنظام لا يمكن أن يستتبا بين البشر إلا بقيام قوة قاهرة تفرض سلطانها على الجميع ويسلم الكل لها قياده بغير شروط، ولا يحكمها إلا منطقها وقانونها"، ولاحقا ماكس فيبر الذي يشرعن لها الحق الشرعي في الاحتفاظ بالقوة (واستخدامها فعليا) لتثبيت تجربة الحكم الجديدة.
وعلى الرغم من حكومة الإنقاذ تبنت شعار "أسلمة الحياة العامة" وطرحت مفهوم المجتمع المتقدم على الدولة، في محاولة للجم توحش الدولة الحديثة والاقتراب من مثال الشريعة المتسامح، إلا أن النتيجة العملية تخبرنا بأن الشعارات كانت أكبر من أحكام الواقع، والطموحات محكومة بالمعادلات الواقعية، ولذلك توقفت ثورة الإصلاح القانوني عند بعض القوانين وفي مقدمتها القانون الجنائي للعام 1991، وبعض القوانين الاقتصادية التي حاولت تخليص المصارف من الربا وإقرار الصيغ الإسلامية محلها.
ورغم الجهود التي بُذلت لتحقيق الطموحات إلا أن النتيجة لم تكن مرضية حتى لقادة التيار الإسلامي أنفسهم. يقول الباشمهندس سليمان صديق: "تعلقت آمال كثير من الشعوب والحركات الإسلامية بالتجربة وقدمت لها الدعم المادي والمعنوي، غير أن الخلاف الذي حدث في صف الحركة بعد ذلك وكثير من السياسات والمواقف وكثافة الحملة الغربية وفتور علاقات السودان العربية؛ أصاب البعض بخيبة الأمل". وكان يمكن تطوير مواقف للاتفاق القومي بناء على الحقائق التي تكشفت للإنقاذ من أحكام الواقع وسلطانه والسقف المتاح للتدرج نحو "تطبيق الشريعة"، ولكن -كما سلف القول- كان الخلاف السياسي هو المتحكم وليس البحث عن قواعد للاتفاق أو حتى الاختلاف على بيّنة واضحة.
وظلت قضية شرعية النظام محلا للخلاف مع القوى السياسية طوال فترة حكومة الإنقاذ الوطني، وإن صالح أغلبها في فترات مختلفة إلا أنه صلح بدا عليه أنه إذعان لسلطة الأمر الواقع، أو بلغة الأصوليين "بيعة للسلطان ذي الشوكة". وكانت الإنقاذ واعية بهذه المعضلة ولذلك سعت إلى تقنين انقلابها بالتدرج نحو استكمال التشريعات الإسلامية وفق ما يتيحه الواقع من ناحية، ونحو العودة للحكم المدني الذي يبسط الحريات للآخرين.
ولا شك أن تلك القوى نازعت الإنقاذ لأنها ظلت ترى أن هذه هي دولتها التي ورثتها من المستعمر الأجنبي، والإنقاذ نفسها لم تستطع بحكم معادلات الواقع والقوة أن تطرح نموذجا لدولة إسلامية تغير من قواعد الدولة الحديثة وشروطها، فلجأت إلى استدعاء ميثاق أهل السودان الذي سبق وأن قدمته الجبهة الإسلامية قبل الانقلاب ليكون أساسا للتعاقد بينها وبين أهلل الملل الأخرى، ولا سيما المسيحيين في جنوب السودان الذين ظلوا على تخوفهم من برنامج الحركة الإسلامية الداعي للشريعة الإسلامية، على أن التجربة العملية للإنقاذ كانت أوسع مدى حين أقرت مراسيمها الدستورية المواطنة أساسا للحقوق والواجبات. (وهنا أيضا نقطة مهمة من نقاط التلاقي التي كان يمكن تطويرها بين المتخاصمين حول الشريعة، إذ إن إقرار المواطنة خطوة مهمة واجتهاد معتبر نحو التوفيق بين مبادئ الشريعة والدولة الحديثة).
الحركة الإسلامية وبعد كل هذه التجارب الطويلة بحاجة لاستذكار بعض الدروس للعظة والاعتبار، وأولى هذه الدروس هي أن الشريعة لن تزدهر إلا إذا كانت اختيارا حرا من جموع المواطنين، لأنها حينئذ ستكون تعبيرا صادقا عن روح المجتمع وأشواقه وتطلعاته
ولئن نازعت تلك القوى حكومة الإنقاذ على الشرعية لأنها أتت على ظهر دبابة للحكم، فإن الشرعية التي تتحدث عنها الشريعة أعمق من الصراع حول السلطة والتقاتل بشأنها، لأن شرعية الحكم في الشريعة تستلزم أن يكون السلطان تعبيرا عن جملة أعراف المواطنين ومعتقداتهم وأخلاقهم، وعندئذ فإن تطبيق الشريعة لن يكون عبر فرضها بالقوة بأي حال من الأحوال، والأمر كذلك فإن الشريعة لا يمكن تطبيقها إلا في مجتمع حر ودولة ديمقراطية، وهو ما يعبر عنه عبد الوهاب الأفندي بقوله: "والدولة التي يقيمها المسلمون لا تكون مرتكزة على قيم الإسلام إلا لأن هذه ستكون بالضرورة الإرادة الجماعية لمواطنيها"، وهو المعنى نفسه الذي سبق أن أكده حسن الترابي إذ يقول: "ولا قوام بعدئذ لتحقيق الدين وتطبيقه واقعا كاملا إلا وفقا على جهد كل الجماهير ناشطة في أداء التكاليف، إليهم المرجع ليرفعوا ويخلعوا ببصيرتهم وإرادتهم سلطان الوضع ليقيموا سلطان الشرع".
وبهذا المفهوم التحرري فإن تجربة الحركة الإسلامية كانت واعية بأن نموذجها يتقاصر عن بلوغ المثال الذي تنشده الشريعة، كما أنه محكوم بإطار محدد وهو سقف الدولة القومية التي صممت على قواعد القوة المادية والإكراه، وعلى المصلحة الفردية وازدراء الأبعاد الأخلاقية، وكلها قواعد مفارقة لجوهر الشريعة الإسلامية ومشروع الحركات الإسلامية، وهنا يظهر التحدي الكبير للمفكرين التجديديين في استنباط فقه عصري يردم الفجوة بين المثال المنشود وبين الواقع القاصر.
ومن أجل المستقبل، فإن الحركة الإسلامية وبعد كل هذه التجارب الطويلة بحاجة لاستذكار بعض الدروس للعظة والاعتبار، وأولى هذه الدروس هي أن الشريعة لن تزدهر إلا إذا كانت اختيارا حرا من جموع المواطنين، لأنها حينئذ ستكون تعبيرا صادقا عن روح المجتمع وأشواقه وتطلعاته، والتدافع نحو تطبيقها يجب أن يكون بالحسنى، خاصة وأن قواعدها قد استقرت في المجتمع السوداني وفي ثقافته الشعبية، وعلى الحركة أن تتخلص نهائيا من فكرة "فرض الشريعة"؛ لأن "الشريعة لا يمكن أن تُفرض، لأنها لو فُرضت لا تكون شريعة، فحينما لا يكون للشريعة سند سوى القهر فإنها تصبح نفاقا ليس إلا"، كما يقول عبد الوهاب الأفندي..
وثاني الدروس هي التخلص من التصور الخاطئ بأن المجتمع كله بتشريعاته وسياسته ودنياه مغترب عن الدين، وأن الحركة الإسلامية ابتُعثت لملء الفراغ الأخلاقي بتعاليمها وبرامجها، فالتواضع الفكري يفرض عليها الاعتراف بأن المجتمع السوداني مجتمع متدين محافظ بطبعه وذلك في غالبه الأعظم، وأن الشريعة نفسها جاءت لتكمل مكارم الأخلاق ولم تبدأ من الصفر حين بُعث النبي الكريم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، وأنها كانت طوال تاريخها مترافقة مع الأعراف الكريمة في المجتمعات التي حكمتها، وهو ما تم الاعتراف به والنص عليه في دساتير السودان منذ دستور العام 1973.