ثورة بدأت عام 1936م وامتدت حتى 1939م. اندلعت في منتصف أبريل/نيسان بعدما هاجم أتباع الشيخ عز الدين القسّام قافلة شاحنات بين مدينتي نابلس وطولكرم، وقتلوا سائقين يهوديين، فردت منظمة الإرغون الصهيونية في اليوم التالي بقتل عاملَين فلسطينيين قرب قرية بيتح تكفا.

وتلت ذلك اضطرابات دامية في تل أبيب ويافا فانطلقت بذلك "الثورة الفلسطينية الكبرى"، التي استمرت 3 أعوام، وتعاضد فيها الأعيان والنخب مع الفلاحين والبسطاء من أهل الريف.

الظروف التاريخية للثورة الفلسطينية الكبرى

مهدت عدة أحداث وتطورات الطريق لهذه الثورة، فقد كانت فترة الثلاثينيات من القرن الـ20 في فلسطين -كما في غيرها من البلدان- فترة اضطراب اقتصادي شديد، وفيها أصاب الفلسطينيين في الريف ضرر كبير نتيجة عمليات نزع ملكيتهم وتراكم الديون عليهم، جرّاء سياسات سلطات الانتداب البريطاني المشجعة لجهود المنظمات الصهيونية لشراء الأراضي بالإكراه.

وملأت الهجرة من الريف إلى الحضر حيفا ويافا بالفلسطينيين الفقراء الباحثين عن عمل، فبرزت أشكال جديدة من التنظيمات السياسية التي ركّزت على الشباب والفئات الاجتماعية الشعبية بدل الأشكال القديمة القائمة على النخب، كما أدى تزايد العداء لليهود في أوروبا إلى زيادة هجرتهم إلى فلسطين.

ونتجت عن تلك التطورات والأحداث اضطرابات دورية، ابتداء بثورة البراق سنة 1929، ثم اندلاع المظاهرات في العديد من مدن فلسطين ضد الانتداب البريطاني عام 1933.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1935، تم اكتشاف كمية من الأسلحة شُحنت لحساب منظمة الهاغاناه في ميناء يافا، مما أجّج المخاوف الفلسطينية، خاصة وأن الهجرة اليهودية بلغت ذروتها، ففي الفترة من 1933 إلى 1936 وصل أكثر من 164 ألف مهاجر يهودي إلى فلسطين، وبين 1931 و1936 زاد عدد السكان اليهود أكثر من الضعف من 175 ألفا إلى 370 ألفا، وانتقلت نسبتهم من 17% إلى 27% من مجموع السكان.

إعلان

وفي عام 1930، أسس الشيخ عز الدين القسام منظمة "الكف الأسود"، المناهضة للصهيونية وللسياسات الاستعمارية البريطانية، وجنّد الفلاحين والعمال وأقام لهم دورات تدريبية عسكرية.

وبحلول عام 1935 كان قد جند المئات، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه اشتبك اثنان من رجاله بالأسلحة النارية مع دورية للشرطة البريطانية وقتلوا شرطيا.

وفي أعقاب هذه الحادثة طاردت الشرطة القسّام، وحاصرته في كهف بالقرب من قرية يعبد ومعه 10 من أنصاره، فرفض الاستسلام، وبعد قتال من الصباح حتى العصر استشهد الشيخ برصاصة في جبينه، واستشهد معه 3 من رفاقه، وأصيب اثنان منهم وأسر الباقون.

وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1935، خرج الآلاف في جنازة كبيرة لتشييع عز الدين القسام ورفاقه الثلاثة، وأطلقت الدعوات لمتابعة نهجهم والسير على منوالهم، وبقيت تتوالى حتى اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في أبريل/نيسان 1936.

ويعد عبد القادر الحسيني أول من بدأ قيادة الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 بحشده رجال المقاومة في كل الأراضي لمواجهة الاحتلال، وقد استشهد في الثامن من أبريل/نيسان 1948 وهو يخوض معركة تحرير قرية القسطل الإستراتيجية المشرفة على طريق القدس يافا.

مراحل الثورة الفلسطينية الكبرى

مرت الثورة الفلسطينية الكبرى بـ3 مراحل:

المرحلة الأولى

بدأت من ربيع عام 1936 وحتى يوليو/تموز 1937، وهي مرحلة اشتعال الثورة بعد تأجج التوترات في فلسطين وتراكمها منذ خريف 1935.

ففي منتصف أبريل/نيسان 1936، هاجم أتباع القسّام قافلة من الشاحنات بين نابلس وطولكرم وقتلوا سائقين يهوديين، فردت منظمة الإرغون في اليوم التالي بقتل عاملَين فلسطينيين بالقرب من بيتح تكفا، ثم تلت ذلك اضطرابات دامية في تل أبيب ويافا.

وفي 19 أبريل/نيسان، شُكّلت في نابلس لجنة وطنية اتُّفق فيها على إعلان الإضراب، كما شُكلت لجان وطنية في مدن أخرى دعت بدورها إلى الإضراب.

إعلان

وفي 25 أبريل/نيسان، تم تشكيل اللجنة العربية العليا من رؤساء الأحزاب الخمسة، و5 آخرين من رجالات البلاد. وكان أعضاء اللجنة هم: الحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي وأحمد حلمي عبد الباقي والدكتور حسن الخالدي ويعقوب فراج وعوني عبد الهادي وعبد اللطيف صلاح وألفرد روك وجمال الحسيني ويعقوب الغصين، وانتخب أمين الحسيني رئيسا لتنسيق ودعم إضراب وطني عام انطلق في الثامن من مايو/أيار وشلّ النشاط التجاري والاقتصادي في فلسطين 6 أشهر.

وفي تلك الأثناء كان الفلسطينيون في أنحاء الريف كافة يشكّلون مجموعات مسلحة لمهاجمة أهداف للسلطات البريطانية والحركات الصهيونية المسلحة، وكان عملهم في البداية عفويا ومتقطّعا، ثم انتظم بعد ذلك بشكل متزايد، وانضم إليه متطوعون عرب من خارج فلسطين، وإن بأعداد قليلة.

واستخدم البريطانيون أساليب وتكتيكات مختلفة لوقف الإضرابات وقمع العصيان المسلّح في المناطق الريفية، وزادوا أعداد رجال الشرطة البريطانيين واليهود، وتعرّضت المنازل للتفتيش والمداهمات الليلية، وأهلها للضرب والسجن والتعذيب والترحيل.

ووصل القمع البريطاني إلى حد هدم أحياء واسعة في مدينة يافا القديمة، وتزامنت تلك العمليات العسكرية والتدابير القمعية مع إرسال الحكومة البريطانية لجنة برئاسة اللورد بيل للتحقيق في الأسباب الجذرية للتمرد.

وفي 11 أكتوبر/تشرين الأول 1936، وتحت وطأة ضغوط السياسات القمعية البريطانية، وضغوط بعض الملوك والأمراء العرب من خلال وعود وتطمينات، وكذا العواقب الاقتصادية للإضراب على السكان الفلسطينيين، أوقفت اللجنة العربية العليا الإضراب ووافقت على التعاون مع لجنة بيل.

بدأت لجنة بيل عملها، وانخفضت التوترات مؤقتا، وبعد إعلان نتائج تحقيقها، الذي صدر في يوليو/تموز 1937، أوصت اللجنة بتقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة لليهود وأخرى للعرب، فثار الشعب الفلسطيني مجددا وأطلق تمردا مسلّحا أكثر شدة من سابقه، وبدأت المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية.

إعلان

المرحلة الثانية

وامتدت من يوليو/تموز 1937 إلى خريف 1938، وحققت فيها الثورة مكاسب كبيرة، إذ سيطرت على مساحات شاسعة من الأراضي الجبلية، بما في ذلك البلدة القديمة في القدس لفترة من الزمن، فأحلوا فيها مؤسسات وطنية محل تلك التي كانت تابعة للانتداب البريطاني، مثل المحاكم وخدمة البريد وغيرها.

وكان حادث اغتيال لويس يلاند أندروز -حاكم لواء الجليل- على يد جماعة القسام يوم 26 سبتمبر/أيلول 1937 المؤشر البارز على بدء المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية.

وقد اعتبر مقتل أندروز صدمة كبيرة للسلطات البريطانية، إذ كان أول اغتيال لشخصية مدنية كبيرة، واعتبر إعلانا صريحا للثورة ضد الحكم البريطاني.

فما كان من البريطانيين إلا أن اتخذوا تدابير أشد قسوة في محاولة لسحق الثورة، فأعلنت سلطة الانتداب عدم شرعية اللجنة العربية العليا والأحزاب السياسية الفلسطينية كافة، وألقت القبض على القادة السياسيين والأهليين، ونفت عددا من الشخصيات العامة رفيعة المستوى.

كما لجأت إلى تصعيد الوسائل العسكرية لمكافحة التمرد، فنشرت الدبابات والطائرات والمدفعية الثقيلة في جميع أنحاء فلسطين، وطبّقت العقاب الجماعي في حق الفلسطينيين، فزجّت بآلاف منهم في "معسكرات الاعتقال"، كما دمرت أحياء سكنية وأغلقت مدارس وغرمت قرى بشكل جماعي وأجبرتها على إيواء الشرطة والقوات البريطانية.

وأمام هول ما كان يحدث للشعب الفلسطيني، استفادت المنظمات العسكرية الصهيونية من الوضع لبناء قدراتها بدعم بريطاني، وبحلول أوائل سنة 1939 حصل 14 ألف رجل من "شرطة المستعمرات اليهودية" على الدعم والزي الرسمي والسلاح من الحكومة البريطانية.

وكانت منظمة الهاغاناه تعمل خلف تلك الواجهة، إضافة إلى ما يسمّى الوحدات الليلية الخاصة المشكَّلة من يهود وبريطانيين، وكانت تنفذ "عمليات خاصة" ضد القرى الفلسطينية.

إعلان

المرحلة الثالثة

واستمرت تقريبا من خريف 1938 حتى صيف 1939، إذ كان البريطانيون قد عينوا في يناير/كانون الثاني 1938 لجنة تحقيق أخرى بقيادة السير جون وودهيد لدراسة الجوانب الفنية لتنفيذ التقسيم.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1938، خلص تقرير لجنة وودهيد إلى أن التقسيم ليس عمليا، مما جعل البريطانيين يتراجعون بعض الشيء عن توصية بيل، إلا أنهم أطلقوا في الوقت ذاته هجوما شاملا على الفلسطينيين، فشهد عام 1939 قتل المزيد منهم وإعدام المزيد شنقا واعتقال ما يقارب ضعفي عدد معتقلي سنة 1938.

وقد فرضت هذه الأوضاع ضغوطا هائلة على الثوار الفلسطينيين، مما أدى إلى تفاقم الخلافات بين قادة اللجنة العربية العليا من السياسيين المنفيين إلى دمشق وبين القيادة المحلية، ومن جهة ثانية بين مجموعات الثوار وسكان القرى الذين كان من المتوقع أن يدعموهم.

ووقع الخلاف بشكل أساسي بين الفلسطينيين المستعدين للتوصل إلى تسوية مع البريطانيين وأولئك الملتزمين بالثورة، وتم تشكيل ما سمّي "فرق السلام" الفلسطينية بدعم بريطاني لمحاربة أنصار الثورة.

وفي مايو/أيار 1939 نشرت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض الجديد الذي نص على "الوفاء بالتزامات بريطانيا تجاه فكرة الوطن القومي لليهود، واستمرار السماح بهجرة 75 ألف يهودي جديد إلى فلسطين في الأعوام الخمسة التالية، واستحواذ اليهود على الأراضي فيها (وهما بندان يتعارضان مع التزامات بريطانيا تجاه الفلسطينيين).

كما نص الكتاب الأبيض على أنه "بعد انقضاء السنوات الخمس تصبح الهجرة اليهودية خاضعة للموافقة العربية ويسمح بنقل ملكية الأراضي في مناطق معينة فقط، فيما تكون العملية مقيدة ومحظورة في مناطق أخرى، وذلك لمنع حرمان الفلسطينيين من الأراضي، ويتم إنشاء دولة موحدة مستقلة بعد 10 سنوات، مشروطة بعلاقات فلسطينية يهودية مواتية".

إعلان

وفي أواخر صيف 1939، أوصلت الجهود البريطانية العسكرية والدبلوماسية المشتركة، الثورة إلى نهايتها، وفي السنوات الثلاث للثورة قُتل حوالي 5 آلاف فلسطيني وجُرح ما يقارب 15 ألفا، إضافة إلى نفي القيادات الفلسطينية واغتيالها وسجنها وتأليب بعضها ضد بعض.

أما خسائر الإنجليز، فكانت مقتل 16 رجل شرطة و22 جنديا وجرح 10 رجال شرطة و148 عسكريا ومقتل 80 يهوديا وجرح 308 آخرين.

أبرز معارك الثورة الفلسطينية الكبرى معركة نور شمس: وقعت يوم 23 مايو/أيار 1936. معركة عنبتا: وقعت يوم 21 يونيو/حزيران 1936. معركة وادي عزون: وقعت يوم 28 يونيو/حزيران 1936. معركة الفندقومية: وقعت يوم 30 يونيو/حزيران 1936. معركة باب الواد: وقعت يوم 29 يوليو/تموز 1936. معركة رأس عامر: وقعت في الثالث من أغسطس/آب 1936. معركة صفد: وقعت في التاسع من أغسطس/آب 1936. معركة بلعا الأولى: وقعت في العاشر من أغسطس/آب 1936. معركة عصيرة الشمالية: وقعت يوم 17 أغسطس/آب 1936. معركة وادي عرعرة: وقعت يوم 20 أغسطس/آب 1936. معركة عين دور: وقعت يوم 29 أغسطس/آب 1936. معركة بلعا الثانية: وقعت في الثالث من سبتمبر/أيلول 1936. معركة الجاعونة: وقعت في التاسع من سبتمبر/أيلول 1936. معركة ترشيحا: وقعت في التاسع سبتمبر/أيلول 1936. معركة حلحول: وقعت يوم 24 سبتمبر/أيلول 1936. معركة جبع: وقعت يوم 24 سبتمبر/أيلول 1936. معركة بيت مرين: وقعت يوم 29 سبتمبر/أيلول 1936. معركة الخضر: وقعت في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1936. معركة كفر صور: وقعت في التاسع من سبتمبر/أيلول 1936.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات اللجنة العربیة العلیا أبریل نیسان یولیو تموز وقعت یوم

إقرأ أيضاً:

الصهيونية في طور التشكل.. قراءة تاريخية وفكرية في إسرائيل المعاصرة

الكتاب: دليل إسرائيل العام 2025م
الكاتب: مجموعة من المؤلفين.
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، رام الله، 2025م

كتب رائف زريق في دليل إسرائيل العام " إسرائيل خلفية أيديولوجية وتاريخية" لتعريف القارئ على نحو أولي بالأيديولوجيا الصهيونية، بالصيرورة التي قادت إلى اقامة دولة إسرائيل، ليشكل الاثنان معاً نوعاً من الخلفية التاريخية الأيديولوجية التي قد تساهم في فهم طبيعة دولة إسرائيل وسياستها الداخلية والخارجية، وهي مهمة صعبة بعض الشيء، استطاع الكاتب الولوج في ثناياه، عارضاً تطوراتها على مدى قرن ونصف من الزمان.

تكمن الإشكالية التي عرضها زريق أنه في معرض تحليله لممارسة وصيرورة الصهيونية واسرائيل لا تزالان في مراحل تشكلهما حتى إن كان عمر هذه الصيرورة قرناً ونصف القرن، فمن الأمور التي كشفتها حرب الإبادة على غزة هي حقيقة أن الصهيونية، نصاً وحركة، ما زالت في طور التشكل والتحول، ومن المبكر التنبؤ بمصير المشروع الصهيوني وآفاقه المستقبلية، وقد لا يكون هذا بعيد عن الحقيقة أن الصهيونية هي أساساً صيرورة مستمرة في جوهرها.

يضيف الكاتب: "إن المنظرين الصهيونيين ينظرون إلى الصهيونية، في معظمهم، من وجهة نظر اللاعب الصهيوني الذي يشارك في الحركة، بالتالي فإن هذا النوع من الرصد هو رصد ظاهراتي (فيمينمولوجي) يركز على الطريقة التي استوعب فيها اللاعبون الصهيونيون دورهم ونشاطهم، ويولي أهمية كبرى لنياتهم واعتقاداتهم وفهمهم للواقع ولأهدافهم، إلا إن نيات اللاعبين وأهدافهم، وإن كانت عاملاً مهماً في فهم الأحداث والأفكار، تحجب النظر عن أثر فعل اللاعبين في غيرهم من الذوات، في الواقع نفسه، ليصبحوا منغمسين في نياتهم مع اغفال أثر ما يفعلونه في حياة ومعاناة الآخرين، الأمر الذين يصل إلى حد الانفصال عن الواقع تماماً وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه العالم ومآسيه.

يشير كثير من منتقدي الصهيونية، أنها لم تستطع أن تعرف نفسها، وماهيتها، وأن تبني مشروعها خارج المنظومة اللغوية الرمزية الدينية، وبالتالي لم تستطع قطع حبل السرة بينها كحركة علمانية قومية، وبين التراث الديني اليهودي قط، ويشير هذا الأمر إلى تواصل بين الديني والقومي، لا إلى الانقطاع بينهما، وهو ما أدركه هرتسل، بأنه لن يكون قادراً على تجنيد أوساط واسعة لمشروعه من دون أن يوظف رطانة تاريخية دينية، فهو ينهي كتابه ( البلاد القديمة الجديدة) بالقول بأنه سيقيم الدولة، في نهاية المطاف، لن تكون التكنولوجيا، ولا الثقة بالنفس، ولا الأمم المتحدة، وإنما الله!ميز الكاتب بين تيارات متعددة داخل الصهيونية فيما يتعلق بطبيعة علاقاتها بالسكان الفلسطينيين الأصليين، وبمدى استعدادها للوصول إلى نوع من الحلول الوسط معهم، وبشأن مكانة حقوقهم الفردية، والجماعية، والقومية، ففي أقصى اليسار نجد تيارات مثل بريت شالوم بقيادة يهودا ماغنس ومارتن بوبر، التي سعت لشكل من أشكال التفاهم مع الفلسطينيين في دولة ثنائية القومية تقوم على المساواة، في مقابل تيارات مركزية بقيادة بن غوريون تسعى لإقامة دولة يهودية حصرية حتى لو على جزء من فلسطين، في فلسطين مقابل تيارات تنقيحية يمينية رأت أنه من الضروري ان تقوم دولة إسرائيل على كامل أرض فلسطين، رافضة أي نوع من المساومة أو الحلول الوسط مع الفلسطينيين، وعليه فإن هذه التيارات تمثل توجهات متنوعة لكيفية التعامل مع الفلسطينيين كأفراد وجماعة قومية( ص34).

يشير كثير من منتقدي الصهيونية، أنها لم تستطع أن تعرف نفسها، وماهيتها، وأن تبني مشروعها خارج المنظومة اللغوية الرمزية الدينية، وبالتالي لم تستطع قطع حبل السرة بينها كحركة علمانية قومية، وبين التراث الديني اليهودي قط، ويشير هذا الأمر إلى تواصل بين الديني والقومي، لا إلى الانقطاع بينهما، وهو ما أدركه هرتسل، بأنه لن يكون قادراً على تجنيد أوساط واسعة لمشروعه من دون أن يوظف رطانة تاريخية دينية، فهو ينهي كتابه ( البلاد القديمة الجديدة) بالقول بأنه سيقيم الدولة، في نهاية المطاف، لن تكون التكنولوجيا، ولا الثقة بالنفس، ولا الأمم المتحدة، وإنما الله!

الصهيونية واليهودية والدين- مشروع انقلابي:

من المهم جداً فهم علاقة الصهيونية بالدين اليهودي أو اليهودية بصورة عامة، هل هي علاقة وصل أم علاقة قطع؟ هل الصهيونية نوع من أنواع الثورة أو الانقلاب داخل اليهودية، أم حالة تواصل واستمرارية مع اليهودية؟ يتسأل الكاتب...بل أنه يتعمق في تساؤلاته هل الصهيونية نوع من أنواع الثورة أو الانقلاب داخل اليهودية، أم هي في حالة تواصل واستمرارية مع اليهودية؟

شدد كثيرون ممن يعرفون أنفسهم كعلمانيين وصهيونيين في آن واحد على الطبيعة الثورية للحركة الصهيونية، وعلى أنها انقلاب على اليهودية والدين، فالصهيونية من هذا المنظور هي مشروع لإعادة اليهود إلى مسرح التاريخ، وبما أن اللاعبين على مسرح التاريخ مثلما تم فهمه في القرن التاسع عشر هم الذوات القومية، فهذا يتطلب صوغ مشروع يهودي قومي جغرافي يعيد إلى اليهود دورهم كلاعب، وكذات تاريخية فاعلة تأخذ مصيرها بيديها، وتخرج اليهود من الحالة السلبية التي عاشوها في أوروبا إلى حالة عمل سياسي وفعلي، فالخلاص لا يأتي من الابتهال لله، وإنما من العمل السياسي الجماعي القومي، أما فكرتا خلاص الأرض وجمع الشتات فلا تتمان عبر الصلوات، وإنما عبر المبادرة والعمل، والعودة إلى صهيون لن تنتظر المسيح المنتظر، بل يجب القيام بها هنا والآن وبجهد جماعي.

يضيف الكاتب هنا" ليس غريباً، والحال كهذه أن يرى البعض أن الصهيونية ما هي أساساً إلا محاولة جديدة لتفسير الأسطورة الدينية اليهودية، وهي ليست عملية استبدال جذرية للأسطورة، فجل ما فعلته الصهيونية أنها أسبغت على الأسطورة الدينية مفاهيم قومية أوروبية، وعلى الرغم من حدة القطع والصراع بين اليهودية كدين والمشروع القومي الصهيوني، فإن الفصل لم يتم بين الأمة والدين أو بين الدين والدولة" (ص16).

هناك علاقة معقدة بين اليهودية والصهيونية فمن ناحية يمكن رؤية العلاقة باعتبارها قطع وبتر مع الدين اليهودي، وبالتالي تبدو الصهيونية أول وهلة كحركة علمانية تماماً، ومن الناحية الأخرى يمكن وصف العلاقة بأنها استمرار بحيث من المتعذر فصل السياسي عن الديني، والصهيونية عن اليهودية، والنسبي المطلق، والأرضي عن السماوي، إذ خلقت الصهيونية في حالة صراع معين مع اليهودية وتوتر معها باعتبارها توجهاً جديداً للتعامل مع العصر الحديث الذي يجمع التراث الليبرالي والقومي معاً.

تبدو الحركة الصهيونية أول وهلة كأنها في حالة صدامية مع أوروبا القرن التاسع عشر وأفكارها، لكن سرعان ما يتضح لنا أن الصهيونية أرادت الخروج من أوروبا كي تنضم إليه؛ أي أنها محاولة للخروج جغرافياً وجسدياً من أوروبا من أجل الانضمام إليها نظرياً وأخلاقياً، إن الصهيونية لم تسع لمقاومة المنطق العنصري المغلق، بل بالعكس من ذلك فقد تبنته بنفسها، ومارست على سكان المشرق سياسة شبيهة بما مارسها ضدها الغرب العنصري الاستعلائي.

أي متابع للحرب الأخيرة على غزة والحرب على إيران سيلاحظ بسهولة شديدة أن هذه الحرب لم تكن حرباً إسرائيلية فقط، بل حرب غربية تقودها إسرائيل، لكن تشارك فيها قوى ودول غربية مباشرة مثل الولايات المتحدة أو بشكل أقل مباشرة مثل ألمانيا، وفرنسا وبريطانيا، ووصفها الكاتب بأن الصهيونية هي خروج من أوروبا من أجل العودة إليها، وهي ليست استئناف المشروع القومي الاستيطاني الأوروبي بقدر ما هي انضمام إلى هذا المشروع.

الصهيونية ونفي المنفي ونفي الآخر:

تقوم فكرة الصهيونية على فكرة نفي المنفي، أي أن المنفي يحضر بصفته صورة دينية وغير طبيعية ومؤقتة في حياة اليهودي، فإن حياة اليهودي في المنفى هي حياة غير طبيعية وناقصة، ولا يكتمل الوجود والمعنى الروحي تماما إلا عندما يلتقي يهودي المنفى بأرضه الموعودة، أرض إسرائيل ويقيم بيته القومي، فاللقاء عضوي يحقق لليهودي اكتماله الروحي، ويجعل أرض إسرائيل، الأرض الموعودة تتنفس الصعداء أخيراً برجوع الأبناء الضالين إليها، وهو منطق يظهر جليا في وثيقة اعلان إسرائيل، وعدد من القوانين الأساسية.

إن المعنى المادي الفكري نفي المنفى يتمثل في فكرة الهجرة ولم الشتات، وبالتالي فلا بد لأي مدخل لفهم إسرائيل من أن يأخذ بعين الاعتبار أنها دولة مهاجرين، لكنها دولة مهاجرين من نوع خاص، أولاً: إن هوية المهاجرين الدينية والإثنية محدد سلفاً، اليهودي يهاجر إلى فلسطين لأنه يهودي، أي أن هويته تحدد مكان هجرته، فهو يحضر إلى المكان حاملاً هويته ومشروعه، وذلك بفارق عن الذين يهاجرون إلى أميركا، أو كندا، أو استراليا حيث يصبح المرء اميركي بعد أن يهاجر إلى أميركا لأنه أميركي ثانياً: إن الهجرة لا تحدث لأسباب مادية أو فقط ذلك، وإنما لاعتبارات أيديولوجيا(ص37).

من حيث المبدأ نشأ في الفكر الصهيوني توجهان متوازيان بكل ما يتعلق بالعرب كجماعة ذات حقوق سياسية، جرى نفي هذا الحق عنهم، أما فيما يتعلق بهم كأفراد، فقد رأت تيارات واسعة في الصهيونية أنه من الممكن التعامل مع العربي بشكل محترم ولائق؛ شرط أن يتنازل عن ادعائه أن يتنازل عن ادعائه أنه سيد الأرض، وصاحب البلد الوحيد، وأن له حقوقا قومية فيه، فالجانب القومي في المشروع الصهيوني يلزمهم بعدم الاعتراف بوجود جماعة قومية أخرى، لكن ما تبقى من تأثير الفكر الليبرالي الأوروبي في الحركة في أحسن الأحوال التعامل بمساواة مع الفرد الفلسطيني كفرد مجرد من الانتماء(ص38).

أدركت الهستدروت في مرحلة مبكرة من الصراع أهمية الديموغرافيا، وأن النجاح في بناء مشروع قومي خالص يتطلب لجم أو فلنقل تأجيل طابع الصهيونية الكولونيالي الصرف القائم على منطق الربح الفردي الرأسمالي إلى مرحلة أخرى، وأن عليها حصر نشاطها في بقعة من الأرض تضمن فيها الوجود اليهودي، ففي الواقع كان تقسيم فلسطين قد جرى قبل أعوام كثيرة قبل عام 1948م، ذلك بأنه كان هناك مجتمعان منفصلان في كل شيء تقريباً، ومع اندلاع ثورة عام 1936م، ازدادت حدة هذا الفصل ليصبح التقسيم حالة شبه حتمية، إلا أن ما يلفت النظر ولا يزال تأثيره حاضراً حتى اليوم وبأشكال متعددة، هو أن عملية تقسيم الاقتصاد وسوق العمل على أساس قومي لم يكن من الممكن أن تنجح لولا التدخل الخارجي الذي تمثل في عاملين أساسيين، اقتصادي وسياسي، وتمثل العامل الاقتصادي في اعتماد اليشوف في مصادر مالية خارجية أتته من الصهيونية العالمية، التي لولاها لم يكن من الممكن إرضاء العمال اليهود، أما العامل الآخر، فكان الدعم السياسي الذي حظى به اليشوف من سلطات الانتداب التي مكنت من تدفق الهجرة، واقتناء الأراضي.

إسرائيل مع سبق الإصرار:

تشكل دولة إسرائيل حالة فريدة من ناحية مدى التخطيط المسبق الذي جرى لإقامتها، مع أنه لم يكن هناك أرض مشتركة، ولا لغة مشتركة، ولا اقتصاد مشترك، وعلى الرغم من ذلك فإن الحركة الصهيونية، كحركة إرادية تعتمد على الذات من ناحية، وعلى مساعدة الدولة الاستعمارية من ناحية أخرى، خططت أولا لإنشاء حركتها القومية، وثانياً لإقامة دولتها، وذلك كله في غياب أي عامل موحد على أرض الواقع تقريباً، وفي ظل غياب المشترك في الواقع تنشأ الحاجة إلى حضور المشترك في الوعي، وإلى مقومات أخرى مادية تعوض عن غياب الجسم المركزي المنظم، وبعد ان يتسلح الوعي بمقولات وأفكار معينة، يصبح الوعي بحد ذاته جزءاً من الواقع(ص41).

عن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية يشير الكاتب: " بدرجة عالية من الثقة إن الحرب الأخيرة والمستمرة منذ أكثر من سنتين على غزة ولبنان، هي ليست مجرد حرب إسرائيلية بقدر ما هي حرب أميركية في كل شيء، من التمويل المالي إلى الدعم العسكري والدبلوماسي، ومن الواضح أنه كلما ازداد منسوب عداء إسرائيل مع المنطقة ازداد ارتباطها، وزادت حاجتها إلى دعم القوى الغربية"  (ص81).

لكن القصة الأهم في تطور الدين والدولة، هي قصة الصهيونية الدينية التي حاولت المزواجة بين الدين والدولة، بين السماء والأرض، بين الاحتكام إلى المنطق الإنساني والمنطق الرباني، لذلك موقع القوى الدينية شرع يتغير بعد حرب عام 1967م، وأصبحت هذه القوى تحظى بموقع مركزي أكثر فأكثر أيضاً، ولا سيما ضمن القوى التي تخدم في الجيش، وإذا كانت النخب العسكرية التقليدية  تأتي من الحركة الكيبوتسية العلمانية في العقود الأربعة الأولى، فإن النخب العسكرية تأتي أكثر من القوى الدينية الصهيونية في الأساس، بل أن المناخ الأيديولوجي لهذه القوى، بدأ يتغير باستمرار، ووصل هذا التحول إلى ذروته في حرب الإبادة على غزة، فقد أعطى الراب كوك الأب، الدين بعداً سياسياً يتيح استعمال العنف، إلا أن هناك فرقاً بين اباحة استعماله في حالات معينة، وبين تمجيده والاعلاء من شأنه والتعامل معه بنوع من القدسية.

الصهيونية تجيد حل المشاكل التي هي المسبب الأساسي في انتاجها، وتدافع عن اليهود وتزج بهم في خطر في آن واحد، وتسعى لتطبيع حياة اليهود، وفي الوقت نفسه للإبقاء على اعتبارهم حالة استثنائية، داخل التاريخ، وفوق التاريخ حينا آخر.اليوم لم تعد القوى الدينية ـ وأساساً القوى الدينية الصهيونية ـ على هامش المشروع الصهيوني، بل أصبحت تشكل جوهر المشروع  والقوى الرائدة فيه، وترى نفسها أنها تقوم بتحقيق مشيئة إلهية، وليس مجرد مشروع سياسي أرضي عادي، وقد يكون أحسن وصف لهذا التحول القول بأنه تحول من صهيونية دينية إلى دين متصهين(ص84).

ختم زريق دراسته: "قد تكون الصهيونية في أزمة من ناحية، وليست في أزمة من ناحية أخرى، هي في أزمة لأنها لم تنجح في تطبيع حياة اليهود، إذ أن حياة اليهودي في إسرائيل ليست أكثر طبيعية من حياة أي يهودي آخر في أميركا أو في هولندا، وليست أكثر أمناً، عليه، وأنها تشكل ملاذاً آمنا مثلما توقعت، فضلا عن أن يهود العالم لا يزالون، في أغلبيتهم، خارج إسرائيل، ويفضلون العيش خارجها، وخصوصاً في الدول الغربية، لكنها ليست في أزمة بمعنى آخر، فمما لا شك فيه أن إسرائيل قوية اقتصادياً، وعسكرياً، ودبلوماسياً، ولا تزال قادرة إقامة تحالفات عسكرية ودبلوماسية، وعلى احداث دمار شامل وتوجيه ضربات قوية لجيوش المنطقة، ولكن استمرار نجاحها يكمن في اخضاع وتركيع دول المنطقة جميعها"( ص88).

تبدو الصهيونية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى في حالة عصاب مستمر، فهي تعتبر خسائرها الاستراتيجية ربحاً، وتعتبر ربحها الاستراتيجي خسارة، وتحدثت الصهيونية عن تطبيع الوجود اليهودي، لكن أكثر ما تخشاه هو تطبيع هذا الوجود، وتحدثت عن القضاء على اللاسامية وحالة العداء لليهود، إلا أنها تعتاش وتنتعش مع صعود اللاسامية التي تشكل مبرراً لوجودها، وتنتشي مع التصعيد في لهجة الحرب ومنسوب العداء للفلسطينيين والمنطقة.

الصهيونية تجيد حل المشاكل التي هي المسبب الأساسي في انتاجها، وتدافع عن اليهود وتزج بهم في خطر في آن واحد، وتسعى لتطبيع حياة اليهود، وفي الوقت نفسه للإبقاء على اعتبارهم حالة استثنائية، داخل التاريخ، وفوق التاريخ حينا آخر.

إن الحرب الأخيرة المستمرة منذ عامين على غزة بداية، وعلى لبنان وإيران لاحقاً، كشفت قوة إسرائيل وهشاشتها في الوقت نفسه، فكشفت أنها متفوقة تكنولوجياً وعسكرياً، لكنها كشفت أيضاً أنها غير قادرة على حماية نفسها بالمطلق، وأن الصواريخ قد تهطل على تل أبيب، وكشفت أن التكنولوجيا العسكرية لا تستطيع أن تكون جواباً عن الأسئلة كلها، ولا حلاً لجميع المعضلات، ولا يوجد إسرائيلي عاقل يعتقد أن الحرب الأخيرة على إيران، قد جلبت الأمن لإسرائيل عدواً جديداً من الحجم الثقيل اسمه ايران، ينهي زريق دراسته بالسؤال حول معنى وجود اليهود في المشرق العربي؟، وهل تم فتحه مجدداً، وهذا يشكل تحدياً لا لإسرائيل فقط، بل للمثقف العربي أيضاً.

مقالات مشابهة

  • ارتفاع حصيلة الإبادة الصهيونية على غزة إلى 70,360 شهيدًا
  • مظاهرة في برلين تضامناً مع فلسطين ورفضاً للإبادة الصهيونية
  • معركة حمص.. بين الحرب النفسية والميدان حتى لحظة التحرير
  • ارتفاع حصيلة الإبادة الصهيونية على غزة إلى 70,354 شهيدًا و 171,030 مصابًا
  • الصهيونية في طور التشكل.. قراءة تاريخية وفكرية في إسرائيل المعاصرة
  • تجبر ما وقعت فيه من ذنوب.. خطيب المسجد الحرام: هذه أعظم الأعمال وأسهلها
  • المدعي العام الأمريكي: تكثيف التحقيقات ضد أنتيفا والمنظمات المتطرفة
  • اغتيال ياسر أبو شباب في كمين محكم لـ “كتائب القسام” جنوب غزة
  • مصدر: اغتيال ياسر أبو شباب تم بكمين محكم لـ “كتائب القسام”
  • بعضهم شارك في تسليم أسير إسرائيلي… كيف تخفَّت عناصر «حماس» في أنفاق رفح؟