هل كان الجيش السوداني يومًا مؤسسة وطنية تعمل لصالح الشعب، أم أنه ظل منذ الاستقلال أداة في يد النخب الحاكمة، يُستخدم لقمع الثورات وإعادة إنتاج الاستبداد؟

على امتداد التاريخ السوداني الحديث، لم يكن الجيش مجرد قوة نظامية تحمي حدود الدولة، بل كان لاعبًا سياسيًا رئيسيًا يقود الانقلابات، ويصنع الأنظمة، ويفرض سلطته عبر العنف، متحولًا من مؤسسة يُفترض أن تحمي الوطن إلى كيان يخدم مصالح قادته، ويؤمن بقاءهم في السلطة.



لكن المشكلة أعمق من مجرد حكم العسكر؛ فالجيش السوداني لم يكتفِ بالسيطرة على السياسة، بل ساهم في إنتاج نخب فاشلة. صُمّمت عقيدتهم العسكرية ومنهجهم التدريبي منذ عهد الاستعمار البريطاني بحيث يكرّسون الطاعة العمياء، ويصبحون أداة طيّعة لخدمة أجندات داخلية وخارجية.

المناهج التي وضعها الإنجليز لم تُنتج قادة يمتلكون بصيرة استراتيجية، بل صنعت جنودًا مسلوبي الإرادة، منفذين ميكانيكيين لأوامر عليا، لا يملكون رؤية تتجاوز حدود الثكنات، ويعتقدون أن الحكم ليس عقدًا اجتماعيًا، بل امتياز مقدس لا يحق انتزاعه.

الانقلابات العسكرية: دائرة مفرغة من الفشل

هذا التكوين لم يكن وليد الصدفة، بل امتداد لعلاقة معقدة بين الجيش والسياسة بدأت حتى قبل الاستقلال. فمنذ حركة “اللواء الأبيض” في عشرينيات القرن الماضي، كان هناك وعي بدور المؤسسة العسكرية كأداة للتغيير السياسي.

لكن مع الاستقلال، وجدت الأحزاب السياسية نفسها تستخدم الجيش لتحقيق مكاسب قصيرة الأمد، مثلما حدث مع حكومة عبد الله خليل التي سلّمت السلطة للجيش في انقلاب 1958، ما فتح الباب أمام عسكرة الدولة.

هذا التكوين جعل كل الانقلابات العسكرية في السودان، منذ إبراهيم عبود عام 1958 وحتى عبد الفتاح البرهان في 2021، مجرد حلقات في مسلسل طويل من الفشل المؤسسي.

لم تقدّم الأنظمة العسكرية نموذجًا ناجحًا للحكم، بل زادت الأزمات الاقتصادية، وأشعلت الحروب الأهلية، وعمّقت القمع السياسي، وأنتجت دولًا هشة غير قادرة على الاستقرار.

وعلى الرغم من التغيير المتكرر في قادة الانقلابات، إلا أن المنهج ظل واحدًا: حكم يعتمد على القوة لا الشرعية، واقتصاد تديره المافيات العسكرية، وتحالفات تُبنى على المصالح الضيقة لقادة الجيش.

الطاعة العمياء: كيف تُنتج الكليات العسكرية عقيدة استبدادية؟

لم يكن هذا الفشل عشوائيًا، بل هو نتيجة مباشرة لعقيدة عسكرية ترى في الطاعة قيمة عليا، وفي الولاء للأفراد بديلًا عن الولاء للوطن.

التدريبات داخل الكلية الحربية لا تؤهل الضباط للتفكير النقدي أو اتخاذ قرارات مستقلة، بل تكرّس نمطًا من التنشئة العسكرية التي تُقصي أي شكل من أشكال المساءلة، وتجعل العسكري يرى نفسه فوق المدنيين.

يتم تلقين الضباط، منذ دخولهم الكلية، أن الأوامر لا تُناقش، حتى لو كانت غير عقلانية أو غير أخلاقية، ويتم تغذيتهم بأيديولوجيا سلطوية تجعلهم مقتنعين بأن السودان لا يمكن حكمه إلا بـ “القبضة المطلقة، حيث يصبح القهر هو المعادل الموضوعي للنظام، ويغدو السلاح لغة الدولة الوحيدة”.

هذه القناعة تجعل الجيش بطبيعته معاديًا لأي مشروع ديمقراطي.

الجيش كأداة إقليمية ودولية

لم يكن الجيش السوداني مستقلاً في قراراته، بل ظل خاضعًا لنفوذ قوى إقليمية ودولية.

فلطالما لعبت مصر دورًا رئيسيًا في اختراق الجيش السوداني لضمان عدم وصول قوى ديمقراطية إلى السلطة، خوفًا من تأثير ذلك على الداخل المصري.

بينما تعاملت بعض دول الخليج معه كوسيلة لحماية استثماراتها في السودان، خاصة في مجالات الزراعة والذهب.

ومع صعود روسيا، دخلت مجموعة “فاغنر” على الخط، مستغلة حاجة الجيش للدعم الأمني، مقابل تسهيلات في تجارة الذهب وصفقات أمنية سرية.

أما القوى الغربية، فقد لعبت دورًا متذبذبًا، حيث دعمت في فترات معينة بعض النخب العسكرية، مثلما حدث خلال الحرب الباردة عندما دعمت واشنطن نظام جعفر نميري لمواجهة النفوذ السوفيتي في القرن الإفريقي.

الجيش والشعب: علاقة مبنية على القمع

تسببت هذه العقيدة العسكرية في عزلة الجيش عن الشعب، حيث ينظر العسكريون إلى المدنيين باعتبارهم تهديدًا أو قُصّرًا يحتاجون إلى توجيه.

هذه الرؤية ترسخت خلال عقود من الاستبداد العسكري، جعلت الجيش لا يرى نفسه خادمًا للدولة، بل وصيًا عليها.

انعكس هذا في تعامل الجيش مع الاحتجاجات الشعبية، حيث كانت الردود دائمًا دموية، دون أي اعتبار لمطالب الجماهير.

لم يكن ذلك مجرد قرارات فردية، بل سياسة ممنهجة ترى أن “الرصاصة تسبق الكلمة، وأن القوة هي المنطق الوحيد الذي لا يقبل الجدال”.

العقلية العسكرية: بين جنون العظمة والتحجر الوجداني

على المستوى النفسي، أدى هذا النمط السلطوي إلى تكوين شخصية الضابط السوداني بطريقة تجعله يعاني من عدة اضطرابات، أبرزها “وهم الألوهية المؤسسية”، حيث يرى نفسه الحامي الوحيد للوطن، ويعتبر أي محاولة لمساءلته تهديدًا وجوديًا.

كما أن الانخراط في القمع والتعذيب أفقد العديد من الضباط حسّهم الإنساني، فصاروا يعانون من “التحجر الوجداني”، متعاملين مع العنف كأداة حكم أساسية.

وكما يقول الفيلسوف أنطونيو غرامشي:

 “الاستبداد العسكري لا يبتكر، بل يعيد إنتاج نفسه بوسائل أكثر تخلفًا.”

وهو ما يظهر في تكرار نفس أخطاء الحكم العسكري عبر العقود، دون محاولة جادة للتغيير أو التعلم من الماضي.

ويعزز هذا ما أشار إليه عالم النفس إريك فروم، حين وصف السلطويين بأنهم:

 “شخصيات مريضة نفسيًا، تعوّض خوفها من الحرية عبر فرض السيطرة العنيفة.”

وهي ظاهرة تنطبق على العديد من الجنرالات الذين يرون في أي تحول ديمقراطي تهديدًا مباشرًا لوجودهم.

هل يمكن إصلاح الجيش السوداني؟

في ظل هذه المعطيات، يبرز السؤال الأساسي: هل يمكن إصلاح الجيش السوداني، أم أن تفكيكه وإعادة بنائه من الصفر هو الحل الوحيد؟

التجربة أثبتت أن أي محاولة للإصلاح من الداخل ستبوء بالفشل، لأن المشكلة ليست في الأفراد، بقدر ما هي في بنية المؤسسة نفسها.

الجيش السوداني، كما هو اليوم، ليس مؤسسة وطنية، بل كيان يخدم مصالح قادته، ويعمل وفق أجندات داخلية وخارجية.

لا يمكن إصلاحه إلا عبر تغييرات جذرية تشمل:
•تفكيك المنظومة العسكرية الحالية.
•حل الأجهزة الأمنية.
•إنهاء سيطرة الجيش على الاقتصاد.
•إعادة بناء مؤسسة عسكرية جديدة تقوم على عقيدة وطنية، وتكون خاضعة لسلطة مدنية منتخبة.
•إعادة هيكلة المناهج العسكرية، بحيث يتم تدريب الضباط على الاحترافية العسكرية بدلًا من الطاعة العمياء.

لكن أي عملية إصلاح حقيقية تستلزم أيضًا إنهاء النفوذ الخارجي على الجيش، وإعادة بناء علاقة جديدة بين المدنيين والعسكريين، بحيث يصبح الجيش مؤسسة دفاعية حقيقية، لا أداة لحكم البلاد بالقوة.

التجربة التاريخية تقول:

“السودان لن يعرف الاستقرار طالما ظل الجيش لاعبًا سياسيًا.”

والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم ليس: “كيف نصلح الجيش؟” بل:

“كيف نكسر الحلقة الجهنمية التي جعلت من الجيش لعنة أبدية على الدولة السودانية؟”


zoolsaay@yahoo.com
 

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الجیش السودانی لم یکن

إقرأ أيضاً:

الجيش السوداني يعلن سيطرته الكاملة على ولاية الخرطوم (شاهد)

أعلن الجيش السوداني، اليوم الثلاثاء، أن ولاية الخرطوم وسط البلاد أصبحت خالية تماما من قوات الدعم السريع برئاسة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وذلك بعد تقدم قوات الجيش جنوب مدينة أم درمان وغربها وتطهيرها بشكل كامل.

وقال الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية نبيل عبد الله في بيان متلفز: "نعلن اليوم اكتمال تطهير كامل ولاية الخرطوم من أي وجود لعناصر مليشيا آل دقلو الإرهابية (قوات الدعم السريع) وتطهير عاصمتنا الوطنية من دنس المتمردين".

وتابع: "نؤكد أن ولاية الخرطوم خالية تماما من المتمردين"، فيما لم تعلق قوات الدعم السريع على بيان الجيش.

الحمد لله حتي يبلغ الحمد منتهاه!!
اليوم القوات المسلحة تعلن وبشكل قاطع تحرير كل ولاية الخرطوم بمحلياتها الثلاثة/ الخرطوم/ والخرطوم بحري/ وامدرمان / خالية من مليشيات الدعم السريع الارهابية الف مبروك للشعب السوداني والف مبروك للقوات المسلحة والقوات المشتركة والقوات المساندة لها ،،… pic.twitter.com/oojohj4DEx

— YASIN AHMED (@yasin123ah) May 20, 2025
وجدد الجيش السوداني العهد بمواصلة جهوده "حتى تطهير آخر شبر من بلادنا من كل متمرد"، وفق البيان.

وبث عناصر من الجيش على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة داخل منطقة صالحة جنوبي مدينة أم درمان، آخر معاقل "الدعم السريع" في الولاية.



كما بثوا مقاطع لمخازن أسلحة وطائرات مسيرة وأجهزة تشويش قالوا إن الجيش ضبطها في منطقة صالحة.

وفي وقت سابق الثلاثاء، أعلن الجيش السوداني أن قواته تتقدم جنوب أم درمان وغربها، وتقترب من "تطهير" ولاية الخرطوم بالكامل.

وفي الآونة الأخيرة، سيطر الجيش على معظم مناطق ولاية الخرطوم، ما عدا مناطق غرب وجنوب أم درمان، التي أعلن استعادتها الثلاثاء.

وتتكون ولاية الخرطوم من مدن العاصمة الثلاث الخرطوم وبحري وأم درمان، إضافة إلى منطقة شرق النيل.

ومنذ منذ منتصف أبريل/ نيسان 2023 يخوض الجيش و"الدعم السريع" حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.

وفي الولايات الـ17 الأخرى بالسودان، لم تعد "الدعم السريع" تسيطر سوى على أجزاء من ولايتي شمال كردفان وغرب كردفان وجيوب في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بجانب 4 ولايات من أصل 5 بإقليم دارفور.


الجيش السوداني يعلن اكتمال تطهير كامل ولاية #الخرطوم من أي وجود لعناصر الدعم السريع pic.twitter.com/P0Q139woGc

— عربي21 (@Arabi21News) May 20, 2025

في ٢٠ مايو ٢٠٢٥، انتهت معركة ولاية الخرطوم، مبروك للسودان لم تكن هذه حربًا عبثية كما وُصفت باستخفاف، بل كانت جهدًا جماعيًا من قِبل سكان المنطقة لتحرير أنفسهم من ميليشيا إبادة جماعية برعاية أجنبية. pic.twitter.com/o531mE9IaJ

— أبو خالد الروسي (@Svyato_) May 20, 2025

الجيش السوداني يفرض سيطرته على منطقة الصالحة في أمدرمان،
جنوبي العاصمة #الخرطوم آخر معاقل مليشيا الدعم السريع، ويستحوذ على كميات كبيرة من أجهزة التشويش، وطائرات مسيرة، وأسلحة وذخائر قدمتها #الإمارات دعمًا لحليفها حميدتي. pic.twitter.com/YMwZCIICDU

— معمر إبراهيم  السوداني Muammar Ibrahim (@MUAMMAR_SUD) May 20, 2025

نعود إلى الجيش القوي المظلوم إعلامياً..نجح #السودان ???????? في فرض سيطرته على العاصمة

بعد شهر من دخوله المدينة واستعادته القصر الرئاسي ومراكز بعد سيطرة RSF عليها منذ سنتين، أعلن الجيس تطهير الخرطوم

هناك عملية لإزالة الذخائر هناك

يعود 100 ألف مدني إلى مدينته.pic.twitter.com/g6i9wpzG54

— HALIM | حـليـم (@shadowh55543098) May 20, 2025

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني يعلن اكتمال تطهير كامل لولاية الخرطوم
  • الجيش السوداني يعلن ولاية الخرطوم خالية من قوات الدعم السريع
  • الجيش السوداني يعلن سيطرته الكاملة على ولاية الخرطوم (شاهد)
  • عاجل | الجيش السوداني: نعلن اليوم اكتمال تطهير كامل الخرطوم من أي وجود للدعم السريع
  • الجيش السوداني يعلن سيطرته على الخرطوم
  • بعد العملية العسكرية .. الجيش السوداني يعلن السيطرة على الخرطوم
  • احتجاجات في لندن تُندد ب استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية
  • وزير الحرس الوطني يرعى حفل تخريج دورة تأهيل الضباط الجامعيين الـ (36) والدفعة الـ (41) من طلبة كلية الملك خالد العسكرية
  • وزير الحرس الوطني يرعى حفل تخريج دورة تأهيل الضباط الجامعيين الـ 36 والدفعة الـ 41 من طلبة كلية الملك خالد العسكرية
  • قانون جديد يمنح أردوغان صلاحيات فصل ضباط الجيش وترقيتهم