محنة أيتام غزة ومبادرات لاحتوائها في قرية الوفاء
تاريخ النشر: 16th, January 2025 GMT
غزة- نجت الطفلة نادين الزويدي من براثن الموت، ومع الوقت شفيت من إصابتها الجسدية، غير أنها لا تزال تعاني من هول الصدمة، بعد نحو عام على الغارة الجوية الإسرائيلية التي دمرت منزل العائلة وخطفت والدها وعددا من أفراد أسرتها في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة.
ظلت هذه الطفلة مستسلمة لأحزان تجثم على صدرها، وتحملها معها من مكان إلى آخر في رحلة نزوح جبرية وبائسة منذ وقوع المجزرة، وفقدت فيها والدها محمود، وشقيقتيها رؤية (17 عاما) ونغم (12 عاما)، وعمتها داليا وابنها محمد.
عندما وقعت تلك المجزرة، كانت نادين (10 أعوام) وأسرتها نازحين في منزل عمتها داليا، ومن المستشفى لجأت إلى مركز إيواء داخل مدرسة بمدينة غزة، وقد نجت من الموت مرة ثانية إثر استهداف إسرائيلي للمدرسة، وتقول للجزيرة نت "أعيش الآن مع أمي وأختي عائشة في خيمة على شاطئ البحر بمواصي خان يونس، وغرقنا بمياه البحر والأمطار".
كانت نادين قريبة من والدها ومرتبطة به عاطفيا، وترك غيابه أثرا عميقا على حالتها النفسية، وقد وقع عليها الاختيار لتلتحق بقرية الوفاء لرعاية الأيتام، وهي مبادرة افتتحت حديثا في منطقة المواصي، وتركز اهتمامها على حالات مأساوية لأطفال أيتام نجوا من الموت، ولم يتجاوزوا مأساة فقد الأب أو الأم أو كليهما معا.
لم تستعد نادين بعد حيويتها ونشاطها، وقد مضى على التحاقها بالقرية 3 أيام، لكنها تعبر عن سعادتها بوجودها في مكان تقول إنه ينسيها أحزانها والحرب المرعبة، وتبعد لساعات عن أجواء الخيمة الكئيبة، وتلعب وتلهو مع أطفال مروا مثلها بمآس وصدمات.
"والله حرام ما يحدث لنا.. احنا لسه أطفال، شو ذنبي أعيش بدون أمي وأبي؟"، بهذه الكلمات التي تقطر ألما يعبر الطفل أحمد شعبان (12 عاما) عما يعتصر قلبه كطفل ذاق مرارة اليتم مبكرا، وسيواجه مصيره وحياته بمفرده.
إعلان
فقد أحمد والديه في جباليا شمال القطاع، من دون أن يحظى بفرصة إلقاء نظرة الوداع عليهما، وحتى أنه لا يعرف شيئا عن مصيرهما، ويقول للجزيرة نت "أبي وأمي خرجا من البيت ليجلبا لنا الطعام ولم يعودا ولا نعرف شيئا عن مصيرهما".
يصمت هذا الطفل للحظات، ثم يقول والحزن بارز في نظرات عينيه وكلماته المتقطعة "كلاب الشوارع أكلت الشهداء في الشمال.. يا رب ما تكون أكلت أبي وأمي".
يعيش أحمد حاليا مع جديه وأسرة خالته (10 أفراد) في خيمة بمدينة دير البلح وسط القطاع، ويقول "الحياة صعبة جدا من غير أبي وأمي (..) اشتقت لهما كثيرا، واشتقت لأكل أمي، أكل التكية مش زاكي (مذاقه سيئ)".
ومثل نادين وأحمد يعيش أكثر من 35 ألف طفل وطفلة في القطاع من دون الوالدين أو من دون أحدهما، بحسب توثيق المكتب الإعلامي الحكومي، جراء جرائم مروعة تعرضوا لها خلال الحرب الإسرائيلية الدموية المستعرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023.
وتشير الأرقام الرسمية الأولية إلى أن أكثر من 11 ألف فلسطيني في عداد المفقودين، ولم تصل جثامينهم للمستشفيات، ويرجح أن غالبيتهم لا يزالون عالقين تحت أنقاض المنازل والمباني المدمرة، أو في الشوارع والأزقة، ولم تتمكن فرق الإسعاف والطوارئ من الوصول إليهم وانتشالهم.
انتقل أحمد إلى هذه القرية، ورغم الأيام القليلة له فيها فإن أثرها الإيجابي بدأ يظهر على شخصيته وسلوكه، وبحسب القائمين على القرية فإنه يستعيد شيئا فشيئا نشاطه وابتسامته، ويقول أحمد "هنا ننسى الحرب، ونتعلم ونلعب، وتعرفت على أصدقاء جدد".
وتقدم قرية الوفاء حاليا خدماتها لزهاء 200 طفل يتيم، يعيش غالبيتهم حياة بائسة في خيام النزوح ومراكز الإيواء، وتقول صاحبة هذه المبادرة ومديرة القرية الدكتورة وفاء أبو جلالة للجزيرة نت إن الهدف الأساسي هو توفير ملاذ آمن للأطفال الأيتام، يعزلهم عن أجواء الرعب ويحررهم من ضغوط الحرب.
إعلانولتحقيق هذا الهدف، فإن القرية تقدم خدمات متنوعة كالتعليم، والتفريغ النفسي والتأهيل، والترفيه، وبحسب أبو جلالة وهي أخصائية نطق وتأهيل واضطرابات نفسية، فإن "هذه القرية تعتبر حياة جديدة بالنسبة للأطفال الأيتام، ونحرص خلال وجودهم هنا على منحهم كل سبل الأمان والراحة والطمأنينة".
هنا في هذه القرية، التي تأمل أبو جلالة أن تتطور وتجد الدعم اللازم لتتمكن من زيادة أعداد الأطفال الأيتام المستفيدين، يشرف على أنشطتها مبادرون ومبادرات وبشكل طوعي ومن دون مقابل، يجمعهم الإيمان بقيمة العمل مع الأطفال الأيتام، وكل جهد في جوانب الأنشطة المختلفة، نفسيا واجتماعيا وتعليميا وترفيهيا، الهدف منه إعادة بناء الطفل من جديد، وعدم تركه فريسة لليأس والحزن.
ومن أبرز التحديات التي تواجه طواقم القرية حجم الصدمات النفسية التي تركت أثرها على شخصية الأطفال، خاصة في سلوكياتهم، والبعض منهم كان للصدمة أثرها على قدرته على النطق السليم، وتقول أبو جلالة "عانى هؤلاء الأطفال تجارب قاسية لا تحتملها الجبال".
ولذلك فإن الطفل اليتيم في مثل حالة الآلاف من أطفال غزة، الذين يواجهون هذه التجارب المؤلمة والدامية بفعل الحرب غير المسبوقة، يحتاج إلى رعاية خاصة وتعامل احترافي وفقا لكل حالة وما مرت به.
"إن فقد الأب أو الأم وقعه شديد على الطفل، وهو ليس مجرد فقد عزيز أو حبيب، هو فقد للسند والعاطفة، وبنظر الطفل كأنه فقد العالم بأسره"، وفقا لأبو جلالة، وتضيف "لأننا ندرك هذه الحقيقة وكم هي معاناة وأحزان الطفل اليتيم فإننا نقدم له الدعم النفسي المتخصص الذي يساعده على تخطي الصدمات، ونوفر جلسات إرشاد نفسي ودعم عاطفي، ونوفر مختصين للعمل مع كل طفل على حدة ووفقا لخصوصية حالته النفسية وحجم الصدمة الناجمة عن التجربة المروعة التي مر بها".
كما يوجد في القرية قسم خاص بالتأهيل اللغوي، وتشير الأخصائية إلى الأهمية البالغة لهذا القسم في التعامل مع أطفال فقدوا القدرة على التعبير والنطق السليم بسبب هول الصدمات.
إعلانوفي هذا القسم يعمل متخصصون من أجل تمكين الأطفال الأيتام من استعادة توازنهم الداخلي، عبر علاج مشكلات النطق، وتشجيعهم كذلك على التعبير التدريجي عن ذواتهم وما يختلج صدورهم من مشاعر وأحاسيس.
وأبرز انعكاسات الحرب على الأطفال الأيتام تحددها الأخصائية النفسية المتطوعة أسيل أبو سليمان للجزيرة نت، بالعدوانية والتشتت، وعدم الاتزان النفسي، وتؤكد أنهم يعانون من خلل في مختلف السلوكيات الشخصية نتيجة أهوال الحرب وويلاتها.
ويقول أخصائي التخاطب والسمعيات الدكتور أحمد أبو سعدة، إن القرية تدرك ما لحق بالأطفال الأيتام، وتتعامل معهم علميا لعلاجهم من خلال برنامج التأهيل المجتمعي، ويشمل قسم علاج النطق والسمعيات، وقسم التأهيل السمعي، وقسم العلاج الوظيفي، وقسم العلاج الطبيعي.
ومن خلال هذا البرنامج الذي يديره الدكتور أبو سعدة، يعمل مختصون مع كل طفل بحسب الحالة الخاصة به، ويقول للجزيرة نت إن المعضلة التي تعترض العمل مع مثل هؤلاء الأطفال هي عدم توفر بيئة مجتمعية آمنة، واستمرار تعرضهم لصدمات يومية ومتكررة، مما يزيد من الاضطرابات النفسية والسلوكية لديهم.
ويضيف أن القرية تحاول إيجاد بيئة تعزل الطفل لأطول وقت ممكن عن المجتمع الخارجي، الذي تضرر كثيرا بالحرب وتداعياتها من قتل وتدمير وسلوكيات عنيفة، ووفقا لهذا الأخصائي فإنه ينبغي العمل مع حالات الأطفال الأيتام سريعا، خصوصا من تركت الصدمة أثرها لديهم على النطق السليم وأصابتهم بما تسمى "التأتأة" وإلا ستدوم معهم لبقية حياتهم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الأطفال الأیتام للجزیرة نت أبو جلالة من دون
إقرأ أيضاً:
محنةُ غزة... عيبٌ عربي
عبدالله بن سليمان العامري
عندما تقع محنة ما، ويدُب الخوف واليأس في الروح نستنجد بمن نظن أنهم أحياء. ونشعر في تلك اللحظة أن الحياة ستجري كالسيل في عروق الأمل. وسيسعفنا أكسجين الحياة من يصلنا بصلة الدين والدم. وسيظهر لنا من وراء ضباب اليأس لابسًا درع الإيمان بالله وسيف الحق والأخوة.
ويخيّلُ لنا أن من يصلنا بصلة الدين والدم سوف يملأ الروح من جديد عِزّةً وأملا، في لحظةٍ يُفترض ألا يخيبَ الظن فيه. فمن طبيعة البشر أن يتداعى الناس للنجدة عند المحن ما عدا محنة غزة فلا قريب ولا غريب منجد. محنة غزّة هي حرب الإبادة والجوع لأنها تحب الحياة والحق والحرية.
معركة الأسود والجواميس
أتابع أحيانا أفلاما وثائقية عن البرية والغابات، فرأيت في أحد تلك الأفلام جيشا من الأسود الضارية وهي تهجم على قطيع من الجواميس البرية الضخمة، وأمسكت بواحدٍ منها فعاد القطيع وهجم على الأسود لإنقاذ أخيهم ودارت معركة حامية قتل فيها أسد وأصيب البعض إصابات بالغة.
فكيف بالأخ إذا هاجمت قطط أخيه في الدم والدين، هل النار تخلف رمادا؟ وهل عرب اليوم لا يُشعلون نارًا ولا يعرفون" الخفارة" إذا استنجد بهم قريب، وهل سينسى عرب اليوم ولاءاتهم التي سبقت الزمن والمحن؟ وما أشبه اليوم بالبارحة.
أينسون "النكسة" ولاءات الخرطوم التي دوت في سماء العرب في شهر سبتمبر من نفس العام:
١ - لا صلح مع إسرائيل.
٣ - لا تفاوض مع إسرائيل.
أشعلت تلك اللاءات حينها وجدان الشعوب، وإن لم تحرق عدوًا فعلى الأقل حركت الدماء بعدما جمَدتْ في حرب الأيام الستة.
وظن البعض في محنة غزّة أن النار تُخلِّفْ نارًا عند الشدة وليس رمادًا، وأن قيود اتفاقية كامب ديفيد وأوسلو واتفاقية وادي عربة، وما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية "انتفاضة الأقصى" ستُكسر، لأنها لا تمنع أخ من نجدة أخيه في محنته.. وما كُسرتْ.
الصندوق الأسود
بعد كل تلك المخرجات المؤلمة وكل تلك المآسي التي سبقت انتفاضة الأقصى، إذ بالرياح تجري بما لا تشتهي السفن مرةً أحرى وتنسف ما تبقى من آمال.
فقبل ٢٣ عاما، وبعد سنتين من انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠، وفي حفل بهيج باسم "القمة العربية" أكرمَ العرب شارون بجائزة من الصندوق الأسود "مبادرة السلام" مقابل الجرائم التي ارتكبها، ودُفِنت لاءات الخرطوم والآمال، ورفض شارون التكريم. فكتبت في ذاك الزمان مقالة في جريدة الوطن العمانية بعد رفض شارون للمبادرة، وختمتها بهذه الجملة: "مبادرة السلام العربية تحت أقدام شارون" وكان الأجدر أن أقول آنذاك "تحت أقدام اللاعبين الأساسيين بقضية فلسطين، زعماء الاحتلال وأمريكا وبريطانيا وفرنسا ومن يلعب في ملاعبهم".
ومقالةٌ أخرى ختمتها بسبع لاءات، ليس رجمًا بالغيب، وإنما هي خلاصة ما يمكن قراءته من الحفل وما سبقه من اتفاقيات وأحداث وهزائم، فالكتاب يقرأ من عنوانه، ولا تزال الخفايا في الصندوق الأسود، وخلاصة لاءات التكريم هي:
١ - لا للحرب.
٢- لا لقطع العلاقات.
٣- لا تطوع ولا جهاد.
٤- لا لفتح الحدود.
٥ - لا لسلاح النفط.
٦- لا لسلاح الاستثمارات والأرصدة في الولايات المتحدة.
٧ - لا تسليح للفلسطينيين
وها هي حرب الإبادة في غزة قد قاربت على السنتين، ولاءات العرب لا تسمع أنات أهل غزة المجوعون ولا ترى الإبادة. فمن سيأتي بالنجدة ومن أين؟ لقد كشف طوفان الأقصى ومحنة غزة حقيقة اتفاقيات السلام المُذلة ولاءاتها المخزية.
محنة غزة وسباق المجوعين
محنة أهل غزّة هي الصمود أمام أهداف الإبادة والموت ليس لأجل غزة، بل لأجل فلسطين، وحفظ الدين، وتطهير الأقصى من الدنس والمدنسين.
يتسابقون إلى ميدان الموت من شدّة الجوع، وهم في الأنفاس الأخيرة، لجلب طعام إن وجد، والموت أقرب إليهم مسافةً من ميدان الموت.
يتسابقون لجلب طعام وقد ذاب شحم المجوعين، وأُكلَ اللحم، والتصقَ الجلدُ بالعظم، فالحي فيهم هيكل عظم في انتظار الشهادة، ويموت المتسابقون وتموت الهياكل، نراهم يتدافعون، أطفال وصغار وشيوخ ونساء، يمدون أوعيتهم لغرفة من عدس أو طحين، والوعاء مملوء ألم وحزن، وعذاب، وخوف من سقوط القذائف والقنابل على رؤوسهم.
يتسابق المسعفون لإسعاف ضحايا الإبادة، فماتوا ومات المصابون، استُنفِرَ الأطباء لإنقاذ من هم في الرمق الأخير، فمات الأطباء ومات من هم في الرمق الأخير. ونفذت الأدوية والأكسجين، فمات المرضى المنتظرون، مات المنجدون ومات المنتظرون.
الطريق مغلق
غزة العزَّة تُقتلْ بالقنابل والتجويع والحصار المجنون، جريمة دولية لا تغتفر.
غزة مشروع موت بأحدث الأساليب وأسلحة المجرمين الفتاكة، وبأحجام وكميات ليس لها مثيل، ومبادرة سلام.
غزة قصة الأخ الشريك في قتلها، والقريب المتفرج على سلب روحها، والعدو الشامت من محنتها.
غزّة قصة كل المحاولات لقتلها، لتموت وتموت فلسطين. غزّة لن تموت، غزّة تحب الحياة والحق. غزة تقاتل بـ"لا إله إلا الله" وبأوعية الطعام وبارود الأنفاق لتنتصر، ولتبقى لأهلها الصامدين، ولتبقى فلسطين أرض أولى القبلتين.
غزة قالت: الطريق مغلق أمام بقاء المحتل، فغزة ابنة التاريخ العربي القديم وابنة الحق.
غزّة كشفت جريمة العصر المشتركة، وما في الصندوق الأسود، وأسرار وألاعيب الأنظمة العربية في القضية الفلسطينية، غزّة كشفت أن النصر الذي يناضل من أجله الفلسطينيون آتٍ بإذن الله.