د. محمد بن خلفان العاصمي

وضع نيكولا ميكافيلي في كتابه "الأمير" مبدأً فلسفيًا، أصبح فيما بعد منهجًا سياسيًا واقتصاديًا سارت عليه كثير من الأنظمة وهو أن "الغاية تُبرِّر الوسيلة"؛ حيث يرى ميكافيلي من خلاله أن الناجح هو الذي يُبعد العواطف والمُثُل والقيم عن مساراته، وأن منطلق التفكير يجب أن يبدأ من المصلحة الذاتية الخاصة والمكاسب، مهما كانت الوسيلة، حتى لو كانت على حساب حياة الآخرين، دون النظر للمصلحة العامة! وهذا المبدأ كان الأساس لنشأة حقبة تاريخية شهدت حروبًا وصراعات طاحنة في جميع أنحاء أوروبا بالخصوص والعالم بالعموم، وهذا المبدأ الذي وضعه أصبح علامة للانتهازية الرأسمالية الامبريالية.

ولا بُد لنا هُنا من التطرق إلى تعريف الأنظمة الاقتصادية، حتى نصل لمفهوم شامل وربط متكامل بين أفكار المقال، وسوف أقتصرُ على ذكر 3 أنظمة اقتصادية؛ وهي: النظام الاقتصادي الحُر، والنظام الاقتصادي المُوَجَّه، والنظام الاقتصادي المُختلَط. ويُعرف الاقتصاد الحُر أو اقتصاد السوق بأنه "نظام يقوم بشكل أساسي على العرض والطلب في تحديد أسعار السلع والخدمات بشكل حُر من قِبَل البائع والمشتري؛ حيث لا يكون للحكومة أي تدخل في الشؤون الاقتصادية أو قد يكون لها دور ثانوي نمطي". أما الاقتصاد المُوَجَّه أو الاقتصاد المركزي فهو "نظام تتحكم فيه الحكومة بالسوق بشكل كامل؛ حيث تحدد أسعار السلع والخدمات وقنوات التوزيع وكمية الإنتاج، كما تُحدِّد المُنتجِين في بعض القطاعات". أما النظام الاقتصادي المختلط؛ فهو يجمع النوعين السابقين.

ولكل نظام من هذه الأنظمة سلبيات وايجابيات، وربما يُؤخذ على النظام الاقتصادي الحُر تأثيره على أخلاقيات العمل؛ حيث يؤدي إلى منافسة غير عادلة؛ مما يُضعف أخلاقيات العمل، وينتج عن ذلك زيادة في البطالة وعدم المساواة. وذلك على عكس الاقتصاد المُوَجَّه، الذي يَفرض قيودًا أخلاقية وأنظمة تَحِد من سيطرة الشركات والمؤسسات على الاقتصاد، وفرض نظامها على سوق العمل؛ الأمر الذي يُؤدِّي في النهاية إلى زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ وهو ما يُؤثِّر بشكل كبير على البناء الاجتماعي والوضع الأمني والسياسي، ويخلق مشكلات مُتعددة في بنية الاقتصاد بشكل خاص والدولة بشكل عام. والنظام المُوَجَّه يزيد من القيود التي تفرضها الدولة على التجار وأصحاب الأعمال؛ وهو ما يخلق حالة من الصراع المستمر بين الطرفين.

لقد قامت الأنظمة السياسية في العالم كنتيجة وأداة للأنظمة الاقتصادية واستخدمتها لتنفيذ سياساتها للسيطرة المالية على دول العالم، وفي فترة الحرب الباردة برزت الأنظمة الاقتصادية كأهم عوامل الاستقطاب السياسي، وأُسست المنظمات الدولية التي تُشرعن هذه الأنظمة، وتَشكَّلت التحالفات ووُضِعَت الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والتشريعات الخاصة بهذه المنظمات على غرار الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المنظمات العالمية، وما تلاها بعد ذلك من تحالفات ومجموعات اقتصادية، والهدف منها جميعًا خدمة الأنظمة الاقتصاديّة التي تتبنى أفكارها ومبادئها.

وبكل تأكيد، وبعد العرض السابق، يتضح ما هو النظام الأفضل والنموذج المناسب الذي يستطيع الموازنة بين الأمور المختلفة، دون إفراط أو تفريط؛ فالتنظيم الذي تَفرِضه الدول على الاقتصاد يمثل الأساس لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والنمو الاقتصادي والاجتماعي المنشود، وهو أمر يحفظ الحقوق للجميع ويُوجِد علاقة متوازنة بين المُنتِج والمُستهلِك، وبين أطراف الإنتاج وبين سلاسل التوريد والإمداد، وبين جميع مُكوِّنات القطاع، وكل ذلك يعود بالنفع على الجميع ويسهم في بقاء السوق في وضع حيوي ومُستدام؛ بعيدًا عن المخاطر التي تنتج عندما تتمكن فئة من الأخرى.

في المقابل، إنَّ إعطاء السوق مساحة من الحرية الاقتصادية أمر بالغ الأهمية؛ بما يضمن تطوير بيئة الأعمال وخلق التنافسية الاقتصادية التي تسهم في رفع معدلات الإنتاج المحلي وزيادة الدخل القومي وتحقيق التنمية الاقتصادية والنمو في القطاع الخاص، والذي يُسهم في تحريك عجلة الاقتصاد، وضمان تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، والقدرة على جذب المستثمرين والشركات العالمية؛ وذلك من خلال المساحة المناسبة للاستثمار والتسهيلات والمميزات التي تقدمها الدولة لذلك. هذه الحرية التي يجب أن تتوافر في هذا القطاع هي في الأساس ضمان لسوق عمل متوافق مع الأنظمة والقوانين الدولية في هذا القطاع والتي تتمثل في انضمام الدول للمنظمات والاتفاقيات الدولية والتزامها بتحقيق معايير وشروط الانضمام إليها.

إنَّ استمرار التجاذب بين أطراف المعادلة في هذه الأنظمة لا يُساعد على خلق البيئة المناسبة للعمل والنمو، ورغبة الاقتصاديين في التحكم بشكل مباشر في تحديد شكل العلاقة ورغبتهم في إيجاد نظم وقوانين تتوافق مع توجهاتهم وتخدم مصالحهم دون النظر لبقية الأطراف، أمر بالغ الخطورة. وقد سقطت عديد الدول ضحيةً لهذا النوع من الأنظمة، وتمكَّنت كبرى الشركات ومجموعات الضغط من امتلاك القرار السياسي وتحكمت في مفاصل الدولة، وهو ما سَبَّبَ -ولا يزال- الكثير من المشكلات لها على مستوى الداخل والخارج، وظهرت الكثير من المشاكل التي تنعكس بشكل مباشر على المجتمع والمواطن كونه الحلقة الأضعف في هذه المعادلة.

وهؤلاء الميكافيليُّون لا يهتمون سوى بزيادة أرصدتهم وتضخم ثرواتهم، واستمرار مصالحهم الخاصة، غير مُبالين بما يدور حولهم من مشكلات اجتماعية ناتجة عن الوضع الاقتصادي، وفي كثير من الأحيان يُمارسون الضغوط على الحكومات، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالضرائب والرسوم والقوانين التي تُفرض عليهم والتي تَمس هامش الربح المالي العالي المتحقق لهم، ويستخدمون في هذا الجانب الكثير من الوسائل المتاحة لديهم لتسويق العديد من الأفكار المغلوطة في سبيل بقاء هذه السيطرة المطلقة. وفي الغالب تستجيب الحكومات لهذه الضغوط خاصة تلك التي لا تتمتع برؤية واضحة أو التي يُشكِّل التُجَّار وأصحاب الأموال جزءًا كبيرًا من أعضائها.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

غسل الدماغ وإبادة العقل لدى الأنظمة الاستبدادية.. التقنيات والأساليب والوظائف

الكتاب: اغتصاب العقل: سيكولوجيا السيطرة على التفكير وإبادة العقل وغسيل الدماغ
الكاتب: جوست ميرلو، ترجمة عمر فايد، مراجعة: عبد المقصود عبد الكريم
الناشر: صفحة سبعة للنشر والتوزيع، ، ط1، المملكة العربية السعودية 2021
عدد الصفحات: 366 صفحة.


ـ 1 ـ

لطالما انبنت الأنظمة الاستبدادية على اغتصاب العقل وتشويه عمله. ويكون غسل الدماغ هذا بالوسائل الناعمة عبر الدعاية المباشرة أو المقنعة التي توظف الإعلام والفن والرياضة أو العنيفة التي تسرف أيما إسراف في عنفها. وهذا ما توسعت فيه أعمال فنية عربية كثيرة شأن فيلم "الكرنك" المقتبس عن رواية نجيب محفوظ بالعنوان نفسه. فقد سبب إقبال الجماهير عليه لمعرفة كيف تدار السلطة في الكواليس، وإن تعلّق الأمر بعمل تخييلي، انتشار ما عرف بموجة الكرنكة أي انتقاد تسلط نظام عبد النّاصر تحديدا ضد معارضيه من الشيوعيين خاصّة، وشأن فيلم "صفايح ذهب" للنوري بوزيد أو رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف..

وليست المسألة عربية صرفا. فهي مستوردة شأن كل أدواتنا الناجعة (!) فقد تناولها جوست ميرلو في كتابه الأكاديمي "اغتصاب العقل: سيكولوجيا السيطرة على التفكير وإبادة العقل وغسيل الدماغ" بكثير من العمق. فبحث في تأثير الأنظمة الاستبدادية على النفس البشرية. وفصّل القول في استغلال الأنظمة القمعية للآليات النفسية والاجتماعية لتوجيه تفكير الأفراد وإخضاعهم، لطمس هوياتهم الفردية وتقويض استقلالهم الفكري .وعدّد من تقنيات السيطرة الفكرية التي تستهدف إعادة تشكيل آراء الأفراد وتوجهاتهم وتدعيم إخضاعهم. وهذا ما يعرف بغسل الدماغ الذي يستهدف ديمومة بقاء الحاكم في السلطة. ولكن الأثر، على عمقه، لم يترجم إلى العربية إلاّ بعد أكثر من نصف قرن على يد عمر فايد.

ـ 2 ـ

وجوست إبراهام ماوريتز ميرلو كاتب هولندي وطبيب نفسي وأستاذ جامعي بالأساس، مدار اهتمامه العلمي على علم النفس الاجتماعي والسياسي، ومنه خاصة البحث في تأثير الأنظمة الاستبدادية على النفس البشرية. تولى رئاسة قسم علم النفس للقوات الهولندية في إنجلترا في سياق الحرب العالمية الثانية، فخوّل له استجوابه للعديد من الفارين من السجون ومن معسكرات الاعتقال ومعالجتهم، تجميعَ البيانات حول ما يحدث لملايين الضحايا من الإرهاب والتعذيب على أيدي النازيين، وفهم آليات غسل الدماغ والإبادة العقلية الفهم العميق.

يعرف عملية الغسل هذه بكونها [كلمة مشتقة من الكلمة الصينية هسي - ناو - Hsi Nao) هو أحد الطقوس المعقدة من التلقين، والتحويل، والاتهام الذاتي المستخدم لتغيير الشخص غير الشيوعي ليصبح تابعا ذليلا للحزب] ويعرّف "إبادة العقل" بكونها [نظاما متماسكا للتدخّل النفسي والانحراف القضائي، يمكن للمستبد القوي من خلاله أن يطبع أفكاره الانتهازية الخاصة في أذهان من يخطط لاستغلالهم وتدميرهم. وفي النهاية يجد الضحايا المروّعون أنفسهم مجبرين على التعبير عن الانصياع التام لرغبات الديكتاتور].

ـ 3 ـ

يعد جوست إبراهام اغتصاب العقول والقهر العقلي الخفي من بين أقدم الجرائم في تاريخ الإنسانية، ويقدّر أن بدايتهما تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. ويصلهما باكتشاف الإنسان للمرة الأولى وقدرته على توظيف التعاطف والتفاهم وغيرهما من السمات الإنسانية لفرض هيمنته على رفاقه من البشر.

فـ[كلمة (اغتصاب - (Rape) مشتقة من الكلمة اللاتينية - Rapere ؛ أي الخطف أو الاستيلاء ـ  Snatch، لكن لها علاقة أيضًا بالكلمتين يحتد ـ Rave وغراب أسود - Raven والكلمة تعني أن تتسلط، وتبتهج، وتغزو، وتسطو، وتنهب، وتسرق.] لذلك يكون الضحية في نهاية عملية غسل الدماغ وإبادة العقل على أتم الاستعداد لتقبل الذنب الذي فرض عليه وعلى شهادة الزور ضد الآخرين وضد نفسه خاصّة. فلا يتعيّن على المحقّقين إقناعه أو إخضاعه عبر التنويم المغناطيسي، لأنه جاهز ولين و[نادم ويرغب في المحاكمة. .. يصير رضيعا بين يدي محققيه، ويطعم كما الطفل، ويدلل بالكلمات كما الطفل.] وتزدهر هذه الممارسة في ظل تآكل الديمقراطية وحرية التعبير. ففي هذه الظروف يمكن تحطيم أرواح معظم البشر، لينحدروا إلى مستوى السلوك الحيواني، وفي النهاية تُفقد من المعذب والضحية معا، كل كرامة إنسانية.

ـ 4 ـ

حتى يتبسط جوست ميرلو في التأريخ لظاهرة غسل الأدمغة وفي ضبط تقنيات إخضاع الفرد المتنوعة التي تستخدم جعل الإنسان ممتثلا خنوعا، يعرض جملة من الوقائع. فمنذ الأزمنة البعيدة عمل الطغاة والمستبدون على الوصول إلى الاعترافات "الطوعية". وذلك لتبرير أعمالهم الشريرة، عبر التأثير على العقول وترويضها وتحطيم أصحابها إلى مرتبة الهوان. فكان الضحايا يصلون إلى حالة من التنويم المغناطيسي قابلين لأن يتم التلاعب بعقولهم نتيجة لتحطيم إرادتهم تدريجياً تحت تأثير الخوف. وكان الإرهاب يستهدف الجماهير كلّها. لذلك يتم بواسطة تنفيذ أكثر عمليات التعذيب والتنكيل علنا في عروض عامة. والمرأة المتهمة بالسحر مثلا لا تجد مناصا من الاعتراف بالعمليات الجنسية الفاسقة والصادمة مع الشيطان. وأكثر من ذلك فقد كانت تصدق تدريجيا القصص التي تختلقها وتموت مقتنعة بذنبها.

يعد جوست إبراهام اغتصاب العقول والقهر العقلي الخفي من بين أقدم الجرائم في تاريخ الإنسانية، ويقدّر أن بدايتهما تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. ويصلهما باكتشاف الإنسان للمرة الأولى وقدرته على توظيف التعاطف والتفاهم وغيرهما من السمات الإنسانية لفرض هيمنته على رفاقه من البشر.ومن الحالات الحديثة يذكر أمثلة مما يدخل تحت طائلة الاعتراف الإجباري. فخلال الحرب الكورية، أسر الشيوعيون الصينيون ضابطاً من قوات مشاة البحرية الأمريكية يدعى الكولونيل شوابل. وسلطوا عليه صنوفا من الضغوط النفسية والإهانات الجسدية، وقّع إثرها على اعتراف استُثمر ضمن حمالات دعائية مدارها على أن الولايات المتحدة الأمريكية تخوض حربا جرثومية ضدّ شعب الصين المحب للسلام. فتلقي عليه القنابل المحملة ببكتريا تنشر الأمراض، منتهكة بذلك القانون الدولي. وبعد عودة هذا الضابط إلى بلاده شرح ما تعرّض له على النحو التالي: " كانت الكلمات كلماتي، لكن الأفكار أفكارهم؛ وهذا أصعب شيء ينبغي علي شرحه: كيف يمكن أن يجلس شخص ما ويكتب شيئا يعرف أنه زائف، وفي الوقت نفسه ينبغي أن يدركه ويشعر به ويجعله يبدو حقيقيا".

ـ 5 ـ

عرض الباحث جوست ميرلو إذن مجملا من الوقائع التي يستهدف المستبدون عبرها إجبار المعتقلين، تحت وطأة التعذيب، على خيانة أصدقائهم والإبلاغ عن ضحايا جدد من أجل المزيد من حالات التعذيب. وحاول هذا المحلّل النفسي عبرها شرح الآليات السيكولوجية المعقدة لإذعان المعتقلين عقليا وجعلهم يخسرون معركة الصمود. وأشار إلى أنّ بعض الأفكار تولد في المختبرات العلمية. فتُخترع عقاقير الهلوسة التي تذكي شعور الضحايا بالذنب. وتسهّل عملية غسيل أدمغتهم. ورغم ما يبديه بعضهم من الصلابة يكون انهيارهم في لحظة استسلام مفاجئ، بغتة وضد إرادتهم. يتحقّق ذلك إثر اتهام غير متوقع أو صدمة أو إذلال مهين على نحو معين، أو عقاب موجع أو منطق مفاجئ في سؤال المحقق لا يمكن دحضه.

عندها يفعّل العقل مبدأ "النجاة مقابل الولاء". فقد ثبت لديه أن الكثيرين من أسرى الحرب كانوا يستسلمون تدريجيا لضغط العدو العقلي، ويتواطؤون لكتابة مواد يمكن استخدامها للدعاية متبعين آلية نفسية تصطلح عليها الباحثة آنا فرويد بالدفاع الداخلي السلبي والخداع الداخلي، ومدارها على أنّ المرء إن لم يستطيع أن يكافح العدو وهزمه، فعليه أن يلتحق به. وللحاجة الكامنة في أعماق البشر للعاطفة، دور كذلك. فما يعيشه المعتقل من الإذلال ومن تحطيم الكرامة الممنهج يجعله في حاجة إلى كلمة ثناء أو مودّة تعزز من وهم المباركة والقبول من حراسه أو محقّقيه.

يصيب تكرارُ الأسئلة الغبية يوما بعد يوم، العقلَ بالإجهاد. ويضاف إلى ذلك الإجهاد البدني للحواس كاستخدام الضوضاء التي تخترق السمع أو الإضاءة الحادة التي  تعشي البصر أو الحرمان من النوم الذي يولّد الخيالات والأوهام والهلوسة والاكتئاب. فيفقد المعتقل اتزانه وتتقهقر ثقته بنفسه، ويحن إلى النوم. ولا يكون في وسعه فعل أي شيء سوى الاستسلام ويشرع في تقديم الإجابات التي يريد المحقق الحصول عليها.  وتمثل لعبة التوقع بداية مرحلة الانهيار: "هل يحدث معي مثل هذا العذاب مرة أخرى؟ هل يمكنني تحمل هذا بعد الآن؟ لماذا يجب أن أكون بطلا؟" وتنهار المقاومة تدريجياً. هكذا يتم الإعداد للاستسلام النهائي في فترة الاسترخاء المؤقت من الضغط، التي تعيد الضحية إلى التفكير في تجربة التعذيب مع نفسها.

ـ 6 ـ 

ولا يمكن للمعتقل أن يستسلم وأن ينقلب على عقيبه دون أن يبرر أفعاله لنفسه، كأن يتساءل "ربما يكون في النازية شيء جيد؟"، بل إنّ الدعاية الشمولية الصينية قد استحوذت على بعضهم إلى درجة أنهم اختاروا البقاء في الصين والانخراط في فلك النظام الشمولي، وإن رجّح أنّ منهم من فعل ذلك للفرار من العقاب لأنه خان رفاقه.

لا يمكن للمعتقل أن يستسلم وأن ينقلب على عقيبه دون أن يبرر أفعاله لنفسه، كأن يتساءل "ربما يكون في النازية شيء جيد؟"، بل إنّ الدعاية الشمولية الصينية قد استحوذت على بعضهم إلى درجة أنهم اختاروا البقاء في الصين والانخراط في فلك النظام الشمولي، وإن رجّح أنّ منهم من فعل ذلك للفرار من العقاب لأنه خان رفاقه.ويحدث أن يتصرف هؤلاء المعتقلون "التائبون" مثل سجانيهم القساة، و"يصبحون جلادين لأصحابهم المعتقلين، ويطلق على هؤلاء المعتقلين المتواطئين كابو، الذين كانوا حتى أكثر وحشية وانتقاما من مشرفي السجن الرسميين." ويفسرها بآلية الحفاظ على النفس. وكثيرا ما يحاولون العودة إلى مقاومتهم الباسلة.  ولكن "يتحرك بداخلهم شيء من الانصياع، ذلك الكائن المتجاوب القابع في أعماقنا جميعا". فغسل الدماغ وإبادة العقل يستثيران آلية الدفاع الداخلية التي يلاحظها في المرضى المصابين بالسوداوية نفسها. فمع خسارتهم لمعركة الصمود العقلي، يعاقبون أنفسهم مقدما من أجل تخطي فكرة العقاب النهائي على جريمة خفية ومجهولة وأكثر سوءا. ويصطلح على هذه المرحلة بالميثاق المازوشي الغامض. ومصطلح المازوشية يعني في الأصل حالة الإشباع الجنسي الناشئة عن الألم والعقاب، ثم توسّع استعماله لاحقا ليشير إلى كل إشباع يأتي من خلال الألم والإذلال. وهكذا يشكل الضحية والجلاد رابطة مشتركة يؤثر فيها كل منهما على الآخر.

ـ 7 ـ

يختزل الباحث العمليات النفسية لغسل الدماغ وإبادة العقل في أربع مراحل. فتمثل المرحلة الأولى مرحلة "الانهيار الاصطناعي وإزالة الارتباط الشرطي". وتستهدف إضعاف أنا المعتقل باستخدام التعذيب البدني من تجويع وترك للصقيع أو النفسي كالترهيب والإذلال والإحراج، والعزل، والتحقيق المستمر. وتهيئ هذه المرحلة لقبول الأفكار الشمولية. ولكن كثيرا ما تستسلم الضحية عن وعي بدافع من الانتهازية العقلانية المحض. وفي المرحلة الثانية يبدأ الخضوع والتماهي الإيجابي مع العدو. فيحدث ما يشبه التجلي ويتحقق التحول الداخلي: يكون تحولا كاملا في إستراتيجية الضحية الداخلية. فيتحدث بصوت سيده الجديد. والخضوع هنا عملية لاشعورية وانفعالية تماما، فلا يقع تحت السيطرة العقلانية الشعورية لمغسول الدماغ. ويطلق جوست ميرلو على هذه المرحلة "التنويم الذاتي".

أما في المرحلة الثالثة فتتم إعادة الارتباط الشرطي بالنظام الجديد عبر ضروب من التدريب والترويض المستمر.  وتمثل المرحلة الرّابعة مرحلة التحرر من السحر الشمولي. فبعودة مغسول الدماغ إلى المناخ الديمقراطي الحر، يتحطم السحر الشمولي. وهنا تبدأ التداعيات المؤقتة في الحدوث فينخرط الضحية في نوبات البكاء، والشعور بالذنب والاكتئاب. ويصبح ماضي الخضوع كابوسًا لا يتخلّص منه الضحية مغسول الدّماغ إلاّ بحصص العلاج النفسي.

ـ 8 ـ

اختزلت ورقتنا الجزء الأول من كتاب "اغتصاب العقل: سيكولوجيا السيطرة على التفكير وإبادة العقل وغسيل الدماغ" المتعلّق بتقنيات إخضاع الأفراد. ولكن الأثر يفصّل في جزئه الثاني أساليب إخضاع الجماهير. فلا تقل مادّته أهمية عن الجزء الأول.

مقالات مشابهة

  • رواندا تعلن انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا
  • الغلاء وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بعدن تسرق فرحة الناس بالعيد
  • لعنة العقد الثامن.. لماذا ارتهنت الأنظمة العربية للكيان؟
  • المالية: دعم القطاع الخاص لمساعدته في قيادة النشاط الاقتصادي.. نواب: خطوة جادة للحفاظ على مؤشرات الاقتصاد.. وتطوير البيئة التشريعية ضروري
  • غسل الدماغ وإبادة العقل لدى الأنظمة الاستبدادية.. التقنيات والأساليب والوظائف
  • أكبر 10 مناجم فوسفات عربية.. مفاتيح القوة الاقتصادية المخفية تحت الأرض
  • Redmi A5.. شاومي تُطلق أحدث هواتفها الاقتصادية تعرف على المواصفات والأسعار
  • هل الإسلاميون شركات انتخابية؟
  • الإمارات وأطماعها في الموانئ والجزر اليمنية
  • «غرفة التجارة»: الملتقيات الاقتصادية بوابة نحو شراكات مستدامة