المعـرفة، التمثـلات والصور النمطـية
تاريخ النشر: 26th, February 2025 GMT
بين المعـرفة التي نـكـوِّنُـها عن الأشياء والظّـواهر الاجتماعيّـة والإنسانيّـة، من جهـة، والصُّـوَر النّـمطيّـة التي نرسُمها عنها من جهة ثانية، فارقٌ في الماهيـة والأسس وفي عمليّـة البناء الذّهـنيّ لها (= للمعـرفة بالموضوع المفَـكَّـر فيه أو المنظـور إليه). تـتوسّـل المعرفـة أدوات عـدّةً متـبايـنـةً بتـبايُـن الموضوع الذي تـتـناوله: استـقراء، مقارنـة، تعليل، استـنـتاج، تحليل، نـقـد.
لا يـنطبق معنى المعرفة، بـهذا التّعريف، على معنى تلك التّـمثُّـلات المتـخيَّـلَـة التي يمكن أن يكـوِّنها أيٌّ منّـا عن موضوعٍ، أو ظاهرةٍ اجتماعيّـةٍ، أو تاريخٍ مضى، أو خصـمٍ...، والتي تـنـتـقـش في الأذهان صورًا ثابتـةً تكـاد أن لا تـتغـيّـر مع كـرور الزّمـن. الغالب على تلك التّـمثُّـلات والصّـور أنّها انطباعيّـة أكـثر ممّا هي مُـفَـكَّـر فيها، وأنّها تـتـولّـد من افـتراضات أغـلبُـها تَـخـيُّـليّ ومـدفوعٌ، على الأرجـح، بواعـزٍ ذاتيّ تـدخُـل فاعلـيّـتُـه في تشكيلها.
وأكـثرُ ذلك الواعـز الذّاتيّ مشحونٌ بطاقـةٍ تبـثُّها الذّاتُ - الفرديّـة والجماعـيّـة - في الوعـي فـتجـنِّـده للـدّفاع عن الهُـوِيَّـويّ فيها دفاعـًا مباشـرًاً، من طريق بـناء صُـوَرٍ عن تلك الذّات تُـشْـبِع الشّـعور بأنًا مـمـيَّـزَة أو مصـطَفَـاة، أو دفاعًا سلبيّـًا، من طريق إنتاج صُـوَرٍ بعـينها - سلبـيّـة وأحيانًا شيطانـيّـة - عن آخَـر يُوقِـظ وجودُهُ شعـورَ الذّات بنـفسها ويستـنـفـرها ضدّه.
على أنّ الصُّـور التي من هذا الجنس الانطباعيّ والتّـخيُّـليّ لا تـلبث أن تستحيل صورًا نمطـيّـة أو منـمـَّـطَـة، معـلَّـبَة لا يدخُـلها الهـواء! ويحْـدُث أن تصير كذلك مع رسوخها بمفعـول الزّمـن، الذي يحتاج أيضًا إلى عـمليّـة توطيـدٍ من طريق إعادة إنتاج هاتيك التّـمثُّـلات والصّـوّر وخَـلْعِ الوثوقـيّـة عـليها.
من البيّـن هـنا، إذن، أنّ الأمر في إنـتاج الصُّـوَر النّـمطيّـة لا يتـعلّـق بمسلكٍ فـكريّ أو معـرفيّ؛ إذْ يستطـيـع مَـن يصطـنـعها أن يكون على قـدْرٍ عظيـمٍ من الجهْـل بما يتحـدّث عنه أو يرسم في وعيه ومخياله صورةً مّا عنه! وما أكـثر تلك المُـنَـمَّـطات التي تـكـوّنت، في المجتمعات والثّـقافات، من مـوادَّ صِـفْـريّة، أي من جهْـل مُطْـبِـق، بـل إنّ الغالب عليها أن تـنـموَ على ضفـاف أيِّ معـرفـةٍ حـقٍّ أو على مبْـعَـدةٍ منها: قريـبًا من العَـمَـاء والفـراغ الرّمـزيّ.
يُـفـسِّـر غيـابَ حاجـةِ الصّـور النّـمطـيّـة إلى المعرفة أنّها تـأتي، على الأغـلب، في شكـل منتـوجٍ تـتـجمّـع فيه كيـميـاءٌ من العناصر غير المطابِـقـة: مـن تضخيـمٍ وتهـويـلٍ وتسـخيـفٍ وكـذبٍ واختـلاقٍ وخـداعٍ وإثـارة...، وسـوى ذلك ممّا يدخـل في تكـوين تـقـنية التّـزوير والمخادعة وما يصطحبها من أغـراض: التّـخويف، التّـحريض، استـنفار مشاعـر الكراهيّـة وما في معنـى ذلك.
إنِ اكـتـفيـنا باستخـدام عبارات معـرفـيّـة لـتعليل ظاهـرة غَـناء إنتـاج الصّـور النّمـطيّـة عن كـلّ معـرفـةٍ قـلـنا إنّ عمـليّـة إنتاج تلك الصّـور هي، من حيث نصابُـها وأدواتُـها وتقـنيـاتُـها، أقـرب ما تكـون إلى الإيـديولوجيا (بمعناها الإيـيستيـميّ) منها إلى المعرفة.
على أنّ ارتـفاع الحاجة إلى المعرفة في عـملـيّـة إنتاج الصّـوَر النّمطيّـة عن موضوعٍ مّا ليس يعني، أَلـبَـتَّـةَ، أنّ الذين يتعـهّـدون تلك العـمليّـة من الإنتـاج بالرّعايـة ويقـومون عليها أشخاصٌ جَـهَـلَة تمامًا أو في حكـم الجَـهَلـة؛ فـلقـد يكون لديهم مقـدارٌ مّـا من العِـلْـم بالموضوع الذي هـم منخـرطون في اصطناع صُـوَرٍ عنه، غيـر أنّ الحيّـز الذي يـقع توظيـفُـه من ذلك العلم هـو الحيّـز الذي يمكـنه إمْـدادُ صانعـي تلك الصّـوَر بما يحتاج إليه هـدفُ صناعـتـهم أو - لِـنَـقُـل على وجْـهٍ من الدّقّـة - إنّـه ذلك الحيّـز المتمـثّـل في المـوارد التي تسمح بإساءةِ صورَة مَـن تُـبْـنَـى عنهم تلك الصّـور النّمطـيّـة.
هكـذا يُـوَظَّـف المعلومُ - وهـو قـليلٌ أمام أكـثـرٍ مجهـول - في عـمليّـة الإنتاج تلك توظيفـًا سلبـيًّـا؛ حيث الغـرضُ منه نشـر الجهل (التّجهيـل) لا العلـم؛ التّعميـة لا الإيضاح؛ الحجب لا الكشـف. وغـنيّ عـن البيان أنّ إحـراز نجاح محـقَّـق في بلـوغ تلك الغايات يعـتمـد على مـدى ما يمـكن إحرازُه من نجـاح في عمليّـةٍ أخرى موازيـة رديـف: الاستـثمـار في جهـل الجمهـور.
هكذا نصطدم، مـرّةً أخرى، بالجهـل بما هـو حاجـةٌ حيويّـة في منظـومة تصنيع الصّـور النّمطـيّـة لا مندوحـة لها عنها كي ينـتـظـم عـملُـها ويستـقيـم.
ما من حاجـةٍ بـنا إلى التّـنـفيـل في باب بيـان الفـروق بين مَـن يُـنـتـجـون ذينك النّمـطيْـن مـن التّـمثُّـلات (= المعارف والصّـور النّـمـطيّـة)؛ فهُـم معـروفـون، وهُـم لا يَـسْـتَـوُون: العلمـاءُ والمـفكّـرون والباحثـون الدّارسون، من جهـة، ومهـنـدسو التّـمثُّـلات النّـمطيّـة المُـعلَّـبَـة من صنّـاع الرّأي العامّ ومن ضبّـاط التّـعـبئـة والتّجيـيـش الجماهيريّـيْـن من جهـة أخرى. بيـئةُ عملِ الأوّليـن (الجامعات، معاهـد البحوث، مراكـز الدّراسات...) غيرُ بيئـةِ عـمـلِ الأخيـريـن (وسائـط الإعلام)، والجَـهْـدُ المبذول في البيـئـتـيْـن ليس متكافـئـًا ولا قابـلًا للقيـاس قياسَ قيـمـةٍ ومنـفعـة، مع ذلك، صـوتُ الأخيـرِيـن أعلى، ومنتوجُـهم القَـوْلـيّ أفـعـل (وأشـدّ فتـكـًا)، ومستهـلكـو بضاعتـهـم الرّديئـة أوسـعُ انتـشـارًا، وآثارُ تنميطـاتـهـم عميقةٌ في الوعي الجمْـعيّ وفي مَـسْلك الأفـراد والجماعات. هكذا نُـلفي أنـفسَـنا أمام الحقـيقة التّالية: لقد تـعـرَّض مشهـد العلاقات بين المجتمعات وبين الثّـقافـات، في عـالم اليـوم، لشـرْخٍ عميـق منـذ حصل الانتـقالُ من عصـر المعرفـة وأدواتـها إلى عصـر الميـديـا!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الص ـو
إقرأ أيضاً:
وزير التعليم العالي: مصر تسعى لتصبح مركزًا إقليميًا ودوليًا للبحث العلمي والابتكار
شارك الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمي في الجلسة الافتتاحية للاجتماع الإقليمي لمجلس البحوث العالمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، المنعقد تحت شعار: "العلم والتكنولوجيا والابتكار القائم على العدالة من أجل تنمية بشرية شاملة واستدامة عالمية"، والذي تنظمه أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا بالتعاون مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ممثلةً لدولة الكويت.
وجاء ذلك بحضور الدكتور عمرو عزت سلامة أمين عام اتحاد الجامعات العربية، والدكتورة جينا الفقي القائم بأعمال رئيس الأكاديمية، وعدد من رؤساء وأعضاء الوفود وممثلي مجالس البحوث من المنطقة والعالم.
في مستهل كلمته، أكد الدكتور أيمن عاشور أن مشاركة مصر في هذا الاجتماع تأتي امتدادًا لنهجها الثابت في دعم التعليم العالي والبحث العلمي، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن المعرفة تمثل حجر الأساس لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
وأشار إلى أن الدولة المصرية تتبنى سياسات وطنية طموحة تستند إلى أفضل الممارسات العالمية في مجال التعليم والبحث العلمي، ضمن رؤية شاملة ترتكز على عدد من المحاور الرئيسية، أبرزها: التوطين والإبداع، العلوم المفتوحة، الاستدامة والعدالة، والذكاء الاصطناعي المسؤول.
وأوضح الوزير أن مصر تسعى جاهدًة للتحول إلى مركز إقليمي ودولي للبحث العلمي والابتكار، من خلال بيئة محفزة لتطوير المواهب ودعم المشروعات البحثية والشراكات الدولية.
وسلّط الضوء على تجربة بنك المعرفة المصري، بوصفه نموذجًا رائدًا في نشر مبادئ العلوم المفتوحة، ليس فقط على المستوى الوطني، بل والإقليمي أيضًا، بعد توقيع اتفاقيات تعاون مع اتحاد الجامعات العربية واتحاد مجالس البحث العلمي العربية، ليصبح منصة معرفية متكاملة تدعم تبادل المعرفة وتعزز مفهوم السيادة المعرفية في العالم العربي.
وأضاف أن مصر ملتزمة بدمج أدوات الذكاء الاصطناعي ضمن منظومتها البحثية وفق أطر حوكمة أخلاقية دقيقة، بما يضمن العدالة في الاستفادة من التقنيات الحديثة ويعزز من قدرة الدولة على مواجهة التحديات المستقبلية بكفاءة ومرونة.
وأشار الدكتور عاشور إلى أن توجهات البحث العلمي في مصر تُركّز على معالجة التحديات المجتمعية، لا سيما في مجالات تطوير المدن الجديدة والمجتمعات العمرانية المستدامة، مع الحرص على إشراك المجتمع المحلي في عملية التطوير وضمان استفادة جميع فئاته، وخاصة الفئات الأكثر احتياجًا.
وفي هذا الإطار، تأتي مبادرة "تحالف وتنمية" التي تُعد منصة وطنية فاعلة لتعزيز الشراكات بين المؤسسات البحثية والقطاعين العام والخاص، من خلال دعم مشروعات التنمية المستدامة وتبني حلول مبتكرة لبناء قدرات المجتمعات المحلية وفقًا لاحتياجات أقاليم مصر المختلفة.
وأكد الوزير أن هذا الاجتماع يُمثل محطة مهمة لتوحيد الرؤى الإقليمية تجاه العلوم المفتوحة والذكاء الاصطناعي، مشيدًا باختيار عنوان الجلسة: "إعادة تصور العلوم المفتوحة الشاملة والذكاء الاصطناعي من أجل الإنصاف والعدالة والاستدامة"، لما يعكسه من انسجام مع التوجهات المصرية والمبادرات الرائدة، وفي مقدمتها بنك المعرفة المصري.
كما أشار إلى تدشين الأكاديمية الدولية للعمارة والعمران بالتعاون مع منظمة اليونسكو وعدد من الدول الأوروبية، كخطوة استراتيجية تهدف إلى تطوير الكوادر البشرية وتعزيز الابتكار في التخطيط العمراني المستدام، بما يدعم التحول الحضري المتوازن في المنطقة والعالم.
من جانبها، استعرضت الدكتورة جينا الفقي أبرز جهود أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في دعم وتنمية منظومة البحث العلمي والابتكار في مصر، موضحة أن الأكاديمية تقدم برامج ومنحًا متنوعة لطلاب الدراسات العليا، وتدعم شباب الباحثين والمرأة في المجال العلمي، فضلًا عن كونها شريكًا فاعلًا في التعاون الدولي مع أكثر من 150 مؤسسة علمية، وممثلة في العديد من الاتحادات والهيئات العالمية، مؤكدة أن الأكاديمية هي الذراع التنفيذية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تنفيذ البرامج البحثية والمشروعات الوطنية.
وفي كلمته، أكد الدكتور حسن آل عائض، ممثل مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (KACST) بالمملكة العربية السعودية، أهمية الاجتماع في وضع تصور مشترك حول مفهوم العلم المفتوح ودوره في دعم البحث العلمي وبناء مجتمعات مستدامة قائمة على العدالة والشمول.
وأشار إلى ضرورة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وإنشاء منصات بحثية عربية مشتركة تسهم في تطوير المنظومة العلمية الإقليمية.
كما أكد الدكتور فهد الفاضلي، ممثل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (KFAS)، أن دعم التحول نحو اقتصاد المعرفة يتطلب تكامل الجهود بين المؤسسات البحثية والحكومية والخاصة، بما يضمن تطبيق مبادئ التنمية البشرية المستدامة والتبني المسؤول للتقنيات الحديثة.
فيما شددت الدكتورة منى النعا نائب رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، على أن التعاون العلمي العابر للحدود هو السبيل الأمثل لمواجهة التحديات المشتركة، مؤكدة أن نتائج الاجتماع ستسهم في تعزيز التعاون العلمي الإقليمي والدولي لصالح مستقبل العلم والإنسانية.
وتتواصل فعاليات الاجتماع على مدار يومين، تشمل جلسات حول العلوم المفتوحة والذكاء الاصطناعي للعدالة والاستدامة، وحوكمة الذكاء الاصطناعي، إلى جانب عرض تجربة مصر الرائدة في التحول الرقمي عبر بنك المعرفة المصري، ومناقشات مجموعات العمل المعنية بالمساواة والإدماج وتقييم البحوث المسؤول، إضافة إلى جلسات ختامية مغلقة للوفود الرسمية المشاركة.
وجدير بالذكر أن مجلس البحوث العالمي يعد منتدى دوليًا يضم قادة وكالات تمويل البحوث الوطنية من مختلف دول العالم، ويهدف إلى تعزيز التعاون العلمي الدولي وتبادل أفضل الممارسات في دعم وتمويل البحوث، بما يسهم في بناء منظومة بحثية عالمية متكاملة، وتطوير استراتيجيات بحثية قادرة على مواجهة القضايا العالمية الملحة.