د. مريم محمد عبدالله وقيع الله

1. مقدمة
بعد عامين على اندلاع الحرب في الخرطوم، تجلّت الأزمة السودانية في أقسى صورها، بانفجار العنف من مركز الدولة، كاشفًا عن التناقضات البنيوية المتراكمة تحت سطح استقرار هش. لم تكن الحرب مفاجئة في سياق دولة تأسست على التسلط والإقصاء، بل كانت ذروتها المنطقية، حيث انفجرت التوترات التاريخية والاجتماعية والسياسية في قلب المدينة التي لطالما كانت مرآة للسلطة ومسرحًا لعنفها الرمزي والمادي.

فمنذ الاستقلال، مثّلت الخرطوم تجسيدًا لدولة ما بعد الاستعمار التي احتكرت فيها النخب السلطة، ورسّخت التمييز عبر سياسات تخطيط وتنمية عمقت التهميش حتي داخل المدينة نفسها. فبينما تمتعت نخب معينة بالامتيازات، ظلت الفئات المهمشة محاصرة في أحياء الفقر ومعرّضة للعنف.
ورغم هذه البنية المشوهة، شكّل الحراك الثوري لحظة مقاومة كشفت عن وعي جمعي ضد التمييز، لكنه لم يصمد أمام التناقضات البنيوية التي مهّدت لانفجار الصراع المسلح في الخرطوم. فالحرب لم تكن مجرد صراع جنرالات، بل لحظة انكشاف شامل لأزمة الدولة، حيث تحوّلت الخرطوم إلى رمز لانهيار مشروعها، وفضاء يُعاد فيه تعريف من يستحق الحياة ومن يُترك للعنف. لذلك، لا يمكن إنهاء الحرب دون تفكيك بنيات السلطة والعنف، وإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة الكاملة.
2. تشظي المدينة: الحرب وانفجار الهامش في قلب الخرطوم
اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في الخرطوم شكّل نقطة تحوّل كشفت هشاشة البنية الاجتماعية والاقتصادية للمدينة، مع تباين واضح في أنماط الاستجابة بين الطبقات. فبينما تمكّن سكان الأحياء الوسطى، ومعظمهم من الطبقتين الوسطى والعليا، من مغادرة المدينة مبكرًا رغم المخاطر، لم تكن المغادرة متاحة للفئات الأكثر هشاشة، لا سيما سكان الأطراف من النازحين داخليًا، الذين مكّنتهم خبراتهم السابقة في التعامل مع العنف والإقصاء من التكيّف نسبيًا رغم المعاناة. هذا التفاوت يعكس فجوة طبقية حادّة ويفضح الأسس البنيوية غير العادلة التي بُنيت عليها المدينة، حيث يتحوّل الموقع الجغرافي والدخل والخلفية التاريخية إلى عوامل حاسمة في فرص النجاة.
تفكك مؤسسات الدولة أدى إلى فوضى شاملة، زادها خطورة فتح السجون في الأسبوع الأول من الحرب، ما أتاح لعصابات "تسعة طويلة" و"الشفّشافة" الانخراط في موجات نهب وسلب واسعة. و"الشفّشافة" هي مجموعات مسلحة من دارفور قاتلت إلى جانب الدعم السريع، الذي سيطر على معظم احياء المدينة منذ الأسابيع الأولى. وأسفرت الفوضى عن مقتل الآلاف وترك جثثهم في الشوارع، إلى جانب انتهاكات جسيمة شملت نهب الممتلكات العامة والخاصة، والعنف الجنسي بحق النساء، في ظل تقديرات تفيد بأن الأرقام الحقيقية أعلى بكثير.1
تتحمّل قوات الدعم السريع مسؤولية قانونية وأخلاقية عن هذه الانتهاكات، سواء عبر تورّط عناصرها المباشر أو غض الطرف عنها. وتوثّق شهادات حالات طرد مدنيين وابتزازهم للكشف عن خصوم مفترضين، ما أدى إلى اعتقالات وتعذيب على خلفية شبهات بالتعاون مع الجيش. في المقابل، شارك بعض سكان الأحياء الطرفية في نهب مراكز تجارية كبرى مثل مول "عفراء"، في فعل انتقامي جماعي يُعبّر عن "شرعنة الفوضى" كآلية مشوّهة لإعادة التوزيع الاجتماعي، وسط غياب سلطة الدولة. لاحقًا، استُهدفت هذه المناطق بغارات جوية من الجيش بذريعة دعمها للدعم السريع، ما عمّق معاناة سكانها. من تبقوا في المدينة عاشوا ظروفًا إنسانية كارثية، وسط غياب الخدمات الأساسية، وظهرت مبادرات مجتمعية تعرف بـ"التكايا"، تقودها لجان الطوارئ الشبابية لتوفير الغذاء والدواء، رغم محدودية الدعم وضرورة التنسيق مع الدعم السريع للسماح لهم بالحركة2.
تفاقمت أوضاع النازحين لاحقًا بعد تمدد الحرب إلى ولايات مثل الجزيرة وسنار والنيل الأبيض، مما أدى إلى موجات نزوح متكررة أو عودة إلى القرى الأصلية رغم ضعف البنية التحتية هناك. وقد عبّرت شهادات، لا سيما من نساء نازحات، عن معاناة مركّبة جمعت بين النزوح، الحرب، والكوارث الطبيعية، كما في مناطق شمال السودان المتضررة من السيول3. وعلى الجانب الآخر من الحدود، تباينت أوضاع المهجّرين: فبينما استطاع البعض الاستقرار بدعم ذاتي أو من مجتمعات المغتربين، واجه آخرون ظروفًا بالغة القسوة، دفعت بعضهم للعودة رغم استمرار المخاطر.
عودة الجيش إلى الخرطوم: إعادة إنتاج العنف باسم "التحرير"
مع نهاية عام 2024، أطلق الجيش السوداني هجومًا مضادًا لاستعادة المناطق التي خسرها، معتمدًا على تحالف عسكري ضمّ الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، وكتائب الإسلاميين، والمجموعات التعبوية، إضافة إلى قوات "كيكل" المنشقة عن الدعم السريع. وحقق هذا التحالف تقدمًا ملموسًا في ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأبيض، وانتهى باستعادة السيطرة على الخرطوم، عقب انسحاب الدعم السريع إلى أم درمان4.
لكن هذا "الانتصار" لم يجلب الاستقرار، بل دشّن فصلًا جديدًا من التوترات الاجتماعية والمناطقية. عاد بعض النازحين من الطبقة الوسطى والعليا إلى أحيائهم، بينما واجه سكان الأطراف الذين بقوا أثناء الحصار موجة جديدة من الإقصاء والعنف. ومع دخول القوات النظامية، تم توثيق انتهاكات جسيمة ارتكبتها الميليشيات الإسلامية المتحالفة مع الجيش، خاصة "كتيبة البراء بن مالك"، التي نفذت إعدامات ميدانية وتعذيبًا بحق شباب اتُهموا بالتعاون مع الدعم السريع.
أبرز المجازر وقعت في 30 سبتمبر 2024 بالحلفايا، حيث أُعدم 120 شابًا من متطوعي التكايا دون محاكمات أو أدلة5. وامتدت الانتهاكات إلى الحاج يوسف وغيرها، مستهدفة مدنيين بناءً على خلفياتهم الإثنية أو المناطقية، خاصة من غرب السودان، جبال النوبة، الأنقسنا، جنوب السودان. وبعد استعادة القصر الجمهوري في مارس 2025، تصاعد العنف في الأحياء الطرفية، لا سيما غير الرسمية، حيث وقعت حالات إعدام وذبح عكست نزعة انتقامية منظمة تستهدف على أساس العرق والجغرافيا6. المفارقة أن بعض الضحايا ينتمون إلى إثنيات تشكّل عماد بعض الفصائل المتحالفة مع الجيش، ما يهدد بتفكك هذا التحالف الهش.
في الفضاء الرقمي، ظهرت دعوات لهدم الأحياء غير الرسمية تحت غطاء "إعادة تخطيط المدينة"، لكن دوافعها الحقيقية عنصرية، تستهدف سكان هذه المناطق من دارفور، جبال النوبة، والنيل الأزرق، وهي مناطق عانت من الحروب لعقود. وتستدعي هذه المشاهد إلى الأذهان أحداث 2005 بعد وفاة جون قرنق، و2008 عقب دخول العدل والمساواة للخرطوم، حيث وُجهت الاعتداءات على أساس الهوية7، رغم أن القوات لم تستهدف المدنيين. تكرار هذه الأنماط يؤكد أن العنف الحالي ليس مجرد رد فعل، بل نتيجة لمظالم تاريخية تراكمت في ظل سلطة مركزية ترفض الاعتراف بالتنوع.
تصاعد التشظي الاجتماعي وخطابات التحريض العنصري ينذر بانزلاق السودان نحو سيناريو مشابه لرواندا 1994،8 حيث تحوّل النزاع السياسي إلى إبادة جماعية، ما لم تُتخذ خطوات عاجلة لوقف العنف، وبناء دولة مدنية قائمة على العدالة والتعددية والمحاسبة.
3. الدولة، الهيمنة، والعنف: الخرطوم بوصفها مرآة لأزمة ما بعد الاستعمار
تمثل الدولة السودانية نموذجًا معقدًا لكيان سياسي تشكّل في أعقاب الاستعمار، حيث تأسست على أنقاض النظام الاستعماري البريطاني–المصري، وورثت بنيته العنيفة ومركزيته الإقصائية. وبهذا المعنى، لم تكن الدولة مشروعًا للتحرر أو العدالة الاجتماعية، بل شكّلت امتدادًا لمنظومة الهيمنة الاستعمارية، أعادت إنتاج التراتبيات التي رسّخها الاستعمار، لا سيما في تمركز السلطة بالعاصمة وتهميش الأطراف.
ينطلق هذا التحليل من فرضية أساسية مفادها أن الدولة السودانية، منذ نشأتها، قامت على أسس الهيمنة والاستغلال والتهميش، وهي بنية مترسخة في تكوينها المؤسساتي والبنيوي، وبلغت ذروتها خلال حكم النظام العسكري–الإسلامي (1989–2019). في هذا السياق، تكتسب مقاربات ما بعد الاستعمار أهمية تحليلية بالغة؛ فكما يشير أشيل مبيمبي، فإن الدولة ما بعد الاستعمارية لا تخرج من منطق الاستعمار بل تعيد إنتاجه بأدواتها السلطوية9، بينما يرى فرانز فانون أن البرجوازية الوطنية غالبًا ما تتحوّل إلى أداة لنهب الدولة وترسيخ الاستبداد بدلًا من تفكيكه10.
في الحالة السودانية، ساهم التعدد العرقي والإثني في تعميق البنية السلطوية، من خلال فرض سياسات تعريب وأسلمة قسرية11، أدّت إلى تصعيد النزاعات بين المركز والأطراف، وخصوصًا خلال العقود الاربعة الأخيرة. ولا يمكن فهم الديناميات الحالية في الخرطوم دون استحضار طبيعتها كعاصمة صُممت في إطار استعماري مركزي، ثم أُعيد إنتاج هذا النموذج لاحقًا على يد الأنظمة الاستبدادية ما بعد الاستعمار، التي لم تسعَ لتفكيكه بل رسّخته12. وقد فاقمت موجات النزوح الداخلي الناتجة عن الحروب الاهلية والكوارث البيئية التفاوتات الطبقية والجغرافية، وحوّلت الخرطوم إلى مرآة حية لعلاقة المركز–الهامش.
غير أن المفارقة الأبرز في الحرب الحالية تكمن في تحوّل الخرطوم نفسها إلى ميدان للصراع، ليس فقط كساحة معركة، بل كرمز للسلطة السيادية. فالجيش النظامي يمثّل الامتداد التاريخي للدولة المركزية، في حين تنحدر قوات الدعم السريع من هوامش البلاد، لكنها سرعان ما تمركزت في قلب السلطة. وهكذا أضحت الحرب مواجهة على المركز ذاته، بأدواته الرمزية والعسكرية، في محاولة لإعادة تعريف من "يملك المدينة"، وبالتالي من يملك الدولة13.
اكتسب الصراع في السودان بعدًا إثنيًا–مناطقيًا خطيرًا، إذ استخدم قادة الجيش، بدعم من رموز النظام البائد، خطابًا يشيطن الدعم السريع بوصفه قوة "مرتزقة" تسعى لتغيير التركيبة السكانية لصالح "غير الأصيلين"14. في المقابل، تبنّت قيادة الدعم السريع خطاب "نصرة المهمّشين" ورفض "دولة 1956" كنموذج مهيمن عليه من نخبة المركز15. وسعى حميدتي إلى توسيع تحالفاته مع قوى الهامش، خاصة الحركات الموقعة على اتفاق جوبا، التي رغم خطابها المناهض للجيش، عادت لاحقًا لمساندته، مثل قوات مالك عقار، جبريل إبراهيم، ومني أركو، والاخير فك الحياد بعد تمدد الدعم السريع في دارفور16.
تعمّق الصراع في السودان مع تورّط بعض النخب المدنية، بمن فيهم من شاركوا في ثورة ديسمبر، في التحيّز لأطراف النزاع بدوافع أيديولوجية أو إثنية، عبر الإعلام أو المشاركة العسكرية17. تحوّلت الخرطوم من رمز للتعايش السياسي إلى مسرح لإعادة إنتاج الهيمنة السلطوية من المركز، مما أدى إلى دمار عمراني ورمزي واجتماعي للعاصمة، باعتبارها محور وحدة الدولة، في ظل غياب مسارات ديمقراطية وتفويض شعبي حقيقي.
من هذا المنظور، لا يمكن اختزال هذه الحرب، رغم مآسيها الإنسانية، في صراع بين جنرالات، بل هي لحظة انفجار بنيوي لأزمة كامنة منذ الاستقلال. إذ تأسست الدولة السودانية على منظومة عنف تم شرعنتها من خلال مصطلحات مثل الوطنية والمصلحة العامة والدين. لذا، فإن فهم الصراع الحالي لا بد أن يتجاوز مجرد رصد وإدانة ما أصاب الأفراد والجماعات من أذى، رغم أهمية ذلك، ليعكف على تفكيك البنية السياسية والفكرية التي أنتجت هذا الصراع، والعمل على معالجة الأسباب الجذرية الكامنة وراءه18.
4. إشكالية الدولة السودانية: بين أمل التغيير، وعائق الانقسام، ومآلات الحرب
منذ الاستقلال، أعادت النخب السياسية السودانية إنتاج نمط السيطرة على الدولة المركزية الحديثة، التي ورثت بنيتها عن الاستعمار البريطاني–المصري. وقد أخفقت النخب الشمالية في أول اختبار وطني بالتنصّل من منح الجنوب حكمًا فيدراليًا، ما أدى إلى أول حرب أهلية عشية الاستقلال19. كما رُفضت مطالب مماثلة من دارفور وجبال النوبة وشرق السودان، فيما احتُكرت السلطة عبر الخرطوم. وتواصلت الانقلابات العسكرية التي حافظت على بنية الدولة الاستعمارية، ما أسفر عن انفصال الجنوب20، واتساع الحروب الأهلية، ووصولها مؤخرا إلى الخرطوم. ورغم الانتفاضات الشعبية المتكررة التي نحت ثلاث مرات في اسقاط انظمة ديكتاورية، الا النخبة السياسية فشلت في بناء دولة مستقرة قائمة على المواطنة والعدالة 21.
مثّلت ثورة ديسمبر 2018 لحظة تحول تاريخي في السودان، إذ فجّرت حراكًا جماهيريًا واسعًا قاده الشباب والنساء وسكان الهامش، وأدى إلى إسقاط نظام البشير. أفضت الثورة إلى تأسيس "تحالف قوى الحرية والتغيير"، الذي جمع قوى مدنية وتنظيمات مسلحة، ما أنعش الآمال ببناء دولة ديمقراطية عادلة. لكن سرعان ما بدأت التصدعات تضرب هذا التحالف نتيجة فشله في بلورة مشروع وطني جامع، وزادت هشاشة الشراكة مع المكون العسكري في إطار الوثيقة الدستورية من تعقيد المشهد. وبلغ هذا التوتر ذروته بانقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أعاد تمكين قوى النظام السابق،22 لكنه فجّر في المقابل صراعًا داخليًا بين مكونات المنظومة العسكرية. وقد تشكلت هذه القوى من القوات المسلحة ذات الخلفية الإسلامية، وقوات الدعم السريع القادمة من هامش الهامش، إضافة إلى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا. ومع تمركز هذه الأطراف جميعًا في الخرطوم، أصبحت العاصمة تترقب انفجارًا مؤجلًا، تحقق بالفعل باندلاع الحرب المفتوحة في 15 أبريل 2023، على خلفية الخلاف حول الاتفاق الإطاري23.
سعت القوى السياسية للعب دور الوسيط لإنهاء الحرب، لكنها فشلت في بلورة موقف موحّد رغم رفض معظمها لاستخدام العنف. فقد عمّق الانقسام بين "قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي" وتيار "الجذريين" (الحزب الشيوعي وحلفاؤه) عجز القوى المدنية عن تشكيل جبهة موحّدة ذات تأثير24. في هذا السياق، برز تحالف "تقدّم" كمبادرة مدنية جديدة، وتمكن في يناير 2024 من التوصل إلى اتفاق مبدئي مع قوات الدعم السريع لوقف إطلاق النار25. غير أن الجيش رفض التوقيع، واتهم التحالف بالانحياز للدعم السريع والسعي لتبييض سجلها، ما عمّق الانقسام المدني وأضعف فرص التفاوض.
في مرحلة لاحقة، برزت انقسامات داخل تحالف "تقدّم" بين تيارين رئيسيين: الأول، تقوده مجموعة "تأسيس"، يدعو إلى تشكيل حكومة مدنية موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، مستندًا إلى غياب الدولة المركزية كفرصة لإعادة بناء السلطة على أسس جديدة؛ بينما تبنّى التيار الثاني، ممثَّلًا في مجموعة "صمود"، موقف الحياد، مركّزًا على الدفع نحو تسوية سياسية شاملة، رغم تعنّت قيادة الجيش، المدعومة من الإسلاميين، ورفضها أي حل خارج بنيتها المهيمنة26.
ضمت مجموعة "تأسيس" قيادات من حزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، وحركات مسلّحة موقعة على اتفاق جوبا، إضافةً إلى شخصيات مدنية مستقلة وقيادات سابقة في تجمع المهنيين. وسعت لبناء تحالف سياسي–عسكري واسع، استقطبت من خلاله الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال (جناح الحلو)، وقوات الدعم السريع، وقيادات أهلية من دارفور وكردفان والنيل الأزرق وشرق السودان. تُوّج هذا المسار بتوقيع "ميثاق التأسيس"،27 الذي دعا إلى القطيعة مع الدولة المركزية الإقصائية، واعتماد "الوحدة الطوعية"، والاعتراف بالتنوع، وترسيخ الديمقراطية والعلمانية، واللامركزية، والمساواة بين الجنسين، مع إعداد دستور انتقالي تمهيدًا لدستور دائم.
على الرغم من الطموحات التي حملها "ميثاق التأسيس" لتجسيد شعارات ثورة ديسمبر المتمثلة في "الحرية، السلام، والعدالة"، فقد قوبل برفض واسع من بعض مكوّنات النخبة السياسية، بسبب مشاركة قوات الدعم السريع في بلورته، بالنظر إلى سجلّها في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة، من دارفور إلى مجزرة القيادة العامة في 2019. غير أن هذا الرفض يغضّ الطرف عن تضمّن الميثاق بندًا صريحًا بشأن العدالة التاريخية لضحايا الحروب والانتهاكات، ويتجاهل الدور البنيوي الذي لعبه الجيش، باعتباره الطرف الأكثر تورطًا في كافة حروب ما بعد الاستعمار، ومنشئ الدعم السريع ذاته، كأداة لخدمة استراتيجيات القمع والتثبيت السلطوي28. وإلى اليوم، يواصل الجيش تشكيل ميليشيات مناطقية وأيديولوجية يتجاوز عددها العشرين، بما يكرّس نمط الحكم عبر العنف والتفكيك الأهلي.
هذا التركيز الحصري على الدعم السريع، دون تفكيك البنية التي أنتجته، يُظهر مقاربة تجزيئية تحكمها حسابات فئوية وأخلاقية انتقائية. وهو ما يحجب التحليل البنيوي الأعمق لطبيعة الدولة السودانية الحديثة، التي وصفها فرانز فانون بأنها "امتداد للاستعمار في جلد محلي"29، فيما يرى أشيل مبمبي أنها تقوم على "النيكروبوليتكس"30؛ أي إدارة الحياة والموت عبر العنف الرمزي والمادي. في هذا السياق، يغدو استدعاء الدعم السريع أو إدانته خارج إطار تفكيك الدولة السلطوية المركزية، نوعًا من الإنكار السياسي الذي يساهم في إعادة إنتاج نفس منطق السيطرة والإقصاء الذي فجّر الأزمة من الأساس.
ورغم فداحة الكلفة الإنسانية للحرب، فإن التحولات الجارية في المشهد السياسي والاصطفافات الإقليمية تفتح نافذة نادرة لإعادة التفكير في مشروع الدولة. ويمكن للميثاق، إذا حظي بدعم شعبي وإرادة جماعية، أن يشكّل أداة ضغط لتفكيك ارتباط الجيش بالتيار الإسلامي، الذي يواصل تعطيل مسارات التفاوض. غير أن التباينات الحادة حول الميثاق تكشف عمق الأزمة البنيوية داخل النخبة السياسية، خاصة في الخرطوم والمركز النيلي، وعجزها عن تجاوز مصالحها الضيقة نحو مشروع وطني جامع.
في ظل هذا العجز، قد يتحوّل السودان إلى ساحة مفتوحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية، التي تسعى لإعادة تشكيل المجال الجغرافي والسياسي للبلاد بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية. ويجري ذلك ضمن سياق أقرب إلى "الاستعمار الجديد" (Neo-colonialism)، حيث تُستثمر الحرب كأداة لإعادة هندسة الخرائط الجيوسياسية، في ظل هشاشة السيادة الوطنية وتفكك مؤسسات الدولة31. في هذا الإطار، يُنظر إلى السودان كاحتياطي استراتيجي للموارد الطبيعية، من المياه والأراضي الزراعية والثروات المعدنية، إلى موقعه الجغرافي الحيوي.
إذن، يتّضح أن إخفاق مشروع بناء الدولة الوطنية في السودان هو إخفاق بنيوي مركّب: يتمثّل أولًا في العجز عن إنتاج مركز سياسي ديمقراطي قادر على تمثيل التعدد الإثني والجغرافي؛ وثانيًا في الفشل في تفكيك البنية السلطوية التي ورثتها الدولة من الحقبة الاستعمارية. وقد أدّت هذه الأزمة إلى تفجّر الحروب الأهلية، التي بلغت ذروتها في الحرب الحالية، التي حولت الخرطوم، بوصفها مركزًا تاريخيًا للسلطة، من رمز لوحدة الدولة إلى مرآة لانهيارها، ومن تجسيد لمشروع الدولة الوطنية إلى تعبير عن أزمتها البنيوية المتفاقمة.
5. خاتمة
تُجسّد أزمة بناء الدولة في السودان امتدادًا تاريخيًا لمسار طويل من الهيمنة والتهميش، حيث تنازعت النخب السياسية السيطرة على الدولة المركزية التي ورثتها عن الاستعمار، دون أن تتمكّن من إعادة إنتاجها على أسس ديمقراطية. مثّلت ثورة ديسمبر 2018 لحظة مفصلية في هذا السياق، لكنها سرعان ما اصطدمت بتعقيدات المرحلة الانتقالية، والانقسامات العميقة بين القوى المدنية والعسكرية، ما مهّد الطريق لانقلاب 2021، وتفاقم الأوضاع إلى الحرب الشاملة.
يُظهر هذا المسار فشلًا مزدوجًا للنخب السياسية: في بناء مركز ديمقراطي قادر على تمثيل التعدد الإثني والجغرافي، وفي تفكيك البنية السلطوية الموروثة من الاستعمار. الحرب الدائرة في الخرطوم ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل تعبير عن أزمة بنيوية عميقة تكشف هشاشة المشروع الوطني وتفاقم الانقسامات المجتمعية.
ورغم التحديات الجسيمة، لا تزال هناك فرصة لصياغة مشروع وطني جديد يقوم على مبدأ "الوحدة الطوعية"، ويؤسس لنظام ديمقراطي عادل يضمن الحقوق والمساواة لكافة السودانيين. غير أن ذلك يتطلّب حوارًا وطنيًا شاملًا وفاعلًا، يضع حدًا للحرب ويمهّد الطريق لصياغة دستور يعكس تطلعات الشعب. أما إذا تعذّر هذا المسار، فإن البلاد مهدّدة بالانزلاق نحو حرب مزمنة، تُجهز على ما تبقّى من نسيجها الاجتماعي، وتحوّلها إلى ساحة مفتوحة لصراعات القوى الإقليمية والدولية.

المراجع
 ACLED (April 14, 2023) Sudan: Political Process to Form a Transitional Civilian Government and Shifting Disorder Trends, https://acleddata.com/2023/04/14/sudan-situation-update-april-2023-political-process-to-form-a-transitional-civilian-government-and-the-shift-in-disorder-trends/ (Footnotes No. 23)
 Alarabiya (Aug. 2005) 42 قتيلا في أحداث الشغب بالخرطوم في أعقاب مقتل قرنق https://www.alarabiya.net/articles/2005%2F08%2F02%2F15510(Footnotes No. 7)
 Alarabiya (May, 2008) الخرطوم تعلن مقتل كبير مساعدي زعيم المتمردين غرب أم درمان https://www.alarabiya.net/articles/2008%2F05%2F11%2F49669 (Footnotes No. 7)
 Alrakoba (3 Oct. 2024) مذبحة الحركة الإسلامية بالحلفايا .. من يحمي المدنيين في السودان من قوات الجيش؟https://www.alrakoba.net (Footnotes No. 5)
 Asharq Al-Awsat (Feb. 2025) اتهامات أممية للجيش السوداني بقتل مدنيين على أساس عرقي وجهوي https://aawsat.com (Footnotes No. 6)
 BBC (3 Mar. 2025) السودان: ماذا بعد إعادة الجيش السيطرة على مناطق حيوية في الخرطوم؟ https://www.bbc.com/arabic/articles/c05mr942p3vo (Footnotes No. 4)
 Duffield, M. (2007). Development, security and unending war: Governing the world of peoples. Polity Press (Footnotes No. 31).
 Frantz Fanon (1986) The Wretched of the Earth (Penguin Modern Classics) معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي، دار الفارابي، الطبعة الثالثة، 2004 (Footnotes No. 10/ 18/ 29)
 Ismail, Abakr Adam (2013) جدلية المركز والهامش قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان ((Footnotes No. 11/ 18)
 Khalid, M. (1993). Sudanese Elites and Addiction to Failure (in Arabic). Cairo: Al Ameen For Printing & Publishing. (Footnotes No. 21)
 Khalid, M. (2010). War and peace in Sudan: A tale of two countries, . Milton park: Routledge (Footnotes No. 19/ 20)
 Lefebvre, H. (1991). The Production of Space. Oxford: Blackwell (Footnotes No. 13)
 Mbembe, A. (2021) Necropolitics, https://www.jddavispoet.com/book-reviews/necropolitics-achille-mbembe (Footnotes No. 9 / 30)
 Sikainga, Ahmad Alawad (2002) City of Steel and Fire: A Social History of Atbara, Sudan’s Railway Town, 1906–1984. James Currey (Footnotes No. 12)
 Straus, Scott. (2006). The Order of Genocide: Race, Power, and War in Rwanda. Cornell University Press (Footnotes No. 8)
 Sudan Tribune (Jan/ 2022) (الحرية والتغيير) تأسف لموقف الحزب الشيوعي المناوئ لوحدة قوى الثورة https://sudantribune.net/article254669/ (Footnotes No. 24)
 Sudan Tribune (Jan/ 2024) «إعلان أديس» بين تقدم والدعم السريع ينص على اطلاق أسرى وفتح ممرات انسانية https://sudantribune.net/article280903/ (Footnotes No. 25)
 Sudantribune (2اغسطس 2024) سيول جارفة تعزل عدة مناطق في شمال السودان وتحذيرات من أمطار قياسية https://sudantribune.net/article289015// (Footnotes No. 3)
 UNHCR (2023) Sudan Situation - UNHCR External Update #2 - 25 April 2023, https://reliefweb.int/report/sudan/sudan-situation-unhcr-external-update-2-25-april-2023 (Footnotes No. 1)
 Wagialla, Mariam (Oct. 2023), بين التشبث بالسلطة والوحشية: إلى أين يتجه السودان؟ نشر اولا بالالمانية https://sudanile.com (Footnotes No. 16/ 17/26 )
 Wagialla, Mariam (Oct. 2023),نشر اولا بالالمانية بين التشبث بالسلطة والوحشية: إلى أين يتجه السودان؟ https://sudanile.com (Footnotes No. 14/ 15/ 22)
 YouTube (2024) لقاء خاص مع شيخ الامين عمر الامين .. المنبر الثقافي بجنوب كاليفورنيا https://www.youtube.com/watch?v=wHlrHJF4DZQ (Footnotes No. 2)

[email protected]

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الدولة السودانیة ما بعد الاستعمار الدولة المرکزیة على اتفاق جوبا فی هذا السیاق تفکیک البنیة إعادة إنتاج ثورة دیسمبر السیطرة على فی الخرطوم فی السودان ما أدى إلى من دارفور مشروع ا لا سیما على أسس غیر أن لاحق ا لم تکن فی قلب مرکز ا

إقرأ أيضاً:

السلالية في تركيبة الدعم السريع: رسالتي دي شيروها تصل نائب القائد وحميدتي ذاتو

السلالية في تركيبة الدعم السريع: رسالتي دي شيروها تصل نائب القائد وحميدتي ذاتو
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
(اتفق لطائفة من القوى التي كانت من وراء ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 أن “الدعم السريع” هي جيش ثانٍ في يومنا ولا بد لأية تسوية للحرب أن تأخذ حقيقتها هذه بالاعتبار. وهذا منها بخلاف ما اتفق لهم خلال مقاومتهم دولة الإنقاذ وثورتهم حين عدوه ميليشيات “تنحل ولا تحكم دولة”. وقضى اتفاقهم الإطاري للإصلاح الأمني والعسكري عند مغرب حكومتهم الانتقالية بدمجه في الجيش. وطالما راجعت هذه القوى موقفها من “الدعم السريع” فعدتها جيشاً ثانياً لا ميليشيا، صح لها أن تقف من كثب على تراكيبه المهنية والاجتماعية، بما في ذلك المؤسسة الاقتصادية التي بيده، في الاتفاق الوطني الذي يبشرون به بعد وقف إطلاق النار. فكثير منهم منزعج جداً للميليشيات والحركات العسكرية التي تقاتل مع الجيش ويخشون يوماً كريهاً منها على استقرار البلاد. وصح بالمثل أن يقفوا على “السلالية” المستفحلة في “الدعم السريع” التي كشف هذا المقال عنها لاستصحابها في تسكينهم له كجيش ثانٍ في الدولة الوطنية الحديثة المنتظرة).

أثار الصحافي عثمان فضل الله منذ 2023 مسألة متعلقة بطبيعة قوات “الدعم السريع” وتراكيبها قلت إثارتها في الخطاب حولها. فقال فضل الله إن الوضع في الحرب اقترب من الانفلات، وذكر للجيش عيوبه من هذه الجهة، لكنه قال إن دلائل هذا الانفلات أوضح ما تكون في “الدعم السريع”. فتركيبة هذه القوات، بحسب قوله، اختلفت اليوم عنها في الـ15 من أبريل يوم نشوب الحرب القائمة في السودان. حين كانت قوة شبه نظامية بقانون، لكنها انتهت في يومنا إلى تحالف من ست ميليشيات، بل واستصحبت جماعة مستنفرة معروفة بـ”أم باغة” تقاتل لأجل الغنيمة. كذلك فإن بينها اليوم طلاب غنيمة آخرين مستنفرين من قبلها عرفوا بـ”الكسابة” (جمع كاسب). فلم تعد “الدعم السريع”، بحسب فضل الله، جيشاً موحداً وإنما مجموعات عسكرية يرغب قادة “الدعم” في التنسيق بينها، لكن “المؤشرات جميعها ترجح احتمالية تفككها وتحولها إلى عصابات تهاجم المدن من أجل السلب والنهب في ظل الضعف البائن على الأجهزة الأمنية والعسكرية”.

وفرت وقائع أخيرة في أوساط قوات “الدعم السريع” نافذة لنظرة أخرى لطبيعة “الدعم السريع”. وأسفرت بفضل هذه الوقائع عن تكوينات مغرقة في القبائلية لم تلطف منها 25 شهراً من الحرب. وهذه الوقائع هي معركة أم صميمة في كردفان في هذا الشهر التي خسر “الدعم السريع” فيها البلدة بكلفة فادحة وسط منسوبيه من شعب المسيرية من البقارة. أما الواقعة الأخرى فهي حملة “الدعم السريع” لمحاربة الظواهر السالبة في حاضرته مدينة نيالا في دارفور. وساءت أشياء منها منسوبيه من شعب الفلاتة من أهل جنوب دارفور فعرضوا بهويتهم القبلية. أما الواقعة الثالثة فهي هجوم جماعة قيل إنها منسوبة لـ”الدعم السريع” على شعب دار حامد من سكان شمال كردفان عند مدينة الأبيض. فنهب المهاجمون قرية شق النوم وما حولها وأحرقوا بيوتها وقتلوا نحو 300 شخص. وبالطبع ساء ذلك منسوبي “الدعم السريع” من دار حامد وظاهروا بهويتهم القبلية.

تواترت اللايفات من منسوبي “الدعم السريع” من المسيرية بجنوب كردفان بعد خسارة أم صميمة وعرضوا لتظلمهم من “الدعم السريع” على بينة من هويتهم القبلية. فطغت الشكوى من أن كردفان ناقصة في عتاد الحرب حتى إن أحد “اللايفاتية” قال إنهم فاتحوا قائد ثاني “الدعم السريع” عبدالرحيم دقلو بالأمر حين التقوا به في نيروبي على أيام مؤتمر نيروبي في فبراير (شباط) الماضي للتحضير لقيام حكومة موازية في مناطق سيطرة “الدعم السريع”، فقال لهم عبدالرحيم “أبشروا”، ولكن لا حياة لمن تنادي. وقال إن قيادة الدعم ترسل لهم في كردفان قوى إسناد من دارفور بكامل عتادها إلا أنها لا تغشى الوغى في حين تتوعد بغزو الإقليم الشمالي.

وبؤس تسليح المسيرية قديم حتى إن القائد جلحة، الذي قتل بمسيرة في الخرطوم في يناير الماضي، كان يقول إنه كان “يقلع” السلاح والسيارات قلعاً من الجيش و”الدعم السريع” معاً. وقال سافنا، قائد آخر من مسيرية كردفان، إنه كان كذلك يستولي عنوة على المركبات بل يملأها غازاً من بعض ذهب عثر عليه لأنه لم يكن له مرتب حتى. وبلغ بهم سوء الإعداد في قولهم إن أفراد قوتهم حاربوا وهم ينتعلون “شباشب” لا الأحذية العسكرية.

واستدعى حرج خسارة أم صميمة خروج القائد البارز قجة من شعب المسيرية بقضية جماعاتهم في “الدعم السريع” بقوة مع سعة. فوجه رسالته لحميدتي وأخيه عبدالرحيم مذكراً بأرتال شهدائهم للقضية. وقال إنه لا يؤمن بالقبلية، لكن مكره للحديث عنها. فمهما قلنا عنها سلباً فهي لا تزال العامل الذي من وراء نجاح قضيتهم. ثم وجه حديثه لمنسوبي المسيرية في “الدعم السريع” في كل جبهات القتال للوحدة لكي يثأروا لشهدائهم إذ سقط 50 منهم فقط في معركة أم صميمة. وقال بعد تعديد قادة المسيرية الشهداء إنهم سيقاتلون الكيزان حتى آخر مسيري. وأكد خلوه من الشك في القبائل التي قاتلت معهم جنباً لجنب بولاء وفروسية ولا مطعن. ولأنه ليس بالإمكان جمع مسيرية “الدعم السريع” في مؤتمر عام في يومه فهو يوجه عنهم رسالة للقائد العام ونائبه بما حملته له 35 مجموعة منهم عن نقصهم في عتاد الحرب. وجاؤوا له بالشكوى لأنه بمنزلة القيادة فيهم. وقال إنهم لا يطلبون غير تزويدهم بالعتاد لأداء واجبهم في الميدان حتى الموت على أكمل وجه. فهم يريدون من قيادة “الدعم السريع” أن تزودهم بالسلاح الثقيل من منظومات إلى مدافع 25 إلى مدافع 14 ونصف وأجهزة التشويش، ولتسألهم بعد ذلك إن خذلوها. ونفى العنصرية عن نفسه، بل عرض الأمر بوجهه القبلي لإحسان القتال من أجل القضية التي نزفوا شهداء عدداً من أجلها.

ومع تبرؤ قجة عن الطعن في فروسية غيرهم في الحرب إلا أن كثراً دونه رتبة حملوا على الرزيقات، بخاصة جماعة حميدتي، بغير مواربة. فقال أحدهم إنهم هم من قاتلوا دون غيرهم وبذلوا الشهداء، 489 منهم، في بلدة الخوي وأم صميمة وحتى مدينة نيالا التي هي عاصمة “الدعم السريع” في دارفور. وتساءل أين كان قادة بالاسم من الرزيقات حين كانوا يكتوون هم بالحرب ولا يزالون. بل تجد من عزى في شهيد قائد أخير لهم هو التاج يوسف محمود قولنجنق واتهم قادة من الرزيقات بالاسم قال إنهما من وفرا للجيش إحداثيات أصابت موضع الاجتماع الذي كان انعقد بينهم. وطلب من القيادة أن يخضع القائدان لتحقيق قال إنه عاجل غير آجل. وزاد قائلاً إن قلبهم محروق على قولنجنق وثأره يكون في هزيمة الجيش في مدينة الأبيض، حاضرة كردفان، وولاية النيل الأبيض.

وعاد قائد آخر إلى بؤس تسليحهم بقوله إنه أحصى 1500 مركبة للرزيقات موصولة بالواي فاي “تتحاوم” في الأرجاء بينما هو وجنده، 1750، بلا سيارات في حمى القتال. وشكا آخر من عدم تعزية القائد العام لهم في شهدائهم. وانتقد مجموعات الرزيقات في نيالا التي تحظي بعناية “الدعم السريع” وهم خارج ميدان المعركة الدائرة في كردفان يعانون نقصاً في الطعام والبنزين. وسأل “من أين لي ملء تنك السيارة؟ أنت لم تعطني مرتباً”. واستنكر طريقة القيادة في ترضية خاطر كل من خرج بلايف يشكو حاله. وسأل “هل تحولت حربنا إلى الوسائط؟ هل لم يبق لنا سوى الشحذة من فوق منصاتها؟”. وقال إنهم لا يشحذون من بشر إلا من رب العالمين، وإن الروح بلغت الحلقوم ولن يصمتوا بعد هذا. وجاء أخيراً من قال إن القضية التي يقاتلون من أجلها هي قضيتهم بغض النظر عن “الدعم السريع”، وإن “الدعم السريع” لو قرر أن يتنصل منها فسيحاربونه كما يفعلون مع الجيش.

وخرج جماعة من منسوبي شعب الفلاتة بجنوب دارفور بهويتهم القبائلية بعد حملة نظمتها قيادة “الدعم السريع” في بدايات هذا الشهر لمحاربة الظواهر السالبة في مدينة نيالا. فصدر الأمر بألا يوجد عسكري بزيه وكدموله وسلاحه وسيارته العسكرية في سوق المدينة. وبدا أن قيادة “الدعم السريع” استجابت لتجار السوق الذين اشتكوا من الإتاوات التي يفرضها عليهم عسكريون من “الدعم السريع”، أو في لباسه. وبجانب هذا منعت الحملة بيع السلاح والمخدرات.
وحدث أن تعرض لواء بـ”الدعم السريع” من الفلاتة، وهو ابن زعيم فيهم أيضاً، إلى معاملة قاسية من فريق من فرق الظواهر السالبة انتهت إلى جلده في عرض الفضاء. وجاء مرافق له في لايف وحكى الواقعة وهو في غاية الغضب لإهانة الضابط العظيم ابن قبيلته. فلعن الظواهر السالبة ذاتها التي خولت ضرب ضابط زعيم ما كان لأحد أن يمد عليه أصبعاً من قبل. وقال إنه لا يشك في أن تلك الواقعة كانت مقصودة أراد بها الرزيقات في نيالا الإساءة للفلاتة في شخص الضابط. فاحتج أن الحملة لم توقف السيارة لتسأل عن هوية من فيها، بل امتدت يد بعضهم إلى قطع غيار السيارة وأخذوها. وحين احتج الضابط وسأل: هل هذه حملة ظاهر سالبة أم حملة حرامية؟ كان ما كان.

وزاد بأن الضابط الذي أهانه الرزيقات لازم المعارك جميعها ولم يتأخر عن واحدة. وقال لمن تقصدوا أهله بأنهم ليسوا أشرف منهم في حرب بذلوا قصاراهم فيها بضحايا وجرحى لم يحظوا بعلاج بعد. وعاد إلى تقصد الفلاتة ورجع إليهم بـ”العجم” مقابل العرب وقال إنهم إن صمتوا عما حاق بهم من حملة الظواهر كتبهم التاريخ جبناء إلى جنى الجنى. وقال إن بوسعهم كفلاتة إسقاط نيالا المدينة نفسها في يوم واحد. وقال إن “الدعم السريع” لم يفقد الخرطوم إلا لأن المتنفذين فيه لا يقيمون وزناً لغيرهم. وجاء جماعة من منتسبي الفلاتة في “الدعم السريع” من المجموعة 110 لينادوا كل من فيها لمغادرة مقدمات ميادين القتال والعودة إلى تلس، حاضرة الفلاتة، لأن ما تعرض له الضابط العظيم “عنصرية عديل” لا يرضون بها.

وأخرج منسوبو “الدعم السريع” من شعب دار حامد، شمال مدينة شمال الأبيض في شمال كردفان، هويتهم القبلية في ملابسات انتهاكات واسعة قامت بها قوات من “الدعم السريع” على قراهم كما تقدم. وجاء مدثر شمين منهم على لايف ليستنكر خلو ديارهم من الحماية التي تتمتع بها نيالا ومدن آمنة غيرها في دارفور. وحز في نفسه أن ينهب المتفلتون “بنات عمه” ويوسعوا أهله قتلاً بقوة مدججة بالدواشكي والمدافع وهو وجماعته مرابطون في ثغور “الدعم السريع”. وقال إنه إذا كان الخيار بين قبيلته و”الدعم السريع” فقبيلته أولى. وسيحارب “الدعم السريع” بكاكيه وسلاحه هو نفسه. ونفى أن يكون الهجوم على أهله من “الدعم السريع”، ولكن أخذ عليه غياب الحماية منها عنهم. وحيا القائد حميدتي وقال إنه من وحد القبائل. ونسب الهجوم إلى من أرادوا الفتنة بين دار حامد “والدعم السريع”، وهذا مناهم ولن يحصل.

وخرجت هوية منتسبي “الدعم السريع” من السلامات، وهم من شعب البقارة، لمناسبة بتر رجل قائد منهم هو الليبي. فظهر اللايفاتي فرانكو ليحييه ويكفر له كمدخل لتظلم السلامات. فالقادة منهم، في قوله، لا يحظون بسيارات مصفحة مثل غيرهم. وحكى عن اضطرارهم إلى تأجير عربة ثلاجة في أم درمان لنقل قائد مصاب منهم لأن أصحاب العربات من غير السلامات بخلوا بها عليهم. ومن تكرم “الدعم السريع” منهم عليه بسيارة كانت خربة. وعرض لثباتهم في الحرب دون غيرهم. فجاء بذكر قائد من الرزيقات لم يغش موضعاً حاراً من الحرب إلا غادره إلى موقع خلفي. ثم شكا من إهمال جرحاهم حتى تعفنت جراحهم. ثم عرج على الحكومة التي يزمع “الدعم السريع” تكوينها واحتج على خلوها من سلامي منهم مع أنهم أشجع من سائر غيرهم. وطلب تخصيص وزارة الدفاع لهم، بل قال إنه كان من المفروض أن يكون للسلامات المركز الثاني بعد حميدتي لسابقتهم في “الدعم السريع”.

ثم ظهر لايفاتي آخر منهم احتج على عبدالرحيم دقلو لإهمال جرحاهم وعلاجهم في نيالا في أحسن الحالات في حين يبعثون بجرحى الرزيقات إلى الإمارات العربية المتحدة لتلقي العلاج. وجاء ثالث يحتج على تهميشهم وحرمانهم من عربات للقتال وليطلب في آخر كلمته من الأفراد من السلامات في “الدعم السريع” الانسحاب من كل المواقع المتقدمة.

وكشف متحدث من قبيلة المحاميد وهم من رزيقات شمال دارفور عن هويته القبلية في معرض ما انكشف له عن عنصرية “الدعم السريع” أيضاً وقال إنه كمن كتب عليهم أن يكونوا في مقدم الحرب بينما يتراخى (تلميحاً للماهرية وهم الخاصة من الرزيقات في الدعم السريع) وسماها عنصرية. وإذا وضعوهم في الالتفافات، أي في جانب من الحرب، كثرت الاتصالات بهم أن أفزعونا لأن العدو غلبهم. واشتكى أن العربات تذهب لمن لم يقاتل ولم يتدرب حتى. وقاتل المحاميد في قولهم من الـ14 من أبريل ودفعوا ثمن بنزين من جيوبهم.

اتفق لطائفة من القوى التي كانت من وراء ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 أن “الدعم السريع” هي جيش ثانٍ في يومنا ولا بد لأية تسوية للحرب أن تأخذ حقيقتها هذه بالاعتبار. وهذا منها بخلاف ما اتفق لهم خلال مقاومتهم دولة الإنقاذ وثورتهم حين عدوه ميليشيات “تنحل ولا تحكم دولة”. وقضى اتفاقهم الإطاري للإصلاح الأمني والعسكري عند مغرب حكومتهم الانتقالية بدمجه في الجيش. وطالما راجعت هذه القوى موقفها من “الدعم السريع” فعدتها جيشاً ثانياً لا ميليشيا، صح لها أن تقف من كثب على تراكيبه المهنية والاجتماعية، بما في ذلك المؤسسة الاقتصادية التي بيده، في الاتفاق الوطني الذي يبشرون به بعد وقف إطلاق النار. فكثير منهم منزعج جداً للميليشيات والحركات العسكرية التي تقاتل مع الجيش ويخشون يوماً كريهاً منها على استقرار البلاد. وصح بالمثل أن يقفوا على “السلالية” المستفحلة في “الدعم السريع” التي كشف هذا المقال عنها لاستصحابها في تسكينهم له كجيش ثانٍ في الدولة الوطنية الحديثة المنتظرة.
عبد الله علي ابراهيم
عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الاتحاد الإفريقي يحذر من تقسيم السودان ويرفض الاعتراف بالحكومة الموازية لـ”الدعم السريع”
  • حاكم غرب بحر الغزال: عبور عناصر من الدعم السريع إلى جنوب السودان دون إذن رسمي أثار الذعر ونزوح السكان
  • السلالية في تركيبة الدعم السريع: رسالتي دي شيروها تصل نائب القائد وحميدتي ذاتو
  • الاتحاد الإفريقي يحذر من تقسيم السودان ويرفض الاعتراف بالحكومة الموازية لـالدعم السريع
  • ‘الاتحاد الإفريقي” يكشف موقفه من “الدعم السريع” ويفاجئ “البرهان”
  • شبكات الكبتاغون تنتقل من سوريا إلى السودان.. مصنع ضخم داخل حقل ألغام للدعم السريع
  • إعادة دفن جثامين من “الدعم السريع” في الخرطوم
  • “الدعم السريع” استخدم أسلحة محرمة دوليا في الخرطوم
  • مليشيا الدعم السريع استخدمت الغام محرمة دوليا في غابة السنط بولاية الخرطوم
  • حكومة موازية في نيالا.. ماذا تعرف عن خريطة نفوذ الدعم السريع في دارفور؟