إنَّ النَّشاطاتِ الشَّعبيةَ الاحتجاجيَّةَ تمثّلُ في حقيقة الأمر إعصارا عاتيا لا يقتلع الأشجار، ولا يخرب البيوت والممتلكاتِ، بل يبني ويسقي ويُنمي، ويحرِّر ويغيّر، بعد أن يئس الناس من التغيير، وهو الإعصار الذي يحقِّق النهوضَ الحضاريَّ للأمّة الذي لا يتمُّ من غير التفاعل الحقيقي للجماهير العريضة.

ويمكن تعريف النَّشاطات الاحتجاجيَّة بأنَّها: "القيام بأفعالٍ معينةٍ أو الامتناعُ عن أفعالٍ معينةٍ تنفِّذها الشعوب رفضا واستنكارا ومعارضة لواقعٍ معيّنٍ بحركةٍ وثّابةٍ تسعى إلى التغيير، وتبذل التضحياتِ، واعية تحافظ على سلميّةِ تحركِّها وتضبط مشاعرها، مستمرة حتى تحقيقِ مطالبها".



وفي الحقيقة فإنَّ النَّشاطات الشَّعبيَّة الاحتجاجيَّة معروفةٌ في علم السِّياسة المعاصر، تحت مصطلحات متنوعة أشهرها "المقاومةُ المدنيّة". وقد سعى السّياسيون في العالم لتعريف المقاومة المدنيِّة بتعريفاتٍ متعدِّدةٍ، ومن هذه التَّعريفات ما ذكره عبد الهادي خلف في كتابه "المقاومة المدنية" إذ يقول: "يعرّف روبرتس المقاومة المدنية بأنّها: نوعٌ من السّلوك اللاعنفي الذي يَشمل سلسلة من الإجراءات المستمرّة والدؤوبة والمنسَّقة ضدَّ قوةٍ أو سلطةٍ معينةٍ، ومن هنا فمن الضّروري تسميتُها بالمقاومة، أمّا تسميتها بالمدنية فيعني من جهة ارتباطها بالمواطنين وبالمجتمع، ومن الجهة الأخرى كونها سلميّة حضارية غيرَ عسكريةٍ ولا عنفيةٍ بطبيعتها".

كما يعرِّف د. عبد الهادي خلف نفسه المقاومة المدنية بأنَّها: "فعلٌ إيجابيٌّ يتطلَّب مثابرة وتخطيطا دقيقا، كما يتطلّب تنفيذا شجاعا وقدرة على التحمّل والإصرار على الاستمرار، كما تتطلَّب توفّرَ القدرة على اتخاذ المبادرات، ضمن خطّة موضوعة مسبقا ومتّفقٍ عليها، تأخذ بعين الاعتبار الطَّاقاتِ الفعليَّةَ والكامنةَ لدى الأهالي ولدى العدوّ؛ وتأخذ بعين الاعتبار كذلك التَّغيُّراتِ الطارئةَ على الموقف".

مستلزمات النشاطات الاحتجاجية

وبناء على ما تقدّم من التعريفات فإنَّ النَّشاطات الاحتجاجيَّة أو ما يعرِّفه السياسيون بالمقاومة المدنية ينبغي أن تشتمل على مستلزماتٍ لضمان استمرارها وبقائها ونجاحها؛ فهي:

أولا: تستلزم تحليلا دقيقا وواقعيا لمختلف جوانب الوضع القائم، ويشمل هذا التحليل:

أ- ميزانَ القوى بين المعارضة والطَّرف الآخر سلطة كان أو عدوّا.

ب- تشخيصا دقيقا للقوى المعارضة والموالية واحتمالات انخراطها في الصِّراع وحجمه.

جـ- تحديدَ العوامل الذَّاتيَّة والموضوعيَّة التي يمكن أن تؤثِّر سلبا أو إيجابا في ميزان القوى وفي الصّراع المحتمل.

د- تحديدَ العوامل المؤاتية أو المعرقلة لنموِّ واتِّساع حركة نشاطها.

ثانيا: تستلزم المقاومة المدنية تخطيطا للنَّشاطات التي يمكن لأفرادها القيام بها وتحديدا لمجالاتها؛ لتحاشي هدر الجهود وتشتيت الطَّاقات، ولضمان أكبر مردودٍ ممكنٍ من كلّ نشاطٍ تقوم به المقاومة، ويشمل التَّخطيط تحديد الوسائل الأكثرِ تأثيرا والأوسعِ قَبولا لدى الجمهور، بحيث تضمن المقاومة المدنيّة استمرارها واستمرار التزام الجمهور بها، علاوة على ضمان تحاشي اللجوء إلى استخدام أساليبَ ووسائلَ لا تتلاءم مع صالح حركة المقاومة.

ثالثا: تستلزم المقاومة المدنية استعداداتٍ تعبوية في الفترة السابقة لانطلاقها لحشدِ الجمهور، وتسهيلِ تقبلِّه لها، وانخراطهِ فيها.

رابعا: تستلزم المقاومة المدنيَّة جهودا تعبوية كبيرة في الفترة التَّالية لانطلاقها؛ بحيث يُحافظ على قوة الدفع لدى المقاومة وضمان استمرار التزام الجمهور بها وتأكيد مصداقيتها بوصفها حركة تُمثّل مصالح الغالبية وتعكس طموحاتِهم. ولهذه الجهود التعبويَّة أهميّةٌ خاصّةٌ وحيويةٌ بالنسبة للمقاومة، وذلك عندما تقوم السُّلطة أو العدوّ باتِّخاذ إجراءاتها المضادّةِ سواء ضدَّ الجمهور أو ضدّ قيادة المقاومة وكوادرها؛ إذ تؤدّي هذه الجهود التعبوية في هذه الحالة إلى امتصاص آثار الإجراءات المضادة وتضمن استمرار المقاومة وتوسّعَها.

صفات النَّشاطات الاحتجاجيِّة

ولا بُدَّ للنَّشاطات الاحتجاجيَّة لضمان نجاحها واستمرارها واتصافها بأنّها شعبيةٌ وجماهيريةٌ أن تتحلّى بالصفات التالية:

أولا: النِّضاليَّة: وتعني الاستعدادَ للمبادرة والعمل في سبيل الأهداف والمُثل التي تتبّناها هذه النَّشاطاتُ وأفرادُها، كما تعني الاستعدادَ للتضحية وتحمّلِ الصعاب وردود الفعل التي يقوم بها العدوّ، وتزداد نضاليّة المنخرطين في هذه النَّشاطات الاحتجاجيَّة وضوحا من خلال كونها ناجمة عن اختيارهم الطَّوعي وليست نتيجة لتجنيدٍ إجباريٍّ أو تحت ضغط من عواملَ خارجيَّةِ قسريَّةٍ، كما قد يكون الحال في الحروب العسكريَّة النِّظاميَّة أو شبه النِّظاميَّة.

ثانيا: الانضباط: ويعني القدرة على ضبط النَّفس والمشاعر والنَّزوات، علاوة على القدرة على عدم الانجرار وراء محاولات العدوّ لاستفزاز حركة النَّشاطات الاحتجاجيَّة أو المقاومة المدنيَّة أو أفرادها لاتخاذ مواقفَ غيرِ مدروسةٍ أو مخطّطٍ لها، ممّا قد يحوِّلها عن أهدافها الحقيقية أو يزجُّها في نزاعاتٍ داخليةٍ تؤثِّر في وحدة صفوفها.

ثالثا: المرونة: وتعني القدرةَ على الإبداع التَّنفيذي في إطار الخطَّة الموضوعة مسبقا؛ بهدف إعطاء النَّشاط الاحتجاجي أكبر قدر ممكن من التَّأثير في مواقع العدوّ أو معنوياته، أو -في المقابل- الإسهامَ في تحسين مواقع المقاومة المدنيَّة والنَّشاطات الاحتجاجيَّة ورفع معنويَّات أفرادها، وبهذا المعنى فإنَّ المرونة لا تعني اتخاذ مواقفَ أو القيامَ بنشاطاتٍ لا تتلاءم مع الخطة المتّفقِ عليها مسبقا.

رابعا: الاستمراريَّة: وتعني القدرة على وضع الخطط التَّفصيليّة التي تستطيع ضمان انخراط المزيد من أفراد الجمهور في النَّشاطات الاحتجاجيَّة، علاوة على كونها تستطيع ضمان توسّع مجالاتها في ذلك النَّشاط. وتتطلب الاستمراريَّة تحاشي البدء بأعمالِ مواجهةٍ كبرى ذاتِ طابعٍ استعراضيٍّ محضٍ، ممّا قد يخيف أفراد الجمهور، أو يتسبَّب في إجراءاتٍ مضادّةٍ تقوم بها السلطة وتؤدِّي إلى إجهاض حركة النَّشاطات الاحتجاجيَّة في مهدها قبل أن يشتدَّ عودُها. علاوة على ذلك، تتطلَّب الاستمراريَّة تدرُّجا مدروسا في حركة هذه النَّشاطات ومجالاتها، وأنْ يأخذ هذا التَّدرجُ بعين الحُسبان استعداداتِ الجمهور وقدراتِه الماديةَ والمعنويةَ.

خامسا: الفاعليَّة: وتعني القدرة على وضع الخطة العامَّة لحركة النَّشاطات الاحتجاجيَّة وخططها التَّفصيليَّة؛ لتحاشي هدر الجهود وتشتيت الطَّاقات، ولتستطيع المقاومة المدنية تركيز نشاطاتها الاحتجاجيَّة بشكلٍ أساسيٍّ في المجالات الحسَّاسة بالنِّسبة للعدوّ، وعبر القيام بالنَّشاطات الاحتجاجيَّة التي تمسُّ مصالحه مسّا مباشرا أو التي تُحدث أكبر تأثيرٍ معنويٍّ في مواقعه ومعنوياته.

هذه أهم مستلزمات النشاطات الشعبية الاحتجاجيّة وصفاتها التي ينبغي أن تكون نصب أعين المشاركين في الاحتجاجات ومنظميها لتورق وتزهر وتثمر، بدل أن تكون زوبعة عابرة في فنجان يتيم.

x.com/muhammadkhm

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء المقاومة المدنية النشاطات الاحتجاجية مقاومة احتجاج سلمية مدني نشاط قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المقاومة المدنیة المقاومة المدنی القدرة على علاوة على

إقرأ أيضاً:

حكومة الإمارات تصدر مرسوماً بقانون اتحادي بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات المدنية

أصدرت حكومة الإمارات مرسوماً بقانون اتحادي، يقضي بتعديل عدد من أحكام قانون الإجراءات المدنية، في خطوة متقدمة تهدف إلى تطوير البنية الإجرائية للقضاء المدني، وتعزيز كفاءة مراحل التقاضي، وتحسين جودة العمل القضائي، بما يلبي احتياجات العدالة المعاصرة. شمل التعديل تنظيم إنشاء دوائر التركات على نحو مباشر، من خلال قرار يصدر عن رئيس مجلس القضاء الاتحادي أو رئيس الجهة القضائية المحلية، دون اشتراط اتفاق الخصوم، الأمر الذي يسهم في تسريع الفصل في منازعات التركات، وتبسيط إجراءاتها. كما أجاز القانون إنشاء دوائر خاصة لنظر دعاوى مدنية أو تجارية محددة، بناءً على طلب أو اتفاق أطراف الدعوى، مع خضوع هذه الدوائر للأحكام الإجرائية ذاتها، في خطوة تعزز التخصص القضائي، وترفع من كفاءة إدارة المنازعات. كما عزز التعديل على القانون دور الخبرة الفنية في دعم الفصل القضائي، وذلك بتمكين الدوائر المختصة من الاستعانة بخبراء محليين أو دوليين لإعداد أو مراجعة تقارير الخبرة، مع منحها سلطة مناقشة هؤلاء الخبراء وتكليفهم باستكمال النقص أو تصحيح الأخطاء، بما يضمن صدور قرارات تستند إلى تقارير فنية دقيقة وموثوقة. وفي إطار الارتقاء بمستوى الضبط الإجرائي، شملت التعديلات على القانون إلزام مقدم الاستئناف بأن يضمن صحيفة استئنافه بيان الحكم المستأنف وتاريخه، وأسباب الطعن والطلبات، ورتب على الإخلال بهذا الالتزام الحكم بعدم قبول الاستئناف، منهياً بذلك الممارسة السابقة التي كانت تسمح باستكمال أسباب الاستئناف في الجلسة الأولى، وبما يعزز جدية الطعون، واحترام المواعيد الإجرائية. كما جاءت التعديلات على القانون لتُحدث تحولاً مهماً في نظام الطعن بالنقض، إذ أصبح هذا الطعن متاحاً في القرارات الصادرة من محاكم الاستئناف إلى جانب الأحكام، بعدما كان مقصوراً في النص السابق على الأحكام وحدها، مما يوسع نطاق الرقابة القضائية ويمنح المتقاضين ضمانات أوسع في مواجهة القرارات المؤثرة، هذا بالإضافة إلى إعطاء النائب العام صلاحية الطعن بالنقض من تلقاء نفسه، أو بناءً على طلب وزير العدل أو رئيس الجهة القضائية المحلية، حتى في الحالات التي لم يباشر فيها الخصوم حقهم في الطعن أو فوتوا مواعيده، وهو ما يعزز حماية النظام القانوني، ويضمن عدم إفلات القرارات المخالفة للقانون من الرقابة القضائية. وباعتماد هذه التعديلات، تؤكد دولة الإمارات حرصها على تطوير منظومتها القضائية، وفق أرقى المعايير التشريعية، وترسيخ مفهوم العدالة الناجزة، وتعزيز ثقة المتقاضين بالقضاء، في مسار ثابت نحو بناء بيئة قانونية راسخة تدعم التنمية وتحمي الحقوق، وتواكب مسيرة التطور التشريعي في الدولة.

أخبار ذات صلة الإمارات: ملتزمون بتعزيز الجهود الدولية للاستجابة للأزمات فريق الإغاثة الإماراتي يواصل جهوده في سريلانكا المصدر: وام

مقالات مشابهة

  • الأحوال المدنية: 3 حالات لتغيير الصورة في الهوية
  • أوكرانيا: روسيا استهدفت عمدا الخدمات اللوجستية المدنية
  • عادل نعمان: النجاة من التطرف تتطلب التمسك بمبدأ الدولة المدنية
  • الأحوال المدنية توضح طريقة تعديل الطول والوزن المسجلين
  • رئيس هيئة الدواء يبحث مع شركات صينية تعزيز الابتكار في قطاع المستلزمات الطبية
  • بالتعاون مع النيابة العامة.. مصلحة الأحوال المدنية تعتمد مشروع “الانطلاقة” لضبط شبهات التزوير
  • بالوثيقة..نواب يوقعون مذكرة تطالب بمناقشة ملف مستخدمي «الخدمة المدنية» في الأمن العام
  • حكومة الإمارات تصدر مرسوماً بقانون اتحادي بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات المدنية
  • وقف ترقية الموظفين في قانون الخدمة المدنية لتلك الحالات
  • حين تُختطف الحريّة من معناها.. قراءة فلسفة الانعتاق وتحريف المفهوم عن مواضعه