عبد العزيز الحلو: كيف كبدنا خذلان الحركة الشعبية له في اتفاقية السلام الشامل “2005”
تاريخ النشر: 27th, February 2025 GMT
ملخص
(الحرب القائمة في السودان حالة قصوى من العزة بإثم السلاح وهرجه. ولم يسلم من عدوى هذا الهرج حتى من خرج للحق متأبطاً سلاحه بلا حاجة لذلك. فلن يقف حامل السلاح عند تحرير نفسه بالعنف من الخصم الذي خرج له أول مرة. بل ستجده يلجأ للسلاح أيضاً متى أشكل عليه أمر في حركته نفسها كما رأينا في انقسام الحركة الشعبية في 2017.
لم تروج الحرب القائمة لنقد صفوة الحكام الوارثين للدولة السودانية من الاستعمار الإنجليزي في 1956 على نطاق واسع فحسب، بل وفي سياق محاولة حثيثة لتبديله حيث هو في الخرطوم بيد “الدعم السريع” لا باللسان من الهامش كما كان قبل ذلك.
وأكثر شكوى نقاد هذا الحكم لصفوة الشمال النيلي أنه ضرج حياتنا بالحرب ضد كل من خرج عليه يطلب حقاً. فأظهر زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان عبدالعزيز الحلو عزة شديدة في حديثه بالوسائط للجنة المقاومة في حي العباسية بمدينة أم درمان في 11 سبتمبر (أيلول) 2020 بنهوض الهامش السوداني منذ 1983 بالسلاح لرفع الغبن التنموي والسياسي الواقع عليها من نخبة الأفندية “الشمالية” التي استأثرت بالحكم منذ الاستقلال. فما خرج أحد بمظلمة حتى لاقته هذه النخبة الحاكمة بالسلاح، ثم اكتشفت أخيراً أنها لا تحتكر وحدها السلاح. فجاءها من كل صوب.، وبينما صح نعي الحلو هذه النخبة لمفاسدها في الدولة وإفراطها في العنف لتبقى على كراسيها إلا أنه أعفى من مؤاخذة من خرجوا لـ”عتابها”، في قول الشاعر بشار بن برد، بالسلاح من كل تبعة في الأزمة السودانية وعنفها. فالذين خرجوا بالسلاح أعداهم غروره بالمثل وضربهم هرجه.
وكان الحلو نفسه ضحية رفاقه من حملة السلاح. فاعتزاله الدولة والثورة والحرب السودانية لياذاً بدولته المحررة بجبال النوبة جنوب غربي البلاد أثر من خذلان رفاق السلاح له في أوائل القرن الحالي. فكان طلب من الحكومة الانتقالية بعد سقوط حكومة الإنقاذ في 2019 أن تعلن علمانية الدولة، أو أن تمنح جبال النوبة حق تقرير المصير الذي يأذن باستقلالها متى أراد أهلها ذلك.
قال الحلو لشباب مقاومة حي العباسية بأم درمان أنه غير ملح مع ذلك على علمانية الدولة وسيكتفي بتقرير مبدأ فصل الدين والدولة، والعلمانية وفصل الدين عن الدولة وجهان لعملة واحدة بالطبع.
إذا أردنا معرفة لماذا اعتزل الحلو الثورة والحكومة الانتقالية والحرب القائمة عدنا إلى مفاوضات السلام التي انعقدت بين دولة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان في 2002. وهي المفاوضات التي تحقق بها لجنوب السودان، الذي هو الأصل في دعوة السودان الجديد التي استجاب لها الناس في جبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق ودارفور، ألا يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية وحق تقرير المصير الذي انتهى بالجنوب للانفصال من السودان في 2011 فيما خرجت جبال النوبة والنيل الأزرق صفر اليدين من ذلك الحق. في حين أنها حاربت لأجله كتفاً بكتف مع الحركة الشعبية، بل وباسمها، للحصول عليه.
روت الدبلوماسية النرويجية التي شاركت في مفاوضات السلام السودانية في أوائل القرن هيلدا جونسون، في كتابها “شن السلام في السودان” 2011 عن تنازل العقيد جون قرنق عن شمول جبال النوبة والنيل الأزرق عن ذلك الحق ولوازمه مثل ألا تطبق الشريعة وسطهم. فقد عارضت الحكومة أن يكون للمنطقتين ما للجنوب لأنهما واقعتان في حدود شمال السودان منذ استقلاله في 1956 ويجري عليهما ما يجري عليه. ولما جعلت الحكومة استفتاء المنطقتين عن مصائرهما خطاً أحمر تكون به المفاوضات أو لا تكون تنازل قرنق متحرجاً. وجدت هيلدا مخرجاً لقرنق من حرجه حيال رفاق سلاحه. فاقترحت عليه منح المنطقتين ما عرف لاحقاً بـ”المشورة الشعبية” التي قالت إنها مستمدة من تجربة تيمور الشرقية مع إندونيسيا. وبمقتضاها لا يسقط عن المنطقتين حق الانفصال فحسب، بل وتطبق الشريعة الإسلامية فيهما أيضاً. وتعويضاً لهما عن الفقد سيكون لمجالس المنطقتين النيابية الشورى في مدى التزام الحكومة بما اتفقت عليه حيالهما في اتفاق السلام الشامل عام 2005. ومن حق تلك المجالس أن تقرر، على ضوء جردها لما تحقق من ذلك الالتزام، أن كانت سعيدة بسجل الحكومة في الخصوص أو أن تعطل اتفاقية السلام معها، وتطلب الاستفتاء المؤدي للانفصال. وتركوا كل ذلك لزمانه ومكانه تحت الحكومة الانتقالية التي سيكون للحركة الشعبية فيها حظ كبير.
وبلغ من حرج قرنق لخروجه بالاستفتاء والعلمانية، إذا كان لا بد، للجنوب دون المنطقتين أن سأل هيلدا أن تراضي الحلو وزعيم الحركة الشعبية بمنطقة النيل الأزرق مالك عقار على صيغة المشورة الشعبية التي اعترفت هي نفسها أن نسختها الإندونيسية شملت الاستفتاء نصاً. وللمراضاة وعدت هيلدا الحلو وعقار أنها ستحشد الرأي العام العالمي لتقوم انتخابات المجالس التشريعية في المنطقتين حرة نزيهة، وأن تقف دولتها، النرويج، بقوة مع خياراتهما في المشورة الشعبية. وكان ذلك مما يسميه الفرنجة “جر الصوف على عين محدثك”، أي خداعه، فقالت إن العالم لم يلتزم بأي مما التزمت به هي لهما. فنسي المنطقتين. ولم تجنِ أي منهما ثمار السلام المسمى شاملاً فحسب، بل ساق غموض مفهوم المشورة الشعبية الملتبس إلى الحرب بين الحكومة والحركة الشعبية في المنطقتين خلال 2011. ووصفت هيلدا ذلك التنصل من تلك الالتزامات بالخيانة التي ارتكبها العالم وصفوة الخرطوم بما فيها صفوة الحركة الشعبية الحاكمة التي كانت طرفاً ذا ثقل في الحكومة الانتقالية من 2005 إلى 2011. وزادت هيلدا بقولها إن شعبي المنطقتين يشعران بالمرارة من هذه الخيانة وعليه وجب اعتبار هذه المرارة في أي سيناريوهات قادمة لحلحة أزمة السودان.
وأخذ الحلو على النخبة التي اختطفت دولة ما بعد الاستقلال أنها جعلت الحرب سمة تاريخنا المعاصر، وجعلت العنف شريعة ضد كل صاحب مظلمة. والأحرى بالقول إنها جعلت العنف شريعة فينا. فلم تجد الحركة الشعبية المسلحة، التي كان الحلو نائب القائد العام لها، بداً من تصفية الخلافات التي ثارت وسطها في 2017 إلا بالعنف، فانقسمت يومها إلى جناحين. كان على رأس واحد منها رئيس الحركة عقار وأمينها العام ياسر عرمان وناطقها الرسمي مبارك أردول، بينما كان الحلو على رأس الجناح الثاني حيث نجح في حيازة غالب أصول الحركة المادية والبشرية. فأجلى خصومه من إقليم جبال النوبة الذي يدين له بالهوية العرقية بجانب أمور أخرى. ولاحقهم في إقليم النيل الأزرق الذي ينتمي عقار لبعض شعبه. وأضعفهم للغاية. والتحم جيشا الجمعين في مثل معركة قوز البقر 19 فبراير (شباط) 2018 بالدبابات والسيارات المحملة بالمدافع الرباعية والدوشكا. وعم شر القتال أهالي المنطقة فأسرعوا بالألوف للجوء إلى دولة جنوب السودان، فيما ناشد وجوه القوم من المنطقة الحلو أن يبتعد عنها ويمتنع عن الفتنة بين مكوناتها. واستنكر مبارك أردول على الحلو أن يوقف العدائيات مع حكومة البشير في حين يوجه بنادقه إلى صدور رفاقه.
وكان لهذا العنف بين الرفاق الأعداء ومقاتلة ذيوله السياسة المضرجة بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. فامتنع الحلو عن الجلوس على مائدة واحدة مع جناح عقار في مفاوضات السلام بجوبا في 2020 لأنه لا يعترف بتمثيل عقار لأي من المنطقتين، جبال النوبة والنيل الأزرق، كما يدعي.
وفي غياب الحلو حصل جناح عقار من اتفاقية جوبا على حظ لا بأس به من المناصب. فخصته الاتفاقية بمنصب الوالي على النيل الأزرق ومنصب نائب الوالي في جبال النوبة، علاوة على نصيب معقول من حقائب الوزراء والمديرين وغيرها في المنطقتين. وزاد الطين بلة اعتلاء عقار بالاتفاقية سدة المجلس السيادي للدولة. وبالطبع أثقل على الحلو تعيين ياسر عرمان مستشاراً لعبد الله حمدوك، رئيس الوزراء، وأردول مديراً للشركة الوطنية للمعادن، جوهرة ثروة السودان. ذلك كله في نظر الحلو عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. فاعتزل منبر جوبا يريد لحركته ذات الشوكة مائدة مفاوضات مستقلة لتناقش مطلبه بالعلمانية، أو بمنح دولته بجبال النوبة حق تقرير المصير. وهي عودة إلى مطلب خسره منذ 20 عاماً خلت على رغم أنه دفع ثمنه غالياً. ولا أعرف خسارة للحكومة الانتقالية توازن خسارتها من اعتزال الحركة الشعبية بغزارة تابعيتها وخبراتها السياسة والعسكرية لها. وفي المقابل لا أعرف خسارة للحركة الشعبية مثل اعتزالها لثورة هي بنت اجتهاد قوى المقاومة المدنية وصفها الحلو نفسه بـ”المجيدة”. وقال في تحية شبابها في أم درمان إنها كسرت ظهر نخبة مركزية متشبثة بكراسي الحكم ومستأثرة به لتتخطى “جميع أدوات وآليات فرق تسد بدءاً من اللون والدين والعرق والإثنية والثقافة والجهة لتوحد كل السودانيين حول المشتركات والقضايا الأساسية التي تجمعهم كلهم”.
ليست الزعزعة التي ضربت إقليم النيل الأزرق في خريف 2022 وقتلت المئات وشردت الألوف ببعيدة عن صراع الحلو وعقار المار ذكره بصورة غير خالصة التأكيد بعد. فمن رأي المحللين أن ظاهر الصراع كان بين شعب الهمج وحلفائه، مما يسمى بالمكونات الأصلية للمنطقة، وبين شعب الهوسا المستوطن فيها، ولكنه كان في باطنه صراعاً بين عقار والحلو من جناحي الحركة الشعبية. ونفى الواثق كمير، العليم في شأن الحركة الشعبية، أن يكون لها دخل فيه على رغم الاتهامات التي وجهت للحلو وقائد جناحه في النيل الأزرق جوزيف تكة بإذكاء الفتنة بين المكونات الاجتماعية هناك.
وقال الواثق إن هذا الفهم ربما ترسخ “في أذهان البعض على خلفية الاتهامات والملاسنات المتبادلة بين قيادات الحركتين”. فمن جانب، صرح والي النيل الأزرق من جناح عقار أحمد العمدة، بأن “جهات أجنبية والحركة الشعبية شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، ضالعة في أعمال العنف القبلي الذي وقع بالإقليم هذا الشهر”. وحمل جناح الحلو، من الجانب الآخر، الوالي وعقار مسؤولية تأجيج الصراع علاوة على فشل اتفاق جوبا في توفير الأمن والاستقرار. ومع أن الواثق المحسن للتحري مصدق في الشأن إلا أن تبادل الجناحين الاتهامات في أمر جلل كمحنة النيل الأزرق لا بد أن فيه ما فيه. فالمنطقة عظمة نزاع بينهما ولا يتصور المرء أنهما اعتزلا مجرياتها المأسوية حباً وكرامة. فليس الجناحان ممن يعف عند المغنم. فالسلاحف وحدها، في قول السودانيين، من تحسن عض واحدها الآخر ولا أحد يرى.
الحرب القائمة في السودان حالة قصوى من العزة بإثم السلاح وهرجه. ولم يسلم من عدوى هذا الهرج حتى من خرج للحق متأبطاً سلاحه بلا حاجة لذلك. فلن يقف حامل السلاح عند تحرير نفسه بالعنف من الخصم الذي خرج له أول مرة. بل ستجده يلجأ للسلاح أيضاً متى أشكل عليه أمر في حركته نفسها كما رأينا في انقسام الحركة الشعبية في 2017. ولربما ربما كانت هذه الحرب على علاتها مناسبة لا للعن ظلام صفوة الحكم منذ 1956 وحسب، بل للعن ظلام من حاربوها بالسلاح في حين ظلت هذه صفوة نكداء في المركز تسقط بالثورة المدنية المركز اللعين في كل مرة بينما السلاح الذي خرج لقتالها في أغماده. وكما قال مارتن لوثر كينغ "إنك لن تحارب الظلام بالظلام".
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحکومة الانتقالیة الحرکة الشعبیة الحرب القائمة النیل الأزرق جبال النوبة الشعبیة فی الذی خرج فی حین من خرج
إقرأ أيضاً:
اتفاقية حظر التجارب النووية والشرق الأوسط
– نبيل فهمي وزير الخارجية المصري الأسبق
أبرزت التطورات الأخيرة مجددًا تقلب مشهد الانتشار النووي في الشرق الأوسط. فقد أعادت الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل والولايات المتحدة ضد البرنامج النووي الإيراني، وقرار إعادة فرض العقوبات من قبل الأعضاء الأوروبيين في خطة العمل الشاملة المشتركة، إثارة المخاوف بشأن الانتشار النووي المحتمل، ولا يزال البرنامج النووي الإسرائيلي وهو البرنامج الوحيد في المنطقة خارج إطار معاهدة منع الانتشار النووي، غائبًا بشكل واضح عن التدقيق.
يُعد الشرق الأوسط منطقة تتقاطع فيها الحضارات القديمة مع الجغرافيا السياسية الحديثة، منطقة ذات تراث ثقافي عريق، وثروات هائلة، وصراع دائم يتسم بانعدام ثقة عميق وبالعديد من المعضلات الأمنية. يكمن في جوهر هذا الصراع المستمر تحدي أمني هو الأكثر إلحاحًا، وفي ظل جوارٍ يتسلح فيه الخصوم، كيف يمكن لأية أية دولة أن تضمن أمنها؟ لذا، كانت الأسلحة النووية بالنسبة للبعض هي الحل المُختار. ولحسن الحظ، أن غالبية دول المنطقة امتنعت عن اتباع هذا المسار. ومع ذلك، فإن طموحات/أطماع هذه القلة القليلة من الدول، إلى جانب الجهود الفاشلة لمنع انتشار الأسلحة النووية، قد خلقت مأزقا أمنيا يهدد الاستقرار الإقليمي والعالمي.
معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية
تحظر معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT) جميع التفجيرات النووية، سواءً كانت عسكرية أو سلمية. ومن شأن دخول هذا الاتفاق حيز النفاذ أن يُنهي فعليًا التجارب النووية في جميع أنحاء العالم. وبينما صادقت روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة على المعاهدة، لم تُصادق عليها دول أخرى نووية. وتُثير التصريحات الأخيرة الصادرة عن الولايات المتحدة (والتي تُشير إلى أنها ستستأنف تجارب الأسلحة النووية إذا فعل الآخرون ذلك) القلق وتُضعف احتمالات دخول المعاهدة حيز التنفيذ.
وقد أنشأت منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBTO) نظام تحقق عالمي واسع النطاق، يضم أكثر من 300 محطة مراقبة تستطيع أن ترصد أية إشارات زلزالية أو صوتية أو مائية أو إشعاعية، وهذه المحطات قادرة على كشف حتى أصغر التجارب النووية تحت الأرض بأي مكانٍ في العالم.
تضم معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية 196 دولة حول العالم، انما لم تدخل المعاهدة حيز التنفيذ بسبب عدم تصديق عدد من الدول الرئيسية المدرجة في الملحق 2، بعضها من دول الشرق الأوسط.
ويلاحظ ان الانضمام للمعاهدة غير متساوي إقليميا أيضا، وإيران وقعت على المعاهدة، لكنهما لم تُصدّق عليها، نتيجة مخاوف أمنية إقليمية، وهو نفس موقف مصر وكذلك إسرائيل وقّعت على المعاهدة، لكنها لم تُصدّق عليها، مبقيةً على سياسة الغموض النووي. من ناحية أخرى، وقّعت تركيا المعاهدة وصادقت عليها، وهي عضو كامل العضوية. وهناك دول أخرى كالمملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى أعضاء بمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وإن كان بعضهم لا يزال خارج نظام التحقق.
الوضع الراهن للبرامج النووية الرئيسية
لا تزال القدرات النووية الإسرائيلية هي الأكثر غموضًا في المنطقة، مدفوعةً بمبدأ “الغموض النووي”. ويُعتقد على نطاق واسع أن مركز ديمونا للأبحاث النووية في النقب يدعم برنامجًا للأسلحة، يُكمّله مركز أبحاث وتطوير في سوريك. وقبل الضربات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة على إيران، كانت الأخيرة تُدير العديد من المنشآت النووية، بما في ذلك مواقع تخصيب في نطنز وفوردو، ومحطة طاقة مدنية في بوشهر، ومنشأة للمياه الثقيلة في أراك، ومركز تحويل في أصفهان. ورغم أن إيران عضو كامل العضوية في معاهدة حظر الانتشار النووي وملتزمة بالبروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلا أنها واجهت مرارًا وتكرارًا مشاكل تتعلق بالامتثال للوكالة.
تحافظ تركيا على برنامج نووي مدني وشفاف، حيث محطة أكويو للطاقة قيد الإنشاء، ومرافق بحث وتدريب تقع في تشيكمجة. وفي الوقت نفسه، تقوم المملكة العربية السعودية باستكشاف الطاقة النووية السلمية وفي إطار معاهدة عدم الانتشار النووي بنشاط، وقد ألمحت إلى قدرات تخصيب محتملة. وقد جذب اتفاقها الدفاعي الأخير مع باكستان المسلحة نوويًا اهتمامًا دوليًا. ووصولًا إلى مصر، نجدها تُدير مفاعل الأبحاث ETRR-2، ولديها خطط طموحة لتوليد الطاقة النووية، بدءًا من منشأة الضبعة الواقعة على البحر المتوسط والتي تم تطويرها بالتعاون مع روسيا، علما أن مصر كذلك عضو كامل في معاهدة عدم الانتشار النووي.
يمتد المشهد النووي الحالي في الشرق الأوسط على نطاق واسع بدءً من برامج مدنية ذات إمكانات كامنة ووصولًا إلى ترسانة يُشتبه بها منذ فترة طويلة. فلا تزال سياسة “الغموض النووي” التي تنتهجها إسرائيل تمثل حجر الزاوية في عقيدة أمنها القومي. ورغم أن تل أبيب لم تُؤكّد أو تُنفِ رسميًا امتلاكها للأسلحة النووية، إلا أنه يُعتقد على نطاق واسع بأن إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها تمتلك ترسانة أسلحة قامت بتطويرها خارج إطار معاهدة حظر الانتشار النووي. وبالطبع فإن هذا الوضع غير المُعلن يُعقّد جميع جهود منع الانتشار النووي بالمنطقة، ويوفر المبرر للطموحات النووية لدى المنافسين، ويشكّل تحديًا مستمرًا للمجتمع الدولي.
أما البرنامج النووي الإيراني فيحظى بالاهتمام الأوسع على الرغم من إصرار إيران على سلمية برنامجها النووي، كشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن أنشطة سرية قد توحي بتفكير إيران في تطوير قدراتها على انتاج أسلحة نووية. ومثّلت خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) لعام 2015 خطوة تاريخيًا تهدف إلى الحد من البرنامج النووي الإيراني مقابل تخفيف العقوبات عن طهران.
مع ذلك، فبعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018 والتصعيد الإيراني اللاحق، شهد البرنامج النووي الإيراني تقدمًا ملحوظًا، شمل القدرة على تخصيب اليورانيوم إلى مستويات قريبة من درجة صنع الأسلحة النووية وامتلاك مخزونات كافية لصنع عدة قنابل. لطالما وصفت مصادر إسرائيلية إيران بأنها “دولة على العتبة النووية”، وهو وصف تنفيه طهران لأسباب عقائدية دينية. وقد أدت الضربات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة على طهران إلى إضعاف القدرات النووية للأخيرة وتعقيد القدرة على تقييم ما تمتلكه من قدرات نووية، هذا وقد يدفع التهديد الوجودي المُتصوّر لإيران إلى إعادة تقييم السياسة الاستراتيجية.
يعتقد بعض المحللين إن القدرات والسياسات النووية لإسرائيل، إلى جانب التهديد المُتصوَّر من إيران، قد يُحفِّز ويحرك بشكل أساسي الطموحات النووية للدول العربية. فقد رفضت مصر الانضمام إلى معاهدات دولية إضافية بشأن أسلحة الدمار الشامل، مُشيرةً إلى سياسات إسرائيل. ويجادل بعض المحللين بأن المملكة العربية السعودية تسعى لامتلاك أسلحة نووية إذا ما أقدمت إيران على ذلك، في حين تخلت بالإمارات العربية المتحدة طواعيةً عن تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجتها، وبنت مفاعلات مدنية في ظل ضمانات صارمة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
تحديات عميقة ومتشابكة
إن تحقيق منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط يواجه تحديات عميقة ومتشابكة. ويكمن جوهر هذه التحديات في انعدام الثقة العميق بين دول المنطقة إلى جانب وجود منافسات إقليمية دائمة. وبالإضافة إلى ذلك تُهيمن أيضًا التهديدات الوجودية، حيث ترى الدول العربية أن ترسانة إسرائيل غير المُعلنة، ورفضها الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي أو الالتزام رسميًا بمنطقة خالية من الأسلحة النووية، يعطيها “حصرية نووية” غير مقبولة. ويُضيف برنامج إيران المُتقدِّم تصورًا لوجود “تهديد مزدوج”. هذه المعضلة الأمنية متكررة: فالتهديدات المتصورة تزيد من الرغبة في الردع، مما يؤدي بدوره إلى زيادة التهديدات للآخرين.
وتؤدي العيوب الهيكلية في نظام منع الانتشار النووي إلى تفاقم المشكلة، فمن ناحية، لا تزال إسرائيل خارج معاهدة حظر الانتشار النووي، ومن ناحية أخرى، تحرز القوى النووية المعترف بها تقدمًا بطيئًا في مجال نزع السلاح. وفوق هذا وذاك، فإن اتهامات النفاق والنظام المزدوج تُقوّض المبادئ الأخلاقية والسياسية للمعاهدة، مما يدفع الجهات الفاعلة الإقليمية للتساؤل عن سبب التزامها بقواعد ينتهكها الآخرون أو يتجاهلونها. مما يدفعنا للقول إن الصفقة الكبرى لمعاهدة حظر الانتشار النووي – تخلي الدول غير النووية عن محاولة امتلاك أسلحة نووية مقابل نزع سلاح الدول الحائزة بالفعل للأسلحة النووية – تبدو أنها قد انهارت بمنطقة الشرق الأوسط.
ويُشكّل انهيار خطة العمل الشاملة المشتركة ودورة التصعيد التي تجتاح الإقليم المزيد من العقبات، وقد أثبتت الحلول الدبلوماسية هشاشتها. إلى جانب أن الأزمات الدائمة تُعقّد التخطيط طويل الأجل لمنع الانتشار النووي. لذا فمع تعثر الدبلوماسية وتزايد خطر الضربات العسكرية الاستباقية تواجه المنطقة دوامة تصعيد خطيرة.
تُجسّد معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية مفهومًا مباشرا وقوي: فهي تحظر جميع تجارب التفجيرات النووية على مستوى العالم، إلى أجل غير مسمى. وعلى الرغم من عدم دخول المعاهدة حيز التنفيذ بعد لتحفظ عدد من الدول الهامة في هذا المجال والمشار اليها في الملحق للمعاهدة إلا أن المعاهدة أنشأت نظام تحقق متطور قادر على كشف التجارب النووية بدقة متناهية.، نظام يوفر خدمات تحقق من التجارب ومساعدات فنية يمكن الاستفادة منها اختياريا حتى بالنسبة لبعض الدول غير الأعضاء في اتفاقية حظر التجارب النووية.
ولا يتوقع أن تلتزم دول الشرق الأوسط بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية على المدى القريب، حيث أن ملاءمتها غير مؤكدة بالنظر إلى ديناميكيات الأمن الإقليمي والتي تعتمد بشكل كبير على الضوابط والتوازنات، مع هذا إن الاستفادة من منصة المنظمة قد تكون مفيدة إذا ما تم السعي إلى تطبيق المعاهدة بحسن نية والتزام واضح بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية بالشرق الأوسط. وبالنسبة لإسرائيل وإيران، فإن تعهدهم بعدم إجراء تجارب نووية والسماح لمنظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بمراقبة منشآتهما النووية من شأنه أن يعكس ضبط النفس والنية السلمية، مما سيبني الثقة الدولية فيهما دون الحاجة إلى تفكيك فوري للبنية التحتية للتخصيب.
بالنسبة لإسرائيل، يُمثل الالتزام بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية خطوة منخفضة المخاطر ولكن عالية المكافآت، فإنه لن يُجبر تل أبيب على الإعلان عن ترسانتها النووية، ولكنه سيُلزمها فقط بالتعهد بعدم إجراء تجارب جديدة – وهو تنازلٌ ذو تكلفة أمنية ضئيلة ومكسب سياسي كبير. وقد تُمثل هذه الخطوة أولى الخطوات للخروج من ظلمة الغموض، شريطة أن تُشكل جزءً من سياسة جادة لنزع السلاح النووي. ولكن بدون التزام إسرائيلي واضح بالهدف النهائي المتمثل في شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية، ستزداد التفاوتات والتباينات عمقًا في المنطقة.
وتُوفر منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية منصةً تقنيةً ودبلوماسيةً مشتركة. وتتم مشاركة بيانات نظام المراقبة الدولي الخاص بها مع جميع الدول الأعضاء، مما يُعزز الشفافية والتي بدورها يمكن أن تُبدد الشائعات وتُتيح التحقق من الالتزام وتُرسخ عادة التعاون بين الخبراء التقنيين من الدول المتناحرة – وهي فرصة نادرة في منطقة تفتقر إلى الثقة.
خطوات عمليةٌ للمضي قدمًا
تشمل الخطوات العملية ترتيباتٍ ثنائية هادئة بين مسئولي منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية والحكومات الإقليمية، إلى جانب التعاون التقني من خلال التدريب وتبادل البيانات، قد تساهم في الاتفاق علي بعض التدابير متوسطة الأجل تشجع علي التصديق التدريجي على بنود المعاهدة، مع تقديم ضمانات أمنية ومبادرات وُدّية إقليمية تتفق مع المعاهدة مثل: الالتزام بالوقف الاختياري للتجارب النووية، والالتزام بآليات الشفافية التي تشمل قبول الزيارات الطوعية ووجود خطوط ساخنة بحيث تظل البنية التحتية للتحقق متسقة وشفافة للحفاظ على المصداقية واللياقة/الملاءمة السياسية.
وتتضمن التوصيات الموجهة لأصحاب المصلحة التواصل المستمر مع منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بما يتناسب مع الحساسيات الإقليمية، ويتعين على الدول الإقليمية المشارَكة من الناحية الفنية الآن والتصديق عندما تكون مستعدة وجاهزة لذلك، مع اتخاذ خطوات تدريجية. ويجب أيضا على الشركاء الدوليين تقديم حوافز وضمانات أمنية موثوقة للحد من المخاطر السياسية وتحقيق التزامات تتسق مع معاهدة منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط، حتى لو تطلب ذلك وقتًا وظروفًا مغايرة.
إن الحفاظ على الوضع الراهن الغير متسق مع التزامات منع الانتشار النووي والذي يحوي ازدواجية للمعايير سيكون خطأً وخطيرا على الأمن الدولي العالمي والاقليمي في الشرق الأوسط مصيره الفشل. ويظل الشرق الأوسط حلقة أساسية مفقودة في لغز حظر التجارب النووية العالمي. ولن تشمل عضوية منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية دول في جميع أنحاء المنطقة بين عشية وضحاها، غير ان النظر في بعض تدابير بناء الثقة التدريجية والمستمرة، والتعاون التقني، والدبلوماسية المستهدِفة، مع المنظمة التي تدير المعاهدة والتصميم الحازم على تطبيق معايير واحدة لمنع الانتشار النووي من شأنهم أن يجعلوا التقدم ممكنًا، وسيظل التوسيع عضوية منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في الشرق الأوسط خيار سياسي ورهن لتصور الدول لأمنها المستقبلي ومكانتها في عالم مترابط. ولذا فيجب أن تتم هذه العملية بشكل منهجي ومتسق، ومن خلال تطبيق معيار موحد على الجميع.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”