مخاوف إسرائيل من النفوذ التركي في سوريا
تاريخ النشر: 9th, April 2025 GMT
يطلق المسؤولون الإسرائيليون في الأيام الأخيرة تصريحات يعبرون فيها عن استيائهم من تصاعد النفوذ التركي في بلاد الشام، في ظل أنباء تتحدث عن استعداد تركيا لإنشاء قواعد عسكرية بالقرب من حدود سوريا مع فلسطين المحتلة ونشر أنظمة دفاع جوي فيها، كما تتطرق وسائل الإعلام الإسرائيلية كل يوم إلى احتمال وقوع مواجهة عسكرية مع تركيا في الساحة السورية.
الجيش الإسرائيلي شن الأسبوع الماضي غارات جوية على قاعدتين ومواقع للبنية التحتية العسكرية في دمشق وحماة وحمص، كما توغلت قوة إسرائيلية بريف درعا الغربي، واستشهد وأصيب في تلك الهجمات عدد من المدنيين السوريين. وحذر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس؛ الرئيس السوري أحمد الشرع، وقال له في تعليقه على الهجمات: "ستدفع ثمنا باهظا، إذا سمحت للقوات المعادية بدخول سوريا وتهديد مصالح الأمن الإسرائيلي". وكان وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، أكثر وضوحا من كاتس في الإشارة إلى هدف الضربات الجوية والمقصود بالقوات المعادية، حين قال إن إسرائيل قلقة من "الدور السلبي" الذي تلعبه تركيا في سوريا ولبنان ومناطق أخرى، مضيفا أن الأتراك يبذلون قصارى جهدهم لجعل سوريا "محمية تركية"، على حد تعبيره.
من المحتمل أن تتوصل أنقرة وتل أبيب إلى تفاهمات معينة، إلا أن فكرة تقاسم النفوذ لا يمكن أن تقبلها تركيا بأي حال لعدة أسباب، أولها أنها تؤدي إلى تقسيم سوريا وهو ما ترفضه أنقرة جملة وتفصيلا. ومن غير المتوقع أيضا أن تتراجع تركيا عن دعم سوريا، خوفا من التهديدات الإسرائيلية
إسرائيل كانت وما زالت تريد أن تبقى سوريا ضعيفة ومقسمة لتستنزف بمشاكلها الداخلية، كما كانت تفضل بقاء النظام السوري. ومن المؤكد أن سقوط النظام وخروج روسيا من سوريا أربك حساباتها الاستراتيجية، وتريد الآن أن تملك حرية العربدة في الأراضي السورية كما تشاء، وترى أن وجود القوات التركية بالقرب من حدودها سيؤدي إلى تقييد تلك الحرية التي تعتبرها ضمن حقوقها الطبيعية. وتخشى أيضا من تشكيل جيش قوي في سوريا يحمي أمنها القومي، بدلا من حماية دكتاتورية تعتمد على الأقلية العلوية وتعادي الأكثرية السنية.
لا أحد يستطيع أن ينكر دور تركيا في نجاح الثورة السورية، إلا أن تركيا لا تسعى إلى السيطرة على سوريا أو أي جزء منها، أو تحويلها إلى "محمية تركية" كما تروج إسرائيل، أو حتى فرض وصاية على إرادة شعبها. بل تقول إن "سوريا للسوريين"، وتحترم سيادتها، وتدعم سعي السوريين إلى حماية وحدة أراضي بلادهم، وترى أن تحقيق الأمن والاستقرار في سوريا لصالح أمنها القومي، ولا تخطط أن تحوِّل الأراضي السورية إلى ساحة صراع مع إسرائيل أو أي دولة أخرى. وأما الوجود العسكري التركي وإبرام اتفاقيات لإقامة قواعد عسكرية في سوريا أو تدريب الجيش السوري وتسليحه، فيعود القرار فيه أولا وأخيرا إلى الحكومة السورية الشرعية التي تمثل الإرادة الشعبية، ولا يحق لأحد أن يتدخل فيه.
وفي إطار هذه الرؤية الإستراتيجية، يؤكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن "تركيا لا تريد أي مواجهة مع إسرائيل في سوريا، وأن الإدارة الجديدة في دمشق إن كانت ترغب في التوصل إلى تفاهمات معينة مع إسرائيل فهذا شأنها الخاص".
إسرائيل تعرف أن الجيش التركي ثاني أكبر جيش في حلف شمالي الأطلسي "الناتو" بعد الجيش الأمريكي، وأنه يملك قدرات وخبرات عسكرية لا يمكن أن تستهين بها. ومن منطلق هذه المعرفة، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال زيارته للبيت الأبيض، إنهم لا يريدون مواجهة تركيا في سوريا. وطلب نتنياهو وساطة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لحل مشاكل إسرائيل مع تركيا واستخدام علاقاته مع أردوغان للحد من النفوذ التركي في سوريا، إلا أن ترامب دعاه إلى التصرف بــ"عقلانية"، كما أشاد بالرئيس التركي قائلا إنه أنجز شيئا لم يسبق إليه أحد، في إشارة إلى نجاح الثورة السورية في إسقاط نظام الأسد بدعم تركيا.
تحاول الإدارة الأمريكية أن تطمئن إسرائيل، إلا أن مخاوف الأخيرة على مستقبلها لا يمكن أن تزول، على الرغم من كل رسائل التطمين، لأنها رأت بأم عينها كيف نجحت الشراكة التركية السورية التي تجسدت في تجربة إدلب، في اقتلاع النظام البائد ولو بعد عقد من الزمن
حكومة نتنياهو تريد أن تعرض على تركيا تقاسم مناطق النفوذ في سوريا، لتكون روسيا في الساحل الغربي وتركيا في الشمال وإسرائيل في الجنوب والولايات المتحدة في الشرق الغني بالنفط. كما تسعى إلى التواصل مع أنقرة عبر وسائل دبلوماسية ووساطة دول لديها علاقات جيدة مع إسرائيل وتركيا، مثل الولايات المتحدة وأذربيجان والمجر، لتفادي وقوع مواجهة عسكرية بينهما في سوريا.
ومن المحتمل أن تتوصل أنقرة وتل أبيب إلى تفاهمات معينة، إلا أن فكرة تقاسم النفوذ لا يمكن أن تقبلها تركيا بأي حال لعدة أسباب، أولها أنها تؤدي إلى تقسيم سوريا وهو ما ترفضه أنقرة جملة وتفصيلا. ومن غير المتوقع أيضا أن تتراجع تركيا عن دعم سوريا، خوفا من التهديدات الإسرائيلية، لأن الظروف الإقليمية الراهنة والمصالح المشتركة والتحديات التي يواجهها كلا البلدين الجارين (سوريا وتركيا) تفرض عليهما ضرورة التنسيق والتعاون في كافة المجالات.
تصريحات ترامب، بغض النظر عن صحة ما قاله حول مدى إعجابه بأردوغان وإعجاب أردوغان به وسيطرة تركيا على سوريا، تشير إلى ضوء أخضر أمريكي للنفوذ التركي في سوريا. وتحاول الإدارة الأمريكية أن تطمئن إسرائيل، إلا أن مخاوف الأخيرة على مستقبلها لا يمكن أن تزول، على الرغم من كل رسائل التطمين، لأنها رأت بأم عينها كيف نجحت الشراكة التركية السورية التي تجسدت في تجربة إدلب، في اقتلاع النظام البائد ولو بعد عقد من الزمن.
x.com/ismail_yasa
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الإسرائيليون النفوذ تركيا سوريا سوريا إسرائيل تركيا نفوذ مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مع إسرائیل لا یمکن أن الترکی فی ترکیا فی فی سوریا إلا أن
إقرأ أيضاً:
تقاسم مناطق النفوذ.. كيف يغير ترامب النظام الدولي؟
تُثير السياسات الداخلية والخارجية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، جدالات واسعة في العالم، فقد اتخذ سلسلة من المراسيم الرئاسية والأوامر التنفيذية التي مثلت تحدياً لعديد من الأفكار والممارسات الأمريكية التقليدية. ومع أن سياسة ترامب الخارجية لم تستقر معالمها بعد، فقد اقترح عدد من المعلقين أن الرئيس الأمريكي الحالي يُعيد إحياء سياسة تقسيم مناطق النفوذ في العالم بين الدول الكبرى، فيما يشبه ما حدث في مؤتمر “يالطا”، وهو المؤتمر الذي انعقد بمدينة يالطا السوفيتية في فبراير 1945، وحضره آنذاك الرئيس الأمريكي، ثيودور روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني، وينستون تشرشل، والزعيم السوفيتي، جوزيف ستالين، كإحدى حلقات الاتفاق على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تم فيه التوافق بين الدول الثلاث على تقسيم مناطق النفوذ في أوروبا بين الغرب والاتحاد السوفيتي، وذلك على شاكلة توزيع مناطق النفوذ بين القوى الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
صفقة كبرى مع روسيا!
تنبأ أولئك المعلقون بأن هناك في الأفق “صفقة كبرى بين أمريكا ترامب وروسيا بوتين”، ووصفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية المكالمة الهاتفية بين الرئيسين في 18 مارس 2025، بأنها “لحظة يالطا الخاصة بهما”. وفي هذا الإطار، تخوف الأوروبيون من أن تكون المكالمة هي بداية لرسم خريطة جديدة للنفوذ في أوروبا، وتقسيم مجالات أو مناطق النفوذ بين واشنطن وموسكو. ويستندون في ذلك إلى القبول الضمني لإدارة ترامب بفكرة أن لكل قوة كبرى منطقة نفوذ خاصة بها.
وتتمثل مظاهر هذه الفكرة في أوروبا، في التقارب الأمريكي مع روسيا وعدم اعتبارها عدواً أو المصدر الرئيسي لتهديد القارة العجوز، والذي ظهر في اتصال الرئيسين ترامب وبوتين هاتفياً ثلاث مرات في 12 فبراير و18 مارس و19 مايو 2025، استعادا فيها العلاقة التي نشأت بينهما خلال سنوات الولاية الرئاسية الأولى لترامب. واستمرت المكالمة الأولى لتسعين دقيقة، وحسب بيان البيت الأبيض عن المكالمة، فإنها تناولت سُبل إنهاء الحرب الأوكرانية وموضوعات أخرى مثل الطاقة والذكاء الاصطناعي. أما المكالمة الثانية، فقد استمرت لما يزيد على ساعتين، وهي أطول مكالمة هاتفية بين ترامب وبوتين، وتناولت تحسين العلاقات الثنائية، وتنسيق المواقف بينهما بشأن امتلاك إيران للسلاح النووي، وتعليق الضربات الروسية على البنية التحتية الأوكرانية تمهيداً لبدء عملية تفاوضية لوقف إطلاق النار.
ووصف ترامب المكالمة الثالثة مع بوتين، التي استمرت نحو ساعتين، بأنها “ممتازة”، مؤكداً بعدها أن روسيا وأوكرانيا ستباشران فوراً مفاوضات للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. كما وصف بوتين هذا الاتصال بأنه “مفيد جداً”، مبدياً استعداد موسكو للعمل مع كييف على “مذكرة تفاهم” بشأن “اتفاقية سلام مُحتملة”، ومشدداً على الحاجة إلى إيجاد تسويات لدى طرفي النزاع.
وبعيداً عما تم الإعلان عنه، هناك ما يُشير إلى وجود مساحة تقارب بين الرئيسين الأمريكي والروسي للعمل المشترك، عبّر عنها الرئيس بوتين في تصريح له يوم 14 مارس الماضي، عندما وصف ترامب بأنه “ذكي وعملي” ويمتلك الخبرة والقدرة على إيجاد حلول. وتجلى هذا التقارب أيضاً في خطاب نائب الرئيس الأمريكي، جي دي فانس، في مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير الماضي، الذي أشار فيه إلى أن مصدر التهديد لأوروبا ليس روسيا أو الصين أو أي مصدر خارجي آخر، وتابع: “الذي يقلقني أكثر من أي شيء آخر.. التهديد من الداخل الذي يتمثل في تراجع أوروبا عن بعض قيمها الأساسية”.
وأثارت هذه الكلمات حفيظة الحكومات الأوروبية؛ لكنها أدركت الرسالة التي تبعثها واشنطن، ومؤداها أن الأخيرة ليست مستعدة لاستمرار الدعم العسكري لأوكرانيا إلى ما لا نهاية، أو الدخول في مواجهة مفتوحة مع روسيا بهذا الشأن، وأنه من الممكن بدء المفاوضات بين موسكو وكييف للوصول إلى وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، وهو ما بدأت تباشيره في الاجتماع الذي انعقد بين الطرفين في إسطنبول، يوم الخميس 15 مايو 2025. وعلى الرغم من الصعوبات التي أحاطت بهذا الاجتماع، فقد أسفر عن الاتفاق على تبادل ألف سجين من كلا الطرفين. وترافق ذلك مع تصريح الرئيس ترامب من أبوظبي، خلال جولته الخليجية، بأنه لن يحدث حل قبل لقائه مع بوتين.
وينطلق الحل الذي يقترحه ترامب من الإقرار بالأمر الواقع، وحقيقة ضم روسيا لشبة جزيرة القرم بعد حرب عام 2014، وسيطرتها على الأقاليم الأوكرانية الأربعة بعد الحرب الدائرة، والتي بدأت في فبراير 2022. كما ينطلق من قبول فكرة عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” باعتباره استفزازاً غير مطلوب لروسيا.
وفي المقابل، دار حديث بين واشنطن وموسكو حول مستقبل العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فزار المبعوث الاقتصادي الروسي، كيريل ديميرتيف، واشنطن في إبريل 2025، لبحث موضوعات اقتصادية شتى، منها فرص التعاون في مجال المعادن النادرة، والطاقة في القطب الشمالي، وعودة الشركات الأمريكية إلى العمل في السوق الروسية. فيما وقّعت الولايات المتحدة وأوكرانيا، في 30 إبريل الماضي، اتفاقية استثمار المعادن النادرة التي قضت بإنشاء صندوق استثماري مشترك لإعادة إعمار أوكرانيا واستغلال مواردها الطبيعية، على أن تقوم الشركات الأمريكية بالتنقيب والبحث عن هذه المعادن ويتم تقسيم الأرباح مناصفة. ورفضت واشنطن طلب كييف بتقديم ضمانات أمنية لها، واعتبرت أن وجود شركاتها ومهندسيها ومعداتها على الأرض هو ضمان كافٍ لأمن أوكرانيا.
العلاقات مع الصين:
من مظاهر سياسة تقسيم مناطق النفوذ في آسيا، العلاقات الأمريكية مع الصين. فمع أن ترامب يستخدم لهجة حادة معها، إلا أن مبدأ الواقعية الذي يلتزم به نهجاً وسلوكاً، وإدراكه لحقائق القوة الصينية وتقدمها التكنولوجي والعسكري؛ يجعل إدارته تبعث بإشارات عن الرغبة في إعادة ترتيب العلاقات بين البلدين بطريقة تُحافظ على توازن القوى، بما يتحاشى الدخول في صدام مباشر.
ومن أمثلة ذلك، ما حدث بشأن الرسوم الجمركية. فعندما ردت الصين برفع الرسوم على الواردات الأمريكية، فرض ترامب رسوماً إضافية بلغت 145%، وهو ما ردت عليه بكين أيضاً. وأدرك ترامب أن هذا الموقف لا يُمكن استمراره، فدعا إلى مفاوضات مع الصين، انتهت بتوقيع اتفاقية في جينيف شارك فيها وفدان برئاسة وزير الخزانة الأمريكي ونائب رئيس الوزراء الصيني، وأسفرت عن توقيع اتفاقية يوم 12 مايو الجاري، وضعت الأسس لإنهاء الخلافات التجارية بين البلدين.
ولا توجد مؤشرات علنية عن موقف الصين تجاه هذا الموضوع، ويؤكد خطابها السياسي في المناسبات كافة رفض تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين القوى الكبرى، ويعتبر أن مثل هذه المفاهيم من الموروثات الاستعمارية التي ينبغي رفضها وعدم قبولها، وأن اكتساب النفوذ يكون من خلال الاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجية، وليس عبر التحالفات العسكرية والاقتصادية التقليدية. وفي المُقابل، هناك من يرى أن السلوك الصيني في الممارسة يسعى إلى إبعاد الوجود البحري الأمريكي عن منطقة بحر الصين الجنوبي باعتبارها منطقة مصالح وأمن مباشرة لها، في الوقت الذي ترفع فيه شعار حرية التجارة.
تجاهل سيادة الدولة:
من تجليات موقف ترامب أيضاً، عدم تقديره لمبادئ سيادة الدولة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، واحترام حدودها الدولية. والذي ظهر في عديد من مواقفه وتصريحاته، مثل الحديث عن كندا باعتبارها الولاية 51 في الاتحاد الأمريكي، والمطالبة باستعادة قناة بنما، وضم جزيرة غرينلاند الدنماركية، وامتلاك قطاع غزة، وطلب مرور السفن الأمريكية في قناة السويس من دون دفع رسوم.
وتفصح هذه المواقف عن ازدراء ترامب لقواعد القانون الدولي ومبدأ سيادة الدولة، وتفتح الباب لسياسات الدول الكبرى لاقتسام مناطق النفوذ في العالم. ومن الأرجح أن هذا المسار يبدو أكثر جاذبية لترامب بدلاً من الصراع والمواجهة، خاصةً مع إدراكه أنه قد حدث تراجع في قوة الولايات المتحدة؛ بسبب السياسات الخاطئة التي اتبعتها الإدارات السابقة، وأنها تحتاج إلى فترة من التهدئة الدولية تستعيد فيها عناصر قوتها الاقتصادية.
وقد يؤدي مسلكه هذا إلى تشجيع القوى الإقليمية على توسيع نفوذها بناءً على حجج تاريخية. ومن ذلك مثلاً، ما دعا إليه رئيس الوزراء ووزير الخارجية التركي الأسبق، أحمد داوود أوغلو، في 12 فبراير الماضي، في اجتماع للكتلة البرلمانية لحزب “طريق جديد”، عندما ذكر أن الإمبراطورية العثمانية كانت آخر دولة حكمت قطاع غزة بطريقة شرعية، وتابع قائلاً: “ما زال الفلسطينيون يحملون الهوية العثمانية في وجدانهم وتاريخهم”. كما طالب بإعادة ربط قطاع غزة بالجمهورية التركية كمنطقة تتمتع بالحكم الذاتي.
تراجع الالتزامات الدولية:
أعادت واشنطن النظر في بعض التزاماتها الدولية، مثل الانسحاب من معاهدة باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتراجع الاهتمام بالمنظمة الدولية عموماً، وفرضت عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بدعوى انخراطها في أعمال “مُعادية للسامية”؛ مما يعني ابتعاد واشنطن عن النظام الدولي متعدد الأطراف الذي قامت بدور قائد في إرساء أركانه بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن أمثله ذلك، قرارات ترامب الأحادية برفع الرسوم الجمركية في عام 2025، متجاوزاً في ذلك قواعد المنظمات الاقتصادية الدولية وعلى رأسها منظمة التجارة الدولية، واعتباره أن الدفاع عن أوروبا وحماية أمنها هو مسؤولية الدول الأوروبية نفسها؛ مما يؤدي إلى إضعاف حلف الناتو الذي ضمن أمن المنطقة الأطلسية على مدى أكثر من 75 عاماً، ويُعرض الأمن الجماعي للخطر في أوروبا الشرقية وآسيا، فضلاً عن إعلان الولايات المتحدة عزمها تخفيض عدد قواتها المسلحة في سوريا من ألفي جندي إلى نحو900 تقريباً في الأشهر القليلة المقبلة. وهكذا، فإن ترامب يُفضل بوضوح إبرام الاتفاقيات الثنائية مع الدول، بديلاً عن الالتزامات الجماعية متعددة الأطراف.
وسوف يكون من شأن سلوك ترامب، تأكيد مبدأ استخدام القوة في العلاقات بين الدول، وهو ما أسماه باستراتيجية تحقيق “السلام من خلال القوة”. وكذلك تغير الدور التقليدي للولايات المتحدة كضامن للنظام الدولي القائم على قواعد نظام الأمم المتحدة، كما أنه سوف يُوجد مجالاً للقوى الدولية الكبرى الأخرى والقوى الإقليمية لتعزيز نفوذها في مناطق العالم. وفي حالة حدوث ذلك؛ فإنه يضع الدول الصغيرة في موقف صعب للغاية في مواجهة تدخلات أطراف إقليمية ودولية أكبر وأقوى، ويحرمها من المساندة المعنوية التي كان يوفرها النظام الدولي، وذلك في سياق يتسم بازدياد احتمالات الفوضى الدولية.
وإذا كان من الأرجح أن يستمر ترامب في سياسة تقاسم مناطق النفوذ مع القوى الكبرى، فإن السؤال هو إلى أي مدى سوف تجاريه موسكو وبكين في هذا الشأن؟
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”