في العقل العربي.. الحل في الفصل بين «المعرفي» و«السياسي»
تاريخ النشر: 22nd, February 2025 GMT
حين ينصرف العقل العربي لجعل كل فاعلية فيه ما هي إلا شكل من تجلٍ سياسي خشن أو مصنوع، فإنه يغلق بوابات الوعي على معنى واحد، وهو الظن بإطلاق أن السياسة هي من تشكل الظاهرة، أي أن الوعي السياسي هو المسؤول على تركيب الجمعي في المجتمع، وهنا الأذى كله، الأذى من تحقيب المعقد في البسيط، وهو القول بألا جدوى من تحليل مظاهر سلوكنا أو ردَّات فعلنا أو حتى كمون تصورنا حول الذات والعالم، والحقيقة أنه لا فائدة من أية مقاربة تريد تدبير أحوالها المعرفية بجعل السياسة أساس البنية وليست جزءًا منها، وفي ظننا أن جملة مشكلاتنا في الواقع العربي مردها هذا الوعي المقلوب، الوعي الشقي الذي يحمل صليبه ويعلن توبته من أي جهد عقلاني لتفسير الواقع لا الاعتراف به كتراكم ظاهراتي يحتاج التفكيك لأجل فهم طبائعه وتحديد مساراته.
فمشكلاتنا ليست قدراً مكتوباً كما نظن، هي مشكلات تركبت وتعملق حضورها بسبب الغياب الحرج للعقلاني فينا، فما ظل يمارسه العقل العربي ويشيع بين أبنائه أن أزماته قادمة من الخارج، وأنه مستهدف في وجوده لا شيء إلا لكونه يشكل خطراً على العالم، والحقيقة أن مثل هذه التصورات ليست إلا استغلالاً معيباً لتراث يحكمنا دون أن نبدي أدنى قدرة على مقاومته، والتنصيص على صلاته بالراهنية التي ننتمي، إنه تراث متحكمٌ فينا بصورة قاهرة، والحل، هو العمل على تحييد العناصر المتكلسة فيه لصالح علاقة إيجابية مثمرة.. فما السبيل إلى ذلك؟!.
إن الراهن الذي يعيشه العربي ويمارس من خلاله وصفه لذاته والعالم، يعيشه في حالات من إنكار المشكلات، والعمل على رفعها إلى أعلى، فكل الذي يصيبنا ليس من صنع أيدينا، والحل في إعادة فهم مفردات التكوين والتشكل، ولنبدأ حقاً فواجبنا العمل على الخروج من الحالة التوفيقية إلى المواجهة المنتجة، وهي معركة ثقافية بامتياز، فالحل المقترح لا يريد الذهاب بالمسألة إلى حيز التأسيسات النظرية، بل هو إيمان عميق بأننا سننجو إن واجهنا أنفسنا بأكبر متاعبنا، وهي غياب التفكير الناقد والمواجهة الصريحة مع الذات، والسبب ببساطة أن رصيدنا من التحليل الثقافي متواضع في مقابل طغيان التسييس لكل شيء، إن المجتمع العربي وهو يحزم حقائب حزنه على انهزاماته، ليس بقادر على فعل شيء أكثر من الحزن المجاني، ذلك أننا لم نفهم بعد طبيعة الاجتماعي لدينا وهو ما قيَّد فاعليتنا في الالتحام بقوة من أجل قضايانا العادلة، إن غياب أثر العامل الثقافي هو المسؤول مباشرة عن تصلَّب حضورنا السياسي والاقتصادي، فالسياسة حين ترشد تبدو أكثر طواعية لتمثيل الثقافي فينا، والاقتصاد كي ينمو ويحقق لنا اكتفاءً في الغذاء، وتحسيناً في سلوك الاستهلاك فإنه لن يستطيع ذلك دون أرضية اجتماعية قادرة على تحديد الأولويات وليست محبوسة في أفق مادي يُعَّرِف قيمة الشيء بإشباعه، بل حتى قضية التفاوت بين طبقات المجتمع العربي (الحقيقة لا توجد طبقية في الاجتماع العربي) فإنها مزيفة، والسبب فيها غياب الثقافي في السياسي/الاقتصادي، ففي الاقتصادي لو فكرنا بصورة جدية لإصلاح هذا الفضاء المعقد التركيب فإننا مطالبون بالنظر إلى الطرف الآخر من المعادلة، وهو غياب التنمية الاجتماعية مع بروز مظاهر للنماء الاقتصادي المرتبط بفئات بعينها في الظاهرة وتتمنع فيها عمليات الانتقال بين أفراد المجتمع، وهنا فسياسات مثل «التشغيل» و«الضمان الاجتماعي» وإن أثمرت في لحظات الأزمة إلا أنها ستعمق من مسألة التفاوت الاقتصادي بين الفئات الاجتماعية المختلفة، ولذا فالمطلوب سياسات تجريبية تصنعها الحكومات العربية لأجل إصلاح لوائح العمل بصورة تداركية مما يسهم في توفيق العلاقة بين السوق والخريجين، ومن فوائد ذلك حتمية الإصلاح المؤسسي وإقامته على ديناميكية تراعي في المقام الأول استيعاب منظم للطاقات ومن ثم توزيعها على دوائر الفعل الاقتصادي التنموي في أي قطر عربي.
هذا اقتصادياً، أما اجتماعياً فإن المهمة الرئيس هي وكما نكتب دائماً يكمن في «السياسات الثقافية» وهي التي ستنقل القطاع الثقافي من كونه يرقص خارج الحلبة إلى فاعل رئيس في عمليات التنمية الاجتماعية، إذ تقوم هذه السياسات على ترميز الإنتاج الثقافي ما يصنع له قيمة مضاعفة في السوق، هذا عوضاً عن أنه سيركب أكثر معالم الهوية كونه يفتح الباب أمام عملية استقلال ثقافي مرتبط بالوجدان الاجتماعي المتنوع، وهذا هو الغائب عند المعنيين بإدارة الفضاء الثقافي في الوطن العربي، وبصورة أكثر وضوحاً تقوم السياسات الثقافية بدور مزدوج، فمن ناحية ستسهم هذه السياسات في تطوير الصناعات الثقافية وتحريرها، وهذا ما يمنح الفاعل الاجتماعي القدرة على تحقيق أكبر قدر من التمثيل له في تلافيف الظاهرة الجمعية، ومن ناحية أخرى لكي نستطيع فتح الطريق أمام الصناعات الثقافية فإننا نحتاج حتماً إلى دراسات ثقافية توفر الإطار النظري والمدخل لبناء اقتصاد سياسي للصناعات الثقافية يجعلها رافداً تنموياً مهماً.
إن غرض هذا المقال لفت الانتباه إلى ضرورة الفصل بين المعرفي والسياسي في المجتمع العربي، وأن ينصرف اهتمام الفاعلين الاجتماعيين بتطوير آليات الإصلاح الشعبي وأن يأخذوا مجتمعاتهم إلى ناحية الفعل المنتج وتخفيف تسييس كل شيء. والمهام الملقاة على عاتق المثقفين الوظيفيين أن يعرفوا كيفية استثمار أدواتهم لأجل بناء واقع أكثر ثراء بدلاً عن إضعاف فاعليتهم بأعذار ضيق المجال السياسي، فالسياسة في أقصى تجلياتها لا تعدو أن تكون فعل لمراقبة سريان القوانين في السياق والاطمئنان إلى استقرار البنية الشاملة في المجتمع حفظاً لأمنه وصوناً لسلامه الثقافي..
غسان علي عثمان كاتب سوداني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العقل العربی
إقرأ أيضاً:
غزة ليست الحصار .. غزة هي السؤال
يتصور البعض أن الخطاب العربي السياسي العاجز تماما عن أي فعل حقيقي تجاه أطفال غزة الذين يبادون بالنار والجوع أمام أنظار العالم هو ذروة المأساة العربية، لكن الحقيقة أن مأساة غزة رغم مرارتها وقسوتها وجه واحد من وجوه كثيرة جدا لمآسي الأمة العربية العميقة، ووجه من وجوه انكشافها الحضاري، وأزمتها الفكرية التي لم تستطع تجاوزها بعد. وهذه الوجوه التي نراها في غزة وفي سوريا وفي لبنان وفي العراق والسودان وليبيا وفي بنية الوعي العربي عامة ليست مفاجئة لمن يقرأ البنية العميقة للعقل العربي خلال القرن الأخير على أقل تقدير؛ ولذلك لا غرابة أبدا ألا يكون لدى الأمة العربية موقف حضاري مما يحدث في غزة. والحقيقة أنها لم يكن لديها موقف حضاري مما حدث قبل ذلك في العراق، ومما قد يحدث في قادم الأيام في دول عربية أخرى؛ والسبب أنها وصلت إلى مرحلة باتت فيه غير قادرة تماما على بناء المواقف الحضارية تجاه قضاياها قبل القضايا الإنسانية العامة بعد أن وصلت إلى حالة من الانسداد الحضاري.
نشر مفكرون عرب كثر خلال العقود الخمسة الماضية أطروحات ناقشت هذه الأزمة الحضارية التي تمر بها بنية العقل العربي لا من خلال الأحداث السياسية اليومية، ولكن عبر الغوص في بنية العقل، وما يحيط به من قيود النص، وقدرته على الإبداع، والخيال، والإنتاج المستقل، والبنى الثابتة التي حالت كثيرا دون تشكيل مشروع حضاري عربي قادر على مواكبة الحداثة بمعناها العميق والمبدع والمنتج لا بمعناها الشكلي والاستهلاكي. لكن تلك الأطروحات بقيت في أفضل الأحوال نخبوية وبعيدة عن التبني من قبل المؤسسات البحثية والأكاديمية التي تصنع الأجيال العربية، فيما حورب الكثير منها تحت دعاوى مختلفة وواهية؛ الأمر الذي فاقم الأزمات العربية، وجعل الأمة أقرب إلى أن تكون رخوة ومنكشفة حضاريا منها إلى أمة صلبة وقادرة على الإبداع. فعصفت بها الأوهام، وسيطرت عليها الخطابات الشعبوية، وكثر الدجالون، وغاب المفكرون الحقيقيون، بل غابت الفلسفة والمنطق عن أمة كانت متقدمة في إنتاج المعرفة وبشكل خاص الفلسفة والمنطق.
وأمام هذا المشهد وهذه المعطيات لا غرابة أبدا أن يكون الوضع العربي كما نراه اليوم، عالم يكاد يكون بلا موقف حضاري، ولا فعل ثقافي، فهذا ما جنته الأمة على نفسها قبل أن يجنيه عليها الآخرون، وقبل أن تعيد اجترار نظرية المؤامرة، وهي وإن كانت حقيقية إلا أن الأمة نفسها فتحت المساحة للمؤامرات لتبني لها بنى راسخة في العقل العربي قبل مؤسساته.
ناقش جورج طرابيشي على مدى عقود قيود الماضي والتراث خلال مشروعه لنقد العقل العربي، كما ناقش محمد أركون البنى الدوغمائية التي تحرس «اللامفكر فيه» مؤكدا أن لا تقدم في ظل غياب العقل النقدي والإنساني في بنية الفكر العربي الإسلامي. وهكذا فعل نصر حامد أبو زيد، ومالك بني نبي، وعبدالإله بلقزيز، وغيرهم. ورغم أن أطروحاتهم كانت قابلة للنقاش والنقد في سياق السجال المعرفي؛ إلا أنه حتى هذا السجال اختفى من أجندات الوطن العربي، واستبدل به جدالات عقيمة وشعبوية قائمة على التكفير المذهبي، والإثني، والخطابات التعبوية التي تهدم ما تبقى للأمة، وتحاول تقويضه؛ نتيجة أحقاد تاريخية قائمة أيضا على المذهبية، والإثنية، ووهم الكيانات الوطنية.
ولذلك نحتاج أن ننظر إلى مأساة غزة من بُعد آخر لا يمثله الحدث السياسي، ولكن تعكسه المأساة الحضارية؛ لنستطيع اكتشاف حجم العطب البنيوي في بنية العقل العربي المتمثل في غياب الفعل وشلل الإرادة. ورغم التاريخ الطويل من غياب الفعل العربي الحقيقي إلا أن هذه اللحظة هي أكثر تلك اللحظات تأثيرا، وأعمقها تمثيلا لواقع ما وصلت له الأمة العربية.
وإذا كانت غزة كاشفة لمأزق الضمير العالمي، ولأخلاقه، ولقيم النظام العالمي فإنها كاشفة بشكل أكبر للمأزق الحضاري العربي الذي بدا بشكل واضح أنه خارج السياق وعيا بما يحدث، وقدرة على بناء خطاب حضاري معرفي قادر أن يشكل موقفا يتناسب وما يحدث في الأمة من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها.
وهذا الوضع العربي من الفشل والخنوع وتآكل الوعي لا يخص القيادات السياسية فقط رغم مسؤوليتها الكبيرة والأساسية، ولكنه يخص المثقف، والمؤسسات الثقافية، والفكرية، والأكاديمية، ومؤسسات التعليم، والمؤسسات «الدينية»، ومؤسسات الإعلام، ويخص الجمهور العربي. العالم العربي بكل مؤسساته مسؤول مسؤولية تضامنية وتشاركية عن الحال الذي وصلت إليه الأمة!
وإذا كان العالم يتحول جذريا أمامنا؛ حيث يعاد بناء نظام عالمي جديد تتآكل فيه الهيمنة الأمريكية على العالم، وتسقط شيئا فشيئا قطبيتها الواحدة، وتبني الصين مشروعها بكثير من الهدوء، ويعيد الذكاء الاصطناعي تعريف المعرفة ورسم حدودها- فإن العرب يبقون وسط هذا كله بلا مشروع حضاري قادر على الذهاب الآمن نحو المستقبل، ويديرون تحدياتهم الراهنة بعقلية القرون الوسطى، ومرجعية الفتنة الكبرى فيما يعيش العالم نهاية الحداثة، ويدخل إلى عصر ما بعدها.
ولذلك؛ فإن من يتفجع على ما يحدث في غزة فإنه يتفجع من حيث يدري أو لا يدري على حال الأمة ومصيرها ومستقبلها، يتفجع على الفجوة بين ما ندّعيه وما نحن عليه، وعلى التناقض بين خطاب القوة ووهم الفاعلية. لا تكشف غزة ضعفنا بقدر ما تكشف الفراغ الكبير الذي نحن فيه، ومأزق العقل العربي المحاصر بالأوهام والفراغ.
لا يتحقق الخلاص من كل هذا بوقف الحرب على غزة رغم أهميته في السياق الأخلاقي والإنساني، ولا بالانقلابات السياسية، ولا بسلام مزيف مع العدو الصهيوني، ولكن تحتاج الأمة للخلاص مما هي فيه إلى ثورة معرفية تعيد طرح مفاهيم الحرية والهوية والدين والتراث والمقدس والفلسفة والحداثة من جديد، وتحرر العقل العربي من كل القيود والأغلال التي تسيطر عليه. وهذه الثورة المعرفية لا تختص بالهوامش العربية والمراكز المزعومة، ولكن تشمل المراكز والأطراف، والعواصم ومدن المهمشين الذين لا مكان لهم في خطاب «الهوية الرسمية». والنتيجة ليس إحداث قطيعة مع الماضي أو التراث العربي، ولكن الانطلاق منه نحو المستقبل عبر قراءة العقل والذات والنصوص الثقافية العربية بشكل منطقي ومنهجي، وإعادة تعريف علاقة العربي بغيره من الحضارات بعيدا عن تصنيف الآخر باعتباره العدو اللدود بالضرورة، وأن نعيد منهجية مواقفنا مع الحضارات الأخرى بناء على منظومة القيم والمبادئ الإنسانية، وليس وفق التصنيفات الدينية والمذهبية والإثنية.
تحتاج النهضة التي نبحث عنها للعالم العربي إلى لحظة وعي، واعتراف شجاع بحالة الفشل التي وصلت لها الأمة، ثم اشتغال حقيقي لبناء وعي جديد مؤسس وفق مقولات فلسفية وفكرية وطرح معرفي، وحينها سنرى التغيير يتحقق ليس في وعي الأفراد فقط، ولكن في بنية المؤسسات السياسية، وخطاباتها الجديدة. والأمم لا تنهض بالعواطف والأمنيات، ولكن بالأفكار والعمل من أجلها، وبتحليل الهزائم، وبناء سيناريوهات لمسارات جديدة.
وهذا المسار ليس سهلا على الإطلاق، ولكنه ليس مستحيلا؛ فلا يمكن منطقا لعقل عربي حُرم من الفلسفة والنقد والتساؤل أن يُبدع فجأة مشروعا حضاريا دون أن يمر أولا عبر جراح الذات وخرائط الفقد؟
ولذلك من المهم أن ننظر في مرآة غزة إلى ما هو أبعد من الكارثة؛ ننظر إلى سؤالنا الحضاري الذي بات على هامش التاريخ قبل أن يصبح خارجه تماما. تغدو غزة بهذا المعنى مرآتنا بكل ألمها ونارها، وهي أيضا فرصتنا الأخيرة التي تمنحنا إياها الحضارة لننظر إلى أرواحنا كما هي، لا كما نُحب أن نتخيلها.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان